القصة مستلهمة من خيال الكاتب…عن شيخ العيطة الحسين السطاتي
ولد “حمو” بإحدى المداشر النائية بمنطقة “أولاد اسعيد” ضواحي مدينة “سطات” وسط المغرب، كان هو الذكر الوحيد في العائلة بعد طابور من ستة أخوات، لهذا لقب ب (خو خواتاتو)، نشأ وسط أسرة فقيرة، ولم يحالفه الحظ في ولوج أبواب المدرسة، وراح يرافق والده في رعي الغنم عند كبار الفلاحين بالمنطقة، لكن الوالد لم يرضى أن يصير ابنه راعيا عند الناس مثله، وقد ذهب به إلى صديقة “الحاج المختار” الذي يعمل جزارا بالأسواق الأسبوعية.
كان حمو شابا يافعا، في السادسة والعشرين من العمر، أسمر البشرة، طويلة القامة وقوي البنية الجسدية، له عينان عسليتان..انطلق في مهنته من العمل في الأسواق جزارا متعلما، اتسم بأخلاق حسنة وطاعة لمعلمه “الحاج المختار”، الشيء الذي جعل المُعلم يُعز متعلمه، ويعلمه مبادئ الحرفة وأصولها، كان”حمو” يساعد والده ماديا ولا يبخل عن أخواته بمساعدتهن، إذ نال رضى والدته وصار محط إعجاب بنات الدوار، حيت كانت الفتيات تتهافت عليه، والمستقبل الضاحك ينتظره فاتحا ذراعيه لحسن سيرته واهتمامه بأسرته.
ومرت الأيام والشهور..وقرر أن يستقل لنفسه مهنيا فأخبر بذلك معلمه “الحاج المختار”، الذي أبدى موافقته الفورية، وأخذ يشتري الذبائح من الأسواق ويجزرها، تحسنت حالته المادية وحالة أسرته وأعاد بناء مسكنهم بالدوار “الحطة”، واشترى لوالده أغناما وبقرات، حالفه النجاح بتدرج وأتقن المهنة، فأصبح لديه زبائن كثر، لهذا بحث له عن دكان كبير المساحة وسط مدينة سطات، ربط علاقات متعددة مع أناس لهم وزنهم في البلاد من رجال درك وشرطة وقضاة… بدأت علاقاته تتسع وصداقاته تكثر، وأصبح ذا صيت مثير في المدينة وبالدوار، وكان إلى جانب ذلك يتعامل مع جزارين مبتدئين يقدم لهم يد العون والمساعدة، ما جعله يصبح معروفا في المدينة كلها وحتى في باقي قرى ومداشر الإقليم.
كان “حمو” ذكيا في تعامله مع المستهلكين، خاصة الضعفاء منهم، إذ يعاملهم برقة ولين، يتساهل في مسألة الأداء بالنسبة إلى المعوزين ويتغاضى عن المحتاجين، وكثيرا ما يقدم لهم العون والمساعدة في أيام الشدة، ويعتبر ذلك من باب الخير و الإحسان..حتى صار البعض ينادونه بلقب “سي حمو” ومنهم من تعدى ذلك تشريفا ومجاملة وصار يناديه بلقب “الباشا حمو”..
اليوم سبت، الجو جميل ربيعي، وقفت “منانة” في كامل زينتها ممشوقة القوام معطرة، كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، طويلة القامة، حسناء فاتنة مربربة، بيضاء البشرة، نحاسية الشعر، ساخنة الشفتين، بارزة التديين والردفين، ذات عينين زرقاوين نجلاوين..كانت ترتدي جلابية حمراء مخاطة بخيوط الحرير الأخضر المفتول، فصالة عاقدة للجسم “ايفازي”، و تنتعل “شربيلا” أخضر..انتصبت أمام دكان “سي حمو” منتظرة دورها لشراء اللحم، لف كمية اللحم في الورق المخصص للتلفيف، وتسلم من الزبون ثمنها، وتبادلا الشكر والدعاء، ثم هز عينيه لينظر أمامه، وجد نفسه إزاءها وجها لوجه. التقت عيونهما فومض البرق، أحس فجأة بوجيب في القلب وارتعاش في اليدين، غض من بصره، ولكنه سرعان ما عاد يتطلع إلى ذلك الوجه المشرق إشراقة شمس دافئة في يوم ممطر. وجه اجتمع الحسن كله فيه، عينان نجلاوان يعلوهما حاجبان مقوسان مثل سيفين، رمق حمو صديقه “سعيد” الجزار من داخل دكانه يتحرش بها لكنها لم تبالي ولم تعره اهتماما، أتى دورها خلا المكان حيث كانت هي آخر زبونة، فتقدمت إليه باسمة في غنج ودلال، وقالت بصوت متحجرش مبحوح:
– “واش كاين عندك لحم الخروف” ؟
قالتها وعيناها الزرقاوان تتفحصان في اللحوم المعلقة على باب الدكان.
