العيطة الزعرية: الأغنية الشعبية الشجية التي استمدت ألحانها وإيقاعاتها من أصوات خرير المياه وتدفقها، وصهيل الخيل وركضها، وعجيج الأمواج العاتية وتلاطمها..

جسر التواصل5 سبتمبر 2020آخر تحديث :
العيطة الزعرية: الأغنية الشعبية الشجية التي استمدت ألحانها وإيقاعاتها من أصوات خرير المياه وتدفقها، وصهيل الخيل وركضها، وعجيج الأمواج العاتية وتلاطمها..

شيخ العيطة الحسين السطاتي

يزخر المغرب بأنواع عديدة من الفنون التراثية والأغاني الشعبية، ومن بين هذه الفنون نجد فن “العيطة”، الذي يعتبر تراثا موسيقيا وتعبيرا ثقافيا وشعريا شفويا، كما يعد أحد التعبيرات التمثيلية الفرجوية المغربية، إذ يمثل وجدان جزء أساسي من المغاربة على امتداد خريطة ممتدة من جنوب البلاد إلى شمالها، وهي فرع أساسي من فروع الموسيقى المغربية عموما والموسيقى الشعبية خصوصا، فنا أصيلا ضاربا في جذور التراث الشعبي والثقافة المغربيين.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وهذا الفن الموسيقي هو من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..وعيط في اللغة تعني صاح، والعياط يعني الصياح، والعائط الصائح وجمع عيط عيطات.. ورغم ما أضيف إلى هذا الفن التراثي من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، قد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي..وهو غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
و”العيطة” فنيا هي فن شعبي مغربي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، أشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية داخل فن العيطة..
ومن الناحية الإيقاعية الصرفة تتشكل العيطة من مجموعة أجزاء مستقلة تسمى “قطيبات” تفصل بينها “حطات”..جمع حطة..وتعمل بمثابة لازمة موسيقية تنهي مقطعا وتعلن عن الدخول في “قطيبة” جديدة..وقد تتعدد فصول العيطة الواحدة فتفوق عشر “عتبات” كما في بعض نماذج العيطة المرساوية. وتختتم العيطة بإيقاع سريع..يشبه “الدريدكة” في الملحون..مهمته الإعلان عن الانصراف النهائي ولذلك يسمونه “القفل” أو “السدة” أو السوسة.. وقد تفتتح العيطة بمدخل يكون عبارة عن تقاسيم أو “مشاليات” يؤديها عازف الكنبري أو العود أو الكمان..ويكون ذلك على سبيل التمهيد لولوج العيطة بمعناها الخاص..وتنتهي ب”تعريضة” وهي فسحة موسيقية راقصة تكون مصاحبة بالأرجل يسمى “الحساب”. (المرجع الباحث الدكتور حسن بحراوي في كتابه فن العيطة بالمغرب الصفحة 9″).

والحديث عن فن العيطة وأنواعها كثير ومتشعب ونتطرق في هذه المقالة إلى نوع من هذا الفن وهو: “العيطة الزعرية”:
العيطة الزعرية: هي عيطة مركبة، أغنية شعبية من ثلاثة إلى خمسة أجزاء وأكثر، تسميتها نسبة إلى المنطقة التي نشأت بها “زعير”، وهو المحيط الجغرافي الذي كان ومازال يروج به هذا النمط الغنائي بكثرة، وتنتشر بمنطقة الرباط سلا زمور زعير، إلى بنسليمان، ومنها إلى حدود خريبكَة، ثم إلى تخوم وادي زم وأبي الجعد بحدود بني ملال. وهي لون غنائي عيطي متميز، له مميزات خاصة تعزله عن باقي الألوان العيطية الأخرى، حيث يتقابل فيها الصوت الخفيض الرخيم مع الصوت الصريري المرتفع الناحب، ولا تعرف الوسط المعتدل، تتطلب قدرة صوتية هائلة ونفَس طويل..وهي من العيوط المعقدة الصعبة الألحان والإيقاع، حيث يتم موازنة الآلات الوترية في تسوية عالية، أو ما تسمى باللغة الشيخاوية “مساوية قانشة”، ويأخذ العيط الزعري الطابع البكائي والفجائعي من العيط الملالي، كما نجده بشكل من الأشكال في الألحان والإيقاعات القادمة من العيطة الحوزية..
ونشأ هذا الفن على ضفاف المحيط والأودية والعيون المائية وخيراتها، وسط طبيعة خلابة، بمنطقة زعير الغنية بثرواتها النباتية والمعدنية والحيوانية، وحزامها الأخضر الغابوي، بين السهول الزراعية الخصبة والأراضي المنبسطة، وقد صدحت حناجر البدو بهذا التراث الزعري في البراري وسط المروج الخضراء، على تمايل السنابل الذهبية والزهور البرية، ووسط قصور السلاطين ورياضات البشوات والقواد والأعيان الكبار، وأثث الأفراح بالمداشر والدواوير النائية .. وتقدم هذه العيطة صورة فنية بديعة عن البيئة الزراعية والرعوية الخصبة التي احتضنتها ورعت محاولاتها الأولى، وهي عيطة تحريضية ثورية حماسية، نص شعري بمواضيع مختلفة، تؤرخ للشجاعة والحماس والثورة ضد العدو، والجهاد في سبيل الوطن، كما توثق الاضطهاد والمس بالكرامة الذي كان يتعرض له المغاربة والمقاومين الفدائيين الأبطال الذين كان يقودهم نضالهم إلى أقبية السجون وساحات الإعدام، كما تتغنى بجمال المرأة والعشق والهيام، وتشير كذلك لبعض مكونات البيئة الزعرية التي ترعرعت وسطها كتمجيدها للخيل والفرسان، وإطرائها على صفات الكرم والشجاعة والإقدام التي تكون مطلوبة في رجال القبائل ونسائها وسادتها بالمنطقة.
