بقلم: الدكتور خالد التوزاني
في الوقت الذي تحضر فيه الثقافة اليوم بقوة في مختلف الأحداث الدولية، نجد غيابا للمثقفين العرب، فهل يعود ذلك لعقم الثقافة العربية، أم أزمة هؤلاء المثقفين؟ في الواقع لا يمكن للعاقل أن يقول بعقم ثقافة معينة، وتفوّق أخرى، ذلك أن الثقافة بشكل عام تتجاوز حصيلة الإبداع في الفكر والآداب لتشمل كل العلوم والصنائع والأعمال اليدوية، وأيضا مظاهر الحياة الاجتماعية في أبعادها المختلفة، فالثقافة ليست مجالا واحدا، بل مجالات عديدة، ولا شك أنَّ الأمم تتفاضل في نصيبها من هذه المجالات، والأكيد أنَّ الثقافة العربية تتضمّن رصيدا ضخما من هذه المكونات، لكن لا نجد من المثقفين إلا القلة النادرة ممن يدركون قيمة هذا الرصيد، وينطلقون منه في مواجهة التيارات العالمية والأفكار الوافدة من الأمم الأخرى، فمن المعروف أنَّ الحملات العسكرية والاقتصادية، عادة ما تسبقها حملات ثقافية تزرع في البيئة المستقبِلَةِ بذور القبول والاستعداد النفسي لاستقبال الوافد الجديد والتعايش معه بل وتفضيله على ما هو محلي ووطني، ويأتي الأدب والفن على رأس تلك الحملات التي تنشر ثقافة الأمم القوية عسكريا واقتصاديا، ومن هنا ندرك جيدا خطورة الثقافة في التمهيد للاستعمار، وهذا الأخير ليس بالضرورة أن يكون استعمارا للأرض، وإنما الأخطر هو أن يكون استعمارا للعقول والضمائر والنفوس والأرواح، لأنه بهذه الصورة يسلب الشعوب حريتها وإرادتها، فتغيب من خارطة الوجود، ولو كانت حاضرة على خارطة الحدود، لكن حضورها غير مؤثر.
إن الثقافة أي ثقافة لم تكن فقيرة أبدا، ما دامت تعكس وجود أمة وشكلا من أشكال الحياة على الأرض، ولكن أهل تلك الثقافة هم مَنْ يحملون مسؤولية حمل مشعل ثقافتهم، والدفاع عنها، أمام الأنماط الأخرى من الحياة، تلك الأنماط الثقافية المغايرة التي تحاول فرض سيطرتها، ومن هنا، ندرك يقينا أن الأزمة الحقيقية لم تكن أزمة ثقافات، ولكن هي أزمة مثقفين، مادام المثقف لا يحمل همّ وطنه وأمّته وأرضه، فهو بدون هوية، بل المؤسف أنّ نجد بعض المثقفين يتنكرون لأوطانهم، فيبحثون هوية أخرى يتشرّفون بها، أو يصنعون بها مكانتهم الوهمية، وهذا منتهى الغدر والخيانة، إذ الوفاء يقتضي الدفاع عن الوطن، والثقافة جزء من مكونات الوطن، فضلا عن اللغة والدين والتراث والتاريخ والأدب والفن.. وغيرها من مكونات الثقافة في مفهومها العام.
الثقافة شرط لازم لكل حضارة
أمام الصراع العالمي بين الثقافات في عالم الإعلام والانفتاح الكوني على كل المجتمعات، تقف بعض الثقافات مهددة بالاضمحلال والزوال، حيث يعمل الإعلام على إضعاف بعض الثقافات وإبراز أخرى، وذلك بتوجيهٍ غير مباشر من أهل الاقتصاد والتفوّق العسكري، لفرض المزيد من القيود على الشعوب المستضعفة في الأرض، والمزيد من الهيمنة، وقد تنقرض بعض الخصوصيات الثقافية لكثير من الشعوب أمام زحف تيارات الكونية، ولا شك أن الثقافة العربية في الوقت الحاضر تعيش وضعا يحتاج لمن يشخِّصُه بموضوعية والتزام بعيدا عن أي خلفية سياسية أو إيديولوجية أو نفعية ضيقة، فمن المؤكد أنَّ الحديث عن الثقافة العربية اليوم هو نفسه أحد التحديات الكبرى التي تواجهها هذه الثقافة من أبنائها قبل أن تصطدم بالآخر البعيد.
كثيرا ما أساء بعض المثقفين العرب إلى الثقافة العربية، ربما بوعي أو بغير وعي، من خلال ما يكتبونه أو ما يصرحون به، ولعل هذه الإساءة غير المقصودة، أو ربما كانت متعمّدة أحيانا، راجعة لبعض الأسباب، يمكن إجمالهما في عنصرين اثنين: “الجهل بالثقافة العربية” و “الانبهار بثقافات وافدة” مع ما ينتج عن ذلك من سلبيات، تكشف جزءا من أزمة المثقف العربي.
إنَّ المثقف العربي الذي لم يكلف نفسه عناء البحث في جذور ثقافته ليعرف ملامح هويته الأصيلة وتجليات القوة في تراثه وتاريخه، فيعمل على كشف أبعاد هذه الثقافة وامتداداتها في الواقع العربي و العمل على استثمارها في أعماله الثقافية، هو مثقف يعيش أزمة هوية وأزمة صراع نفسي في عالم لا يعترف إلا بالتفوّق العسكري والاقتصادي، وقد نسي ذلك المثقف أن الثقافة شرطٌ لازم لكل حضارة.
إن المثقف العربي المعاصر عندما يلعب دور الضحية ويشرع في لوم المسؤولين عن تدبير سياسة الثقافة في البلاد العربية، يكون لومه في الحقيقة مجرد تخلص لا واعي من المسؤولية الذاتية الملقاة على عاتقه والتي لم يتمكن من الوفاء بها، وكذلك تقصيره في المجهود الثقافي الذي ينبغي أن لا يكون مرتبطا بأي وجه من أوجه التقدير أو الاهتمام، فالعلم والأدب خير شرف لصاحبه وخدمةُ الوطن والأمة الإسلامية مقامٌ شريف لا يعرف قدره إلا من عرف قدر بلده وما في وطنه من خير وصلاح وفضل، بهذا ترتقي الثقافة في الأوطان ويفرح الناس بالمثقف.
(للتواصل مع الكاتب الدكتور خالد التوزاني touzani79@hotmail.com
[1] كاتب ومفكر مغربي touzani79@hotmail.com