العيطة العبدية أو الحصباوية

جسر التواصل12 سبتمبر 2020آخر تحديث :
العيطة العبدية أو الحصباوية

شيخ العيطة الحسين السطاتي

العيطة العبدية أو الحصباوية: هي تلك الأغنية الشعبية الشجية، المركبة الألحان، والمختلفة المواضيع، التي تمزج موسيقاها بين أنغام الوتر وهدير أمواج البحر، مع أشعار التمرد على الظلم والاستبداد والقهر، ووجع الحب والعشق والهجر، ونشوة التحدي ولذة السمر.
كثيرة هي الفنون التراثية والأغاني الشعبية المغربية التي تغنى ومازال يتغنى بها الجمهور، تلك الكنوز الثمينة التي تعد إرثا ثقافيا لا ماديا، ومن بين هذه الفنون نجد فن “العيطة”، الذي يعتبر تراثا موسيقيا وغنائيا وتعبيرا ثقافيا وشعرا شفويا، كما يعد أحد التعبيرات التمثيلية الفرجوية المغربية، يؤدوه “شيخات” و”أشياخ” صناع الفرجة والفرح في الثقافة المغربية بشكل عام، والثقافة الشعبية بشكل خاص على طول جغرافية الوطن، إذ يمثل هذا الفن وجدان جزء أساسي من المغاربة على امتداد خريطة ممتدة من جنوب البلاد إلى شمالها، وهو فرع أساسي من فروع الموسيقى المغربية عموما والموسيقى الشعبية خصوصا، فنا أصيلا وتراثا شعبيا رافق المغاربة طوال عقود من الزمن ولا يزال مستمرا.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وهذا الفن الموسيقي من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..وعيط في اللغة تعني صاح، والعياط يعني الصياح، والعائط الصائح وجمع عيط عيطات.. ورغم ما أضيف إلى هذا الفن التراثي من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، قد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي..وهو غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
و”العيطة” فنيا هي فن شعبي مغربي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، أشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية داخل فن العيطة..
“ومن الناحية الإيقاعية الصرفة تتشكل العيطة من مجموعة أجزاء مستقلة تسمى “قطيبات” تفصل بينها “حطات”..جمع حطة..وتعمل بمثابة لازمة موسيقية تنهي مقطعا وتعلن عن الدخول في “قطيبة” جديدة..وقد تتعدد فصول العيطة الواحدة فتفوق عشر “عتبات” كما في بعض نماذج العيطة المرساوية. وتختتم العيطة بإيقاع سريع..يشبه “الدريدكة” في الملحون..مهمته الإعلان عن الانصراف النهائي ولذلك يسمونه “القفل” أو “السدة” أو السوسة.. وقد تفتتح العيطة بمدخل يكون عبارة عن تقاسيم أو “مشاليات” يؤديها عازف الكنبري أو العود أو الكمان..ويكون ذلك على سبيل التمهيد لولوج العيطة بمعناها الخاص..وتنتهي ب”تعريضة” وهي فسحة موسيقية راقصة تكون مصاحبة بالأرجل يسمى “الحساب”. (المرجع الباحث الدكتور حسن بحراوي في كتابه “فن العيطة بالمغرب الصفحة 9”).


والحديث عن فن العيطة وأنواعها كثير ومتشعب، ونتطرق في هذه المقالة إلى نوع من هذا الفن وهو: “العيطة العبدية” والتي تسمى أيضا ب”العيطة الحصباوية”:
العيطة العبدية: أو”العيطة الحصباوية”، هي عيطة مركبة، أغنية شعبية تتكون من أربعة إلى تسعة أجزاء وأكثر، تسميتها تنسب إلى موطنها بسهل “عبدة” بأحواز مدينة آسفي..، وكذا لارتباطها بأرض فلاحية في الضواحي تحمل اسم “الحصبة”، وتنتشر بمنطقة آسفي والضواحي، بغرب المملكة المغربية، هذه المنطقة العبدية المتاخمة لحدود دكالة شمالا وبالجنوب نجد منطقة الشياظمة، ويحدها شرقا بلاد أحمر.. وهي لون غنائي عيطي يغنى في جيمع الطبقات الصوتية، فريد من نوعه كما ذُكِر في احدى العيطات التي تحمل هذه العتبة “كاسي فريد”، فريد من حيث المضامين والإيقاعات المركبة، وفريد من حيث الأداء والجمل اللحنية الطويلة والتركيبة الشعرية المشفرة.. وهي أغنية شعبية تتميز بالكثافة اللحنية والإيقاعية كما تتطلب قدرة صوتية هائلة ونفس طويل.
ونشأ هذا الفن العبدي على ساحل المحيط الأطلسي وضفاف الأودية والعيون المائية وخيراتها، وسط طبيعة خلابة، بمنطقة عبدة الغنية بثرواتها النباتية والمعدنية والحيوانية منها البرية والبحرية، وحزامها الأخضر الغابوي، بين السهول الزراعية الخصبة والأراضي المنبسطة، وقد صدحت حناجر البدو بهذا التراث الحصباوي في البراري وسط المروج الخضراء، ووسط البحر، ودخل قصور السلاطين ورياضات البشوات والقواد والأعيان الكبار، وأثث الأفراح بالمداشر والدواوير النائية .. وتقدم هذه العيطة صورة فنية بديعة عن البيئة الساحلية والزراعية والرعوية الخصبة التي احتضنتها ورعت محاولاتها الأولى، وهي عيطة تحريضية ثورية حماسية، نص شعري بمواضيع مختلفة، تؤرخ للشجاعة والحماس والثورة ضد العدو، والجهاد في سبيل الوطن، كما توثق الاضطهاد والمس بالكرامة الذي كان يتعرض له العبديين الأبطال على يد السلطات المخزنية الغاشمة، والذين كان يقودهم نضالهم وثورتهم وتمردهم إلى أقبية السجون وساحات الإعدام، وخاصة في ظل حكم قواد مستبدين وأشهرهم القايد سي عيسى بنعمر، الذي نجد ذكره في جل العيطات الحصباوية، كما تتغنى كذلك بجمال المرأة والعشق والهيام، ونجدها تشير لبعض مكونات البيئة العبدية التي ترعرعت وسطها كتمجيدها للخيل والفرسان..
“وتتميز الحصبة ببعض الملامح الفنية التي لا نجدها عند غيرها بنفس الوضوح والقوة..مثل ارتفاع الشعور الذاتي والوجداني لدى الشاعر..أو الشاعرة..بما لا يقاس مقارنة بالعيطات الأخرى..الشيء الذي سيجعلنا نجد أنفسنا لأول وهلة أمام ريبيرتوار جديد قوامه البكاء والنذب والشكوى الحارقة يصدع بها العشاق الذين يبدون أشبه ما يكونون بأبطال التراجيديا الاغريقية..” المرجع : الباحث الدكتور حسن بحراوي كتابه -فن العيطة بالمغرب- الصفحة 28.
