شيخ العيطة الحسين السطاتي
كثيرة هي الفنون التراثية والأغاني الشعبية المغربية التي تغنى ومازال يتغنى بها الجمهور، تلك الكنوز الثمينة التي تعد إرثا ثقافيا لا ماديا، ومن بين هذه الفنون نجد فن “العيطة”، الذي يعتبر تراثا موسيقيا وغنائيا وتعبيرا ثقافيا وشعرا شفويا، كما يعد أحد التعبيرات التمثيلية الفرجوية المغربية، يؤدوه “شيخات” و”أشياخ” صناع الفرجة والفرح في الثقافة المغربية بشكل عام، والثقافة الشعبية بشكل خاص على طول جغرافية الوطن، إذ يمثل هذا الفن وجدان جزء أساسي من المغاربة على امتداد خريطة ممتدة من جنوب البلاد إلى شمالها، وهو فرع أساسي من فروع الموسيقى المغربية عموما والموسيقى الشعبية خصوصا، فنا أصيلا وتراثا شعبيا رافق المغاربة طوال عقود من الزمن ولا يزال مستمرا.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وهذا الفن الموسيقي من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..وعيط في اللغة تعني صاح، والعياط يعني الصياح، والعائط الصائح وجمع عيط عيطات.. ورغم ما أضيف إلى هذا الفن التراثي من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، قد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي..وهو غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
و”العيطة” فنيا هي فن شعبي مغربي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، أشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية داخل فن العيطة..
“ومن الناحية الإيقاعية الصرفة تتشكل العيطة من مجموعة أجزاء مستقلة تسمى “قطيبات” تفصل بينها “حطات”..جمع حطة..وتعمل بمثابة لازمة موسيقية تنهي مقطعا وتعلن عن الدخول في “قطيبة” جديدة..وقد تتعدد فصول العيطة الواحدة فتفوق عشر “عتبات” كما في بعض نماذج العيطة المرساوية. وتختتم العيطة بإيقاع سريع..يشبه “الدريدكة” في الملحون..مهمته الإعلان عن الانصراف النهائي ولذلك يسمونه “القفل” أو “السدة” أو السوسة.. وقد تفتتح العيطة بمدخل يكون عبارة عن تقاسيم أو “مشاليات” يؤديها عازف الكنبري أو العود أو الكمان..ويكون ذلك على سبيل التمهيد لولوج العيطة بمعناها الخاص..وتنتهي ب”تعريضة” وهي فسحة موسيقية راقصة تكون مصاحبة بالأرجل يسمى “الحساب”. (المرجع الباحث الدكتور حسن بحراوي في كتابه “فن العيطة بالمغرب الصفحة 9”).
نشير إلى أن شاعر هذا الفن الأدبي الشعبي” العيطة” المبدع يسمى: ” الكَوال” وتعني الناظم والزجال، كما أن منشده ومغنيه يسمى” الشيخ” ويجمع على ” أشياخ” أو شيوخ، ويدعى” نغث” بلغة أهل الحرفة، وإذا كان هذا المنشد أو المغني امرأة يؤنث المصطلح فيقال عنها ” شيخة” وتدعى “نغثة” وفي الجمع شيخات.
والحديث عن فن العيطة وأنواعها كثير ومتشعب، ونتطرق في هذه المقالة إلى نوع من هذا الفن وهو: “العيطة الشيظمية” .
العيطة الشيظمية، هي عيطة بسيطة الايقاع والألحان، غير مركبة، أغنية شعبية تراثية عبارة عن “براويل” ذات إيقاع خفيف بسيط “ستة على ثمانية”، متوسط إلى سريع، تتكون من ثلاثة إلى خمسة فصول وأكثر، تسميتها تنسب إلى موطنها بسهل “الشياظمة”، بأحواز مدينة الصويرة..، ونشأ هذا الفن الموسيقي الغنائي بمنطقة الصويرة والضواحي، بغرب المملكة المغربية، حيث يحد إقليم الصويرة شمالا إقليم آسفي، وجنوبا إقليم أكَادير، وشرقا إقليم مراكش وغربا المحيط الأطلسي، وهذه المنطقة الشيظمية توجد في أواخر السهول الأطلسية، يحدها شمالا قبائل عبدة، وجنوبا قبائل حاحا، وشرقا بلاد احمر والحوز وغربا المحيط الأطلسي.. والعيطة الشيظمية هي لون غنائي عيطي يغنى في جيمع الطبقات الصوتية.. وهي أغنية شعبية مصاحبة بالرقص، وتتميز بالكثافة اللحنية والإيقاعية كما تتطلب قدرة صوتية هائلة ونفس طويل.
ونشأ هذا الفن الشيظمي على ساحل المحيط الأطلسي وضفاف الأودية والعيون المائية وخيراتها، وسط طبيعة خلابة، بمنطقة “الشياظمة” الغنية بثرواتها النباتية والمعدنية والحيوانية منها البرية والبحرية، وحزامها الأخضر الغابوي، بين السهول الزراعية الخصبة والأراضي المنبسطة، وقد صدحت حناجر البدو بهذا التراث “الشيظمي” في البراري وسط المروج الخضراء، ووسط البحر، ودخل هذا الغناء قصور السلاطين ورياضات البشوات والقواد والأعيان الكبار، وأثث الأفراح بالمداشر والدواوير النائية .. وتقدم هذه العيطة صورة فنية بديعة عن البيئة الساحلية والزراعية والرعوية الخصبة التي احتضنتها ورعت محاولاتها الأولى، وهي عيطة تحريضية ثورية حماسية، نص شعري بمواضيع مختلفة، تؤرخ للشجاعة والحماس والثورة ضد العدو، والجهاد في سبيل الوطن، كما توثق الاضطهاد والمس بالكرامة الذي كان يتعرض له الشيظميين الأبطال على يد السلطات المخزنية الغاشمة، والذين كان يقودهم نضالهم وثورتهم وتمردهم إلى أقبية السجون وساحات الإعدام، كما تتغنى كذلك بجمال المرأة والعشق والهيام، ونجدها تشير لبعض مكونات البيئة الشيظمية التي ترعرعت وسطها كتمجيدها للخيل والفرسان..
والعيطة الشيظمية، هي تلك الأغنية الشعبية التراثية الشجية، البسيطة الإيقاع والعذبة الألحان، كلمات مواضيعها نداء ضد الظلم والقهر والطغيان، أشعار بين الحب والعشق والوفاء والخذلان، أغنية حماسية تحرض على التمرد والثورة والعصيان، بكلمات مبطنة ذات معاني وأوزان، فيها فرجة ومتعة حين يكون الرقص والغناء والفرح على الأوجاع والأحزان…وتختلط في متونها الحكمة والبسمة، والنغمة والكلمة..أشعار بلاغية هادفة، بكلمات ناحبة باكية صاعدة بأنات من حناجر شيخات وأشياخ، كانوا يمثلون صوت من لا صوت له. وهي مجموعة أهازيج وبراويل تغنى باللهجة العربية العامية المغربية..وبفضل أصالتها الفنية وقوتها المتمثلة في الكلمة المشفرة الهادفة والإيقاع البسيط والألحان المرحة، وقاومت العيطة الشيظمية كل الرياح والعواصف والتقلبات، واستطاعت أن تحافظ على مكانتها في الوسط الفني الغنائي العيطي المغربي، ومن بين البراويل العيطية الشيظمية الشهيرة التي مازالت رائجة نجد هناك:
عيطة “حوم يا البيز”، عيطة “الخيل أوين أوين”، “عيطة “سنحو الخيل”، عيطة “الحساب الشيظمي”، وعيطة “الغابة الشيظمية”، عيطة “حبيبة”، عيطة “الكافر بغا يطلقني”، عيطة “خوكم يا البنات”، عيطة “ديرو ربي فوقكم وقيلوني”، عيطة “باغي نعمر الدار” ،…وعيطة الساكن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “ركَراكَة، سيدي عبد الجليل، سيدي واسمين، بن معاشو ،…” وهذه الأخيرة يعني “عيطة الساكن”، كثيرة بكثرة الكم الهائل للأولياء الصلحاء والأضرحة بمنطقة الشياظمة..وتعتبر قبيلة “ركَراكَة”، من أهم القبائل بمنطقة الشياظمة، نظرا للدور الديني الذي مازالت تلعبه إلى الآن عن طريق زواياها، كزاوية أقرمود، وزاوية رتنانة، وزاوية كرات..
