شيخ العيطة الحسين السطاتي.
الفصل بداية الربيع، أسدل الليل ستاره، الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا، الطقس معتدل حيث يحلو السهر والسمر، خرج الضابط “حمودة” قائدا لدورية الشرطة في جولة استطلاعية روتينية، وبمكان مظلم وسط المدينة كانت الشيخة “ميلودة” رفقة خليلها “سعيد” عازف آلة الكمنجة “كومنجي” داخل سيارته من نوع “سيمكا 1000″، يرتشفان خمر الجعة ويتبادلان أطراف الحديث حول عملهما الفني بمجموعتهما الغنائية “رباعة الشيخات”، وجرهما النقاش إلى أمور شخصية، وهي تتوسل إليه كي يتزوجها بعدما ملت من الانتظار، ويضع حدا للشائعات التي تطالهما، إذ وعدها عشرات المرات وكان يخلف الوعد دونما إحساس بالذنب، مع ذلك فهي لا تريد أن تبتعد عنه، فهي تحبه حبا حقيقيا، لكنه يرفض أن تكون علاقتهما في الحلال بدعوى أن عائلته محافظة ولا تريده أن يتزوج بفنانة شعبية “شيخة”، الشيء الذي أثار غيظها وجعلها تشرب كثيرا ذلك المساء حتى الثمالة.
تقدم أفراد دورية الشرطة من السيارة، أنزلوا منها الفنان سعيد وخليلته ميلودة، وبعد مراقبة الشرطي الضابط “حمودة” لأوراق هويتهما وأوراق السيارة، أكدت له “ميلودة” أنها تعمل فنانة شعبية “شيخة”، ومرافقها يعمل رفقتها بالمجموعة عازف على آلة الكمنجة، وهما في جلسة مناقشة العمل الفني، يدور حديثهما حول الأغاني والتحضير للألبوم المقبل، لكن رائحة الخمر كانت تفوح منهما مما حدا بالضابط أن يأمر باعتقالهما وسوقهما إلى المخفر.
هناك بمخفر الشرطة وبعد استرجاعها لوعيها، نفت “الشيخة ميلودة” وجود أية علاقة جنسية مع رفيقها “الشيخ سعيد الكومنجي”، واعترفت بتعاطيها للسكر، وخلال الاستماع إليها سردت قصة حياتها على الضابط، حيث باحت له أنها غُرِر بها وهي قاصر من طرف أحد أبناء الجيران، لما كانت في سن المراهقة ولا تتعدى الخامسة عشر من عمرها، كان يدرس بالجامعة تعلقت به وأحبته، وقد وعدها بالزواج لكنه أخلف وعده وغادر أرض الوطن إلى فرنسا لمتابعة دراسته بعد ما قام بافتضاض بكارتها وتركها تندب حظها، وبسببه غادرت بيت أهلها بمنطقة “أولاد سعيد” بضواحي مدينة “سطات”، هجرت قريتها خوفا من بطش والدها المسمى “إدريس”، والذي يعد من كبار الفلاحين بالقبيلة، رحلت وحلت بمدينة الدار البيضاء “كزابلانكا”، وحكت للضابط كيف عملت خادمة في البيوت إلى أن استقرت بمنزل الشيخة “خديجة” التي كانت تعمل بالملهى “الكباري”، وتدرب أفراد مجموعتها ببيتها، وهناك تدربت على أغاني العيطة والرقص، وتعلقت بهذا الفن والسهر وشرب الخمر، وهي تعمل رفقة مرافقها “سعيد” بملهى النجوم بمنطقة “عين الذئاب” وسط مدينة الدار البيضاء.
نفس الشيء بالنسبة لصديقها “الشيخ سعيد الكومنجي”، اعترف بشربه للخمر، لكنه أنكر أية علاقة جنسية بينه وبين “الشيخة ميلودة”، وكان شاب في الثلاثين من العمر، أبيض البشرة، طويل القامة، عريض المنكبين..سجل تصريحه في المحضر، وافق عليه وأصر وأمضى على المسطرة..