والعيطة الزعرية، هي تلك الأغنية الشعبية الشجية التي استمدت ألحانها وإيقاعاتها من أصوات خرير المياه وتدفقها، وصهيل الخيل وركضها، وعجيج الأمواج العاتية وتلاطمها..والتي تمتزج في متونها الحكمة والبسمة، والنغمة والكلمة..كلمات ناحبة صاعدة بأنات من حناجر شيخات وأشياخ، كانوا يمثلون صوت من لا صوت له. وهي مجموعة أهازيج وبراويل بأشعار تغنى باللهجة العربية العامية المغربية..وبفضل أصالتها الفنية وقوتها المتمثلة في الكلمة المشفرة الهادفة والإيقاع المركب الصعب والأداء الملتوي الناحب، ظلت هذه العيطة متألقة تواجه أعدائها، وقاومت كل الرياح والعواصف والتقلبات واستطاعت أن تحافظ على مكانتها في الوسط الفني الغنائي العيطي المغربي، ومن بين العيطات الزعرية الشهيرة التي مازالت رائجة نجد هناك:
عيطة “بوجناح”، عيطة “جعيدان زعرية”، عيطة بوعبيد الشرقي، عيطة “حوز القصبة”، عيطة “سوط عليه يطيب”، عيطة “البنية”، عيطة “قرصو لفوكَ”، عيطة “الحساب الزعري”، عيطة “الهيت الزعري”….وعيطة الساكن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “بوعبيد الشرقي، سيد العربي بن السايح، سيد الزعري، الوالي بن سليمان …”،
وحسب ما جاء في كتاب الباحث الدكتور حسن بحراوي “فن العيطة بالمغرب”، أن من بين الأسباب الأساسية التي كانت تؤدي إلى الاختلاط والتمازج الذي شهدته متون وإيقاعات العيطة بالمغرب، نجد أنه كان من المعتاد أن يتنقل محترفو هذا الفن من أشياخ وشيخات أفرادا أو جماعات..بين المدن والقرى المجاورة أو المتباعدة..طلبا للعمل أو السياحة والاسترواح أو بمناسبة زيارة مواسم الأولياء..وخلال هذا الانتقال كان يتم الأخذ والعطاء والتبادل المعرفي بين الرباعات المختلفة. وفيما يخص هذا التراث الزعري نجد أنه يتقاطع ويتشابه في بعض الأجزاء مع عموم العيطة المغربية، هذا التلاحم الناجم عن تأثير الجوار والتلاقح وأشكال الاقتباس، والتشبع بأنواع العيطات الأخرى في ثقافة الأخذ والعطاء، والتأثر والتأثير، ومن ذلك تقاطع العيط الحوزي مع الغناء الملالي عبر استضافة عيطة “الشجعان”الملحمية..ونسج على منوالها عيطة “جعيدان زعرية، والتأثير غير المباشر بإيقاعات عبيدات الرمى، التي نجدها حاضرة في عيطة الهيت الزعري.
والقصيدة العيطية في عمقها هي قصيدة ثورية تحريضية حماسية، نداء إلى الجهاد ، كما ساهم النص الغنائي للعيطة أنداك في بناء الدولة العصرية، وذلك من خلال الشعور الوطني وإذكاء الروح الوطنية، وكان هذا النص حاضرا في مختلف مراحل الولادة العسيرة للدولة العصرية وتطورها، ومن خلال النص العيطي يحاول الشاعر إثارة النخوة الجهادية من خلال التذكير بمهمة السلف الصالح من نبي وصحابة مركزا على ضرورة الجهاد لمقاومة المحتل، واسترداد ما ضاع من التراب الوطني كما هو الشأن في العيطة الزعرية “جعيدان زعرية”، ونجدها بحوز مراكش والرحامنة تسمى بعيطة “خالي وخويلي” أو ما تسمى أيضا بعيطة “القايد العيادي”، ضمن أغاني العيطة الحوزية، كما نجدها في العيط الملالي تسمى بعيطة “الشجعان” أو النيرية”، حيت تتميز تقريبا بنفس اللحن مع فارق بسيط في التركيب وفي الكلمات..و كل عيطة لمنطقة معينة، تمجد أوليائها الصالحين ورجالها ونسائها المناضلات المقاومات والمناضلين المقاومين.