وحسب ما جاء في كتاب الباحث الدكتور حسن بحراوي “فن العيطة بالمغرب”، أن من بين الأسباب الأساسية التي كانت تؤدي إلى الاختلاط والتمازج الذي شهدته متون وإيقاعات العيطة بالمغرب، نجد أنه كان من المعتاد أن يتنقل محترفو هذا الفن من أشياخ وشيخات أفرادا أو جماعات..بين المدن والقرى المجاورة أو المتباعدة..طلبا للعمل أو السياحة والاسترواح أو بمناسبة زيارة مواسم الأولياء..وخلال هذا الانتقال كان يتم الأخذ والعطاء والتبادل المعرفي بين الرباعات المختلفة. وفيما يخص هذا التراث العبدي نجد أنه يتقاطع ويتشابه في بعض الأجزاء مع بعض من أنواع العيطة المغربية، هذا التلاحم الناجم عن تأثير الجوار والتلاقح وأشكال الاقتباس، والتشبع بأنواع العيطات الأخرى في ثقافة الأخذ والعطاء، والتأثر والتأثير، ومن ذلك تقاطعه مع الغناء الزعري في عيطة “الحساب الزعري” والتي نجدها بالشياظمة تحمل عنوان “الحب الشيظمي”، وعيطة “الغابة الشيظمية” المأخوذة من العيط الغرباوي، وتقاطع العيط الشيظمي مع العيط الحوزي في ألحان وإيقاع بالأجزاء الأخيرة من العيطة بما فيها “السوسة” و”السدة..
وقد نجد آلاف الأبيات الشعرية الحبات”، من عيطة” الحساب الشيظمي”، المقتبس من عيطة “الحساب الزعري”، حيث أداه أشياخ العيط الشيظمي بإتقان وأبدعوا فيه بإيقاعات خفيفة وألحان متنوعة، وبكلمات بين الهزل والجد:
طلعي نمشيو للصويرة..نديرو شي دويرة
أيلا ما عندك شهود…را أنت مشدود
الدموع اللي عل لخدود…يبلغو المقصود
طريق الصويرية….بين عينيا
مشاو دوك الناس…وبقاو ع الماس
مشاو الدواقة..وبقاو الغلاقة
مزوقة كالخروف…جامعة لحروف
الحلوفة معروفة …ع من القنوفة
كَولو لسطيلة…تطل ع طليلة
بقات فيا بيبط…اللي عيات ما تعيط
وأعجبت هذه العيطة “عيطة الحساب” -بإيقاعاتها البسيطة المتقنة وألحانها المتنوعة، وكلامها المختلف المواضيع بين الهزل والجد-، ومعانيها المشفرة الكثير من الفنانين سواء بفرق تقليدية أو عصرية، فراحوا يرددون متونها في تجمعاتهم سواء في الشياظمة أو زعير أو الشاوية أو الحوز أو عبدة أو دكالة أو جبالة..الشيء الذي أتاح لها انتشارا واسعا وإشعاعا كبيرا.
وبصفتي شيخ للعيطة ممارس في الميدان، كومنجي ومغني لعدد من المتون العيطية، أعرف جيدا أن لكل عيطة قوتها، فكذلك الشأن بالنسبة لعيطة “الحساب”، فإذا كانت تتميز عن باقي العيوط الأخرى بكونها مريحة ومربحة “عيطة كريمة” فهي سخية ماديا للفرقة الموسيقية ومصدر مالي مُدر..بدعوى أنها سهلة العزف الآلاتي والإيقاع ويتنافس خلالها الجمهور في دفع الإكراميات المالية “الغرامة” أو ما تسمى ب”التعلاق”، فصعوبتها وقوتها تكمن في كلامها، فهي ليست صعبة فحسب بل عواقبها أحيانا وخيمة وخطيرة على الفرقة المنشطة كما على الجمهور المتلقي، وقد تتسبب في عراك دامي إلى قاتل، وتحول الفرح إلى قرح..إذ يستوجب على الشيخة أو الشيخ أتناء الغناء “العدان” أن يكون ذكيا وحذرا جدا، وتكون له القدرة على الارتجال الشعري أتناء الأداء باستحداث الأبيات الشعرية “الحبات” المناسبة في الوقت المناسب وللشخص المناسب، تارة تُلقى بالمباشر وتارة أخرى بالتلميح بدل التصريح، مع استعمال آليات التشبيه والاستعارة والترميز، وهذا يُعلم خلال التدريب، ويُكتسب بالممارسة والتجربة الميدانية، مع الحرص على عدم الوقوع في الفخاخ، والأبيات الملغمة، وقد يكون ذلك عن غير قصد أو بفعل متعمد من الشيخة أو الشيخ أو عن طريق التحريض من شخص ضمن الحضور مستفيدا من البيت الشعري، وذلك بمقابل مادي يمنحه للمغني.. كفخ العنصرية مثلا: (“حيدو لكحل… راه جا لفحل” أو “الباب لكحل..ما بغا يتحل”، أو”حتى حب لعزاوة..داير غزاوة”، أو “كَولو لبو رزة…بصحة المعزة”، أو “بقات فيا الجحموم..اللي كل نهار تعوم”..)، أو تقع الشيخة في فخ الإهانة والطعن في فحولة العريس “مولاي” لحظة الدخلة مثلا:” الفروج لمزوق..محال يعوق” أو “الفروج اللي يصيح…محال يصبح”، أو “العود لشهب… ما يبرد كَلب”، أو تطعن في شرف العروس كمثال: ” عيات متلعب..ولصقت في الكلب” أو “بقا فيا المزغوب…سطيلو متقوب”، “تاقبة لبنيدير..وبغات عرس كبير”.. )، وكذلك السقوط في فخ النزاعات الانتخابية كالدعاية لمرشح من حزب سياسي معين أو الترويج لحملة انتخابية سابقة لأوانها…وقد يترتب على هذا أمورا غير محمودة العواقب، فمثل هذه الفخاخ من المحتمل أن تسوق الفرقة المنشطة إلى عقوبات قد تصل إلى الاعتداء الجسدي عليهم داخل الحفل، ومنها من وصل بهم الأمر إلى المتابعة القضائية.
كانت الشيخات خلال حفلة العرس يقفن داخل الفضاء ” خيمة، قاعة كبيرة..” متصافات بعيدات من الجمهور، وكان الشخص المعجب بفنهن وأدائهن يقف من مكانه ويتوجه صوب المجموعة ويهدي هديته من المبلغ المالي ثم يعود إلى مكانه..لكن للأسف الشديد صارت هذه العيطة عند بعض الفرق الموسيقية تؤدى بشكل مهين وحقير، إذ تغنى بكلمات إباحية ساقطة تختلط معها العربدة والمجون، فتجد بعض الشيخات يلتجئن إلى الانتقال عند كل شخص على حدة، وهي ما يسمى عند ممارسي الحرفة ب “التسيقير”، وكل شيخة تتكلف بجهة من الحفل وعليها أن تجلب أكبر قدر من المال، وترقص وتغني للشخص وتطلب منه في توسل وبإلحاح ذبابي أن يمدها بالمال، وقد يصل الأمر أن تقبله أو تجلس في حضنه. الشيء الذي زاد في دونيتهن وبخس سمعة الشيخات.
والغريب في الأمر يتم استضافة بعض مجموعات الشيخات بمهرجانات عمومية أو بسهرات تعرض على العموم بالقنوات التلفزيونية بالقطب العمومي، فنسمع فنانين مشهورين لا يعون بما ينطقون ينسون أنفسهم ويتفوهون بهذه التفاهات الساقطة تلك “الحبات” المستحدثة التي ألفوا أن يرددوها في أوكار المجون وبالسهرات الخاصة، ، ولا من رادع أو متدخل يصحح هذا العبث بتراثنا اللامادي.
والقصيدة العيطية الشيظمية في عمقها هي قصيدة ثورية تحريضية حماسية، نداء إلى الجهاد والتمرد على الظلم والاستبداد، وقد برعت كذلك في الغناء العاطفي ذو النزعة البكائية المهيمنة، كما تطرقت كذلك إلى الأوضاع السياسية و الاجتماعية، كنداء واستنجاد المرأة وصرختها من بعض المظاهر كظاهرة التعدد والطلاق التي نجدها في هذه القصيدة بألحان نائحة شجية وبكلمات هزلية تحمل في ثناياها رسائل مبطنة:
واويلي ها ناري الرويجل بغا يطلقني..واويلي ها ناري الرويجل بغا يطلقني
برعتو في الكساوي ياك خديتو ع هداوي…واليوم بغا يطلقني
برعتو في الجلالب ورديتو كيف الطالب…ولد الكافر بغا يطلقني
ع صبري عا صبري
يا والله مانصبر…ع صبري ع صبري
ياو كندير حتى نصبر….ع صبري ع صبري
راه الصبر كيدبر…ع صبري ع صبري
وفي الجزء الثالث يحمى وطيس الايقاع فيتأجج الغناء والرقص :
عييت بالصبر ما نبقى نصبر…ياو بالصبر
والله ما نصبر…يا وبالصبر
ديتو وديتو…بالصبر
ديتو عند القاضي..بالصبر
دار علي بوكَاضي ..بالصبر
إلى نهاية القصة العيطية في طريقة ممسرحة فكاهية، ثم نجد العيطة الشيظمية تمجد الخيل والفروسية. في عيطة “أراو الخيل”:
ياو الخيل الخيل أراو الخيل سنحو الخيل..