أجابها بنغمة التغزل بعدما فحصها بنظرة من أخمص قدميها إلى رأسها :
– “عمرني ما سمعت باللي لغزال تاكل لحم الخروف، و اللي طلباتو الغزال نحضرو في الحال”.
ابتسمت له ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان بيضاء لامعة مرصوصة، وأيقنت بأن الجزار صار كخيط الحرير بين يديها، طلبت منه كيلوغراما من لحم الخروف، نفَذ حمو ما طلبت منه وزاد عن ذلك، سلمته النقود فشكرها، طلب منها أن تكرر زيارتها له، أكد لها أنه لأول مرة يراها، فصارحته بأنها وافدة جديدة على المدينة، تعمل فنانة شعبية (شيخة) ضمن مجموعة الشيخات بالحانة المتواجدة بالمدخل الغربي للمدينة، تهلل وجهه وأبان عن ضحكة أفرجت عن أسنان صفراء لوثها دخان السجائر ومخدر الكيف..وأخبرها بأنه عاشق لفن العيطة، ومولع بفن الشيخات وبين الفينة والأخرى يزور الحانة المنعوتة له.
بدا له أن بعض ملامحها أليفة مأنوسة، وكأنها وشمت في ذاكرته منذ القدم. لابد أنه رآها من قبل، أو رأى شبيهتها في الحلم أو في ماضي الأيام أو في فيلم سينمائي، في مكان ما، في زمن ما، لا يدري أين و متى، ولكنه شعر بأنها قريبة من روحه، حبيبة إلى قلبه.
استغل “حمو” فترة خلو المكان من الزبائن، ودخل في دردشة كلامية مع صديقه جاره الجزار “سعيد” حول منانة، تحاورا حول جمالها وفتنتها وسحر أنوثتها..و قد أخبره “سعيد” بأنه شاهدها حديثا بالحي الذي يسكن به، قرب محطة القطار لكنه يجهل عملها، ليؤكد له “حمو” أنه في المساء سوف يخبره بعملها، وحددا موعدا كالعادة لقضاء ليلة السبت في السهر بالحانة، فقال له سعيد مبتسما وممازحا:
– يموت الذئب وعيناه على الخروفة.
فأجابه باسما منتشيا:
-والله يا سعيد لقد زعزعتني، خضتني كزلزال عنيف…
كان “حمو” في ريعان شبابه، طويل القامة، قوي البنية، وسيما ذا ابتسامة صبيانية عذبة تفيض بها عيناه وتحببه إلى النساء ، ورغم وسامته وحضوته لدى الجنس اللطيف، لم يكن زير نساء ولا عاشقا محترفا بل كان حبيا خجولا.
مرت ساعات ذلك اليوم وكأنها أيام على حمو في انتظار المساء، حيث التقى بصديقه سعيد، وتوجها إلى الحانة، فور وصولهما كانت مجموعة الشيخات تؤدي وصلة غنائية من عيطة “الشاليني”، لمحت “الشيخة منانة” الجزار “حمو” يدخل فشرعت ترحب به بطريقتها الفنية “الشيخاوية”:
– “في خاطر الكَزارة لكبار، اللي يحبونا ويسالوا علينا من بلاد لبلاد، وفخاطر الناس لملاح اللي يتساهلو التبراح”.