والعيطة العبدية أو الحصباوية، هي تلك الأغنية الشعبية الشجية، المركبة الألحان، والمختلفة المواضيع، التي تمزج موسيقاها بين أنغام الوتر وهدير أمواج البحر، مع أشعار التمرد على الظلم والاستبداد والقهر، ووجع الحب والعشق والهجر، ونشوة التحدي ولذة السمر..وتختلط في متونها الحكمة والبسمة، والنغمة والكلمة..أشعار بلاغية هادفة، بكلمات ناحبة باكية صاعدة بأنات من حناجر شيخات وأشياخ، كانوا يمثلون صوت من لا صوت له. وهي مجموعة أهازيج وبراويل تغنى باللهجة العربية العامية المغربية..وبفضل أصالتها الفنية وقوتها المتمثلة في الكلمة المشفرة الهادفة والإيقاع المركب الصعب والأداء الملتوي الناحب، وطول القصيدة العيطية، ظلت هذه العيطة متألقة تواجه أعدائها، كما واجهت أسطورتها الشيخة “خربوشة” ظلم وجبروت عدوها وعدو قبيلتها “القايد سي عيسى بنعمر”، وقاومت العيطة العبدية الحصباوية كل الرياح والعواصف والتقلبات واستطاعت أن تحافظ على مكانتها في الوسط الفني الغنائي العيطي المغربي، ومن بين العيطات العبدية الحصباوية الشهيرة التي مازالت رائجة نجد هناك:
عيطة “الحصبة”، عيطة “حاجتي في كَريني”، عيطة “سيدي أحمد” وتسمى أيضا بعيطة ” باع عزيبو في الميلحة”، عيطة “خربوشة”، عيطة “الواد”، عيطة “سيدي حسن”، عيطة “الراضونيَ” وتسمى أيضا بعيطة “برغالة”، عيطة “العمالة”، عيطة “الحداويات”، عيطة “رجانا في العالي”، عيطة “الغزيل”….وعيطة الساكن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “سيدي مسعود بن احساين، مولاي الطاهر، مولاي عبد الله، مولاي الوافي، ركَراكَة،…” وهذه الأخيرة يعني “عيطة الساكن”، كثيرة بكثرة الكم الهائل للأولياء الصلحاء والأضرحة بمنطقة عبدة، ومنهم صلحاء غير مسلمين، كالمسيحي ( سيدي دنيان)، وآخرون يهود يعرفون بأولياء (ابن ازميرو السبعة..)، والعيطة العبدية الحصباوية تعد أكثر أنواع العيطة إثارة للمواضيع الروحانية إذ يحتل الأولياء مكانة مهمة في حياة السكان.

وحسب ما جاء في كتاب الباحث الدكتور حسن بحراوي “فن العيطة بالمغرب”، أن من بين الأسباب الأساسية التي كانت تؤدي إلى الاختلاط والتمازج الذي شهدته متون وإيقاعات العيطة بالمغرب، نجد أنه كان من المعتاد أن يتنقل محترفو هذا الفن من أشياخ وشيخات أفرادا أو جماعات..بين المدن والقرى المجاورة أو المتباعدة..طلبا للعمل أو السياحة والاسترواح أو بمناسبة زيارة مواسم الأولياء..وخلال هذا الانتقال كان يتم الأخذ والعطاء والتبادل المعرفي بين الرباعات المختلفة. وفيما يخص هذا التراث العبدي نجد أنه يتقاطع ويتشابه في بعض الأجزاء مع بعض من أنواع العيطة المغربية، هذا التلاحم الناجم عن تأثير الجوار والتلاقح وأشكال الاقتباس، والتشبع بأنواع العيطات الأخرى في ثقافة الأخذ والعطاء، والتأثر والتأثير، ومن ذلك تقاطعه مع الغناء المرساوي هذا الأخير الذي اقتبس منه بعض العيوط مثال: عيطة خربوشة التي صارت “خربوشة منانة”، وعيطة “العمالة” التي أصبحت “الشاوية” و عيطة الحداويات وكذا رجانا في العالي التي لم يتغير فيهما الاسم وقد ثم تسريع الإيقاع وتبسيط بعض الأجزاء من العيطة.
والقصيدة العيطية العبدية في عمقها هي قصيدة تورية تحريضية حماسية، نداء إلى الجهاد والتمرد على الظلم والاستبداد، وقد برعت كذلك في الغناء العاطفي ذو النزعة البكائية المهيمنة، كما تطرقت كذلك إلى الأوضاع السياسية والأهلية القائمة في ذلك الإبان..وخاصة عن سيرة القايد عيسى بنعمر، وحضوره الطاغي في الكثير من العيوط العبدية.
وارتبط فن “العيطة العبدية”، بالأعيان وكبار القبيلة، حيث ظل هذا الفن حاضرا في مجالسهم الخاصة والعامة في “القصارة” كما في حفلات الزفاف، وخرجاتهم إلى مواسم التبوريدة والقنص..ومثلما نشأت العيطة الحوزيةفي ظل “القايد العيادي”، قايد الرحامنة الذي كان لها نصيرا وذائدا.. والعيطة الزعرية وجدت الدعم والاحتضان في كل من القايد “التهامي بن عبد الله” والقايد “الحاج المكي”، والقايد “الحاج العربي بن عمر” بمنطقة زعير، نشأت كذلك العيطة الحصباوية في مجالس القايد عيسى بنعمر، الشيء الذي جعلها تخلده وتخلد ابنيه سيدي أحمد وسيدي ادريس، وبعض من حاشيته وخدمه في نصوصها..
