شيخ العيطة الحسين السطاتي
في البداية لابد أن نعرف بفن العيطة الشعبية المغربي:
العيطة: هي غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المنطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
والعيطة فنيا هي فن شعبي مغربي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، وهي مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها.
وتسمية العيطة: معناها اللغوي “النداء”، وعيط في اللغة العربية أي ناد، وتعني النداء بصوت مرتفع حيت المنادي يطيل عنقه ليصل الصوت إلى المنادى عليه، نداء بالجهر بصوت ذو صرير يتوخى منه لفت الانتباه، وهي نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف لتحريك واستنهاض همم الرجال واستحضار واستدعاء ملكة الشعر والغناء.
– وعلى المستوى الاصطلاحي، فالعيط عبارة عن مجموعة من الأشعار العامية تنشد في طبقات صوتية مرتفعة وتحمل معاني الاستعطاف والحسرة وطلب المساعدة والعون والتمني. ويعتبر هذا الفن تراثا موسيقيا وتعبيرا ثقافيا وشعريا شفويا، كما يعد أحد التعبيرات التمثيلية الفرجوية المغربية، إذ يمثل وجدان جزء أساسي من المغاربة على امتداد خريطة ممتدة من جنوب البلاد إلى شمالها، كما أنها فرع أساسي من فروع الموسيقى المغربية عموما والموسيقى الشعبية خصوصا، فنا أصيلا ضاربا في جذور التراث الشعبي والثقافة المغربيين.
وتنقسم الأغنية العيطية إلى فترتين مختلفتين:
الفراش: وهي المرحلة الزمنية ذات الإيقاع البطيء.
الغطاء: وهي المرحلة الزمنية ذات الإيقاع السريع ويستدعي أحيانا أن يكون مصاحبا بالرقص.
وللعيطة نمط واحد، وأشكالا متعددة في الأداء، أما الزي الذي يلبسه ممارسوا هذا الفن، فنجد غالبا الزي التقليدي المغربي: للذكور( الجلباب والطربوش، والجبادور، وبمنطقة الشمال نجد السلهام، والكَندورة، والشاشية، والترازة)، أما الشيخات فنجد (التكشيطة، القفطان، الدفينة والسبنية)، وقد أدخلت المجموعة المتميزة المتكون من: المريشال قيبو وبوشعيب البيضاوي وبوشعيب زليكَة تقليعة جديدة لم تكن متوقعة في هذا الفن العيطي المحافظ، وهي لباس الرجل للدفينة والقفطان، وحمله للطعريجة تشبها بالشيخة المرأة، وهي الصورة التي رسختها هذه المجموعة في أذهان المغاربة، ونقلها بعدهم العديد من الفنانين أمثال: ( مصطفى البيضاوي وفاضل العبدي…)، لكن مؤخرا صرنا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز.
وفيما يتعلق بعدد أفراد المجموعة المغنية لفن العيطة، نجد أنه يبدأ من فرد واحد إلى أوركسترا تضم عشرات المغنيين والعازفين
ونجد هناك أنوع من العيطة:
العيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية التي تسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الملالية، والعيطة الحوزية، والعيطة الجبلية، والعيطة الخريبكَية، وقد تفرعت عيوط أخرى حيت نجد العيطة الزعرية وهي تابع من العيطة الحوزية وقد ظهرت خلال ما بعد الاستقلال وهي لا تتميز بصورة التركيب، ومنها انشق ومنها صنف الحب أو الحساب الزعري، وهناك العيطة الغرباوية التي تفرع منها الهيت الحسناوي والهيت الغرباوي الحلوفي، كما نجد هناك نوع أخر بمنطقة تافيلالت سجلماسة يسمى بالعيطة الفيلالية، وتسمى أيضا بالعيطة الجرفية البلدية، ثم هناك نوع مشترك بن هذه العيوط ويسمى عيطة “الساكن” التي لها علاقة بالذِكر بألحان روحانية وإيقاع الجذبة، وهذا الأخير “الساكن”، يوجد في جميع أنواع العيطة.