العود بوصفيحة داير فضيحة أراو الخيل…
العود محن بايت يحنحن أراو الخيل…
العود الحران كسيبتو كَطران أراو الخيل…
عودك حجر الواد ع نده وزاد أراو الخيل…
لدهم جواد على ربيع الواد أراو الخيل..
لتختم الأغنية العيطة بايقاع “السوسة” الحوزية في تمجيد الخيل:
وا لولاد..واهيا…واحمر…واهيا…اراو الحبة…واهيا….أراو البارود…واهيا
جيبو ليا ….عودي
زين الركبة….عودي
عودي مشاي..عودي
منبيعوشاي..عودي
إلى آخر فصل في العيطة “الطمة” أو القفل، ونجد كذلك هذا في عيطة “الخيل أوين أوين”:
آ الخيل أوين آوين واهيا بابا
طالعة نزورك مولاي بوشتى يا الركَراكي…آ الخيل أوين أوين واهيا بابا
يا أنت تاكلي وتشربي وأنا حرارت علي… آ الخيل أوين أوين واهيا بابا
والله ما نخذ الشايب وأنا ع دريرية….آ الخيل أوين أوين واهيا بابا
انتما تاكلو وتشربو وأنا تحرار علي…..آ الخيل أوين أوين واهيا بابا
يا عيونات الزين حارين يا الهوى……. اااه هيوا ايوا يوا.
وارتبط فن “العيطة الشيظمية”، بالأعيان وكبار القبيلة، حيث ظل هذا الفن حاضرا في مجالسهم الخاصة والعامة في “القصارة” كما في حفلات الزفاف، وفي خرجاتهم إلى مواسم التبوريدة والقنص..ومثلما نشأت العيطة الحوزية في ظل “القايد العيادي”، قايد الرحامنة الذي كان لها نصيرا وذائدا.. والعيطة الزعرية وجدت الدعم والاحتضان في كل من القايد “التهامي بن عبد الله” والقايد “الحاج المكي”، والقايد “الحاج العربي بن عمر” بمنطقة زعير، فكذلك نشأت العيطة العبدية الحصباوية في مجالس القايد عيسى بنعمر، الشيء الذي جعلها تخلده وتخلد ابنيه سيدي أحمد وسيدي ادريس، وبعض من حاشيته وخدمه في نصوصها..
وفي العيطة الشيظمية، نجد ارتفاع الشعور الذاتي الوجداني لدى الشاعر..حيث نجد المتلقي نفسه أمام ريبيرتوار قوامه البكاء والنذب والشكوى الحارقة يصدع بها العشاق وعلى سبيل المثال مطلع عيطة “حاول على الزين”:
ع حاول على الزين…. واحياني يهاه .. ع حاول على الزين…. واحياني يهاه
الزين راه في عبدة …وحياني يهاه…. ع حاول على الزين…. واحياني يهاه
خيل عبدة مبغات تهدا….وحياني يهاه.. ع حاول على الزين…. واحياني يهاه
را مو مشات تخطب ليه…. واحياني يهاه… ع حاول على الزين…. واحياني يهاه
الزين في سيدي واسمين …..واحياني يهاها… ع حاول على الزين…. واحياني يهاه
الزين مخبل العينين…واحياني وهاه…. ع حاول على الزين…. واحياني يهاه
وإلى الجزء الثاني من القصيدة حيث نجد الشاعر يغضب ويثور، ويعاتب القبيلة التي لم تسمح له بنيل مراده من محبوبته:
عبدة قاسحين الكبدة….عمر شيخهم ما يرضى…وعمر ضيفهم ما يمشي فرحان
إلى الختم بالسدة الحوزية: دوك لعيون اللي كواوني …مازالين حيين.
كما نجد ذلك في عيطة حبيبة التي تؤدى بلحن فجائعي بكائي ويقول مطلعها:
واااحبيبة واهيا…الله يا العالي الله….. وااا حبيبة واهيا…الله يا العالي الله.
حبيبي ايلا كنت ناوي تبات…ياخليلي واه…. وااا حبيبة واهيا…الله يا العالي الله.
حبيبي جيب الحنة للبنات ….غير تعالى واه… وااا حبيبة واهيا…الله يا العالي الله.
أنت ايلا كنت ولد الرضى….الله يا حبيبي الله… وااا حبيبة واهيا…الله يا العالي الله.
حبيبي جيب الكبدة مكَرضة…الله يا حبيبي الله… وااا حبيبة واهيا…الله يا العالي الله.
وتقوم “العيطة الشيظمية، على إيقاع بسيط خفيف ولحن غير مركب، غالبا ما يبدأ رتيبا عند الانطلاق، ولكنه يمضي في التصاعد تدريجيا إلى أن يبلغ لحظة الذروة ثم يعود ويتباطأ من جديد، وقد يقف في بعض العيطات، ويعود تدريجيا من البطء إلى التصاعد ويخبو مرة ثانية ثم يحمى وطيس الإيقاع في صعود وهبوط تماشيا مع العيطة المغناة، ومنها من خمسة أجزاء أجزاء ك”الراجل بغا يطلقني”، لتبدو إيقاعات وألحان القطعة العيطية كأنها أمواج مد وجزر في بحر لا حدود له..أو سرب خيل هاجمة في عملية كر وفر، وفي بعض العيطات تقف الفرقة الموسيقية عن العزف ويواصل الشيخ الناظم “الكَوال” المنشد الغناء بمفرده وتسمى ب”الفرادي”، ثم تستأنف الفرقة العزف بعد ذلك لتختم العيطة ب”السوسة” وتليها “السدة”، التي غالبا ما تتبعها موسيقى صامتة “تعريضة” أو ما تسمى “الخيلاز” مصاحبة بالتصفيق “الرش” ووصلات راقصة فلكلورية من الشيخات، وأحيانا تُختم ب”علفة” تتغنى بالخيل والفروسية التي عرفت بها منطقة الشياظمة، وفي هجماتها الثورية وتمردها على السلطات المخزنية. ومعروف عن هذه العيطة طولها الزمني، لذا فهي تتطلب التركيز والنفس الطويل، وتمتد مدتها الزمنية من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر.
والرقص في فن العيطة عموما، هو فن حقيقي قائم بذاته، وليس استعراضا للمفاتن فقط أمام الناس، فهو إبداع جمالي ايروتيكي للجسد حيث يصبح جسدا للفرجة، وذلك إذ يصير الجسد الأنثوي خاصة، موضوع فرجة اتجاه المتفرج المتلقي، وهو بهذا يختزل لغته الخاصة التي تكشف عن مفاتنه وتضاريسه الباعثة على الإغراء، كما يتم توظيف الجسد والسفر به إلى ما وراء الغواية، في حركات تعبيرية مختلطة بالطبيعة والفروسية والقوة. ورغم التشابه في هذا الفن العيطي في بعض الأوزان والتراكيب الإيقاعية أو اللحنية، إلا أنها تختلف من منطقة لأخرى، ومن قطر لقطر بل إنها تختلف أيضا داخل القطر الواحد، وذلك حسب الظروف البيئية الجغرافية، إذ يكون لكل بيئة خصائصها وطابعها المميز، وقد يكون هناك بعض التشابه في بعض العادات والتقاليد أو في الوزن الإيقاعي واللحني ،فكذلك نجد التشابه في الرقصات، إلا أن الاختلاف يكون دائما في التراكيب اللحنية وبناء الشخصية الفنية وموضوعها، التي يتم التعبير عنها من خلال لوحة راقصة من قبل راقص أو راقصة أو مجموعة من الراقصين معا.