شعر “حمو” بقشعريرة تسري في أوصاله، وانتشى بعبارات الترحيب وعيناه مركزتين على عينيها، وعلى التو توجه صوبها، أخرج مجموعة من الأوراق المالية، وراح يرشها على رأسها ويعلق بعضها بحزامها، ثم همس في أدنها:
– بغيتك تغني لي عيطة “اللي بغى حبيبو”.
أومأت إليه برأسها بالقبول، أزاحت خصلة نافرة من أمام عينيها، وقالت باسمة بصوت منغم:
– “مرحبا على الراس والعين، طلباتك أوامر”.
توجه حمو رفقة سعيد إلى طاولة بركن من الحانة، ووقفت “الشيخة منانة”، بضع لحظات تنظر إلى الجمهور بعينيها الزرقاوين النجلاوين الواسعتين، وهي تتمايل على أنغام الموسيقى العيطية بقفطانها الأحمر الضيق الذي شد محاسنها فبرزت بوضوح، وابتسمت عندما شاهدت نظرات الإعجاب في عيون الناس… كانت تعلم بأنها جميلة، وأنها رائعة، وأن جمالها يبهر الأنظار ويقطع الأنفاس.
كان “حمو” ينظر إليها كما ينظر باقي الحضور، وهو تائه النظرات، لقد كانت كل قطعة في هذا الجسد رائعة، بل كانت كل قطعة فيه ذات سيادة وسلطان. ولم يكن يعلم أن “منانة هذه الشيخة الفاتنة قد انتشرت أخبارها في مدينة سطات كلها، وأن أكثر من شاب وأكثر من ثري طرحوا شباكهم حولها، نعم لم يكن يعلم ذلك لأنه كان على جهل بأخبار الليل، فهو لا يتابعها ولا يهتم بها، لذلك كان ينظر إلى “الشيخة منانة” ويمني نفسه بليلة من ليالي العمر، ثم إن جيبه مملوء ولا يمكنها أن ترفض طلبه.
ابتدأت “الشيخة منانة” في الغناء تلك الليلة فكان صوتها صداح، وهي تغني عيطة “اللي بغا حبيبو”، وخلال الموسيقى الراقصة “وصلة الخيلاز”، استرسلت في الرقص أخذت تتمايل على أنغام الكمان يمينا وشمالا دون أن تنقل قدميها من موضعهما، بينما يداها تمران على جسدها وكأنهما فراشتان براقتان، فتتحسس كل موضع من جسدها الثائر ثم تنظر إلى الناس
وتغمز بعينيها الجميلتين، وعندما شعرت بأن أعصاب الناس بدأت تغلي، دارت حول نفسها باحترافية وراحت تداعب ظهرها وخصرها بيديها، فكان السكون يخيم على المكان ولا يسمع سوى طقطقات الكؤوس.
بعد انتهاء المجموعة الغنائية من وصلتها، خرجت الشيخات من باحة الرقص، الواحدة بعد الأخرى، كل واحدة تتوجه إلى طاولة معينة، بعد أن يكون الزبون قد دعاها!.
توجهت “الشيخة منانة” إلى الطاولة التي تجمع سعيد وحمو وفاجأتهما بأنهما ضيوفها في تلك الليلة، طلبت منهما أن يطلبا ما يرغبان فيه على حسابها، ورغم تمنعهما، طلبت لهما زجاجتي ويسكي وصحن من المقبلات ” زيتون أسود، كاكاو، زريعة سوداء وبيضاء، فستق…”، وعادت النادلة بعد دقائق تحمل الطلب، وراحوا يشربون في انشراح، عرَفها “حمو” على صديقه سعيد، وتبادلوا المعرفة، كما تبادلوا الدعابات والضحكات والهمسات..و كانت كلما غادرتهما إلى عملها إلا وشرع سعيد في مدحها، مما حدا ب”حمو” أن يذوب في جمالها، وخاصة بعدما أكدت لهما أنها تزاول مهنة شيخة مكرهة، و أنها ترغب في الزواج وتكوين أسرة.