نشير إلى أن شاعر هذا الفن الأدبي الشعبي” العيطة” المبدع يسمى: ” الكَوال” وتعني الناظم والزجال، كما أن منشده ومغنيه يسمى ” الشيخ” ويجمع على ” أشياخ” أو شيوخ، ويدعى” نغث” بلغة أهل الحرفة، وإذا كان هذا المنشد أو المغني امرأة يؤنث المصطلح فيقال عنها ” شيخة” وتدعى “نغثة” وفي الجمع شيخات.
الحديث عن فن العيطة كثير ومتشعب، وقد قضى من أجل ذالك الباحثين الأكادميين مشكورين سنين طويلة من النبش والهبش، حتى نفضوا عنه الغبار وأعادوا إليه بعض الاعتبار، ونتناول من بين هذه الأنواع، العيطة الملالية:
العيطة الملالية هي عيطة مركبة، وتنتسب إلى موقعها بمنطقة بني ملال وضواحيها المتاخمة للثغور الأطلسية، حيث تتميز باللحن الشجي، ذلك اللحن الفجائعي البكائي، إذ يهيمن على قصائدها الطابع الرثائي البكائي لتصل إلى الندبة والرغاء، حيت يبكي العاشق الولهان حبيبته، وترثي الأم ابنها المستشهد في ساحة القتال ويسمى هذا ب ” التعداد”، وترثي الحبيبة حبيبها الأسير في يد المستعمر العدو ويسمى ب”التهاونية” لأنه لازال على قيد الحياة.
ومن بين العيوط الملالية الشهيرة التي مازالت متداولة نجد ملحمة “الشجعان”، وعيطة جعيدان، وعيطة حرودة، وعيطة “مالين الخيل” وتسمى أيضا بعيطة “امحمد بن داود” وهي باسم المجاهد المقاوم “امحمد بنداود الوادزامي” الملقب ب”دويدة الشيباني”، وعيطة “حَب الحلكَة الملالية، وعيطة الساكن الملالي “بوعبيد الشرقي، الغزواني بوشاقور، الفقيه بن صالح، سيدي بن كَاسم….”
طريق الملالية ….بين عينيا
الزين والهبال….في بني ملال
الغادي لبني ملال…ديرني في البال
طريق جعيدان….غادية نيشان
نوض تكَعد…..نتسوقو بجعد
عين أسردون…سالبة العيون
هذه أبيات من عيطة “حب الحلكَة الملالية” وهي عيطة ملالية، وقد نجدها أيضا في عيطة “وحيدة”، وفي عيطة “جعيدان”، و”الحساب الزعري” كما قد نجدها بعيوط أخرى ..والمتأمل في هذه الأبيات فهي تجمع بين طياتها الجمال الطبيعي والبشري، فالمنطقة غنية بثرواتها المعدنية والطبيعية من سهول وهضاب وجبال شامخة، ووديان، وعيون مائية، وشلالات، ومناجم ومعادن… “الماء والخضرة والوجه الحسن”، ودور العيطة الفعال في معالجة القضايا المرتبطة بما هو اجتماعي وسياسي.
وقد ساهم النص الغنائي للعيطة أنداك في بناء الدولة العصرية، وذلك من خلال الشعور الوطني وإذكاء الروح الوطنية، وكان هذا النص حاضرا في مختلف مراحل الولادة العسيرة للدولة العصرية وتطورها، ومن خلال النص العيطي يحاول الشاعر إثارة النخوة الجهادية من خلال التذكير بمهمة السلف الصالح من نبي وصحابة مركزا على ضرورة الجهاد لمقاومة المحتل، واسترداد ما ضاع من التراب الوطني كما هو الشأن في العيطة الملالية ” الشجعان”، ونجدها بحوز مراكش والرحامنة تسمى بعيطة “خالي وخويلي” ضمن أغاني العيطية الحوزية، ونجدها بضواحي منطقة زعير تسمى بعيطة “جعيدان زعرية”، حيت تتميز تقريبا بنفس اللحن مع فارق بسيط في التركيب وفي الكلمات، إذ أن كل عيطة لمنطقة تمجد أوليائها الصالحين ورجالها ونسائها المناضلين المقاومين. كما هو الشأن في عيطة “الشجعان” لشاعرة الأطلس “امباركة لبيهيشية”، إذ نجد وصفا متزايد الدقة لأشكال المقاومة الشعبية التي ازدهرت مع حلول الاستعمار بالبلاد، وانبثاق ما يشبه حرب العصابات التي كان ينهض بها الشيب والشباب ممن تصدوا للتخريب وتدمير مصالح المعمرين.