وارتبط فن “العيطة الزعرية”، بالأعيان وكبار القبيلة، حيث ظل هذا الفن حاضرا في مجالسهم الخاصة والعامة في “القصارة” كما في حفلات الزفاف، وخرجاتهم إلى مواسم التبوريدة والقنص..ومثلما نشأت العيطة الحصباوية في مجالس القايد عيسى بن عمر، والعيطة الحوزية في ظل “القايد العيادي”، قايد الرحامنة الذي كان لها نصيرا وذائدا.. فقد وجدت العيطة الزعرية سندا في القايد “التهامي بن عبد الله” والقايد “الحاج المكي”، والقايد “الحاج العربي بن عمر” بمنطقة زعير، الشيء الذي جعلها تخلدهم في نصوصها بكل الاعتبار والتنويه الجدير برجال أبطال شجعان، كما في عيطة “بوعبيد الشرقي”:
ولواه يا الراكَد هاه..واه ياوي واه ياوي…جابوه حبابو..واه ياوي واه ياوي
دوزها واحد في القياد…واه واوي واه واوي هاه
دوزها القايد التهامي…واه واوي واه واوي هاه
وكملها حجة في النبي …واه واوي واه واوي هاه
الحاج التهامي بن عبد الله …واه واوي واه واوي هاه
عمارت الثلاث بقا خاوي …واه واوي واه واوي هاه
مول الغرفة والضو طفا …واه واوي واه واوي هاه
أنت شريفي القايد المكي …واه واوي واه واوي هاه
مول القفطان الكبريتي …واه واوي واه واوي هاه
زين الخرطة فوق الكَمري …واه واوي واه واوي هاه
مول السنحات الوردية …واه واوي واه واوي هاه
مول التريات الوردية…واه واوي واه واوي هاه
مزوق عيالو بالحكحلة ولباس ولباس ولباس
وكما نجد ذلك في عيطة “جعيدان زعرية” هذه العيطة التي تؤرخ لانتفاضة قبائل وادي زم وأبي الجعد:
واه ياوي هياوي هياوي هاه…جعيدان يبان هاه
وسيري لا تخافي والي هاه…..مالين الخيل خرجو لفعايل هاه
واش من والى يتوالى…..واش القياد تكون من والى
دوزها واحد في القياد…..دوزها القايد العربي بن عمر
حط الراعة في فم الدار..واللي داز يدي لخبار
فين أيامك يا بوكَروم…..ع الحركة والخيل تعوم
فين يامك ياود زم….راه الزناقي تجري بالدم
تكشطو عيالات القبطان….تكشطو في حوز جعيدان
بين السماعلة وبني خيران…كشطوهم أولاد الوطن
عوينكم بوعبيد الشرقي….الخواجة مزواق لولاد
راه لقواس مقابلة لقواس….الوالي على ولادو عساس.
كما نجد هناك عيطة “الحساب الزعري” وبأبياتها الشعرية “الشدرات” أو “الحبات” العيطية، ذات حمولة أدبية في صلبها معاني وأمثلة وحكم ونصائح، وسميت ب”الحساب” لأن مدة الجملة اللحنية قصيرة ومحسوبة ترتجل في ثواني معدودة، سواء منها المصحوبة بالكلام أو الموسيقى الصامتة “الخيلاز” بين الأبيات، كما أن هذه العيطة تتميز بعدم وحدة الموضوع، واستقلال البيت الواحد بفكرته، وهي تجمع بين العاطفي والسياسي والاجتماعي..وبين التفكه الذي يعطي طابع الكوميديا مثلا: ( “ريحة المعيطي…في تليميطي”، أو “كيف ندير يا حبي …ايلا عفى ربي”، أو “معنكَة لعمود..وتصحبو ميلود..”، حينها ترى الوجوه منبسطة أساريرها ومنهم من يضحك، ويتبادلون القفشات والقهقهات.. أما فيما يتعلق بالتفجع الذي يشير إلى التراجيديا من خلال البيت الشعري، مثلا: “باراكا من لعذاب..مول الروح تصاب” أو “الجفاف والملح..الباطل ولا صح”..أو “كيتي في كَلبي..حتى لعند ربي” أو “نموت ونتكَدد…وما نجبد حد”…) فهذه الأبيات يعمل المتلقي على تحليل صورها الشعرية في تلك الثواني القصيرة ليجدها عبارة عن قصص قصيرة جدا، تحكي معاناة الشخص من الاعتقال التعسفي ونزع الاعتراف تحث التعذيب من طرف ممثلي السلطة، وبهذا ترى الوجوه عابسة مكدرة واجمة..
وتدور مواضيع هذه العيطة بين الجدية والهزل، تحمل في ثناياها رسائل مشفرة..وذلك راجع إلى الطبيعة الارتجالية المتحكمة في نظم الأبيات، وكذا التناوب في الغناء الذي يقوم به أكثر من شيخ واحد، قد يُنظَمُ ويغنى فرديا “فرادي”، أو ثنائيا “ثني”، أو أكثر من مغنين وتسمى ب”الوجبة الدايرة”..حسب عدد الأشياخ والشيخات بالمجموعة الواحدة..و إن الشدرات الشعرية عند الفنان الناظم المبدع المتمكن، “الشيخة” أو ” الشيخ”، تتجه نحو سبر أغوار المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك في أحاسيسه المتلقي، غامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هاته المقولات من إيحائية وبلاغة، قد نجد أحيانا المستمع لا يستبين كلماتها التي يتغنى بها الشيخ المنشد، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها، فأبيات القصيدة العيطية اهتزت لمعانيها ورناتها أعطاف الجماهير المثقفة وغير المثقفة، وجدير بالذكر أن الترنم بهذا الفن قد يبلغ من النشوة شأنا جميلا لمن يدرك معانيها ومع من يجيد أدائها.