ومرت الأيام والأسابيع، وتعمقت علاقة الجزار حمو بالشيخة منانة، من علاقة صداقة فنية إلى علاقة حميمية وعاطفية جنسية..لقد أحبها بجنون، عشقها بكل روحه، ذلك العشق الممنوع..وظل يزورها في بيتها وبالحانة، يصرف عليها ويوفر لها كل متطلباتها، لم يكن يبخل عليها بشيء، كما لم تكن تبخل عليه بشيء في أول أيام التعارف، كان يغدق عليها الهدايا ويشتري لها الفساتين الجميلة، والثياب الأنيقة، وكانت هي تتقبل هذه الأشياء وكأنها من أولى واجباته، ومن الطبيعي أن يتأثر عمله بمثل هذا التصرف، فلم يعد يهتم بأسعار المواشي ولا بسير السوق.
طالت العلاقة وتوطدت إلى درجة أنه صار يقضي عندها أكثر مما يقضيه ببيته، بل قسم وقته بين العمل بدكان الجزارة، بالأسواق وبيت عشيقته، التي ملأت عليه حياته، لم تعد أمه وأخواته ينلن ما كن ينلنه منه من عطف وحنان، وساءت علاقته بوالديه وخاصة أمه التي لاحظت كثرت إدمانه على مخدر الكيف وشرب الخمر، وقد سمعت متداولا بين نساء الدوار أن ابنها على علاقة بشيخة بمدينة سطات، مما حدا بها تحذره لحظة وجوده رفقتها بالمطبخ التقليدي وهي تخاطبه بصوت فيه مرارة وتهدج:
-“وقتاش يا وليدي تزوج ونتهنا عليك؟”
قالتها بعدما سبقتها تنهيدة طويلة.
مج غليون الكيف ونفت دخانه، تنهد بعمق ثم رد عليها:
– “قريب يا الوليدة وتشوفي مراتي وحتى وليداتي ونولي أكبر وأغنى جزار في المنطقة؟”.
وتنفست بعمق، وتنهدت تنهيدة حزن، وقالت بنبرة الأم الناصحة:
– “ايمتى يا وليدي حتى نجي تحت التراب، رانا خايفة عليك ايلا تشدك شي شيخة،و تشوهك وسط القبيلة”.
احمر وجهه، لم يلق جوابا للرد على أمه، فهم من خلال ردها أنها تعرف علاقته بالشيخة منانة، شرع يتساءل في قرارة نفسه عن الطريقة التي وصل بها الخبر إلى الدوار، فأرجأ ذلك إلى بعض شبان الدوار الدين يتوافدون بين الفينة والأخرى على الحانة بالمدينة.
كان حمو مرضيا سخيا مع أمه، وكان ينقد والدته مأتي درهم قائلا إنها من الأرباح، وكانت الأم تمسكها منه وتغرقه بدعواتها وتختمها بالدعاء له بالزوجة الصالحة.
أصبح حمو حديث الدوار، ولاك الناس سمعته، لم يبالي بكلام الناس، ولا حتى نصائح صديقه سعيد الذي كان يحذره من الطريقة التي يتعامل بها مع منانة، نصحه مرارا بعدم الثقة في النساء وخاصة الشيخة فهي امرأة متاحة للجميع، لكن حمو كان يؤمن بالمقولة (كم من مزبلة صارت جامعا؟).
الأيام والأسابيع والشهور تمر بسرعة، والجزار حمو غارق في غرامه ومعسول الكلام مع هذه المرأة الغريبة الأطوار، لقد كان يحلف الإيمان الغليظة كل يوم بأنه سيتركها وشأنها، ولكن سرعان ما كان يعود إليها نادما مستغفرا !
وكان يعلم كل العلم بأنه يسير في طريق خطر، نهايته دمار وخراب، ومع ذلك كان غير قادر على فراقها!
اقترح حمو على عشيقته أن تتخلى عن مهنتها “حرفة تاشياخيت” وتمكث بالبيت لتكون له وحده، وعدها بأنه سوف يمهد الطريق ويقنع عائلته ليتزوجها، لكن منانة اشترطت عليه شرطا صعبا ، حيث أصرت أن تبقى شيخة، ووعدته أنها لن تستقبل أي أحد بمنزلها ولن تهب جسدها لأي رجل غيره، وستخصص النهار بالحانة والليل له بغرفتها.