قصة “الشيخة ميلودة” وجمالها الأخاذ جعل الضابط “حمودة” يرق لحالها، كانت في عز شبابها حسناء فاتنة، لا يتعدى عمرها عشرين سنة، بيضاء البشرة، ذات قوام رشيق، لها عينان عسليتان وبدقنها غمازة.. وبعد تقديمها رفقة خليلها أمام العدالة أفرج عنهما بكفالة مالية.
كان الضابط “حمودة” ضابط شرطة قضائية متميز ومحنك في عمله، في سن الخامسة والأربعين من العمر، أسمر البشرة، عريض الكتفين، متوسط القامة، يميل إلى القصر والبدانة، منتفخ الشدقين واللغد، له عينان زرقاوان رغم سمرة بشرته، ذو طابع ريفي لا تخطئه العين..وكان جادا في عمله، صارما في تعامله مع المجرمين، وهو ذو أصول بدوية، مطلق ولم يرزق بأبناء لأن زوجته كانت عاقر..وما كان يعيبه هو إدمانه على شرب الخمر، وعشقه للنساء.. كان يعبد الجمال، وردة فعله على جمال امرأة كان دائما على شكل إعجاب فوري وطبيعي، وقد شب مولعا بفن “العيطة”، لذلك توجه مساء يوم السبت إلى كباريه النجوم بمنطقة “عين الذئاب” للسهر، حيت تعمل “الشيخة ميلودة” ومجموعتها، استقبلته استقبال الأحباب، وفي تلك الليلة تبادلا المعرفة واستمتعا بجو اللهو وموسيقى العيطة..
ومرت الأيام والأسابيع، وأضحى الضابط “حمودة” يواظب على زيارة كباريه النجوم، وعرف أن “الشيخة ميلودة” حسناء فاخرة كان يحتكرها الوجهاء، فتوطدت العلاقة بينهما، وأرادها له وحده، فأصبحا عشيقين تزوره بين الفينة وأخرى بمنزله ويزورها بمقر عملها بالكباريه، وأضحى غيورا عليها، مما جعله يطلب منها أن تكف عن السهر والغناء بالكباريه لما تحمله صفة “شيخة” من نظرة دونية وقدحية داخل المجتمع، فورا خمنت “الشيخة ميلودة” في رمي شباكها، وطلبت منه أن يتزوجها إن أرادها أن تكون له وحده، لتفاجأ بقبول الطلب منه.
تزوجا في حفل صغير حضره الأصدقاء وبعض الزملاء في سلك الشرطة، كون جلهم استنكر زواج ضابط شرطة من شيخة، مرت شهور، حملت “ميلودة” وأنجبت طفلا اختارا له اسم “سعيد”، بل هي من فرضت هذا الاسم، فرح الضابط بمولوده الأول، وأقام له حفلا بهيجا بمثابة عرس وهو الذي لم يسبق له أن ذاق طعم الأبوة.
ومرت الأيام، والأسابيع والشهور، ظروف عمل الضابط “حمودة” جعلته يتغيب عن البيت لفترات طويلة، تصل أحيانا إلى الشهر، ومع مرور الوقت بدأت جمرة العشق تذبل و”ميلودة” هي التي صارت تتكلف بشؤون المنزل، وفي يوم ربيعي مشمس، بينما “ميلودة” تتسوق رفقة صغيرها ذو الثلاث سنوات بسوق الخضر، وكانت ترتدي جلبابا بنفسجيا مخاط بخيوط الحرير الأخضر، فصالة عاقدة للجسم “ايفازي”، وتنتعل نعلا جلديا أبيض اللون، عارية الرأس، مصبوغة الشعر، جعلته أشقر مقصوص قصة مربعة “كوب كاري”، وهي تتفحص بعينيها الجميلتين ثمار الفواكه والخضر، فوجئت بحبها القديم يقف إلى جانبها يسأل الخضار عن الثمن، دق قلبها بعنف انتبهت مشدوهة وهامسة:
– هذا “سعيد الكومنجي”، حبي القديم.
تهلل وجهها واحمر في سعادة شاملة، تلعثمت لا تدري ما تقول ولم تنبس ببنت شفة، حاولت أن تبدد هذا الارتباك ودون تفكير مدت له يدها لتصافحه، مد لها يده ونظر إلى الطفل وهو يمسك بتلابيب جلبابها، وابتعدا عن الخضار.