وقد أغرت هذه العيطة الزعرية، رواد كل أنواع العيطة الأخرى وتم الاقتباس منها، ومن بين أبياتها التي لا حصر لها والمختلفة مواضيعها من هذا الفن الزعري نذكر الأبيات التالية:
الفيم باش يعض ….شد فيه المرض
حالفة عل لكرد…تنردو قرد
اللي معندوش الحب….علاش كيشرب
الدموع اللي عل لخدود…يبلغو المقصود
مشاو دوك الناس…وبقاو ع الماس
مشاو الدواقة..وبقاو الغلاقة
السنة المكَروضة….حتى هي موضة
خطوات الرماني….عيطو ثاني
صبت ركَيكَة…جيت زحيليكَة
ايلا عندك الجهد…نزورو بجعد
وايلا عراوك الشيخات…ها الليالي جات
سعدي بالفريخة…جاتني دايخة
كَولو لسطيلة…تطل ع طليلة
الفروج لمزوق…محال يعوق
دوك قبايل زعير…كَاع بلاد الخير
ديوني لزعير ….نشوف داك الخير
وأعجبت هذه العيطة “عيطة الحساب الزعري” -بإيقاعاتها البسيطة المتقنة وألحانها المتنوعة، وكلامها المختلف المواضيع بين الهزل والجد-، الكثير من الفنانين سواء بفرق تقليدية أو عصرية، فراحوا يرددون متونها في تجمعاتهم سواء في زعير أو الشاوية أو الحوز أو عبدة أو دكالة أو جبالة..الشيء الذي أتاح لها انتشارا واسعا وإشعاعا كبيرا.
وبصفتي شيخ للعيطة ممارس في الميدان، كومنجي ومغني لعدد من المتون العيطية، أعرف جيدا أن لكل عيطة قوتها، فكذلك الشأن بالنسبة لعيطة “الحساب الزعري”، فإذا كانت تتميز عن باقي العيوط الزعرية الأخرى بكونها مريحة ومربحة “عيطة كريمة” فهي سخية ماديا للفرقة الموسيقية ومصدر مالي مُدر..بدعوى أنها سهلة العزف الآلاتي والإيقاع ويتنافس خلالها الجمهور في دفع الإكراميات المالية “الغرامة”، فصعوبتها وقوتها تكمن في كلامها، فهي ليست صعبة فحسب بل نتائجها أحيانا خطيرة ووخيمة على الفرقة المنشطة كما على الجمهور المتلقي، وقد تتسبب في عراك دامي إلى قاتل، وتحول الفرح إلى قرح..إذ يستوجب على الشيخة أو الشيخ أتناء الغناء “العدان” أن يكون ذكيا وحذرا جدا، وتكون له القدرة على الارتجال الشعري أتناء الأداء باستحداث الأبيات الشعرية “الحبات” المناسبة في الوقت المناسب وللشخص المناسب، تارة تُلقى بالمباشر وتارة أخرى بالتلميح بدل التصريح، مع استعمال آليات التشبيه والاستعارة والترميز، وهذا يُعلم خلال التداريب، ويُكتسب بالممارسة والتجربة الميدانية، مع الحرص على عدم الوقوع في الفخاخ، والأبيات الملغمة، وقد يكون ذلك عن غير قصد أو بفعل متعمد من الشيخة أو الشيخ أو عن طريق التحريض من شخص ضمن الحضور مستفيدا من البيت الشعري، وذلك بمقابل مادي يمنحه للمغني.. كفخ العنصرية مثلا: (“حيدو لكحل… راه جا لفحل” أو “الباب لكحل..ما بغا يتحل”، أو”حتى حب لعزاوة..داير غزاوة”، أو “كَولو لبو رزة…بصحة المعزة”، أو “بقا فيا الجحموم..اللي كل نهار يعوم”..)، أو تقع الشيخة في فخ الإهانة والطعن في فحولة العريس “مولاي” لحظة الدخلة مثلا:” الفروج لمزوق..محال يعوق” أو “الفروج اللي يصيح…محال يصبح”، أو “العود لشهب… ما يبرد كَلب”، أو تطعن في شرف العروس كمثال: ” عيات متلعب..ولصقت في الكلب” أو “بقا فيا المزغوب…سطيلو متقوب”، “تاقبة لبنيدير..وبغات عرس كبير”.. )، وكذلك السقوط في فخ النزاعات الانتخابية كالدعاية لمرشح من حزب سياسي معين أو الترويج لحملة انتخابية سابقة لأوانها…وقد يترتب على هذا أمورا غير محمودة العواقب، فمثل هذه الفخاخ من المحتمل أن تسوق الفرقة المنشطة إلى عقوبات قد تصل إلى الاعتداء الجسدي عليهم داخل الحفل، ومنها من وصل بهم الأمر إلى المتابعة القضائية. كانت الشيخات يقفن متصافات بعيدات من الجمهور والشخص المعجب يقف من مكانه ويتوجه صوب المجموعة ويهدي هديته من المبلغ المالي ويعود إلى مكانه..لكن للأسف الشديد صارت هذه العيطة عند بعض الفرق الموسيقية تؤدى بشكل مهين وحقير، إذ تغنى بكلمات إباحية ساقطة تختلط معها العربدة والمجون، فتجد بعض الشيخات يلتجئن إلى الانتقال راقصات عند كل شخص على حدة، وهي ما يسمى عند ممارسي الحرفة ب “التسيقير”، وكل شيخة تتكلف بجهة من الحفل وعليها أن تجلب أكبر قدر من المال، وترقص وتغني للشخص وتطلب منه في توسل وبإلحاح ذبابي أن يمدها بالمال، وقد يصل الأمر أن تقبله أو تجلس في حضنه. الشيء الذي زاد في دونيتهن وبخس سمعة الشيخات.
والغريب في الأمر يتم استضافة بعض مجموعات الشيخات بمهرجانات عمومية أو بسهرات تعرض على العموم بالقنوات التلفزيونية بالقطب العمومي، فنسمع فنانين مشهورين لا يعون بما ينطقون ينسون أنفسهم ويتفوهون بهذه التفاهات الساقطة تلك “الحبات” المستحدثة التي ألفوا أن يرددوها في أوكار المجون وبالسهرات الخاصة، ولا من رادع أو متدخل يصحح هذا العبث بتراثنا اللامادي.