وفي كثير من المرات كانت تعتذر عن عدم مبيتها معه في المنزل الذي تسكنه والذي يدفع شهريا سومة كرائه، وكانت تتحجج بحجة أنها مدعوة إلى حفلة هامة، ولا تقدر أن تعتذر، كان يثور ويهددها بالهجران والفراق، ولكنها كانت تبتسم وتهز كتفيها وتقول له ما معناه: “- أنت حر في تصرفاتك يا حمو، اذهب إذا كنت تريد الذهاب فعلا”.
كانت أحيانا تتركه على الطاولة وحيدا في الحانة وتذهب لكي تجلس مع بعض الشبان الذين تعرفهم. فكان يحتقر نفسه، وهو الذي يشعر بأنه أصبح كالدمية بين يديها. بل صار كالخاتم في أصبعها..ولكنها عندما كانت تبدأ بوصلتها الغنائية “نمرتها”، كان ينسى كل شيء ولا يعود يتذكر إلا هذا الجمال الصارخ وهذه الأنوثة الطاغية!
صار “حمو” يتوافد على منزلها بين الفينة والأخرى، عرف أهل الحي علاقتهما، كانت ترافقه أحيانا إلى بيت صديقه سعيد القريب من منزلها، وقد شاركتهما مرات في شرب الخمر، إلى أن لاحظ تغيير في طريقة كلامها ومعاملتها له، فبدأ يتضايق من تصرفاتها ومعاملتها له، بل اشتم رائحة الخيانة التي لا يمكن لأي رجل القبول بها أو السكوت عنها، وخاصة بعدما أخبره سعيد بأنه يشك في وفاء الشيخة منانة له، أخبره بأنه سمع مرات جو السهر و”القصارة” بغرفتها، ولم يرغب في إخباره بذلك إلا بعدما أفصح له أنه يرغب في الزواج منها.
صعق حمو للخبر، وقرر أن يتريث إلى حين التأكد بنفسه، أراد أن يتكلم ولكن الكلمات خانته، إنه لا يعرف ما يقول، إن كرامته تدفعه أن يذهب بعيدا، أن يدفن هذا العشق المحرم الممنوع، أن يعود إلى رشده إلى منزله.. إلى والديه وشقيقاته، يجب أن يطلب الصفح والغفران من والدته ويبكي على صدرها ويقول لها عن كل شيء، يقول لها عن العشق الحرام الممنوع..يقول لها أنه بدد رأس المال في الحانة وعلى منانة الشيخة عسى أن يرتاح من ضيقه..
لكنه لم يقوى وشيء قوي يجره إلى هذه العاهرة، وبدأ يرمي الفخاخ لها من أجل أن تقع فيها، فكان يشيع أنه مسافر إلى المدن البعيدة من أجل شراء الذبائح، ويمكث بالمدينة ويتابع عن قرب تحركاتها وخرجاتها على أمل أن يضبطها متلبسة، كان يتمنى في قرارة نفسه أن تكون حواسه خادعة وكلام صديقه سعيد وشاية كاذبة وحسدا وغيرة.. طالت مدة الترقب والتحري والمتابعة، وفي إحدى الليالي جاء سعيد مخبرا إياه أن منانة تستقبل زبائن ببيتها، وهي اللحظة التي استشاط فيها “حمو” غيضا، أعتبر ما قامت به خليلته لا يمكن السكوت عنه فقرر أن يؤدبها ويجعلها عبرة للنساء اللواتي يسخرن من الرجال.