-أهلا ميلودة أراك تغيرت كثيرا .
تنفست بعمق، وقالت بعد تنهد:
– كل شيء في الدنيا تغير يا سعيد.
أخرج علبة سجائر من نوع “مارلبورو”، أخذ منها سيجارة أشعلها، ومد لها علبة السجائر، فرفضتها في أدب وهي تقول وابتسامة جميلة ترصع فمها الشهي:
– شكرا، لم أعد أدخن ولا أشرب الخمر، الحمد لله.
أخذ أنفاسا متلاحقة من سيجارته، ونفث الدخان عاليا، ونظر إليها في إعجاب وقال:
– هذا جميل ورائع، الله يعفو علي أنا أيضا وأكف عن تدخين السجائر وشرب الخمر وأعتزل فن الشيخات والغناء.
والتفت يمينا ويسارا ، وعاد ينظر إليها وقال:
– صِرتي أجمل وأروع مما كنت عليه!
استرخت جفونها كمن تحلم وحركت رأسها في طرب، ثم أشاحت بوجهها عنه خشية أن يفضح سرها، بينما لاح نظره إلى خاتم الزواج الذهبي بأصبع يدها، ومضى في حديثه:
– مهما حاولت أن تخفي، أعرفك جيدا يا ميلودة.
قاطعته بتوسل ذائب:
– ماذا تعرف؟ أرجوك يا “سعيد”، كف عن هذا الحديث، أنا الآن متزوجة وشرع الله بيني وبينك، والضمير يؤنبني بهذه الوقفة الخاطئة.
ازدرد رمقه، وعيناه مازالتا تسبران صدرها في شهوة، وقال وهو مشدوها بملاحتها الفائقة:
– أعتقد أنك مازلت تحبينني، أليس كذلك، ما أروعك يا “ميلودة” ؟!
وظلت صامتة، تنظر إليه، بينما استطرد قائلا:
– المهم أنا مازلت أحبك.
– ولكنك في رأيي لا تعرف الحب!
– حبي مات ودفنته منذ أن فضلتِ علي البوليسي الضابط “حمودة”.
– حركت فمها الشهي بحركة راقصة وقال:
– كم من مرة ترجيتك وتوسلت إليك أن تتزوجني ونكون أسرة، ورفضت بدعوى أن أمك لا تريدك أن تتزوج بشيخة.
واقترب منها أكثر ونظر إلى عينيها العسليتين وقال:
– أنت المرأة الوحيدة التي نبض لها قلبي وتعطشت لها جوارحي، ستظلين أنت أول وآخر حب في حياتي.
وتراجعت خطوة إلى الخلف وقالت وهي تتنهد، وسحابة حزن خيمت على ملامحها:
– أرجوك ابتعد عني، الماضي انتهى وأنا الآن امرأة متزوجة.
انحنى وريث على ظهر ولدها ورفع عينيه إليها وقال:
– طفل جميل يشبهك ؟
وأخرج قطعة نقدية من فئة درهم واحد ووضعها للطفل في يده.
لوحت برأسها وأزاحت بيدها خصلات نافرة كانت أمام عينيها، وقالت بصوت مأساوي:
– إنه ابني “سعيد”.
ودق قلبه فور سماعه اسم “سعيد”، هذا دليل على أنه مازال حاضرا بقلبها، ودخن من سيجارته وقال:
-آه ابن الضابط “حمودة”، عرفت ذلك، ظننت أنك صرتِ تكرهين اسم “سعيد”، لكني فوجئت باسم ابنك على اسمي.
حك ذقنه بأصابع يده اليسرى، ثم أردف في نبرة أسى بعد تنهد:
-أحسن لك أن تتزوجي ضابطا في سلك الشرطة، أحسن من فنان موسيقي شيخ للشيخات، وهذا شرف لك ولماضيك.