وتقوم “العيطة الزعرية” على إيقاع غالبا ما يبدأ رتيبا عند الانطلاق، ولكنه يمضي في التصاعد تدريجيا إلى أن يبلغ لحظة الذروة ثم يعود ويتباطأ من جديد، ويعود تدريجيا إلى التصاعد ويخبو مرة ثانية ثم يحمى وطيس الإيقاع في صعود وهبوط تماشيا مع العيطة المغناة، لتبدو إيقاعات وألحان القطعة العيطية كأنها أمواج مد وجزر في بحر لا حدود له..أو سرب خيل هاجمة في عملية كر وفر، ليختم ب”السوسة” وتليها “السدة”، التي غالبا ما تتبعها موسيقى صامتة “خيلاز” مصاحبة بالتصفيق “الرش” ووصلات راقصة فلكلورية، وأحيانا ب”علفة” تتغنى بالخيل والفروسية التي عرفت بها منطقة زعير.
كما أن الرقص في العيطة الزعرية له دلالات رمزية، يقوم بها الرجل والمرأة كل في دائرة اختصاصه، حيث كان المجتمع الزعري في الأول مجتمعا محافظا، لا يسمح باختلاط الرجال بالنساء خلال الحفلات..فنجد الراقص أوالراقصة يقومون بحركات تمثيلية خلال الرقص تلك الحركات مستوحاة من الأعمال الزراعية السائدة بالمنطقة، كطريقة شد المحراث التقليدي أتناء الحرث، أو طريقة نثر وزرع البذور، وكيفية فتح سواقي الأحواض الطينية للماء بالمعول، ثم إلى طريقة حصاد الزرع بالمنجل وتشكيل الغمرة، والدرس بالبيذر”الكَاعة”، وتذرية الزرع..وطريقة نفض الثمار من الأشجار، وكنس الأرض بسعف النخيل، وطريقة غزل الصوف بالمغزل على الفخذ، وطريقة غسل الصوف على صخور الوادي، وتقليد بعض حركات أرجل الطيور خلال فترة التزاوج المستمدة منها رقصة “القعدة”، وحتى الصياح الذي يصدره المزارعون لفزع الطيور التي تحط وسط المحاصيل، وكذا التصفيق المسترسل” الرش”، المصحوب أحيانا بالزغاريد، وبالنداء والصياح المتتابع كما هو الحال في طريقة فزع طرائد الصيد من مخابئها “التحياح”، وإيقاد طرائد القنص من مرقدها بالضرب بالرجل اليمنى على الأرض .. وغالبا ما يتأجج هذا في جزء “السوسة” إلى “السدة” أو ما تسمى ب “القفل”، من العيطة الزعرية…. لتنهال من أجل ذلك على الفرقة المنشطة إكراميات الجمهور”الغرامة”. وجرت العادة أحيانا عند قبائل زعير أتناء تأدية العيطة وخلال جزء السوسة المصاحبة بالرقص والتصفيق “الرش”، أن يطلق الرجال أصوات الأعيرة النارية من الأسلحة الخفيفة كالبنادق والمسدسات “خرجو البارود”، عندما تشتد حمى الطرب، فيما تتجاوب معها زغاريد النسوة.
كانت العيطة الزعرية، في بدايتها تعتمد على آلات موسيقية بسيطة إلى بدائية، (وتار وطعريجة أو كمنجة ومقص ومهراس، “مزمار” قصبة مشدوة إلى قرن عجل، وطعريجة وبندير)، كانت في البداية هذه العيطة تقتصر على آلات متواضعة مما يجعل الصوت المرتفع الصادح حاضرا بقوة، وترتكز أساسا على الكلام وليس على الفرجة فحسب، كما يقال: “سر العيطة في كلامها”، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة، أدخلت عليها آلات غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها كما هو الحال بأوركستر “زهير الماريشال”.. ومن الآلات التي صارت تستعمل في هذا الفن؛ هناك آلات وترية، ونفخية، وإيقاعية ونقرية. ومن الآلات الوتريةنجد: “الوتار، العود، الكمنجة، البوزق، السنتير، المندولين، البانجو، القيتارة..وفي الآلات النفخية هناك: الغيطة، المزمار، الناي، القصبة الأحادية والثنائية(المكَرونات) الليرة، إلى الساكسفون..وفي الآلات الإيقاعيةنجد: البندير، الطبل، الصنج، الدف، الطر، الصينية والكؤوس، والمهراس، والطعريجة بما فيها الكبيرة والصغيرة “أكوال”، الدربكة، والنويقسات، والمقص، والطمطام إلى “لباتري” العصري..كما نجد أيضا الآلات النقرية كالقانون، والأورغ …
وقد اشتهرت العيطة الزعرية بمناطق تتميز بطبيعتها الخلابة الغناء، عرفت بكثرة وتنوع مغروسات أشجار الفواكه والخضراوات، وترائها الحيواني “الكسيبة”، والثروة البحرية، و شساعة أراضيها الخصبة الزراعية منها البورية والسقوية، واشتهرت بخيراتها “الماء والخضرة والوجه الحسن”، ومازالت متداولة تلك القولة الشهيرة:” شاط الخير على زعير”، إذ يحكى أن قبائل زعير فيما مضى ومن كثرة وفرة المحصول الزراعي كانت تملأ “الأمراس” و”المطامر”، ويغلب على الفلاحين كثرة المحصول الزراعي، فكانوا يحرثون الأراضي وهي مازالت مملوءة بخيرات الموسم الفلاحي السابق..كما اشتهرت المنطقة بتضاريسها المتنوعة؛ (سهول شاسعة منبسطة، هضاب، تلال، وديان، شواطئ، غابات، عيون مائية، سواقي…مع وفرة المياه الجوفية والسطحية، على امتداد الأودية بما في ذلك وادي اكم، واد النفيفيخ، واد المظلوم، واد الشراط إلى المحيط الأطلسي، وتضم ضواحي الرباط سلا زمور زعير، إلى حدود خريبكَة ووادي زم، إلى تخوم أبي الجعد..وتشمل كل من: (الرباط، سلا، تمارة، عين عتيق، الصخيرات، سيدي يحيى زعير، الولالدة، تامسنا، عين عودة، الشكَران، مغشوش، حد لغوالم، عين حلوف، سهول زعير، عكراش، الشطاطبة، شراكَة، الرميلية، أولاد مبارك، عين السبيت، أولاد موسى، البراشوة، الرماني، ازحيليكَة، الكاموني، بني خيران، إلى خريبكَة ثم إلى بنسليمان، بني يخلف، سيد البطاش….).