والرقص في العيطة الشيظمية له ميزاته الخاصة وله دلالات رمزية ومعاني، يقوم بها الرجل والمرأة كل في دائرة اختصاصه، حيث كان المجتمع الشيظمي مجتمعا محافظا في البداية، لا يسمح باختلاط الرجال بالنساء خلال الحفلات والأعراس، وغالبا ما كان يؤثث سهرة الرجال فرقة موسيقية من الرجال، كما للنساء فرقة موسيقية متكونة من النساء “اللعابات”، وأحيانا نجد رجالا ضمن الفرقة الموسيقية يرتدون أزياء نسائية ويضعون النقاب على الوجه ملثمين حيث لا يرى منهم سوى الأعين، تشبها بالشيخة المرأة في عرض مسرحي تمثيلي، تماما مثلما كان يفعل رواد المسرح المغربي في تلك الفترة، فحينما كان يتعذر عليهم إيجاد امرأة تقوم بتمثيل دورا نسائيا، كانوا يعمدون على إلباس الرجال ملابس نسائية ويجملونهم ليقومون بالأدوار النسائية ويقلدون أصواتهن على الخشبة..ومزالت الفرقة الشيظمية “أولاد أحمر” محافظة على هذا التراث، ومنهم الفنان الفكاهي الراقص وعازف آلة “الطعريجة” الشيخ المسمى “الدبيري المصطفى” والملقب ب” حليمة الزاز” والذي كان يشارك الفرقة في الإيقاع والغناء، وخلال فترة الاستراحة يقدم عروضا مسرحية، كان يرتدي ملابس نسائية ويضع منديلا على رأسه ويصطحب معه الدمية الطفل التي قدم بها عروضه الشيقة بمفرده أو رفقة بعض زملائه من الفرقة في تمثليات هزلية فرجوية وتوعوية، تحمل رسائل مبطنة لمواضيع قضايا معاشة بالمجتمع البدوي: ( عقوق الأبناء، العروبي والمديني، الأم وطيش ابنها الصغير، الحماة وكنتها، الزوجة وضرتها، تعدد الزوجات..). تقب العرض فترة استراحة لا تزيد على عشرة دقائق ليبدأ فصل غنائي عيطي وراقص جديد.. فنجد الراقص أو الراقصة أو الراقصين خلال الوصلات الموسيقية الراقصة من العيطة وخاصة بجزء “السوسة”، أو بفترة الموسيقى الصامتة “الخيلاز”؛ يقومون بحركات تمثيلية خلال الرقص تلك الحركات مستوحاة من الأعمال التي يمارسونها سواء منها الزراعية السائدة بالمنطقة أوحركات الصيد البحري والقنص، كطريقة شد المحراث التقليدي أتناء الحرث، أو طريقة نثر وزرع البذور، وكيفية فتح سواقي الأحواض الطينية للماء بالمعول، ثم إلى طريقة حصاد الزرع بالمنجل وتشكيل الغمرة، والدرس بالبيذر”الكَاعة”، وتذرية الزرع..وطريقة نفض الثمار من الأشجار، وكنس الأرض بسعف النخيل، وطريقة طحن الحبوب بالطاحونة التقليدية اليدوية “الرحى”، وطريقة غزل الصوف بالمغزل على الفخذ، وطريقة غسل الصوف على صخور الوادي، وتقليد بعض حركات أرجل الطيور خلال فترة التزاوج المستمدة منها رقصة “القعدة”، وحتى الصياح الذي يصدره المزارعون لفزع الطيور التي تحط وسط المحاصيل، وكذا التصفيق المسترسل” الرش”، المصحوب أحيانا بالزغاريد، وبالنداء والصياح المتتابع كما هو الحال في طريقة فزع طرائد القنص من مخابئها “التحياح”، وإيقاد طرائد القنص من مرقدها بالضرب بالرجل اليمنى على الأرض وكيفية إمساك البندقية في وضعية الرماية، وطريقة رمي السنارة أو الشبكة للصيد في البحر..ومازال هذا كله حاضرا عند الفرقة الشيظمية المتألقة فرقة “أولاد احمر”..وغالبا ما يتأجج هذا في جزء “السوسة” إلى “السدة” أو ما تسمى ب “القفل”، من العيطة الشيظمية.. لتنهال من أجل ذلك على الفرقة المنشطة إكراميات الجمهور”الغرامة” أو ما تسمى ب”التعلاق”. وهي الهدايا التي تمنح للمؤدين من الحاضرين، والتعلاق” هي تلك الأموال الورقية التي اعتاد الجمهور على تعليقها في ملابس الراقصات أو الراقصين، أو العازفين أو المغنيين، أو وضعها في الجيوب أو تحت الطاقية أو الطربوش الموضوع فوق الرأس، وهي عربون اعجاب واستحسان الأداء وجودة الفرجة المقدمة، وكلما زاد “التعلاق” ازدادت حرارة الفرجة ونشاط المجموعة المنشطة، وحمي الوطيس فرحا، واستمرار الفرقة في تقديم فواصل غنائية عيطية ورقصات جيدة..وإذا ما قل “التعلاق” قل نشاطهم وكثر كلامهم واختصر عملهم وخمد نشاطهم وحيويتهم للعزف والغناء والرقص.
ومما عرف به الرقص الشيظمي، هناك الرقصة المعروفة برقصة “الصينية والكيسان” التي اشتهرت بها بعض المناطق المغربية التي يمارس بها فن العيطة حيث نجدها بالعيطة الحوزية، وكذا بالعيطة الفيلالية، وبالعيطة الجبلية..وهي رقصة حكرا على الرجال، في إشارة من الفرقة المنشطة إلى الترحيب بالضيوف والكرم وحسن الضيافة بالمنطقة..وتعبير عن فن تراثي شيظمي أصيل تنشرح له النفس ويوحي بالسلام والتعايش والأخوة والترحاب والكرم، حيث يرتدي الرجل الراقص زيا نسائيا، ويستوجب أن تتوفر فيه صفات مثل الرشاقة والخفة واستقامة الجسم ومرونته، ولطافة الإقدام ولين المفاصل، وحسن الحركة والتمايل، وأن يكون متناغما مع الإيقاع، وغالبا في الجزء الأخير من العيطة وهي موسيقى طربية صامتة، حيث أوتار الآلات الموسيقية هي التي تنطق بالنغم..فيقوم الراقص بلوحاته الكوليغرافية بدور انفرادي، إذ ينفصل عن الجماعة حاملا الصينية بها البراد والكؤوس مملوءة بشموع مختلفة ألوانها القزحية، ويتنقل في حركات فنية بهلوانية راقصا متماشيا مع الإيقاع الخفيف المتوسط، يرقص أمامهم في مواجهة الحضور وهو الذي يستقطب بمهارته أنظار النساء المتفرجات من بعيد فيشرعن بالصلاة على النبي ويطلقن الزغاريد من أجله..
ونجد كذلك رقصة “حمل السلاح” أو “رقصة التبوريدة”، أو رقصة “مالين لمكاحل”، وتسمى أيضا ب “رقصة الحركة الجهادية”، وهي موروث فني ثقافي مغربي يؤرخ لشهامة المحارب الشيظمي، حيث تؤدى على أنغام المعزوفة الصامتة أنواع من الرقصات بشكل جماعي وانفرادي، إذ يكون الرجال الراقصين حاملين لأسلحة نارية، بنادق أو مسدسات، ويستحضرون بها أمجاد بطولات في الحركات الحربية، يؤدون وصلات راقصة في حركات ممسرحة راقصة وفي تناسق وتناغم مع الإيقاع، واللعب والاستعراض بالسلاح، ومن بين الفرق المحافظة على هذه اللوحات الراقصة نجد فرقة “أولاد أحمر”. التي مازالت تقدم فرجتها وعروضها الراقصة بساحة “جامع الفنا” بمدينة مراكش، وقد مثلت الفن العيطي أحسن تمثيل وقامت بعروضها في كل مناطق المغرب، ثم شاركت في عدة مهرجانات وسهرات دولية بكل من فرنسا وبلجيكا وهولندا.. هذه المجموعة التي مازالت تواصل عروضها الشيقة المبهرة في الحفلات والأعراس وبالمهرجانات والمواسم..
وجرت العادة أحيانا عند قبائل الشياظمة أتناء تأدية العيطة، كما هو الشأن في بعض أنواع العيطة الأخرى ومنها الزعرية والمرساوية والحوزية، والعبدية والفيلالية.. وبالضبط خلال جزء السوسة المصاحبة بالرقص والتصفيق “الرش”، أن يطلق الرجال أصوات الأعيرة النارية من الأسلحة الخفيفة كالبنادق والمسدسات “خرجو البارود”، عندما تشتد حمى الطرب، فيما تتجاوب معها زغاريد النسوة وذلك في إشارة إلى القوة والشجاعة، كما هو الحال في خرجات القنص وصيد الطرائد، ومجابهة الأعداء بالأسلحة النارية في استحضار للبسالة الحربية والاستعداد لخوض المعارك..