بسم الله باش بديـــنا …… على النبي صليـــنا
يا أمتو صليو عليـــه…….. هو وصحابو بعشــرة
ولالة فاطمة الزهـــرا …….. الياقوتة في الجنــــة
هزيت عيني ليك يا ربي…….. هزيت عيني وفرح قلبـي
كَلت ليكم كَلنا ليـكم……….. كَالت ليكم بنت المعطـي
غير ضربو وأنا نعطــي ……….. غير تحزمو وكونو رجـالا
الشويب خالي حمو……….الحابس الكوفة في العرعار
فين الدراري أولاد حليمة…….لمخصرين طريق الماشينة
مخصرين الهضرة في البيرو…..لبغاتو ليام تديرو
سيدكم دويدة الشيباني……عاش سبع ومات وطني
فين أيامك يا بو كَروم……ع الحركة والخيل تعوم
فين أيامك يا جعيدان…….الطرابش كبلعمان
والموتى كيف الدبان……شي مكسي وشي عريان
تكشطو عيالات القبطان….تكشطو في حوز جعيدان
بين السماعلة وبني خيران…أولاد العديان كيف الفيران
أولاد الوطن كيف البيزان….شي فرحان وشي غضبان
فين زيتون بني ملال…….ايلا قطعتوه علاش التجدار
فين أيامك يا القصيبة…..كان موسم ولا سيبــــــــــــــة
أيت عطا وأيت بوزيد…..ومن تما زيد وزيد……………
وبحكم أن منطقة الأطلس المتوسط عرفت اختلاطا أمازيغيا- عربيا فهناك بعض العيطات العربية التي كانت تردد بهذه المنطقة تشيد بمقاومة قبائل القصيبة وأيت عطا وأيت بوزيد وأيت عتاب، ضد المحتل الفرنسي.
وهناك كذلك البطل المعروف ب” امحمد بن داود” الملقب ب”دويدة الشيباني”. وتفيد الرواية أن سيرته النضالية في المقاومة ضد المستعمر الفرنسي تشبه في بعض فصولها سيرة البطل الليبي “عمر المختار”، ضد المستعمر الايطالي، وقد خصته العيطة الملالية بعيطة طويلة كوثيقة تدون لنا مقاومة وادي زم وأبي الجعد ضد الاستعمار، وأخذت هذه العيطة مجموعة من الأسماء عيطة “امحمد بن داود” أو “عيطة مالين الخيل”، أو “عيطة دويدة الشيباني”. وهي عيطة مركبة من خمسة أجزاء، بعد التقاسيم الشجية الحزينة تبدأ بإيقاع بطيء شبه عسكري يمكن أن تستعرض عليه فرق عسكرية، حيث “البنادير” الداوية تدوي بطقطقات قوية شبيهة بالضرب الوحشي للأشخاص المقاومين الموقوفين، وكذلك نقرات “الطعريجة” تدوي في استرسال شبيهة بطلقات الرصاص من مسدس رشاش لحظة الإعدام العشوائي الفردي والجماعي للمقاومين، كما أن رقص الشيخات في هذه العيطة له دلالات رمزية، وكأنهن نساء في لحظة ندبة “المندبة”، حيث يكون الغناء والرقص على ألحان البكاء والأوجاع وإيقاع الندبة، تبدو حركات اليدين إلى الخدين في تكرار، إشارة إلى ضرب الخدود وندبها، ونتف الشعر أو ما يعرف بظاهرة “الحليكَ”، والتدحرج على الأرض والتشقلب والتمرغ في رقصة التمساح “غزلة الموت”، في إشارة إلى التمرغ في الوحل “الغيس”، وكأنهن بذلك يبكين ويندبن رجالهن وأبنائهن ضحايا العدو المستعمر المحتل، لحظة إلقاء القبض عليهم وسجنهم أو لحظة إعدامهم بل قتلهم.. والتي يقول مقطع منها:
هجمو هجمو….كَاع ما حشمو
قتلو وعدمو…..كَاع ما رحمو
كَولو لمي وعاودو لمي…..كَولو لمي لا تخرجي غلمي
كَولو لمي لا ترفدي همي….كَولو لمي لا تمسحي دمي
كَولو لمي ايلا مات بنداود خلا ما يتعاود….كَولو لمي ايلا مات دويدة ع كوي لكبيدة
كَولو لمي ايلا غاب وليدك نفسو هايجة….وليدك نفسو هايجة من تادلة حتى لطنجة نقاوم العديان….