وبصفتي شيخ ممارس لفن العيطة، أقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام فن العيطة عموما، على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ، زجالين، نُظام، ومغنين حفاظ “كَوالين”، حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، زجالات، ناظمات مناضلات..أصوات انبرت لنصرة من لا صوت له، فنانون استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، أكثرهم يعاني شظف العيش، لا يعيشون ليحيون بقدر ما يعيشون لكي لا يموتون..والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم.
وللعيطة الزعرية أشياخ وأعلام قدامى وجدد، وقد رحل جل شيوخها من الرعيل الأول والثاني ممن كانوا يتقنون أدائها وحفظ متونها..وعرف هذا النوع العيطي االزعري العديد من الفنانين، كما أعجبت وسحرت الكثيرين من الأشياخ منهم “الزعريين” و” المرساويين” و”العبديين”، وحتى بعض الفنانين الأمازيغيين..
ونذكر من أشياخ هذا الفن الأصيل على سبيل المثال لا الحصر:
– الرواد القدامى، أشياخ الرعيل الأول : الشيخ بوكَلة، الشيخ محمد العواكَ، الشيخ السلاخ ، الشيخ ابراهيم لعور، الشيخ الجيلالي ولد المخروط ، الشيخ ابراهيم الهوس، الشيخ الحبشي ولد قويدر، الشيخ سطسا، الشيخ بناصر الزعري، الشيخ الكبير المراحي، الشيخ الحسين الخريبكَي..
– ومن أشياخ الرعيل الثاني نذكر: الشيخ بوعزة العرعاري ، الشيخ الموتشو محمد، الشيخ اسعيد ولد رغية، الشيخ بوشتى لزعر ، الشيخ لعميري محمد، الشيخ ابراهيم ولد المامون، الشيخ، الزعري العرعاري، الشيخ بوشتى السريع، الشيخ الستاتي عبد العزيز، الشيخ سعيد ولد الحوات، الشيخ محمد ولد الصوبا، الشيخ محمد الخلفي، الشيخ العربي الخيراني، الشيخ محمد ولد مبارك الخريبكَي، الشيخ سعيد الخريبكَي، الشيخ عبد الرحيم المسكيني، الشيخ محمد ولد سبعمية، الشيخ المصطفى الميلس، الشيخ مبارك المسكيني، الشيخ رحال المسكيني، الشيخ عبد الواحد فاطن، الشيخ رشيد الخريبكَي، الشيخ هشام ملاكَة، الشيخ محمد الوافي الملقب “الشيخ الفريخ”، الشيخ ميلود النمرود، الشيخ محمد الخيراني، الشيخ الموتشو قدور، الشيخ صالح الطيوطا، الشيخ الشرقي الخيراني، الشيخ يوسف بوفلجة، الشيخ عادل الزياني، الشيخ اسماعيل احمامو، الشيخ خالد العود ، الشيخ عبد الغني السعيدي، الشيخ عميق البنوري..
– ومن الأشياخ الجدد نجد، الذين جددوا في فن العيطة الزعرية وبسطوا إيقاعاتها واختصروا أجزاء منها، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: حجيب، البحيري، الداودي عبد الله، العمري الشعبي، الصافي عبد الغاني، عبد اللطيف المنور، عابيد السعيدي، ميگري رضوان، زهير الماريشال، نسيم حداد، محمد ولد مريم، سعيد الصنهاجي، عبد الحفيظ العمري، رشيد الزعري، قويسم، عزيز بوفلجة، القاسمي، عبدو الناصيري، يوسف الزعري، وآخرون..
ومن الفنانين الأمازيغ الذين غنوا بعض العيوط الزعرية وبرعوا في أدائها، نجد الفنانين الأشياخ : “المغاري ميلود، حمي عاشور، رويشة محمد، نعينيعة المصطفى، أحوزار عبد العزيز، المصطفى أومكَيل، أوشطين، حوسى 46، عزيز خير، أزلماط، لحسن الخنيفري، عبد المجيد القصيبي، وغيرهم…
وعلينا أن نستحضر دائما الدور الكبير والفعال الذي لعبته المرأة، إلى جانب الرجل في هذا الميدان فمن الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة الزعرية، وتركن بصماتهن في الساحة الفنية نذكر منهن: الشيخة زهرة خربوعة، الشيخة حادة روبال، الشيخة نعينيعة، الشيخة فاطنة الزعرية الملقبة ب”مرة الشاوي”، الشيخة الكبيرة الزايدية، الشيخة السعدية الزعرية، الشيخة مليكة الوادزامية، الشيخة فيطيمة لكحيلة الولالدية الملقبة ب”الجدية”، الشيخة فيطنة الخيرانية، الشيخة عيروطة، الشيخة السعدية بنت بن أحمد، الشيخة فاطنة بنت البهلول، الشيخة نعيمة الخريبكَية، الشيخة زهرة لكريدة، الشيخة سعاد الخلفية، الشيخة أمينة الزعرية…وغيرهن..
