الثقافة الشعبية : انتصار التراث الشعبي الإفريقي في الاستقبالات الرسمية

جسر التواصل29 ديسمبر 2019آخر تحديث :
الثقافة الشعبية : انتصار التراث الشعبي الإفريقي في الاستقبالات الرسمية

·

 

ذ.إدريس الكرش
باحث في التراث الشعبي

يعتبر التراث الشعبي وعاء الأمم وخزانا لتقاليدها وعاداتها ,وحافظا لتاريخها المادي واللامادي ,الذي يؤرخ لحقب زمنية معينة مبرزا التحولات الإجتماعية والانتروبولوجية للإنسان عبر قطار التاريخ ,ولعل أعرق الشعوب صانتها ذاكرتها وجعلت منها قوى عظمى ,فماضيها جزء من حاضرها, وأي مجتمع فقد جزءا من ذاكرته أو عرضها للنسيان ,يزيغ بسهولة عن مسالك الحضارة ويصبح آيلا للسقوط ,ينقطع حبله السري من رحم التاريخ .
وإذا كانت الثقافة العالمة قادرة على صيانته من خلال التدوين الورقي وما واكب ذلك من مستجدات على المستوى التكنولوجي ,كتخزينه للأجيال على الحواسيب والأقراص المدمجة والأشرطة المغناطيسية,فإن التراث اللامادي أو الشفهي يعاني الويلات خوفا من اندثاره بسرعة إذ يتعلق الأمر بمتون وبطون العلوم تتناقل شفهيا من جيل لآخر,وتتعثر عنعنة النقل من خلال موت الرواة (وفاة الشيوخ )لذا وجب على الأمم تدوين تراثها الشفهي مع احترام خصوصياته وطابعه لتحقيق تراكم حضاري يليق بعظمة مبدعه الإنسان .وعلى المستوى المعياري لايمكن تفضيل نمط عن الآخر سواء كان ماديا أو لاماديا .فنجد قوة النص الشفاهي تضاهي أحيانا وقع الوثائق العالمة,ولابد من إدراج مثل يفسر ذلك
حينما نظم المغرب مسيرته الخضراء سنة 1975 ,تململت منظمات دولية عدة لاسيما ذات التخصصات الحقوقية الدولية للبحث في الموضوع قصد العثور على بعض الشواهد والإثباتات التاريخية التي تبين حقائق جغرافية وتاريخية تثبت مغربية الصحراء.وعلى رأسها محكمة العدل الدولية بلاهاي,التي أنصفت المغرب من خلال اعترافها وإثباتها للبيعة بين سكان الصحراء وسلاطين الدولة العلوية منذ القدم .حيث اعتمدت على وثائق تاريخية عالمة ,وتسلطن على رأس الوثائق مثل شعبي أو مرددة حسانية لازالت تردد إلى يومنا هذا بأقاليمنا الجنوبية :”الله ينصر السلطان ويهدن لوطان ” وكان للمثل وقعا تاريخيا حاسما ساهم في رفع كل لبس عن قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية.
وذكرتني هذه النازلة بنقاش حاد جرى بيني وبين صديق مصري بإحدى دول مجلس التعاون الخليجي ذات تسعينيات القرن الماضي ,حول أغنية :”بنت بلادي زينة” ألح صديقي المصري على أن الأغنية مصرية ,سرقها المغاربة ,وما كان علي إلا أن أقنعه بمغربيتها ,فطالبته باستظهارها ,فوجدته حافظا إياها على ظهر قلب :” بنت بلادي زينة ***والله والله زينة **ما أحلاها تلبس حايك محربل **ودير الحنة في يديها ** شربيلها صقلي فاسي …..آمحجوبة…” وجدت الفرصة مناسبة لاستفساره عن بعض المصطلحات التراثية ومدى علاقتها بمصر: الحايك – الشربيل – الصقلي – الفاسي ……بدا على محياه نوع من الإنهزام لعجزه عن إدراك كنه المصطلحات ,مع العلم أن النص يحمل دليلا جغرافيا وتاريخيا يعفيه من الشك ,ألا وهو ذكرالنسب الفاسي (لمدينة فاس المغربية).قد يحمل تراثنا إجابات تاريخية وجغرافية وعلمية عن مجموعة من الحقائق والوقائع كما يمكن أن يكون صادما أحيانا .