وهي عيطة ملالية حماسية، تؤرخ للشجاعة والحماس والثورة ضد العدو، والجهاد في سبيل الوطن، كما توثق الاضطهاد والمس بالكرامة الذي كان يتعرض له المغاربة والمقاومين الفدائيين الأبطال الذين كان يقودهم نضالهم إلى أقبية السجون وساحات الاعدام، وكان أشياخ وشيخات العيطة بمثابة جنود بلا بنادق، سلاحهم في ذلك النغمة الحزينة والكلمة الرزينة، ولكن للأسف نجد بعض أشباه الأشياخ الذين حوروا هذه العيطة، وجعلوها من نص شعري يتغنى بالأمجاد والمقاومة، إلى قصيدة مبتذلة، وذلك بتركيب كلمات سوقية دونية تتغنى بالعشق والسمر والخمر، قصد طمس الهوية الثقافية أو من أجل التسويق التجاري المربح، كالأبيات التالية:
كَولو لمي راه الزين يهبل……كَولو لمي راه الزين يبهدل
كَولو لمي را الحب كيعمي….كَولو لمي بضاض يرشي
كَولو لمي ايلا غاب وليدك سبابي الحاجة..راني تابع الحاجة من كازا حتى لطنجة نكَركَر في الكيسان.
والعيطة عموما هي شعر شفهي لم يتم توثيقه، لم يتم تسجيل النص العيطي الحقيقي تسجيلا قانونيا رسميا، لذلك فهي أشبه ما تكون بالرواية المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادة والنقصان، ويهيمن عليها الارتجال حيث يزيده الناظمون تراء، ويفرغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح..ولذلك من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة. وتتميز العيطة الملالية على مستوى اللحن والإيقاع، والجميل في هذه العيطة أنها متعددة الأنغام مما يجنبها الوقوع في الرتابة.
وقد اشتهرت العيطة الملالية بمناطق : (بئر مزوي، وادي زم، أبي الجعد، الفقيه بن صالح، أولاد زمام، أولاد عياد، واد العبيد، سوق السبت أولاد نما ، أولاد سعيد الواد، أولاد يعيش، قصبة تادلة إلى بني ملال بما في ذلك القصيبة، أدوز، غرم العلام، وفم العنصر وآيت عتاب…).
وللعيطة الملالية رواد قدامى وجدد، حيث عرف هذا النوع العديد من الفنانين منهم الأشياخ: “علال ولد الكرامش “باعلال”، المعطي الزعيمي، جيلالي ولد المخروط، محمد الخلفي، الحسين الخريبكَي، ولد هنية، سطسا، الصامبا، الكتوكَة، ولد الكرشة، ولد عبد الهادي، الموتشو قدور الملقب بشيخ الأمراء، امحمد ولد الهراس، العربي الخيراني، ومحمد الخيراني، الستاتي عبد العزيز، المصطفى الميلس، الداودي عبد الله، سعيد الصنهاجي، محمد ولد مبارك، عبد الرحيم المسكيني، مبارك المسكيني، سعيد الخريبكَي، اسماعيل احمامو، عبد الواحد فاطن، رشيد الخريبكَي، هشام مالكَا، صالح الطيوطا، صالح الطويل، صالح كبوري، محمد النوحي، ولد ادريس، ولد المقاس، الشرقي الخيراني، فتان الملالي، رشيد اخميس الرواشدي، محمد ولد السرار، الباتولي عبد الرحيم، وجواد الكبيدة وغيرهم….