ومن الفنانات الأمازيغيات اللواتي غنين من فن العيطة الزعرية نجد الشيخات: حادة أوعكي، خديجة أطلس، الشريفة، ايطو أوفول، الحسنية، الميلودية…
أما اللباس الذي يلبسه ممارسو هذا الفن التراثي الزعري، فنجد غالبا الزي التقليدي المغربي: للذكور( الجلباب، والجباور، والعمامة أو الطاقية والطربوشعلى الرأس والبلغة، أما النساء الشيخات فنجد: (التكشيطة، والقفطان، والدفينة.. والسبنية، والدرة على الرأس والشربيل)، لكن مؤخرا صرنا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز والقمصان القصيرة والأحذية الرياضية..
وفيما يتعلق بعدد أفراد المجموعة المغنية لفن العيطة الزعرية، قد نجد فردا واحدا داخل حلقة بآلته الوترية وسط سوق أسبوعي أو بعرس بأحد المداشر النائية ينشط المكان بالفن الزعري إلى الثنائي والمجموعة ثم إلى النمط “الأوركسترالي”، حيث تضم الفرقة عشرات المغنيين والعازفين من الجنسين ونادرا ما نجد المرأة عازفة على آلة وترية أو نفخية..مثل الشيخة “أمينة الزعرية” وهي فنانة شيخة عازفة كمنجة ومغنية.. وغالبا ما تنطلق العيطة الزعرية بعد فترة التقاسيم بإيقاع آلاتي بطيء رتيب مركب بعد ذلك يحتد ويميل تدريجيا إلى السرعة عبر الأجزاء العيطية، ثم يزداد بجزئي كل من “السرابة” و”السدة” وهي قفل وخاتمة الأغنية، ويفصل بين العيطات فترة استراحة تتخللها نكت ومستملحات فكاهية. وتستغرق العيطة الواحدة من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر، وذلك حسب الزمان والمكان ونوعية الجمهور، في حين أن الحفلة كانت تبتدأ بعد غروب الشمس وتنتهي عند طلوع الفجر، ومن هنا يتبين طول السمر و روعة السهر، والعدد الهائل من القصائد العيطية والأغاني الشعبية التي تقدم بالليلة. وكان الجمهور متعطش لسماع هذا الفن إذ كان الأشخاص يقطعون مسافات طويلة تعد بالكيلومترات مشيا على الأرجل أو راكبين الدواب قادمين من مداشر ودواوير أو قرى بعيدة، ليحضروا حفلة عرس أو موسم والي صالح، قصد التمتع بموسيقى العيطة.. وكانت أنغام الفن الزعري تجر المعجبين من بعيد إلى حفلة العرس، فتسمع بين الحين والآخر أحد المتفرجين يتلفظ صائحا بالمقولة التي يتردد صداها إلى اليوم “جر جر يا الشيخ الله ينعل بوها جرة”، في إشارة منه إلى “جرة الجرة” سحر أنغام الكمنجة، طالبا من الشيخ مواصلة العزف لتستأنف الفرقة المنشطة نشاطها قبل أن ينسل الوقت ويطلع النهار.
وسيظل فن العيطة الزعرية، مدينا بالكثير الثنائي المتميز الراحلان الشيخة “زهرة خربوعة”، والشيخ محمد العواكَ، الله يرحمهما، على الإشعاع الفني الذي أعطياه لهذا الفن، وذلك بإحيائهما للحفلات بالقصور والرياضات، وبالمهرجانات والمواسم .وترديدهما للعيوط وأهازيج القبائل الزعري بأصوات ناحبة تتقن السراريب العيطية والقصائد الوطنية، وقد عملت خربوعة مع الشيخ “صالح بوراس”، وكان بعض من غنائهما آنذاك غناء شعبيا تحريضيا إبان فترة الحركة الوطنية، ومن أجل ذلك تعرضت زهرة خربوعة ومجموعتها للاعتقال خلال نفي جلالة الملك الراحل “محمد الخامس” الله يرحمه، من طرف السلطات الفرنسية. ومن بين قصائدها التي غنت، قصيدتها الشهيرة التي غنتها عن نفي الملك وتغنى بها الكثيرون من المغاربة:
يحيا الملك يحيا الدين….ويسقطو الناس الخاينيــــــن
تعالى تشوف الصبر….عام وثلث شهـــــــــــــــر
الملك خاوي لقصر…..والشعب مصاب صبر
والله ما نحني……ولا تجي في ايديا
حتى يرجع الخامس….ويجيب الحرية
الله يرحم الشوهدا….منهم الزرقطوني لفحل
جبد الفردي لكحل…..في الخاينين كيقتل

كانت الشيخة “زهرة خربوعة” أيقونة العيطة الزعرية في أيامها، فنانة قوية وشيخة “طباعة”، طبعت تاريخ العيطة المغربية بصوتها القوي وأدائها المتميز، سجلت مجموعة من القطع العيطية والأغاني الشعبية بدار الاذاعة المغربية مزالت تروج وتبث إلى يومنا هذا عبر الأثير، وتركت لنا تسجيلات على أسطوانات ذات 45 لفة و75 لفة وأشرطة كاسيت وتسجيلات فيديو.. لكن للأسف عاشت آخر أيامها بدون سند لا مال ولا بنون، تعاني المرض والعوز والحاجة. تعيش بالتسول وعلى ما يجود به عليها المحسنين..