ونظرا لروعة هذه العيطة وجمالية صورها الشعرية وموضوعاتها المتشعبة، تمكن رواد العيطة العبدية من إخضاع أشياخ الفن المرساوي وجعلوهم يقتبسون منهم بعض العيطات الحصباوية، ويؤدونها بحاضرة الشاوية ودكالة، بعد أن غيروا فيها قليلا في المضمون، وكيفوها مع الموازين والإيقاعات المرساوية..خاصة منها العيطة الشهيرة “خربوشة” التي أصبحت “خربوشة منانة” بعد تهجينها بالمرساوي وأصبح مطلعها:
خربوشة منانة زروالة والكريدة……بربعة محسوبين…..أيا سيدي ما كلت عيب يا قيدي
منين أنا ومنين أنت اهياوين أهياوين…سيدي من حوز الدار البيضا….سيدي كازا هي بلادنا ديوان الشاوية
هذه العيطة في الأصل ذات المنشأ الحصباوي، لكن المرساويين هجنوها وأدخلوها في حلتها العصرية للفن المرساوي، وقد غنتها الشيخة الرويدةوالشيخة العرجونية في الأربعينات والخمسينات..وغنتها في الستينات الحاجة الحمداوية بعنوان “منين أنا ومنين أنت”، ولكن الشيخ بوشعيب البيضاوي هو الذي أعطاها الطابع الرائع في المرساوي مع الاحتفاظ فيها على الجو الملحمي لدار سي عيسى بنعمر:
الخزانة كَالو رشات…..المخزن يجددها
حويدة كَالو مشات…الخيل تعكَبها
وأضافوا إليها اللمسة العيطية المرساوية المألوفة:
يانا والفلك يدور والسوايع بدالة أهيا وهيا…..عيتيني يا سيدي….محنتيني يا قيدي….نعطيك ليلتين ع في ليلة
..وكذا نفس الشيء بالنسبة لعيطة “رجانا في العالي”، التي تصف الحالة الشاعرية من البكاء والضياع الذي يصيب العاشق أو العاشقة، عندما تنقطع بينهما صلة المحبة والتي يقول مطلعها:
ما بين الجمعة …وبين الثلاث…وحيدة بالدموع بكات
ما بين الجمعة…. والجموع….وحيدة بكات بالدموع
من حر كبيدتي….نبات نبكي….نصبح نبري
من كثرة الهم….نبات نحلم….ونصبح نخمم
وتقريبا نفس الكلمات نجدها في عيطة “جنان سطات” المرساوية:
وصلاة الجمعة….بنادم مجموع….حبيبي ماليه رجوع
في صلاة الجمعة….الركوع والخشوع…وأنا نبكي بالدموع.
كما نجد عيطة “العمالة” التي اقتبس منها المرساويين وحولوها إلى عيطة “الشاوية”.
العمالة كواتني وزادت ما بيا…بالي بيا…سيدي سيدي ما درت عيب
حيث عوضت العمالة بكلمة “الشاوية”. وأضيفت إليها كلمات مستحدثة تمجد رجال الشاوية ومقاومتهم ضد المستعمر.
وفي العيطة العبدية الحصباوية، نجد ارتفاع الشعور الذاتي الوجداني لدى الشاعر..حيث نجد المتلقي نفسه أمام ريبيرتوار قوامه البكاء والنذب والشكوى الحارقة يصدع بها العشاق وعلى سبيل المثال مطلع عيطة “كاسي فريد”
سيدي كاسي فريد…وبابا جرحي جديد
تعالى وتعالى حتى نتوادعو…راك عزيز وغالي
وكذا بالنسبة لعيطة “الراضوني” أو ما تسمى بعيطة “برغالة”، حيث يرتفع صوت العاشق ليصبح معها غناؤه شبيها بالبكاء:
علمتيني رفاكَتك وسخيتي بيا…دوقتيني حلاوتك وسمحتي فيا
الطبيب يا الطبيب داوي جرحي قبل لا نعيب…طبيب واش من طبيب …داوى الصحاح وخلا المعاطيب
وتمضي العيطة الحصباوية كذلك في تسجيل الوقائع السياسية التي تناوبت على بلاد عبدة في تلك الفترة من تاريخ البلاد، فتحكي قصة القايد “سويلم” الذي كان قايد الرحى عند عيسى بنعمر ، والذي انهزم أمام قبيلة أولاد زيد التي تنتمي إليها الشيخة “خربوشة”، المناوئة لسلطة عيسى بنعمر:
طاح سويلم طاح…حتى من عاودو داوه سيادو
كما ذكرت العيطة العبدية في متونها المحيط العائلي للقايد عيسى بن عمر بما في ذلك ولداه؛ سيدي أحمد وسيدي ادريس في عيطة “حاجتي في كَريني”:
حاجتي في كَريني…لاموك ولاموني…مكا يدوم حال يا سيدي
حاجتي في الساقي…الساقي كب الكاس…ما يدوم باس يا لباس
إلى المقطع العيطي حيث يذكر فيه القائدان سيدي أحمد وسيدي ادريس:
الهوى يا سيدي أحمد..هاهو حرش العيون
الهوى يا سيدي ادريس…هاهو يا ذهب الكويس.
ها الهوى هاهو…يا اهيا وهيا..يا دابا يحن مولانا…. علفة الخيل يجيبوها.
وتقوم “العيطة العبدية” أو “الحصباوية”، على إيقاع غالبا ما يبدأ رتيبا عند الانطلاق، ولكنه يمضي في التصاعد تدريجيا إلى أن يبلغ لحظة الذروة ثم يعود ويتباطأ من جديد، وقد يقف في بعض العيطات، ويعود تدريجيا من البطء إلى التصاعد ويخبو مرة ثانية ثم يحمى وطيس الإيقاع في صعود وهبوط تماشيا مع العيطة المغناة، ومنها من تتعدى تسعة أجزاء ك”الراضوني” أو ما تسمى أيضا ب”برغالة”، لتبدو إيقاعات وألحان القطعة العيطية كأنها أمواج مد وجزر في بحر لا حدود له..أو سرب خيل هاجمة في عملية كر وفر، وفي بعض العيطات تقف الفرقة الموسيقية عن العزف ويواصل الشيخ الناظم “الكَوال” المنشد الغناء بمفرده وتسمى ب”الفرادي”، ثم تستأنف الفرقة العزف بعد ذلك لتختم العيطة ب”السوسة” وتليها “السدة”، التي غالبا ما تتبعها موسيقى صامتة “الخيلاز” مصاحبة بالتصفيق “الرش” ووصلات راقصة فلكلورية من الشيخات، وأحيانا تُختم ب”علفة” تتغنى بالخيل والفروسية التي عرفت بها منطقة عبدة، وفي هجماتها الثورية وتمردها على السلطات المخزنية. ومعروف عن هذه العيطة طولها الزمني، لذا فهي تتطلب التركيز والنفس الطويل، وتمتد مدتها الزمنية من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر.