كانت العيطة الشيظمية في بدايتها تعتمد على آلات موسيقية تقليدية بسيطة إلى بدائية:(كَنبري وطعريجة وبندير، وتار صغير الحجم نوع سويسدي وطعريجة، وتار وطعريجة، لتلتحق بالركب الموسيقي آلة الكمنجة، فصارت ترافق الطعريجة والمقص والمهراس، أو تؤدى ب”مزمار” قصبة مشدوة إلى قرن عجل، وطعريجة وبندير) والملاحظ في العيطة الشيظمية الحضور المستمر للطعريجة منها الصغيرة والمتوسطة الحجم..إذ كانت في البداية هذه العيطة تقتصر على آلات بدائية متواضعة مما يجعل الصوت حاضرا بقوة، وترتكز أساسا على الإيقاع والكلام أكثر من النغم، فهي تعتمد على الكلمة أكثر من اللحن الموسيقي، وليس على الفرجة فحسب، كما يقال: “سر العيطة في كلامها”، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة، وقد أدخلت عليها آلات إلكترونية معدلة للصوت ومُبرمِجة للإيقاع، وآلات موسيقية كهربائية غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها، كما نراه بأوركسترا “فتاح الخيالة”، وأوركستر “أيوب العبدي” وأوركسترا “سفير الحمري”.. ومن الآلات التي صارت تستعمل في هذا الفن؛ هناك آلات وترية، ونفخية، وإيقاعية ونقرية. ومن الآلات الوترية نجد: “الوتار، العود، القانون، الكمنجة، البوزق، السنتير، المندولين، البانجو، القيتارة..وفي الآلات النفخية هناك: الغيطة، المزمار، الناي، القصبة الأحادية والثنائية(المكَرونات) الليرة، إلى الساكسفون..وفي الآلات الإيقاعية نجد: البندير، الطبل، الصنج، الدف، الطر، الصينية والكؤوس، والمهراس، والطعريجة بما فيها الكبيرة والصغيرة “أكوال”، الدربكة، والنويقسات، والمقص، والطمطام إلى “لباتري” العصري..كما نجد أيضا الآلات النقرية كالألركاركَيون، والأورغ …
وقد اشتهرت هذه العيطة بمناطق تتميز بطبيعتها الخلابة الغناء، عرفت بكثرة وتنوع مغروسات أشجار الفواكه والخضراوات، وانتشار “العرصات” و”الجنانات”، التين والزيتون والرمان والعنب، وأشجار الأركَان والعرعار، وعُرفت بثرائها الحيواني “الكسيبة”، والثروة البحرية والغابوية، وشساعة أراضيها الخصبة الزراعية منها البورية والسقوية، واشتهرت بخيراتها “الماء والخضرة والوجه الحسن”، وبمواقعها الأثرية، وتربتها الطينية، وتحفها الفنية الخزفية.. كما اشتهرت منطقة الشياظمةبتضاريسها المتنوعة؛ (سهول منبسطة، هضاب، تلال، وديان، شواطئ، غابات، عيون مائية، سواقي…مع وفرة المياه الجوفية والسطحية، على امتداد الأودية، على عدوتي واد “تانسيفت”، وقد بسطت العيطة الشيظمية ألحانها على قرى ومدن تشكل قبائل منها:
(الصويرة، سبت كزولة، الشماعية، سيدي امحمد الزموري، أولاد الحارت، المخاليف، أحمر، المدارعة، حد الدرا، جمعة لمراسلة، سيدي كانون، أولاد عيسى، أيت سعيد، بوزمور، بيزضاض، سيدي اسحاق، كشولة، أمكراد، مولاي بوزرقطون، المرامر، المزيلات، أولاد المرابط، أوناغة، سيدي أحمد السايح، سيدي عيسى الركَراكَي، سيدي بوعلام، سيدي الجازولي، سيدي غانم، سيدي أحماد أو مبارك، لكَدادرة، المناصير، النجوم، أولاد الحاج، الثوابت، مسكالة، الحنشان، النيرات، أولاد بونجيمة، أولاد احسن، الكريمات، ….).
وأقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام فن العيطة عموما، على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ، زجالين، نُظام، ومغنين حفاظ “كَوالين”، حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، زجالات، ناظمات مناضلات..أصوات انبرت لنصرة من لا صوت له، فنانون استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، أكثرهم يعاني شظف العيش، لا يعيشون ليحيون بقدر ما يعيشون لكي لا يموتون..والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم.
وللعيطة الشيظمية أشياخ وأعلام قدامى وجدد، وقد رحل جل شيوخها من الرعيل الأول والثاني ممن كانوا يتقنون أدائها وحفظ متونها..ونجد هذه العيطة حاضرة بقوة في البوادي كما في المدن، وهي العيطة الأكثر انتشارا وإشعاعا على الصعيد الوطني، حيث تغنى من طرف فرق الشيخات، والأوركسترا،كما ترددها مجموعات النساء كفرق “اللعابات” أو “العونيات”، وفرق “عبيدات الرما” وترددها حتى النساء خلال تجمعاتهم بالمنازل أو أتناء مزاولة الأعمال الفلاحية الجماعية بالخلاء، كالحصاد التقليدي، وتنقية المحاصيل من الأعشاب الطفيلية الضارة، أو خلال نسيج المنسج..وعرف هذا النوع العيطي الشيظمي العديد من الفنانين شيخات وأشياخ، إذ يتعذر ذكرهم في هذا الحيز واحدا واحدا، كما أعجب هذا الفن الشيظمي وسحر الكثيرين من الأشياخ رواد فن العيطة، منهم: “العبديين”، و”الزعريين”، و” المرساويين”، و”الحوزيين” و”الملاليين”..ولروعة نصوصه وألحانه وقوة انتشاره أداه كذلك مجموعة من الفنانين الأمازيغيين.
ونذكر بعض من أشياخ هذا الفن الأصيل على سبيل المثال لا الحصر منهم العازفين والمغنين، ومنهم من جمع بين العزف والغناء:
– الرواد القدامى في مشيخة العيطة، أشياخ الرعيل الأول : الشيخ البدري، الشيخ امحمد الشيظمي، الشيخ لعرج العبدي، الشيخ الشرامي، الشيخ بن خدوج العبدي، الشيخ الدريم، الشيخ عيسى البحراوي الملقب ب”عويسة”، الشيخ بلخير، الشيخ صمادة، الشيخ لبصير العبدي، الشيخ ولد الضو، الشيخ لمعاشي، الشيخ اسعيد ولد العوجة، الشيخ بن دحمان العبدي، الشيخ ميلود داهمو، الشيخ الدعباجي، الشيخ الجيلالي الحاموني، الشيخ صالح السمعلي، الشيخ سي جلول، الشيخ الصاحب بالمعطي، الشيخ بن رحال، الشيخ المصطفى البيضاوي الملقب ب”طينور” العيطة، الشيخ عبد الحق ولد الحلاوي، الشيخ بوشعيب لبصير، الشيخ الجيلالي السرغيني، الشيخ مبارك ولد اسبيطة، والشيخ امحمد ولد اسبيطة، الشيخ صالح بوتارتية، الشيخ المحجوب الرحماني، الشيخ المصطفى ولد الجوطية وآخرون..
– ومن أشياخ الرعيل الثاني في المشيخة العيطية نذكر: الشيخ الستاتي عبد العزيز، الشيخ محمد المحفوظي، الشيخ حسن الضاحي، الشيخ اليزيد، الشيخ عبد الحفيظ، الشيخ الزوين، الشيخ عبد الجليل، الشيخ حميد لمويس، الشيخ الضويس، الشيخ عبد الحق الكَزولي، الشيخ عبد الدايم، الشيخ بوشعيب الجديدي، الشيخ يوسف بوفلجة، الشيخ عادل الزياني، الشيخ الداد سعيد، الشيخ كمال العبدي، الشيخ الحاج عبد الله كَسوس، الشيخ الحاج المهدي العيسي، الشيخ كَبز، الشيخ الرويحة علال، الشيخ حسن ولد العطار، الشيخ أحمد الشريف، الشيخ محمد ولد الصوبا، الشيخ مستور حميد، الشيخ عبد السلام البحري، الشيخ عمر الزيدي التماني، الشيخ جمال الزرهوني، الشيخ عابدين الزرهوني، الشيخ خالد معلوم، الشيخ المحفوظ البنوري، الشيخ فاضل العبدي، الشيخ محمد ولد سبعمية، الشيخ أحمد الشريف، الشيخ سعيد ولد الحوات، الشيخ عبد السامي، الشيخ عبد الصادق، الشيخ المصطفى الميلس، الشيخ صالح المزابي، الشيخ صالح الكبوري، الشيخ مبارك العوني، الشيخ عابيد السعيدي، الشيخ عبد الرحيم المسكيني، الشيخ اسماعيل رفاكَة لعلام، الشيخ عبد الصادق، الشيخ محمد الوافي الملقب “الشيخ الفريخ”، الشيخ ميلود النمرود، الشيخ عادل الزياني، الشيخ حسن ولد العطار، الشيخ خالد العود، الشيخ عبد الخالق السعيدي، الشيخ عميق البنوري، والشيخ عاشور المصطفى البنوري، والفنان الكفيف نوح الكانوني..وآخرين..