ومن الفنانين الأمازيغ الذين غنوا العيطة الملالية، نجد الفنانين: ” نعينيعة المصطفى، أحوزار عبد العزيز، المصطفى أومكَيل، أوشطين، حوسى 46، عزيز خير، لحسن الخنيفري، عبد المجيد القصيبي، وغيرهم…
وعلينا أن نستحضر دائما الدور الكبير والفعال الذي لعبته المرأة، إلى جانب الرجل في هذا الميدان فمن الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة الملالية نجد : الشيخة ربوحة بنت المعطي، الشيخة مباركة بنت حمو البيهيشية الملقبة ب”النيرية”، الشيخة مليكة البزيوية، الشيخة مليكة الوادزامية، الشيخة الغالية، الشيخة عيطونة الصالحية، الشيخة مونية الملالية، الشيخة رابحة العميرية، الشيخة الميلودية الوكيلية، والشيخة فاطنة العزوزية، الشيخة سعاد التدلاوية، الشيخة الكبيرة الكريفية، الشيخة الصالحة الكريفية، الشيخة رحمة البجعدية، والشيخة زهرة بنت الغزيويني وغرهن….
وبصفتي شيخ ممارس لفن العيطة، أقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام هذا الفن على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم.
إن الشدرات الشعرية عند الفنان المبدع المتمكن ” الشيخ”، تتجه نحو سبر المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك في أحاسيسه المتلقي، غامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هاته المقولات من إيحائية وبلاغة، قد نجد أحيانا المستمع لا يستبين كلماتها التي يتغنى بها الشيخ المنشد، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها، فأبيات القصيدة العيطية اهتزت لمعانيها ورناتها أعطاف الجماهير المثقفة وغير المثقفة، وجدير بالذكر أن الترنم بهذا الفن قد يبلغ من النشوة شأنا جميلا لمن يدرك معانيها ومع من يجيد أدائها.
وتبدو خبرة الشيخ الزجال في نحت الصور وانتقاء المفردات من المجتمع الرعوي والوسط القروي الذي يعيش فيه، من خلال التأثير الذي تحدته المقاطع في المتلقي العيطي، إبان لحظة التفرج وانتشاء داخل الحفل، لحظة تجلي والتفاعل السريع مع الحمولات الشعرية، لأن المستهلك المتلقي يجدها قريبة منه، مخترقة وجدانه ومحركة لخواطره، وقد نجد جمهور هذا الفن وخاصة في البوادي يقطع الكيلومترات مشيا على الأقدام أو راكبا دابة ليلا، حيث يسلك المعجبين المحبين لهذا الفن تضاريس وعرة في الحر وفي البرد والصقيع، من أجل أن يشنف أسماعهم بهذا الفن وقد يكون أحيانا غير مدعوا إلى الحفل.
نجد قصائد العيطة تكتسح المجالس المستملحة والمحببة إلى النفس في غالب الأفراح والمناسبات معتمدة التلميح حيت تحضر تضاريس الجسد الأنثوي وثناياه، وفواكه بستان الأنثى الآدمية للسمو بالإبداع الشعبي بلغة مغربية بدوية ضاربة في العمق، وأحيانا نجد الشيخة تعتمد على الحكي الفوضوي، وكأنها تحكي قصة بلا بداية ولا نهاية بنبرة بكائية مفجوعة،كما هو الشأن في عيطة “حَب الحلكَة الملالية”:
-بعيني شفت البيض…….في الكَواشش نايض
– تفيفيحات بانـو ……كَاع ما كانــــو
– ملي بغات البنان……دارت ليه بــلان
-النيدير تقبتيــة …….أنت فين شطحتي بيـه
– مزوقة كالخروف…… جامعة الحـــروف
-مزوقة كالخروف……. وتابعة حلــــوف
– خطوات الدم……..بغاو يقطعوهم
– الفروج لمـــزوق……. كَاع ما عـــــوق
-كَولو لسطيلة……تطل ع طليلة
– خليوني نبكي…..ضرني كَلبي
– خليوني نغوت…..باش نتقوت
– باش بغيتوني نعيط….والفيم مخيط……..
وحينما نتمعن جيدا في إيقاع العيطة نجده مأخوذ من حركات مشي وتنقلات الخيل، سواء في الإيقاع الموسع البطيء المأخوذ من انطلاقة الحصان واستعداده للدخول في الجري، ثم إلى الإيقاع المصرف المتمثل في شروع الحصان في الركض إلى “السرابة” المطابقة للركض السريع، ويختم بإيقاع الختم “القفل”، ويتمثل في طريقة إيقاف الفارس للحصان أو الفرس، كما نجد أن آلة “الطعريجة” تشبه في شكلها الهندسي قدم الحصان، ونجد في الكثير من العيوط التغني بالخيول، وتلك القيمة الكبيرة التي تعطى للحصان. و”العيوط” البطولية تؤرخ لأحداث جهادية معينة، كما تؤرخ لتقاليد الفروسية والخيل.