كما ستشهد فترة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات فترة توهج من جديد للتراث الزعري، وستأخذ العيطة الزعرية منعطفا فنيا جديدا مع مجموعة من الشيخات والأشياخ “الربايع”، ومنهم: الفنان “الشيخ الموتشو محمد، والشيخة السعدية نعينيعة”، وقد كان محمد الموتشو فنانا متمكنا عازفا ماهرا على مجموعة من الآلات الموسيقية بما في ذلك الكمنجة والوتار والقصبة “الليرة”، وكانت الشيخة نعينيعة ذات حسن وجمال وصوت صافي وقوي، إذ شكلا ثنائيا منسجما بفضل تناغم صوت الشيخة نعينيعة الناحب والصرير النادب لكمنجة الموتشو محمد وصوته الخفيض الرخيم ..ونجد أيضا رباعة “الشيخ ابراهيم ولد المامون والشيخة زهرة لكريدة”، هذه الأخيرة كانت ذات صوت ناحب قوي وجمال فاتن، وكذلك ظهور شيخات متمكنات “عياطات” ومتمرسات في الحرفة “طباعات”، أمثال: ” الشيخة حادة روبال، والشيخة الكبيرة الولالدية”، والشيخة فاطنة بنت الشاوي، والشيخة السعدية بنت بن أحمد، والشيخة فاطنة بنت البهلول، والشيخة فيطنة الكحيلة، سوداء البشرة الملقبة ب”الجدية” وغيرهن … شيخات وأشياخ تركوا لنا مجموعة من التسجيلات منها الأغاني العيطية التراثية والأغاني الشعبية من إبداعاتهم على أشرطة الكاسيت و كذا المسجل منه بكاسيت الفيديو، كانوا يشكلون مجموعات “ربايع” فنية أصيلة وصلنا عبرها نماذج العيطة الزعرية، بكل الاحترافية والالتزام بالأصول.
كما يجب أن ننوه بالمجهودات الكبيرة التي قام بها أشياخ هذا الفن حاملي المشعل الذين أزاحوا طابع الجمود عن هذا الإرث، ونذكر منهم: الفنان المتميز “قاسم” الملقب ب “قويسم” نسبة إلى قصر قامته، مع مجموعته “نجوم العين”، والذي شرف العيطة الزعرية وجعلها حاضرة في الحفلات والأعراس بمدن مختلفة بالمغرب.
وتأتي المجموعة المتميزة “مجمع لحباب”، الحديثة النشأة (صيف 2017)، والتي جمعت مجموعة من خيرة الأشياخ المتمرسين في فن العيطة منهم زعريين ومرساويين وعبدين”، فرقة بزيها التقليدي الرائع وبآلات متعددة تتنوع بين التقليدي والعصري، إذ جمعت هذه المجموعة الغنائية أصوات أشياخ مغنين وعازفين تمرسوا في الحرفة وخبروا متونها وإيقاعاتها، ومنهم: “الشيخ عبد العالي المسناوي، والشيخ عميق البنوري، والشيخ عبد الدايم، والشيخ خالد العود، والشيخ عبد الخالق السعيدي، والشيخ يوسف بوفلجة، والشيخ حسن الناجي، والشيخ عادل الزياني وآخرين…)، وقد أحيت هذه الفرقة من جديد عيوط كانت قد طالها النسيان، ومثلت الفن الزعري في محافل وطنية وفي سهرات ومهرجانات عبر المملكة.
كان أشياخ وشيخات العيطة في السابق بمثابة جنود بلا بنادق، سلاحهم في ذلك النغمة والكلمة، بذلك يصيبون الهدف ويساهمون بفنهم في تحقيق النصر..ولكن للأسف نجد بعض أشباه الأشياخ الذين حوروا هذه العيطة، وجعلوها من نص شعري يتغنى بالأمجاد والمقاومة والجمال، ومباهج الليل ومحاسن الخيل، والتغني بالأولياء والصالحين والزوايا، إلى قصائد مبتذلة متهتكة.. وذلك بتركيب كلمات سوقية دونية تتغنى بالعشق والسمر والخمر، وتركيبها على اللحن الأصلي، قصد طمس الهوية الثقافية أو من أجل التسويق التجاري المربح.. والعيطة عموما هي شعر شفهي لم يتم توثيقه، ولم يتم تسجيل النص العيطي الحقيقي تسجيلا قانونيا رسميا، لذلك فهي أشبه ما تكون بالرواية المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادة والنقصان، ويهيمن عليها الارتجال حيث يزيده الناظمون تراء، ويفرغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح..ولذلك من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة.
والشكر لهؤلاء الفنانين المناضلين الذين لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…
. إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وادريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وعبد السلام عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي والمصطفى حمزة ولطفي محمد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية”اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.
لا ينبغي لنا أن نركن إلى التقليد والتمجيد من أجل التخليد، بل علينا تطوير هذا الفن بالخلق والإبداع والتجديد إذا نحن أردنا أن نذهب به إلى بعيد.

الاخبار العاجلة