– ومن الأشياخ الجدد نجد، الذين جددوا في فن العيطة الشيظمية وبسطوا إيقاعاتها واختصروا أجزاء منها، وأدوها بنمط الأوركسترا نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: – الداودي عبد الله، حجيب، ولد حجيب، أيوب العبدي، زهير الماريشال، علي البوشاني، حسن الناجي، مجموعة أولاد حادة الممثلة في الإخوة الشيخ عزيز والشيخ رفيق الرزود، والعلمي الحوزي، ووليد الرحماني، والشيخ عبد الغني الرحماني…وآخرين.
كما اكتسحت العيطة الشيظمية فن المجموعات والأوركسترا، ونذكر من المجموعات علي سبيل المثال لا الحصر:
– مجموعة أولاد الشياظمة، مجموعة أولاد احمر، مجموعة أولاد العونات، مجموعة أولاد شبانة، مجموعة أولاد الطاوس، مجموعة أولاد بن عكَيدة، مجموعة رفاكَة لعلام، مجموعة خوت لعلام، مجموعة مسناوة، مجموعة التكَادة، مجموعة أولاد الشريف، مجموعة أولاد خلوق، مجموعة النجوم الشعبية، مجموعة نسيم بوركَون، مجموعة نجوم ميامي، مجموعة الخيالة، مجموعة أولاد العطار، مجموعة الجوالة، مجموعة أولاد الشتيوي، مجموعة أولاد حادة، مجموعة الإخوان الناجي، مجموعة أولاد الرحالية، مجموعة أولاد العطار، مجموعة أولاد العوني، مجموعة أولاد العز، وغيرهم…
وفي نمط الأوركسترا نجد بعض الفنانين الذين غنوا بعض العيوط الشيظمية بطريقة عصرية ومنهم : (الداودي عبد الله، فتاح الخيالة، سعيد الصنهاجي، طهور، عبد الرحيم الصنهاجي، حميد المرضي، حسن الناجي، علي البوشاني، زهير الماريشال، وليد الرحماني..وآخرين..
وعلينا أن نستحضر دائما الدور الكبير والفعال الذي لعبته المرأة، إلى جانب الرجل في هذا الميدان، وكثيرات هن المبدعات في هذا الفن، يصعب عدهن.. ونذكر من الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة الشيظمية، وتركن بصماتهن في الساحة الفنية ونقسمهن إلى فأتين:
شيخات الفئة الأولى ونذكر من ضمنهن: الشيخة التونية، الشيخة الرويدة، الشيخة العرجونية، الشيخة الدوبلالية، الشيخة راضية الكومنجية، الشيخة مليكة بيتيت، الشيخة خديجة بيتيت، الشيخة زهرة المسكينية، الشيخة الغالية، الشيخة الصالحة، الشيخة خدوج ميطيشتي، الشيخة رابحة بنت بوحلاب، الشيخة الزريكَة بنت لوقيد، الشيخة فاطمة الكوباص، الشيخة خدوج العبدية، الشيخة ضونة، الشيخة تشيكيطو، الشيخة حليمة البنورية، :الشيخة الشعيبية بنت العسكري، الشيخة حادة بنت بومارت، الشيخة أم هاني بنت مجيب، الشيخة الطاهرة العبدية، الشيخة خدوج الحمرية، الشيخة المخلوفية، الشيخة فاطنة بنت الحسين، الشيخة زبيدة حبوطة، الشيخة خدوج السطاتية، الشيخة الهاترة، الشيخة زينب مسيكة، الشيخة القاتلة أمها، الشيخة فاطنة الحامونية، وغيرهن..
شيخات الفئة الثانية ونذكر منهن: الشيخة حليمة الخودة، الشيخة حفيظة الحسناوي، الشيخة عايدة، الشيخة عايشة بوحميد، الشيخة العيدية، الشيخة حفيظة بنت الصويري، الشيخة خديجة مركَوم، الشيخة سعاد العبدية، الشيخة لطيفة السطاتية، الشيخة سعاد بنت لمقدم، الشيخة نعيمة المعاشية، الشيخة حبيبة بنت الشوافة، الشيخة خدوج بنت بوصوف، الشيخة عائشة الجيرارية، الشيخة نجاة السكود، الشيخة رشيدة بنت الخضار، الشيخة رابحة الغنامية، الشيخة سعاد لكحيلة، الشيخة السعدية الزمورية، الشيخة فتيحة بنت العريان، الشيخة عايشة السعيدية، الشيخة نزهة السطاتية، الشيخة فاطمة موساليم السعيدية، الشيخة تسونامي، الشيخة سهام المسفيوية، الشيخة زعزع، الشيخة حورية الحداوية، الشيخة مليكة الوادزامية، الشيخة مينة الزعرية، والشيخة زينة الداودية..وغيرهن..
أما اللباس الذي يلبسه ممارسو هذا الفن التراثي الشيظمي، فنجد غالبا الزي التقليدي المغربي: للذكور( الجلباب، والجباور، والعمامة أو الطاقية أو الطربوش على الرأس والبلغة، أما النساء الشيخات فنجد: (التكشيطة، والقفطان، والدفينة، والسبنية، والدرة على الرأس والشربيل)، لكن مؤخرا صرنا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز والقمصان القصيرة والأحذية الرياضية..
وفيما يتعلق بعدد أفراد المجموعة المغنية لفن العيطة الشيظمية، قد نجد فردا واحدا داخل حلقة بآلته الوترية أو الإيقاعية وسط سوق أسبوعي، أو يتجول حاملا آلته بين المقاهي والمطاعم الشعبية يعزف ويغني بين رواد الموائد مثل: الفنان “الكريمي”، الله يرحمه بآلته لوتار، يتحفهم بأغانية العيطية ويتحفه الناس بعطاياهم، وبلغة أهل الحرفة “يجقر”، أو تجده بعرس بأحد المداشر النائية ينشط المكان بالفن الشيظمي، ثم تنتقل إلى نمط الثنائي ك:”كرتال والجاوي، خلوق ولعريش..”، وإلى المجموعة، ثم إلى النمط “الأوركسترالي”، حيث تضم الفرقة عشرات المغنيين والعازفين من الجنسين، ونادرا ما نجد المرأة عازفة على آلة وترية أو نفخية..مثل الشيخة “راضية”، والشيخة مينة الزعرية والشيخة زينة الداودية… وغالبا ما تنطلق العيطة الشيظمية بعد فترة التقاسيم بإيقاع بسيط، خفيف وسريع، المسمى بايقاع ستة على ثمانية 6/8، وبلغة الحرفة يدعى ” ميزان ثلاثة حمص جوج فول”، بعد ذلك يحتد ويميل تدريجيا إلى السرعة عبر الأجزاء العيطية، وقد يقف في بعض المتون، ليردد المغني كلامه بمفرده “فرادي”..
ويستأنف بعد ذلك العزف، لينتقل تدريجيا في تصاعد ثم يزداد بجزئي كل من “السرابة” و”السدة” بخاتمة مأخوذة من العيطة الحوزية، ويفصل بين العيطات فترة استراحة تتخللها نكت ومستملحات فكاهية يقوم بها بعض من أفراد المجموعة له حس التنشيط الفكاهي سواء أكان شيخا أو شيخة، أو يقوم رجل من الفرقة المنشطة بتقمص أدوارا تمثيلية بأزياء نسائية كما هو الشأن للفنان الكوميدي الشيخ ” الدبيري المصطفى” الملقب ب” حليمة الزاز” من فرقة “أولاد احمر” ..وتستغرق العيطة الواحدة من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر، وذلك حسب الزمان والمكان ونوعية الجمهور، في حين أن الحفلة كانت تبتدأ بعد غروب الشمس وتنتهي عند طلوع الفجر ومن هنا يتبين طول السمر وروعة السهر، والعدد الهائل من القصائد العيطية والأغاني الشعبية التي تقدم بالليلة. وكان الجمهور متعطش لسماع هذا الفن، إذ كان الأشخاص يقطعون مسافات طويلة تعد بالكيلومترات مشيا على الأرجل أو راكبين الدواب قادمين من مداشر ودواوير أو قرى بعيدة، ليحضروا حفلة عرس أو موسم والي صالح، أو مهرجان..