ونأخذ كذلك على سبيل المثال هذه الحبات من عيطة “حب الحلكَة الملالية”.
– عودك يا لشهب……ما يبرد كَلـــب
– عودك سريــع…… ما يستاهل بيـــع
– عودك حــران…….كسيبتو كَطــران
– عودك جــواد ……. على ربيع الــواد
– عودك حجر الواد…..ع نده وزاد
فهذه الأبيات الشعرية” الشدرات” مثل لوحة تشكيلية تجريدية، كل يحللها بالتحليل الذي يراه، والمذهب الذي يذهب إليه..حينما تتلفظ بها الشيخة فالمتلقي العيطي له أن يستهلكها كيفما شاء، وله أن يضعها في قالبها السردي كيفما تخيل و لمدة وجيزة لا تتعدى التواني، بإمكانه أن يتخيل العود هو ذلك الحصان الحيوان الأليف، رمز النخوة والجاه والفروسية والحروب، وهناك من يحلل تحليلا مجازيا بأنها تعني بذلك وصف اللحظات الحميمية بين الرجل والمرأة، و كأنها تنعته بالعنة وعدم الانتصاب، أو عكس ذلك تمدحه بفحولته التي تثبت رجولته، كما نجد في عيطة “حب الحلكَة الملالية” الجملة هي بمثابة قصة قصيرة جدا جدا، على المتلقي خلال تواني معدودة أن يتصور القصة في دهنه أحيانا تراجيدية مثال على ذلك:
براكا من العذاب……مول الروح تصاب
– الجفاف والملح…..الباطل ولاَ صح
هنا القصة تحكي ألفاظ تعذيب لشخص معتقل داخل الزنزانة وهو بريء، وفي الأخير يظهر المجرم الحقيقي، وترى في الحفل الوجوه واجمة تبدو عليها مسحة الحزن، أما كمثال على التفكه:
– ريحة المعيطي… في تليميطي
– تعالي بوسيني باك مصيني.
– كواني وشواني…….حب الغزواني
من أجل هذا، ترى هناك في الحفل من يضحك ويدلي بقفشات.. فمن يداوم على الاستماع إلى هذا الفن الشعبي يمكنه التملي من بديع الروائع الشعرية الشعبية، لولا أن بعض المفردات اللسان الدارج بالمغرب وتراكيبه، ليست دائما متشابهة من جهة إلى جهة بالمغرب..
كما يجب أن نشير أنه أحيانا يصدر عن بعض أشباه الشيوخ في لحظة انتشاء ولحظة غواية أن يزيغ عن الطريق ويسلك ممرات أخرى تكون ألفاظها سوقية ومغرقة في الإباحية، حيت الكلمات تصب في خانة الجنس والمجون بشكل مباشر وبشكل يستحيي ويخجل منه العديد من الناس، دون التمييز بين الأغنية العيطية الايروتيكية وأخرى مصنفة ضمن خانة الأغنية البرنوغرافية، فالأولى عيطة تسمي التجربة الجنسية في بعدها الإنساني والجمالي وتتغنى بجسد المرأة ومفاتنه، وتحاول التقاط حميمية العلاقة بين الرجل والمرأة بلغة مغربية مشفرة ضاربة كلماتها وتخيلاتها في عمق الانتماء الشعبي، وذلك عن طريق الإيحاء والتلميح عوض التصريح، وتتوسل بالاستعارات والمجازات والكنايات، لتفادي السقوط في مطبة الخطاب الواضح والخطاب المباشر الذي تتبناه الأغنية البورنوغرافية، هذه الأخيرة التي تنقل إلى المتلقي ميكانيكية الاتصال الجنسي حيت يطلق العنان لمعجم الشارع وتسمية الأعضاء والأفعال الجنسية بمسمياتها المعروفة بين العامة، مستغلة في ذلك عن قصد أو غيره التقدم التكنولوجي وسهولة وسائل الاتصال- هواتف ذكية، مواقع التواصل الاجتماعي عبر الانترنيت- التي أخرجتها من الأماكن والجلسات المغلقة إلى الانتشار الجماهيري، حيت صار الناس يتجنبون الاستماع إليها داخل محيط الأسرة.