كما أن الرقص في العيطة العبدية له دلالات رمزية، يقوم بها الرجل والمرأة كل في دائرة اختصاصه، حيث كان المجتمع العبدي في الأول مجتمعا محافظا، لا يسمح باختلاط الرجال بالنساء خلال الحفلات..فنجد الراقص أوالراقصة يقومون بحركات تمثيلية خلال الرقص تلك الحركات مستوحاة من الأعمال التي يمارسنوها سواء منها الزراعية السائدة بالمنطقة أو حركات الصيد البحري والقنص، كطريقة شد المحراث التقليدي أتناء الحرث، أو طريقة نثر وزرع البذور، وكيفية فتح سواقي الأحواض الطينية للماء بالمعول، ثم إلى طريقة حصاد الزرع بالمنجل وتشكيل الغمرة، والدرس بالبيذر”الكَاعة”، وتذرية الزرع..وطريقة نفض الثمار من الأشجار، وكنس الأرض بسعف النخيل، وطريقة غزل الصوف بالمغزل على الفخذ، وطريقة غسل الصوف على صخور الوادي، وتقليد بعض حركات أرجل الطيور خلال فترة التزاوج المستمدة منها رقصة “القعدة”، وحتى الصياح الذي يصدره المزارعون لفزع الطيور التي تحط وسط المحاصيل، وكذا التصفيق المسترسل” الرش”، المصحوب أحيانا بالزغاريد، وبالنداء والصياح المتتابع كما هو الحال في طريقة فزع طرائد القنص من مخابئها “التحياح”، وإيقاد طرائد القنص من مرقدها بالضرب بالرجل اليمنى على الأرض وكيفية إمساك البندقية في وضعية الرماية، وطريقة رمي السنارة أو الشبكة للصيد في البحر.. وغالبا ما يتأجج هذا في جزء “السوسة” إلى “السدة” أو ما تسمى ب “القفل”، من العيطة العبدية… لتنهال من أجل ذلك على الفرقة المنشطة إكراميات الجمهور”الغرامة” أو “التعلاق”.. وجرت العادة أحيانا عند قبائل عبدة أتناء تأدية العيطة وخلال جزء السوسة المصاحبة بالرقص والتصفيق “الرش”، أن يطلق الرجال أصوات الأعيرة النارية من الأسلحة الخفيفة كالبنادق والمسدسات “خرجو البارود”، عندما تشتد حمى الطرب، فيما تتجاوب معها زغاريد النسوة.
كانت العيطة العبدية الحصباوية، في بدايتها تعتمد على آلات موسيقية بسيطة إلى بدائية، (كَنبري وبندير، وتار صغير الحجم نوع سويسدي وطعريجة، وتار وطعريجة، لتلتحق بالركب الموسيقي آلة الكمنجة، فصارت ترافق الطعريجة والمقص والمهراس، أو تؤدى ب”مزمار” قصبة مشدوة إلى قرن عجل، وطعريجة وبندير)..إذ كانت في البداية هذه العيطة تقتصر على آلات بدائية متواضعة مما يجعل الصوت حاضرا بقوة، وترتكز أساسا على الإيقاع والكلام أكثر من النغم، فهي تعتمد على الكلمة أكثر من اللحن الموسيقي، وليس على الفرجة فحسب، كما يقال: “سر العيطة في كلامها”، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة، أدخلت عليها آلات غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها كما نراه بأوركسترا “فتاح الخيالة”، وأوركستر “أيوب العبدي”، وأوركسترا “سفير الحمري”، وأوركسترا سمير الترابي.. ومن الآلات التي صارت تستعمل في هذا الفن؛ هناك آلات وترية، ونفخية، وإيقاعية ونقرية. ومن الآلات الوترية نجد: “الوتار، العود، الكمنجة، البوزق، السنتير، المندولين، البانجو، القيتارة..وفي الآلات النفخية هناك: الغيطة، المزمار، الناي، القصبة الأحادية والثنائية(المكَرونات) الليرة، إلى الساكسفون..وفي الآلات الإيقاعية نجد: البندير، الطبل، الصنج، الدف، الطر، الصينية والكؤوس، والمهراس، والطعريجة بما فيها الكبيرة والصغيرة “أكوال”، الدربكة، والنويقسات، والمقص، والطمطام إلى “لباتري” العصري..كما نجد أيضا الآلات النقرية كالقانون، والأورغ …
وقد اشتهرت هذه العيطة بمناطق تتميز بطبيعتها الخلابة الغناء، عرفت بكثرة وتنوع مغروسات أشجار الفواكه والخضراوات، وانتشار “العرصات” و”الجنانات”، وعُرفت بثرائها الحيواني “الكسيبة”، والثروة البحرية والغابوية، وشساعة أراضيها الخصبة الزراعية منها البورية والسقوية، واشتهرت بخيراتها “الماء والخضرة والوجه الحسن”، وبمواقعها الأثرية، وتربتها الطينية، وتحفها الفنية الخزفية.. كما اشتهرت المنطقة العبدية بتضاريسها المتنوعة؛ (سهول منبسطة، هضاب، تلال، وديان، شواطئ، غابات، عيون مائية، سواقي…مع وفرة المياه الجوفية والسطحية، على امتداد الأودية، وتضم ضواحي آسفي، إلى حدود دكالة شمالا، والشياظمة بالجنوب، وشرقا بلاد احمر. وتشمل المناطق الثالية: (آسفي، بياضة، سيدي بودهب، جمعة سحيم، ثلاث بوكَدرة، التراب السيني، سيدي بوشتى، البدوزة، الغريبات، كاسين، الزيدانية، حد حرارة ، الدراوش، السعادلة، الدعابجة، أولاد الطالب، أيت مولي، كاروش، البحاثرة، الربيعة، سبت كَزولة، الشماعية، أولاد عمار، سيدي عيسى بن مخلوف، المعاشات، دار سي عيسى….).
“وفي هذه العيطة الحصباوية، لارتباطها بأرض فلاحية في الضواحي تحمل نفس الاسم، نكون إزاء لون غنائي فريد من نوعه..من حيث المضامين أو الإيقاعات التي جاءت مطبوعة بصيغة محلية لا سبيل إلى تجاهلها..ويمكن القول بأن ما وصلنا من هذه العيطة أقل من القليل حيث ضاع الجزء الأكبر من الحصبة بسبب الإهمال المقصود وغياب وسائل التسجيل..ولكن ضمن هذا القليل الذي بين أيدينا نستطيع أن نعثر على ملامح تلك التجربة المتميزة التي خاضها شيوخ عبدة لمنافسة جيرانهم من أبناء دكالة والشاوية الذين اختصوا بالمرساوي” المرجع: الباحث الدكتور حسن بحراوي في كتابه فن العيطة بالمغرب الصفحة27.
وبصفتي شيخ ممارس لفن العيطة، عازف كمنجة “كومنجي”، ومغني لكثير من المتون العيطية ومنها بعض المتون العبدية الحصباوية، وعلى غرار ما يروج بالثقافة “الشيخاوية”، أقر وأعترف أن من لا يعزف أو يغني العيطة العبدية الحصباوية مازالت لم تكتمل بعد مشيخته، ولا يستحق لقب “شيخ”، كما لا تستحق المغنية الشعبية التي لا تؤدي المتون العبدية أن تلقب ب”الشيخة”، فالعيطة العبدية الحصباوية، أشبهها بتلك الفتاة الحسناء الهيفاء، الصعبة المراس التي كلما غازلها الرجال المستهترين قمعتهم وصدتهم وردتهم خائبين مغمومين، لكن حينما يحبها الشخص حبا حقيقيا ويتعلق بها ويُلح عليها ويداوم مغازلتها وترويضها، تستسلم له وتطيع بين يديه، عندها ترفع شأنه وتكرمه وتمتعه، يستمتع بها ويمتع بقصائدها وألحانها غيره.
وأقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام فن العيطة عموما، على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ، زجالين، نُظام، ومغنين حفاظ “كَوالين”، حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، زجالات، ناظمات مناضلات..أصوات انبرت لنصرة من لا صوت له، فنانون استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، أكثرهم يعاني شظف العيش، لا يعيشون ليحيون بقدر ما يعيشون لكي لا يموتون..والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم.
وللعيطة العبدية أو الحصباوية أشياخ وأعلام قدامى وجدد، وقد رحل جل شيوخها من الرعيل الأول والثاني ممن كانوا يتقنون أدائها وحفظ متونها..وعرف هذا النوع العيطي العبدي العديد من الفنانين شيخات وأشياخ، إذ يتعذر ذكرهم واحدا واحدا، كما أعجب هذا الفن العبدي وسحر الكثيرين من الأشياخ، منهم “الزعريين” و” المرساويين” و”الحوزيين”..
ونذكر من أشياخ هذا الفن الأصيل على سبيل المثال لا الحصر منهم العازفين والمغنين، ومنهم من جمع بين العزف والغناء:
– الرواد القدامى، أشياخ الرعيل الأول : الشيخ البدري، الشيخ لبصير العبدي، الشيخ ولد الضو، الشيخ لمعاشي، الشيخ بن دحمان، الشيخ ميلود داهمو، الشيخ الدعباجي، الشيخ الجيلالي الحاموني، الشيخ صالح السمعلي ، الشيخ سي جلول، الشيخ الصاحب بالمعطي، الشيخ بن رحال، الشيخ المصطفى البيضاوي الملقب ب”طينور” العيطة، الشيخ عبد الحق ولد الحلاوي ، الشيخ بوشعيب لبصير ، الشيخ الجيلالي السرغيني، الشيخ مبارك ولد اسبيطة، والشيخ امحمد ولد اسبيطة، الشيخ صالح بوتارتية، الشيخ المحجوب الرحماني، الشيخ المصطفى ولد الجوطية وآخرون..
– ومن أشياخ الرعيل الثاني نذكر: الشيخ الستاتي عبد العزيز،، الشيخ بوشعيب الجديدي، الشيخ الداد سعيد، الشيخالحاج عبد الله كَسوس، الشيخ مستور حميد، الشيخ محمد ولد الصوبا ، الشيخعمر الزيدي التماني، الشيخ جمال الزرهوني، الشيخ عابدين الزرهوني، الشيخ خالد معلوم، الشيخ البنوري المحفوظ، الشيخ محمد المحفوظي، الشيخ محمد ولد سبعمية، الشيخ حسن الضاحي، الشيخ اليزيد، الشيخ عبد الحفيظ، الشيخ الزوين، الشيخ حميد لمويس، الشيخ الضويس، الشيخ عبد الدايم، الشيخ الشريف، الشيخ سعيد ولد الحوات، الشيخ عبد السامي، الشيخ المصطفى الميلس، الشيخ كمال هريمو، الشيخ صالح المزابي، الشيخ عابيد السعيدي، الشيخ ميكَري رضوان، الشيخ محمد ولد مبارك الخريبكَي، الشيخ سعيد الخريبكَي، الشيخ عبد الرحيم المسكيني، الشيخ اسماعيل رفاكَة لعلام، الشيخ عبد الصادق، الشيخ رحال المسكيني، الشيخ عبد الواحد فاطن، الشيخ رشيد الخريبكَي، الشيخ هشام ملاكَة، الشيخ محمد الوافي الملقب “الشيخ الفريخ”، الشيخ ميلود النمرود، الشيخ حميد الفقير ، الشيخ عبد العالي المسناوي ، الشيخ صالح الطيوطا، الشيخ الشرقي الخيراني، الشيخ يوسف بوفلجة، الشيخ عادل الزياني، الشيخ حسن ولد العطار، الشيخ خالد العود ، الشيخ عبد الخالق السعيدي، الشيخ عميق البنوري..وآخرون..
– ومن الأشياخ الجدد نجد، الذين جددوا في فن العيطة العبدية الحصباوية وبسطوا إيقاعاتها واختصروا أجزاء منها، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: حجيب، ولد حجيب، أيوب العبدي، زهير الماريشال، علي البوشاني، حسن الناجي، مجموعة أولاد حادة الممثلة في الإخوة الشيخ عزيز والشيخ رفيق الرزود، والعلمي الحوزي، ووليد الرحماني…وآخرون.
كما اكتسحت العيطة العبدية الحصباوية فن المجموعات والأوركسترا، ونذكر من المجموعات علي سبيل المثال لا الحصر:
– مجموعة أولاد بن عكَيدة، مجموعة خوت لعلام، مجموعة أولاد البوعزاوي، مجموعة رفاكَة لعلام، مجموعة مسناوة، مجموعة التكَادة، مجموعة أولاد الشريف، مجموعة أولاد خلوق، مجموعة الخيالة، مجموعة أولاد العطار، مجموعة الجوالة، مجموعة أولاد الشتيوي، مجموعة أولاد حادة، مجموعة الإخوان الناجي، مجموعة أولاد الرحالية، أولاد العطار، أولاد العوني، أولاد العز، وغيرهم…
وفي نمط الأوركسترا نجد بعض الفنانين الذين غنوا بعض العيوط العبدية بطريقة عصرية ومنهم : ( الداودي عبد الله، فتاح الخيالة، سعيد الصنهاجي، عبد الرحيم الصنهاجي، حميد المرضي، حسن الناجي، وليد الرحماني..وآخرون..
وعلينا أن نستحضر دائما الدور الكبير والفعال الذي لعبته المرأة، إلى جانب الرجل في هذا الميدان، وكثيرات هن المبدعات في هذا الفن، يصعب عدهن.. ونذكر من الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة العبدية الحصباوية، وتركن بصماتهن في الساحة الفنية ونقسمهن إلى فأتين:
شيخات الفئة الأولى ونذكر من ضمنهن: الشيخة خربوشة، أو حادة الزيدية أوحويدة الغياثية، الشيخة الرطيبة بنت لدهم، الشيخة التونية، الشيخة الرويدة، الشيخة العرجونية، الشيخة راضية الكومنجية ، الشيخة مليكة بيتيت، الشيخة خديجة بيتيت، الشيخة زهرة المسكينية، الشيخة الغالية، الشيخة الصالحة، الشيخة خدوج ميطيشتي، الشيخة رابحة بنت بوحلاب، الشيخة الزريكَة بنت لوقيد، الشيخة فاطمة الكوباص ، الشيخة خدوج العبدية، الشيخة ضونة، الشيخة تشيكيطو، الشيخة حليمة البنورية، وغيرهن..