وبحكم الجوار بين منطقة عبدة والشياظمة، نجد أغلب إن لم نقل كل الأشياخ والشيخات رواد فن العيطة العبدية الحصباوية يتقنون العيط الشيظمي، وسيذكر عشاق الموسيقى الشيظمية وممارسيها، بفخر وحنين أهرام هذا الفن الرائع، الذين نقلوا لنا العيطة الشيظمية وبراويلها الجميلة، ومن بين هؤلاء الفنانين الكبار الأشياخ الأولين الذين رحلوا نجد منهم: الشيخ البدري، والشيخ لعرج العبدي، والشيخ الشرامي، والشيخ بن خدوج العبدي، والشيخ الدريم، والشيخ عيسى البحراوي، والشيخ صمادة، والشيخ لبصير العبدي، والشيخ سي جلول، وآخرين من الأسلاف الذين حافظوا على ما بقي من التراث الشيظمي وأدوه بإتقان، ونقلوه لنا وللأجيال القادمة في حلته الأصلية.
وسيبقى الثرات العيطي العبدي والشيظمي مدينا بالكثير للراحلان الشيخ “محمد الدعباجي” والشيخة “عايدة”، الثنائي المتميز الله يرحمهما، على الإشعاع الفني الذي أعطياه لهذا الفن، اللذان تغنيا بأجمل العيوط الشيظمية والحصباوية، ووصلتنا عبرهما نماذج العيطة العبدية الحصباوية والشيظمية بكل الاحترافية والالتزام بالأصول..حيث تلقى الشيخ الدعباجي أصول الغناء عن أشياخ الثلاثينات من أمثال الشيخ “بن دحمان العبدي”..وزاد عليه من إبداعاته في العزف على الكمنجة وطريقة الأداء الرائعة بصوته الخفيض الرخيم. وترك لنا هذا الشيخ تسجيلات في قمة الروعة وذلك قبل أن يهده المرض ويفقد صوته وذاكرته إلى حين وفاته سنة 1997، بعد معاناته مع المرض والتجاهل والعوز والحاجة. وتعلم “تشيخ” على يده عدد من الشيخات والأشياخ، نذكر منهم الفنان الشيخ “ميلود الداهمو”، الذي كان يعمل مع الدعباجي عازف الطعريجة ثم على آلة الكنبري لفترة، وبعد وفاة شيخه الدعباجي انتقل إلى العزف على الكمنجة وقد برع فيها، وعرف عنه حفظه وأداؤه لبعض العيوط النادرة وإتقانها جيدا وللأسف هو الآن يعيش مقصيا منسيا يتسول بآلة لوتار في الأسواق الأسبوعية..
ونعرج على رباعة الشيخة” الحامونية” وزوجها الشيخ الكوامنجي “الجيلالي”، وتميز هذا التنائي بطريقة فريدة، سواء في طريقة الأداء للمتون العيطية أو الطريقة البيداغوجية في التعامل مع باقي أفراد الفرقة الموسيقية، حيث كانت الشيخة الحامونية معتدة بنفسها، وكانت تفرض على الشيخات في “رباعتها” ضرورة حمل الطعريجة “أكوال”، وأن لا يستعملنها إلا بأمر منها لتفسح المكان لصوتها وغنائها عاملة بالطريقة القديمة للشيخات رائدات فن العيطة. وعرفت الساحة الفنية الشيظمية كذلك شيخات عتيدات من ذوات التجربة الحياتية والفنية “عياطات” و”طباعات” نذكر منهن، الراحلة الشيخة عائشة بوحميد، والشيخة حفيظة بنت العسكري، والشيخة خديجة مركَوم، الشيخة سعاد العبدية، والشيخة مليكة العيدية، والشيخة حليمة الخودة..وغيرهن.
وبعد هذه الموجة من الفنانات الشيخات “الطباعات”، “العياطات”، وفي أوج عطائهن سيظهر نجم جديد، يسمى “العرباوي عبد العزيز الستاتي”، شيخ عياطي، عازف ماهر على آلة الكمنجة والوتار، طريقة عزفه على الكمنجة وحركاته وإبداعاته الموسيقية جعلته يأسر قلوب آلاف المعجبين من الجماهير، وأدى مختلف أنواع العيطة، ومنها العيطة الشيظمية بكل احترافية وإبداع وتجديد موسيقي.
وشهدت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات فترة توهج من جديد للتراث الشيظمي، وستأخذ العيطة الشيظمية منعطفا فنيا جديدا مع مجموعة من الشيخات والأشياخ “الربايع”، ونذكر منهم على سبيل المثال: الفنان الشيخ “محمد ولد الصوبا، والشيخ “الشريف أحمد”، والشيخ ولد عمر، والشيخة “خديجة مركَوم”، إذ يعتبر سي محمد ولد صوبا من أمهر الأشياخ، فنانا متمكنا عازفا ماهرا على مجموعة من الآلات الموسيقية بما في ذلك الكمنجة والوتار، والشيخ “أحمد الشريف” عازف ماهر على آلة “الطعريجة”، وحافظ للمتون العيطية بما فيها الشيظمية والعبدية والمرساوية والزعرية، وله صوت متميز بحة رخيمة شبه مقجوجة، كما أن الشيخة “خديجة مركَوم” فنانة متمكنة من حرفتها وهي التي تعلمت أصول الحرفة من الشيخة فاطنة بنت الحسين، وساعدها في ذلك صوتها الشجي الناحب الصافي والقوي، إذ شكلا ثلاثيا منسجما بفضل تناغم صوت الشيخة خديجة مركَوم الناحب الباكي، والصرير النادب لكمنجة محمد ولد الصوبا. وصوت الشريف أحمد المبحوح شبه المقجوج الذي زاد غناءه جمالية. هذا الفنان الذي أبدع في أداء العيطة الشيظمية والعيطة العبدية بإتقانه العزف على آلة “الطعريجة”، وحفظه للمتون وتمكنه من الأداء العيطي ببحته الصوتية الرخيمة المميزة. وفضل صوته الجميل راجت سمعتهم وأشرطتهم ونذكر منهم: ولد الصوبا، والستاتي عبد العزيز، وفاطنة بنت الحسين، وخديجة مركَوم وغيرهم..
ولابد من التذكير والتنويه بالفنان الكبير ومجموعته، الشيخ “عمر الزايدي التماني” الملقب بصقر العيطة، هذا الفنان الشاعر الزجال والعازف والملحن والمغني، والحافظ لمتون عيطية لأنواع مختلفة من فن العيطة بما فيها؛ العبدي والمرساوي والحوزي والشيظمي..ويعتبر من الفنانين الأشياخ المجددين في العيطة العبدية والشيظمية بين الأصالة والحداثة، وعُرِف بإبداعاته الجميلة والراقية في الأغنية الشعبية، إذ يعتبر أحد الفاعلين اللامعين في أدائها والمحافظين عليها بطريقة عصرية، ولازال محافظا على نماذج العيطة الشيظمية الموروثة عن الأسلاف، إذ قدمها للجمهور في حلة جديدة وأنيقة بكل الاحترافية والالتزام بالأصول عبر صوته الرخيم بنبراته الشجية، وقد أمتع الجمهور العريض ومازال يشنف أسماعنا وأبصارنا بتسجيلاته الرائعة السمعية، والسمعية البصرية، وألف ولحن عدة أغاني لقيت انتشارا واسعا لمجموعة من الفنانين الشعبين المشهورين..
كما يجب أن ننوه بالمجهودات الكبيرة التي قام بها أشياخ هذا الفن حاملي المشعل الذين أزاحوا طابع الجمود عن هذا الإرث، ونذكر منهم: الفنان الكبير الشيخ “سي محمد المحفوضي”، عازف ماهر على آلة لوتار ومجموعته بآلاتها التقليدية، استطاع أن يدخل قلوب الكثير من المغاربة، فهو شيخا مبدعا، ذلك الفنان الهرَم، الذي وصلنا عبره نماذج العيطة الشيظمية والعبدية.. ب”رباعة الشيخات”، أو بمجموعته الرجالية المتواضعة، بكل الاحترافية والالتزام بالأصول عبر صوته الرخيم بنبراته الشجية، وذلك بتجديده في هذا الفن، من خلال دوره الكبير في النقلة النوعية التي أعطاها لهذه العيطة، حيث جعلها تنافس باقي العيوط في الإشعاع الجماهيري، بفضل عزفه المتميز على آلة لوتار، وإبداعه في وصلات الموسيقى الصامتة “الخيلاز”، أعطى إبداعا في العزف والعيط والكلمات..وقد عمد إلى الاقتباس من معزوفاته وإعادة أغانيه كبار الفنانين الشعبين المغاربة المشهورين، وكان مصدر إلهام للعديد منهم، وقد اشتهر بحفظه وأدائه للتراث العيطي الحوزي والزعري والعبدي والمرساوي والغرباوي والشيظمي.. إضافة إلى روائعه تلك الأغاني الشعبية الرائعة المستحدثة التي مازالت تغنى إلى يومنا هذا، ونذكر منها: يوم يشبه يوم، كيف درتي يا الحب، حكمت عليها الظروف، غرست نبتة، وأغاني؛ الأم والهجرة، والسواكن.. وغيرها من الأغاني المشهورة…
وقد شهدت نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة فترة توهج من جديد للتراث الشيظمي، حيث ستأخذ العيطة الشيظمية منعطفا فنيا جديدا مع مجموعة من الأشياخ والشيخات “الربايع”، ونذكر منهم على سبيل المثال: الفنان الكبير الشيخ “اليزيد” ومجموعته، هذا الفنان الشاعر الزجال والعازف والملحن، المجدد في العيطة الشيظمية، وساهم بإبداعاته الجميلة والراقية في رقي وانتشار الأغنية الشعبية المغربية، إذ يعتبر أحد الفاعلين اللامعين في أداء العيطة الشيظمية والمحافظين عليها.