ومن هنا نتساءل ,هل بإمكان التراث الإنساني الشعبي أن ينافس منمقات الحضارة الإنسانية في زمن الحاضر؟؟ وللإجابة عن هذه التساؤلات ,نشيرإلى الإهتمام بالشأن التراثي للشعوب الذي هو شأن مؤسساتي بالدرجة الأولى إذا أردنا أن نحافظ عليه : شأن وزارة الثقافة ووزارة التربية الوطنية والشؤون الإسلامية والعسكرية لأي بلد,كما هو أمر موكول لملوك ورؤساء الدول من أعلى هرم في البلاد هذا ما لامسناه خلال الزيارة الملكية لدول شرق إفريقية .
الزيارة الملكية لدول شرق إفريقيا نموذجا : طفو التراث المحلي للدول الإفريقية على سطح بروتوكولات الإستقبال الملكي,ومكانة الثقافة الشعبية في الترحاب .
تهتم الشعوب الإفريقية, بثراتها المتميز الذي نتقاسم بعض ملامحه باعتبارنا قطرا إفريقيا وهذا ما يبدو من خلال رقصنا الجمعي وإيقاعات كناوة التي تجسد البعد الإفريقي سواء على مستوى الملابس ورموزها (لودع) وألوانها الفاقعة,أو الكلمات التي تصدح بمهرجان كناوة بمدينة الصويرة المغربية وبشتى المناطق المغربية .فحينما وصل الملك محمد السادس نصره الله لرواندا وتانزانيا تم استقباله استقبالا تراثيا متميزا كسر أعراف البروتوكولات الرئاسية ,إذ لم نلاحظ كبار الضباط على الطرقات وإنما شاهدنا تراثا إنسانيا إفريقيا يرحب بضيف كبير,فاختلطت الرقصات والأهازيج في جل مسالك الضيف الإفريقي ,بالمطارات وبمحلات الإستقبال ,وكذا بالقصور الرئاسية,ولم تخل الوجبات الرسمية (العشاء الرئاسي )من وصلات تراثية تعبر عن واقع التراث الإفريقي .مما جعلت الملك منبهرا من جمالية الرقصات الإفريقية والتي تماهى معها ,إذ وجد نفسه ممسكا بعصوين وأخذ ينقر الطبل الإفريقي ,وكان ضابطا جيدا للإيقاع رفقة الرئيس التنزاني ,إيذانا منه بالعمق الإفريقي للمغرب ,وأن مكانة المغرب بالإتحاد الإفريقي راسخة لاجدال فيها ,لان غيابه جعل المنظومة تختل كما يختل الإيقاع إن لم يجد ضابطا متميزا له.كما انبهرالأفارقة أيضا والعالم أجمع برمزية الملابس الملكية التراثية لاسيما الجلابيب المغربية,والفرجيات والسراويل القندرسية الأصيلة,التي تنوعت مابين (لبزيوي ولمليفة ) ذات الألوان الوطنية الأحمر والأخضر.
تراثنا أمانة على عاتق المؤسسات التعليمية ,حيث يجب على الوزارة برمجته بالمقررات الدراسية بجميع الأسلاك ,وتمرير القيم النبيلة مواده عبر الحكاية والمثل الشعبي وأنماط الرقص والمرددات الشعبية .إننا لانرفض التكنولوجيا بهذه المقاربة وإنما نروم المحافظة على هويتنا وجذورنا الضاربة في عمق التاريخ الإنساني .ونخشى على تراثنا من الإندثار,فهوفي منحى تنازلي,ومسخت بعض ملامحه باسم التطور, مع متمنياتنا ألا تبقى وجبة الكسكس الوجبة الوحيدة المشتركة بين المغاربة , ونهمس في آذان النكوصيين أننا نتبنى مقولة :”اجديد ليلو جدة والبالي لاتفرط فيه “.

الاخبار العاجلة