شيخات الفئة الثانية ونذكر منهن:الشيخة الشعيبية بنت العسكري، الشيخة حادة بنت بومارت، الشيخة أم هاني بنت مجيب، الشيخة الطاهرة العبدية، الشيخة خدوج الحمرية، الشيخة فاطنة بنت الحسين، الشيخة زبيدة حبوطة، الشيخة خدوج السطاتية، الشيخة الهاترة، الشيخة زينب مسيكة، الشيخة القاتلة أمها، الشيخة فاطنة الحامونية، الشيخة حفيظة الحسناوي، الشيخة عايدة، الشيخة عايشة بوحميد، الشيخة العيدية، الشيخة حفيظة بنت الصويري، الشيخة سعاد العبدية، الشيخة لطيفة السطاتية، الشيخة سعاد بنت لمقدم، الشيخة سعاد لكحيلة، الشيخة تسونامي، الشيخة سهام المسفيوية، الشيخة زعزع، الشيخة زينة الداودية..وغيرهن..
أما اللباس الذي يلبسه ممارسو هذا الفن التراثي العبدي، فنجد غالبا الزي التقليدي المغربي: للذكور( الجلباب، والجباور، والعمامة أو الطاقية أو الطربوش على الرأس والبلغة، أما النساء الشيخات فنجد: (التكشيطة، والقفطان، والدفينة، والسبنية، والدرة على الرأس والشربيل)، لكن مؤخرا صرنا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز والقمصان القصيرة والأحذية الرياضية..
وفيما يتعلق بعدد أفراد المجموعة المغنية لفن العيطة العبدية الحصباوية، قد نجد فردا واحدا داخل حلقة بآلته الوترية وسط سوق أسبوعي، أو يتجول حاملا آلته الوترية بين المقاهي والمطاعم الشعبية يعزف ويغني بين رواد الموائد يتحفهم بأغانية العيطية ويتحفه الناس بعطاياهم، وبلغة أهل الحرفة “يجقر”، أو تجده بعرس بأحد المداشر النائية ينشط المكان بالفن العبدي، ثم تنتقل إلى نمط الثنائي وإلى المجموعة، ثم إلى النمط “الأوركسترالي”، حيث تضم الفرقة عشرات المغنيين والعازفين من الجنسين، ونادرا ما نجد المرأة عازفة على آلة وترية أو نفخية..مثل الشيخة “راضية”، التي كانت فنانة، شيخة عازفة كمنجة ومغنية.. وغالبا ما تنطلق العيطة العبدية الحصباوية بعد فترة التقاسيم بإيقاع آلاتي بطيء رتيب مركب بعد ذلك يحتد ويميل تدريجيا إلى السرعة عبر الأجزاء العيطية، وقد يقف في بعض المتون، ليردد المغني كلامه بمفرده “فرادي”، ويستأنف بعد ذلك العزف، لينتقل تدريجيا في تصاعد ثم يزداد بجزئي كل من “السرابة” و”السدة” وهي قفل وخاتمة الأغنية، ويفصل بين العيطات فترة استراحة تتخللها نكت ومستملحات فكاهية. وتستغرق العيطة الواحدة من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر، وذلك حسب الزمان والمكان ونوعية الجمهور، في حين أن الحفلة كانت تبتدأ بعد غروب الشمس وتنتهي عند طلوع الفجر ومن هنا يتبين طول السمر وروعة السهر، والعدد الهائل من القصائد العيطية والأغاني الشعبية التي تقدم بالليلة. وكان الجمهور متعطش لسماع هذا الفن إذ كان الأشخاص يقطعون مسافات طويلة تعد بالكيلومترات مشيا على الأرجل أو راكبين الدواب قادمين من مداشر ودواوير أو قرى بعيدة، ليحضروا حفلة عرس أو موسم والي صالح، أو مهرجان..
وفي هذا المقال يتعذر ذكر كل الفنانين المبدعين الذين برعوا وتركوا بصماتهم في هذا الفن العبدي، وسنكتفي بذكر بعض ممن برزوا في الساحة الفنية، وسيظل فن العيطة العبدية الحصباوية، مدينا بالكثير للشيخة “خربوشة” أو “حادة الزيدية”، والملقبة أيضا ب”حويدة الغياثية”، على غنائها الملحمي وصمودها في وجه الظلم والاستبداد ضد القايد عيسى بن عمر. وهي المرأة الشاعرة الثائرة التي أعطت لكلمة الشيخة هيبتها وبعدها النضالي.
==( من ذلك أنهم يذكرون في سياق سرد أسباب النزول الخاصة بعيطة (خربوشة) أن زعيمة قبائل أولاد زيد المعروفة باسم “حويدة الزيدية أو الغياتية”، كانت قد رفضت سلطة القايد عيسى بن عمر ودخلت معه في صدامات طويلة هي وقبيلتها أيام ولاية المولى عبد العزيز المضطربة..ويشير أحمد الصبيحي في مخطوطه “فضائع القايد عيسى بنعمر”..إلى أن الشيخة ( كانت تغني قومها ليلا بما فيه تحميس لهم على متابعتهم القيام ضد عيسى بنعمر..)..وبعدما كان من انهزام قبيلتها وفرارها بروحها إلى الشاوية يقال بأن القائد قد تمكن منها في نهاية المطاف فسجنها ودعاها إلى ترديد ما كانت تنظمه فيه من أهاجي لاذعة في حقه ولكنها أحجمت بإباء عن تمثيل دور الضحية أمامه وهي المرأة المقاومة الصلبة.. فلما أعيته الحيلة معها عمد إلى قتلها بتلك الطريقة الوحشية التي اشتهر بها وهي أن يبني عليها جدارا وهي حية..وكل ذلك انتقاما وقصاصا من تلك التي قالت فيه: ” بنعيسى وكال الجيفة..قتال خوتو..” بل تحدته بكل جبروته وقوته قائلة: ” من دار العار..يقد بيه…موتة وحدة تلزم”.)== المرجع: الباحث الدكتور حسن بحراوي في كتابه فن العيطة بالمغرب، الصفحة33.