في اليوم الموالي أرسل إليها متعلمه الصغير “أحمد” الذي يبلغ من العمر اربعة عشر سنة..من أجل أن تنتظره ليلا بالغرفة، وأرسل بالتالي لوازم السهر كالعادة، حتى لا تشك في أمره، وفي العاشرة ليلا، تسلل حمو إلى بيتها، وصدره يكاد ينفجر من الغيظ، كان داخله يغلي كالمرجل، كان يحمل معه حقيبة بها بعض أغراضه الخاصة، استقبلته “الشيخة منانة” استقبالا يليق بالأحبة والعشاق، أعدت نفسها وسوت زينتها ولبست أجمل ثيابها، زرعت المكان عطورا وريحان، وأطلقت نغمات الموسيقى الشعبية التي كانت تأتت جلسات العشق والغرام بينهما، ألقى حمو جرابه وتوجه إلى حيت اعتاد الجلوس في الأيام الخوالي، اقتربت منه وبدأت تمارس عليه غنجها ودلالها لكنه لم يكن منشرحا كعادته، لاحظت تبرمه ولكنه عزا ذلك بكونه متعبا ومرهقا من شدة العمل، دارت الكؤوس وهدأت النفوس نسبيا، شاعت الموسيقى وارتفعت في أرجاء البيت، وفي حدود الثانية بعد منتصف الليل تهيأ حمو لتنفيذ مخططه الجهنمي، طلب منها أن ترتدي جلبابها ليتما سهرتهما بمنزل صديقه سعيد، نفدت طلبه، حمل جرابه وأمسكها من يدها وتوجها عبر ممر السكة الحديدية للقطار، سلكا مجرى الوادي الجاف الفاصل وسط المدينة “واد بنموسى”، وبمكان مظلم مشجر تهيأ للدخول في الموضوع، سألها عن الليلة السابقة وعن نوعية زبائنها الذين استضافتهم، وجمت منانة وظلت صامتة جامدة لعلمها بسلوك ومزاج عشيقها، الذي صار كالبركان هادئا في أيامه العادية وثائرا في أيامه الحامية وهو في حالة سكر طافح، ودون أن يتركها تجيب هوى عليها بصفعة أولى وثانية، وقبل أن يواصل هجومه، أمسكت يده وثارت في وجهه غاضبة مزمجرة :
– “ما تضربنيش يا الحمار ؟ شكون أنت؟ ماشي خوي ماشي راجلي، وأنا غير شيخة نتصاحب مع من ما بغيت”.
كلمات اعتادت أن تنطقها أمام عشاقها الكثيرين، وأمام غضبها وهي تبكي انهارت واعترفت له بتفاصيل الخيانة ظنا منها أنها سوف تحرجه ويسرع بخطبتها وكتابة العقد عليها، لكن اعترافها لم يترك له فرصة للتفكير في ما سيقدم عليه، ضربها بلكمات قوية على رأسها حتى أغمي عليها، والتقط الحقيبة، أخرج منها العدة “سكين كبير ومقدة”، وشرع يؤدبها بطريقته الخاصة، طريقة الجزارين، وكأنه يتعامل مع جثة خروفة مذبوحة بدكانه، ولما انتهى منها تراجع إلى الوراء، خارت قواه وأحس بهدوء غريب، قبل أن يستفيق ويعي حجم ما أقدمت عليه يداه.
في تلك الليلة المشؤومة، قدم “حمو الجزار” نفسه أمام الضابطة القضائية، أعتقل وأدين بمدة حبسية طويلة انتشر الخبر بالمدينة وضواحيها، وقد خلدن الشيخات رفيقاتها قصتها، قصة العشق الممنوع، قصة العاشقة منانة وحمو الجزار، ،يرددنها بشجن في أغنية خالدة، مازالت تغنى وتصدح بها حناجر الشيخات، والتي تقول كلكاتها:
قطعت السكة واه مالي ومالي سارت على البكى واه ناري وناري
وعذبتيني ومحنتيني يا العاشقة منانة
خو خواتاتو واه مالي ومالــي بغاها وبغاتو منانـة خاناتـو
وعذبتيني ومحنتيني يالغدارة منانة
انت ملي بغيتيه واه مالي مالي علشش تخونيه واه الصكَعة أش عملتي
وعذبتيني ومحنتيني واش البكى يرد الموتى
حمو الكزار واه مالي ومالـي مول الجناوى لكبار واه ناري وناري
وعذبتيني ومحنتيني علاش العيب علاش
داها للواد واه مالي ومالـي خلى دمها هواد واه مالي ومالـي
وعذبتيني ومحنتيني يا العاشقة منانة.