كما يجب أن ننوه بالمجهودات الكبيرة التي قام بها أشياخ هذا الفن حاملي المشعل الذين أزاحوا طابع الجمود عن هذا الإرث، سواء بالفرق الموسيقية الرجالية أو بفرق الشيخات، ونذكر منهم: والشيخ ارويحة والشيخ كَبز، والشيخ حسن الضاحي، والشيخ ميلود معلوم، والشيخ عبد الحفيظ، والشيخ الضويس، والشيخ امحمد ولد لعلام، والشيخ اخريصة، والشيخ إبراهيم ولد الهواري، والشيخ “إبراهيم لهوير”، عازف ماهر على آلة الوتار ومغني، والشيخ “معلوم ميلود”، والشيخ عبد الرحمان الطالياني، والشيخ جمال الشيظمي، والشيخ امحمد ولد لعلام، والفنان الشاب الكفيف الضرير “نوح الكانوني” الذي يتميز بصوت عذب رخيم وبعزف فريد متميز على آلة “لوتار”، وذلك بالنقر باليدين وكأنه يعزف على آلة القانون.. ونجد أيضا رباعة الشيخ “الرواسي عبد الرحيم”، فنان له رصيد فني مهم في التراث العيطي الشيظمي، عازف ماهر على آلة الوتار كاتب كلمات وملحن ومغني، وكان له الفضل في إحياء بعض العيوط الشيظمية.. ومجموعة الشيخ “الحاج مولاي المهدي العيسي” الذي أسس جمعية بقلب مدينة الدار البيضاء ب”باب مراكش”، تهتم بالفن الشعبي ومنه العيطة الشيظمية والعبدية الحصباوية، والمرساوية، كما تقوم بتأطير الشباب الراغبين في دخول ميدان الفن الشعبي وتعلم العزف على آلة “الوتار”…
ويذكر المغاربة الأستاذ الشيخ “بوشعيب الجديدي”، ذلك الفنان الأنيق الملقب ب” المايسترو”، الشيخ الذي أعطى إشعاعا كبيرا لفن العيطة العبدية الحصباوية والمرساوية والزعرية والشيظمية، إذ يعتبر أحد الفاعلين اللامعين في أدائها والمحافظة عليها بطريقة عصرية، بصفته أستاذ دارس ومدرس للموسيقى وشيخ للعيطة، واشتهر بصوته وأدائه لسراريب وعيوط الفن العيطي في الحفلات والأعراس كما في السهرات الكبرى على خشبات المسارح الوطنية والدولية، إذ مثل التراث العيطي خير تمثيل، داخل المغرب وخارجه.
وتأتي المجموعة المتميزة “مجمع لحباب”، الحديثة النشأة (صيف 2017)، بمدينة تمارة، بقلب المغرب، والتي جمعت مجموعة من خيرة الأشياخ المتمرسين في فن العيطة منهم زعريين ومرساويين وعبدين وشيظميين”، فرقة بمثابة “حانوت العطار” نسبة إلى جمعها لتوابل أصناف التراث العيطي، بزيها التقليدي الرائع وبآلات متعددة تتنوع بين التقليدي والعصري، إذ جمعت هذه المجموعة الغنائية أصوات أشياخ مغنين وعازفين تمرسوا في الحرفة وخبروا متونها وإيقاعاتها، ومنهم: “الشيخ عبد العالي المسناوي، والشيخ عميق البنوري، والشيخ عبد الدايم، والشيخ خالد العود، والشيخ عبد الخالق السعيدي، والشيخ “يوسف بوفلجة” العازف الماهر على آلة الكمان والدارس لها دراسة أكاديمية والمدرس لها، والشيخ حسن الناجي، والشيخ عادل الزياني وآخرين…)، وقد أحيت هذه الفرقة من جديد عيوط كانت قد طالها النسيان منها العيطة الشيظمية، ومثلت الفن العيطي في محافل وطنية وفي سهرات ومهرجانات عبر المملكة.
كان أشياخ وشيخات العيطة في السابق بمثابة جنود بلا بنادق، سلاحهم في ذلك النغمة والكلمة، بذلك يصيبون الهدف ويساهمون بفنهم في تحقيق النصر..ولكن للأسف نجد بعض أشباه الأشياخ الذين حوروا هذه العيطة، وجعلوها من نص شعري يتغنى بالأمجاد والمقاومة والجمال، ومباهج الليل ومحاسن الخيل، والتغني بالأولياء والصالحين والزوايا، إلى قصائد مبتذلة متهتكة.. وذلك بتركيب كلمات سوقية دونية تتغنى بالعشق والسمر والخمر، وتركيبها على اللحن الأصلي، قصد طمس الهوية الثقافية أو من أجل التسويق التجاري المربح.. والعيطة عموما هي شعر شفهي م يتم توثيقه، ولم يتم تسجيل النص العيطي الحقيقي تسجيلا قانونيا رسميا، لذلك فهي أشبه ما تكون بالرواية المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادة والنقصان، ويهيمن عليها الارتجال حيث يزيده الناظمون تراء، ويفرغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح..ولذلك من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة.
والشكر لهؤلاء الفنانين المناضلين الذين لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…
إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثين والإعلاميين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وادريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وعبد السلام عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي والمصطفى حمزة ولطفي العوادي .. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية “اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. شكرا لهؤلاء جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، عمل ثقافي أدبي توثيقي يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية .
وبصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة، لا أدعو إلى التقليد فحسب لكي لا أتهم بالرجعية، بل أدعو إلى الإبداع والتجديد، لأن ما أبدعه اليوم سيكون غدا تراثا، وإذا اكتفينا بالتقليد، ماذا ستقلد الأجيال القادمة، وللأسف الشديد كثير من الجمهور يشجع التقليد، لأنه مثلا يسمع منذ سنين أن أحسن صوت نسائي في العيطة هو صوت الشيخة “فاطنة بنت الحسين”، أو صوت الشيخة “خديجة مركَوم” أو”الشيخة “زهرة خربوعة”.. أو أن أحسن صوت رجالي عياطي هو صوت الشيخ “بوشعيب البيضاوي”، أو صوت الشيخ “محمد باعوت”، أو صوت الشيخ “محمد الدعباجي”، أو صوت الشيخ “الستاتي عبد العزيز”..وحين نريد الإطراء على صوت واعد نقول اسمع أنه فنان صوته يشبه صوت الشيخ “بوشعيب البيضاوي” أو غيره..أو المغنية الشعبية الفلانية يشبه صوتها صوت الشيخة “فاطنة بنت الحسين” إلى غير ذلك..فكلمة “مثل” أو “تشبه” أو “بحال”، هي كلمات إقبارية تعجيزية، يجب أن تحارب وتحذف، نريد أصواتا غنائية طربية جديدة، فإذا غنيتُ بصوت يشبه صوتا معروفا، فالناس ستحب في ذلك الشيخ والمطرب الذي قلدته، ولا تحب في صوتي كصوت أو أسلوبي كأسلوب موسيقي.. ولا بأس إن كانت البداية بالتقليد ثم بعد ذلك يبدأ الخلق والتجديد..وكما نرى في الساحة الفنية المغربية هناك أشخاص ظهروا وتميزوا بأصواتهم وأسلوبهم وطريقة أدائهم، وبرزوا ونجحوا، ونذكر منهم: الفنان الستاتي عبد العزيز، والداودي عبد الله، والصنهاجي سعيد، وحجيب، وزينة الداودية، وغيرهم …