سيبقى الثرات العيطي العبدي مدينا بالكثير للراحلان الشيخ “محمد الدعباجي” والشيخة “عايدة”، الثنائي المتميز الله يرحمهما، على الإشعاع الفني الذي أعطياه لهذا الفن، اللذان تغنيا بأجمل العيوط الحصباوية، ووصلتنا عبرهما نماذج العيطة العبدية الحصباوية وفنون الغناء العبدي بكل الاحترافية والالتزام بالأصول..حيث تلقى الشيخ الدعباجي أصول الغناء عن أشياخ الثلاثينات من أمثال الشيخ “بن دحمان العبدي”..وزاد عليه من إبداعاته في العزف على الكمنجة وطريقة الأداء الرائعة بصوته الخفيض الرخيم. وترك لنا هذا الشيخ تسجيلات في قمة الروعة وذلك قبل أن يهده المرض ويفقد صوته وذاكرته إلى حين وفاته سنة 1997 بعد معاناته مع المرض والتجاهل والعوز والحاجة. وتعلم على يده “تشيخ” عدد من الشيخات والأشياخ، نذكر منهم الفنان الشيخ “ميلود الداهمو”، الذي كان يعمل مع الدعباجي عازف الطعريجة ثم على آلة الكنبري لفترة، وبعد وفاة شيخه الدعباجي انتقل إلى العزف على الكمنجة وقد برع فيها، وعرف عنه حفظه وأداؤه لبعض العيوط النادرة وإتقانها جيدا مثل عيطة “سيدي حسن راكب جوادو”..
وسيذكر عشاق العيطة وراودها بفخر واعتزاز الراحلة الشيخة “فاطنة بنت الحسين” الله يرحمها، مع المجموعة الشهيرة أولاد بن عكَيدة ( الشيخ ميلودعازف آلة العود، والشيخ بوشعيب عازف الكمنجة، والشيخ بوجمعة عازف الإيقاع “الدربكة”).. وكانت في أيامها وصولتها أيقونة العيطة العبدية والمرساوية والزعرية بامتياز، فنانة قوية وشيخة “طباعة”، طبعت تاريخ العيطة المغربية بصوتها القوي الناحب الباكي، وأدائها المتميز.. وتعتبر باعثة العيطة الحصباوية من سباتها وهي التي اكتسحت ساحة الفن العيطي خلال سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ومثلت فن العيطة أحسن تمثيل داخل وخارج المغرب، وسجلت مجموعة من القطع العيطية بدار الإذاعة المغربية مازالت تروج إلى يومنا هذا عبر الأثير، ومشاركات تلفزيونية، وسهرات عمومية عديدة، كما تركت لنا رصيدا عيطيا مسجل عبر لفات الأسطوانات وأشرطة الكاسيت والفيديو لاقت انتشارا كاسحا في الأوساط الشعبية المغربية.
ونعرج على رباعة الشيخة” الحامونية” وزوجها الشيخ الكوامنجي “الجيلالي”، وتميز هذا التنائي بطريقة فريدة سواء في طريقة الأداء للمتون العيطية أو الطريقة البيداغوجية في التعامل مع باقي أفراد الفرقة الموسيقية، حيث كانت الشيخة الحامونية معتدة بنفسها، و كانت تفرض على الشيخات في “رباعتها” ضرورة حمل الطعريجة “أكوال”، وأن لا يستعملنها إلا بأمر منها لتفسح المكان لصوتها وغنائها عاملة بالطريقة القديمة للشيخات رائدات فن العيطة. وعرفت الساحة الفنية العبدية كذلك شيخات عتيدات من ذوات التجربة الحياتية والفنية “عياطات” و”طباعات” نذكر منهن، الراحلة الشيخة عائشة بوحميد، والشيخة حفيظة بنت العسكري، والشيخة سعاد العبدية، والشيخة مليكة العيدية..وغيرهن
وبعد هذه الفنانة وفي أوج عطائها سيظهر نجم جديد، يسمى “العرباوي عبد العزيز الستاتي”، عازف ماهر على آلة الكمنجة والوتار، طريقة عزفه على الكمنجة وحركاته وإبداعاته الموسيقية جعلته يأسر قلوب آلاف المعجبين من الجماهير، وأدى مختلف أنواع العيطة منها العيطة العبدية الحصباوية بكل احترافية وإبداع وتجديد موسيقي.
وستشهد فترة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات فترة توهج من جديد للتراث العبدي، وستأخذ العيطة العبدية الحصباوية منعطفا فنيا جديدا مع مجموعة من الشيخات والأشياخ “الربايع”، ونذكر منهم على سبيل المثال: الفنان “الشيخ محمد ولد الصوبا، والشيخة خديجة مركَوم”، إذ يعتبر سي محمد ولد صوبا من أمهر الأشياخ، فنانا متمكنا عازفا ماهرا على مجموعة من الآلات الموسيقية بما في ذلك الكمنجة والوتار، والشيخة خديجة مركَوم فنانة متمكنة من حرفتها وهي التي تعلمت أصول الحرفة من الشيخة فاطنة بنت الحسين، وساعدها في ذلك صوتها الشجي الناحب الصافي والقوي، إذ شكلا ثنائيا منسجما بفضل تناغم صوت الشيخة خديجة مركَوم الناحب الباكي والصرير النادب لكمنجة محمد ولد الصوبا..ونجد أيضا رباعة الشيخ “جمال الزرهوني”، عازف ماهر على آلة الوتار، وكان له الفضل في إحياء بعض العيوط الغابرة كعيطة “الواد الواد، وعيطة “الغزيل”،وعيطة “سيدي حسن”..كما قام بتأسيس جمعية تسهر على تدريس فن العيطة للراغبين، وتأطير الشباب المهتم بالأغنية الشعبية.. وأخوه الشيخ “عابدين الزرهوني” هو الآخر عازف على آلة الوتار وذو بحة صوتية رخيمة حزينة، وقد برع في الأغنية الشعبية وخاصة المواضيع الاجتماعية، أكثر من التراث العيطي. ونجد كذلك مجموعة الشيخ “عمر الزيدي التماني” عازف على آلة لوتار والذي حافظ على أصول العيطة الحصباوية عزفا وأداءا ويلقب بصقر العيطة. ومجموعة الشيخ “الحاج مولاي المهدي العيسي” الذي أسس جمعية بقلب مدينة الدار البيضاء تهتم بالفن الشعبي ومنه العيطة العبدية الحصباوية، كما تقوم بتأطير الشباب الراغبين في دخول ميدان الفن الشعبي.