كما لا ننكر ما يشوب هذا الفن من تبخيس من طرف أشباه الأشياخ والشيخات وتجار الفن، حيت يعطون لهذا الفن وجها آخر، إذ يعملون على تقديمه في صورة دونية وقدحية في بعض الأماكن المشبوهة خاصة أو عامة، كبعض العلب الليلية والكبريهات، وببعض المداشر والدواوير النائية، حيت تنتفي القيود والرقابة، ويطلق العنان في لحظة تجلي وانتشاء إلى صياغة كلمات وارتجالها في قالب من الألفاظ والمعاني الماجنة تتجاوز الخطوط الحمراء، تتناسب أو تروق أذواق جمهور خاص من المخمورين أو المخدرين، وجل كلمات هاته الأغاني متهتكة ومبتذلة، تدور حول الممارسة الجنسية وتصل الجرأة أحيانا إلى تسمية الأمور في القطعة المغناة بأسمائها القدحية المتداولة بالشارع المغربي بكل ما يحفل به من ألفاظ ساقطة، كلمات لا يستساغ أن تتناهى إلى الأسماع دون أن تحدث فيها رجة، مثال على ذلك ما يتداولونه في الأغنية الشعبية التي أعطوها اسم “عيطة المسيخيطة”، حيث تم وضع كلمات إباحية ومستحدثة وصارت الصور الشعرية فيها وكأن المتلقي يتفرج على فيلم بورنوغرافي، على ايقاع ولحن عيطة “جنان سطات”، تلك العيطة المرساوية المعروفة بالتغني بالجهاد والجمال والخيل،..كما لا تجد بعض من الاستعراضيات اللواتي يسمين أنفسهن “شيخات” أي حرج في رقصاتهن ذات الإيحاءات الجنسية، بالتركيز على هز الأرداف والمؤخرات والبطون والصدور بشكل مكرر ومثير، وتقديم لوحات إباحية توقظ كل أنواع الأحاسيس..سيما حين أصبح هذا النوع من الغناء عبارة عن تجارة ساقطة اختلط فيها البغاء والفن، ليقبرون بذلك المعنى الحقيقي للشيخات الأصليات، اللواتي كن فنانات مغنيات ناظمات، ومناضلات، واللاتي قاومن بفنهن جبروت السلطة بكلمات شاعرية ومقاطع موسيقية كلفت بعضهن حياتهن، فيما تعرضت أخريات للسجن والاعتداء..يوم كانت العيطة كشكل من أشكال المقاومة ضد المستعمر.. وقد قيل فيما يذكر أن أشياخ وشيخات كانوا إضافة إلى الفن الغنائي الذي يقدمونه، كانوا يشاركون في أعمال المقاومة، ويعملون على نقل السلاح والذخيرة إلى المقاومين الفدائيين، والمساعدة في التخابر وفضح الخونة.
ففي ظل الاهتمام بهذا النمط من الغناء الأصيل من طرف أجيال المستهلكين له والمولعين به، نحن في حاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة هو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه.
وجزيل الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون كالراحل محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وادريس الادريسي، وحسن بحراوي، وعلال الركوك، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.
وعلينا أن نحمي ونحافظ على هذا الفن الذي عانى من التجاهل واللامبالاة لحقبة طويلة، وهو مِلكنا المشترك، فيرجع إلينا أمر رعايته وصيانته من الضياع والتمييع. هذا الفن الذي عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي الذي يعد جزءا لا يتجزأ من الرصيد الشعري الغنائي المغربي، ويشكل جانبا من تراثنا الموسيقي التقليدي، وكنزا زاخرا بأغنى التركيبات اللحنية والإيقاعية.
ولا ينبغي لنا أن نركن إلى التقليد والتمجيد للتخليد، بل علينا أن نعمل على الإبداع والتجديد إذا أردنا أن نذهب بهذا الفن إلى بعيد.
Views: 1