كما يجب أن ننوه بالمجهودات الكبيرة التي قام بها أشياخ هذا الفن حاملي المشعل الذين أزاحوا طابع الجمود عن هذا الإرث، ونذكر منهم: الفنان الكبير الشيخ “سي محمد المحفوضي”، عازف ماهر على آلة لوتار ومجموعته بآلاتها التقليدية، استطاع أن يدخل قلوب الكثير من المغاربة، فهو شيخا مبدعا، ذلك الفنان الهرَم، الذي وصلنا عبره نماذج العيطة العبدية، ب”رباعة الشيخات” أو بمجموعته الرجالية المتواضعة، بكل الاحترافية والالتزام بالأصول عبر صوته الرخيم بنبراته الشجية، وذلك بتجديده في هذا الفن، من خلال دوره الكبير في النقلة النوعية التي أعطاها لهذه العيطة، حيث جعلها تنافس باقي العيوط، بفضل عزفه المتميز على آلة لوتار، وإبداعه في وصلات الموسيقى الصامتة “الخيلاز”، أعطى إبداعا في العزف والعيط والكلمات..وقد عمد إلى الاقتباس من معزوفاته وإعادة أغانيه كبار الفنانين الشعبين المغاربة المشهورين، وكان مصدر إلهام للعديد منهم، وقد اشتهر بحفظه وأدائه للتراث العيطي الحوزي والزعري والعبدي والمرساوي والغرباوي.. إضافة إلى روائعه الأغاني المستحدثة التي مازالت تغنى إلى يومنا هذا، ونذكر منها: يوم يشبه يوم، كيف درتي يا الحب، حكمت عليها الظروف، غرست نبتة، وأغاني الميمة والسواكن وغيرها من الأغاني المشهورة….وفي نمط الشيخات بالوتار نجد أشياخ كبار مثل: الشيخ اليزيد، والشيخ حسن الضاحي، والشيخ ميلود معلوم، والشيخ عبد الحفيظ، والشيخ عبد الرحيم الرواسي، والشيخ الضويس، والشيخ محمد ولد لعلام وغيرهم..
ويذكر المغاربة الأستاذ “بوشعيب الجديدي”، ذلك الفنان الأنيق الملقب ب” المايسترو”، الشيخ الذي أعطى إشعاعا كبيرا لفن العيطة العبدية الحصباوية والمرساوية والزعرية، إذ يعتبر أحد الفاعلين اللامعين في أدائها والمحافظة عليها بطريقة عصرية، بصفته أستاذ دارس ومدرس للموسيقى وشيخ للعيطة، واشتهر بصوته وأدائه لسراريب وعيوط الفن العيطي في الحفلات والأعراس كما في السهرات الكبرى على خشبات المسارح، إذ مثله خير تمثيل، داخل المغرب وخارجه.
وتأتي المجموعة المتميزة “مجمع لحباب”، الحديثة النشأة (صيف 2017)، بمدينة تمارة، والتي جمعت مجموعة من خيرة الأشياخ المتمرسين في فن العيطة منهم زعريين ومرساويين وعبدين”، فرقة بزيها التقليدي الرائع وبآلات متعددة تتنوع بين التقليدي والعصري، إذ جمعت هذه المجموعة الغنائية أصوات أشياخ مغنين وعازفين تمرسوا في الحرفة وخبروا متونها وإيقاعاتها، ومنهم: “الشيخ عبد العالي المسناوي، والشيخ عميق البنوري، والشيخ عبد الدايم، والشيخ خالد العود، والشيخ عبد الخالق السعيدي، والشيخ يوسف بوفلجة، والشيخ حسن الناجي، والشيخ عادل الزياني وآخرين…)، وقد أحيت هذه الفرقة من جديد عيوط كانت قد طالها النسيان، ومثلت الفن العيطي في محافل وطنية وفي سهرات ومهرجانات عبر المملكة.
كان أشياخ وشيخات العيطة في السابق بمثابة جنود بلا بنادق، سلاحهم في ذلك النغمة والكلمة، بذلك يصيبون الهدف ويساهمون بفنهم في تحقيق النصر..ولكن للأسف نجد بعض أشباه الأشياخ الذين حوروا هذه العيطة، وجعلوها من نص شعري يتغنى بالأمجاد والمقاومة والجمال، ومباهج الليل ومحاسن الخيل، والتغني بالأولياء والصالحين والزوايا، إلى قصائد مبتذلة متهتكة.. وذلك بتركيب كلمات سوقية دونية تتغنى بالعشق والسمر والخمر، وتركيبها على اللحن الأصلي، قصد طمس الهوية الثقافية أو من أجل التسويق التجاري المربح.. والعيطة عموما هي شعر شفهي لم يتم توثيقه، ولم يتم تسجيل النص العيطي الحقيقي تسجيلا قانونيا رسميا، لذلك فهي أشبه ما تكون بالرواية المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادة والنقصان، ويهيمن عليها الارتجال حيث يزيده الناظمون تراء، ويفرغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح..ولذلك من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة.
والشكر لهؤلاء الفنانين المناضلين الذين لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…
إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثينوالإعلاميين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وادريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وعبد السلام عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي والمصطفى حمزة ولطفي محمد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية”اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. شكرا لهؤلاء جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، كمل ثقافي أدبي توثيقي يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية .
وبصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة، لا أدعو إلى التقليد فحسب لكي لا أتهم بالرجعية، لأن ما أبدعه اليوم سيكون غدا تراثا، وإذا اكتفينا بالتقليد، ماذا ستقلد الأجيال القادمة، وللأسف الشديد كثير من الجمهور يشجع التقليد، لأنه يسمع منذ سنين أن أحسن صوت نسائي في العيطة هو صوت الشيخة “فاطنة بنت الحسين”، أو صوت الشيخة خديجة مركَوم” أو”الشيخة زهرة خربوعة.. وأحسن صوت رجالي عياطي هو صوت الشيخ بوشعيب البيضاوي، أو محمد باعوت، أو محمد الدعباجي، أو الستاتي عبد العزيز..وحين نريد الإطراء على صوت واعد نقول اسمع أنه فنان يشبه صوته الشيخ بوشعيب البيضاوي..أو المغنية الشعبية الفلانية يشبه صوتها صوت الشيخة فاطنة بنت الحسين إلى غير ذلك..فكلمة “مثل” أو “تشبه” أو “بحال”، هي كلمات إقبارية تعجيزية، يجب أن تحارب وتحذف، نريد أصواتا غنائية جديدة، فإذا غنيتُ بصوت يشبه صوتا معروفا فالناس تحب في ذلك الشيخ والمطرب الذي قلدته ولا تحب في صوتي كصوت أو أسلوبي كأسلوب موسيقي، ولا بأس إن كانت البداية بالتقليد ثم بعد ذلك يبدأ الخلق والتجديد..وكما نرى في الساحة الفنية المغربية هناك أشخاص ظهروا وتميزوا بأصواتهم وأسلوبهم وطريقة أدائهم، وتميزوا ونجحوا، ونذكر منهم: الفنان الستاتي عبد العزيز، والداودي عبد الله، والصنهاجي سعيد، وحجيب، وزينة الداودية، وغيرهم …
وختاما لا ينبغي لنا أن نركن إلى التقليد والتمجيد من أجل التخليد، بل علينا تطوير هذا الفن بالخلق والإبداع والتجديد إذا نحن أردنا أن نذهب به إلى بعيد.

الاخبار العاجلة