وبقيت “ميلودة” ساكتة تنظر إليه، بينما أخذ نفسا عميقا من سيجارته، واحتفظ بالدخان لفترة بالداخل ثم أخرجه بشكل دوائر، ثم واصل يسألها:
– هل حكيت له قصة حبنا ؟
نظرت إليه في عمق، ثم تحسست أساورها الذهبية التي تزين معصمها وقالت:
-لا، لا يعرف شيء، وهو رجل مديني منفتح ولا يسألني عن الماضي، أنت تعرف أنه خطبني من داخل الملهى، ويعرف أنني كنت شيخة، وتفرج علينا مرات عديدة.
ومسحت على عنقها كأنما تزيل عنه الألم الذي ألم بأوتار صوتها من جراء الكلام، وتابعت حديثها:
– أنا لا أسأله عن ماضيه وهو لا يسألني عن حياتي العاطفية قبل الزواج به.
وأزاحت من جديد خصلة شعرها كانت نافرة أمام عينيها وسألته مغيرة بذلك دفة الحديث:
– قل لي ماذا عن المجموعة الغنائية؟ وكيف حال الشيخة “خديجة البيضاوية” ؟
– إن الشيخات كلهن يسألن عنك، لكنهن يستنكرن هجرانك لهن ونكرانك للجميل، وخاصة الشيخة “خديجة البيضاوية” المعلمة “الطباعة”، التي تربيتِ في بيتها وعلمتك قواعد مهنة “تشياخيت” وفن العيطة.. أما الشيخة فاطمة الزهراء “ميطيشة” فهي الأخرى تزوجت وغادرتنا. ومازلت تعمل معي كل من الشيخة زهيرة “مسيكة” والشيخة حليمة “الفرفارة”..
ودخن من سيجارته أنفاسا متلاحقة، وقال في نبرة رجاء:
-أرجوك أن تأتي لزيارتنا بالملهى، إن الشيخات في لهفة لرؤيتك.
في الواقع هو من يدعوها لزيارته، ويخمن في تجديد غرامياته معها، وفطنت هي لما يرمي إليه، فقالت في خيلاء:
– بلغهن سلامي، وسوف أزورهن فيما قريب وقتما سنحت لي الفرصة.
ودعت “ميلودة” صديقها القديم “الشيخ سعيد”، مدت له يدها البضة الرطبة والمطرزة بالحناء، لكنه فاجأها بجرها إليه وعناقه لها، أحست بقشعريرة تسري في أوصالها.. اشترت “ميلودة” ما تحتاجه من خضر وفواكه، وعادت رفقة صغيرها إلى منزلها منشرحة وهي تسترجع شريط ذكرياتها مع حبيبها “سعيد”، حنت إلى أيام الكباريه وفن العيطة وإلى حريتها التامة، تمنت أن تعيش تلك اللحظات ولو لمرة.
ومرت الأيام، وها قد لعبت الصدفة دورها وكان لها ما تمنت، عاد زوجها الضابط “حمودة” من العمل وأخبرها أنه مسافر إلى مدينة أخرى لمدة أسبوع في مهمة شرطية، فهو يعتبر من أحسن ضباط البوليس الذين عرفتهم مدينة “الدار البيضاء”، وسرحت بمخيلتها ترى زوجها شبحا يجول صامتا في كل ركن من أركان البيت، وفي قلبها حاجة كبيرة إلى حبه واهتمامه، وفي غمرة انسياب هواجسها يرن الهاتف ..حمل الضابط الهاتف وتكلم إلى رئيسه، هناك مهمة مستعجلة وضرورية.
وضع الضابط “حمودة” السماعة، وهز رأسه وعلامة الغضب بادية على محياه مخاطبا زوجته:
– أف من هذه المهنة التي تبعدني عنك وعن ابني أرجو احتمالي يا ميلودة، أنا رهن مشاغلي الكثيرة.
جمعت له “ميلودة” حقيبته كالعادة، ودعها وأوصاها بابنه “سعيد”. قضت ليلتها تقلب على أحر من الجمر على الفراش الوتير..تفكر في لقاء الخليل، مازالت كلمات “سعيد” تتردد في رأسها كالطيف الجميل فرغم مرور السنين بكل أحداثها لم تمحي مشاعر حبها له من وجدانها.
وفي يوم الغد الساعة الرابعة عشية، تزينت “ميلودة”، أخذت كامل زينتها، ولكي لا تثير شكوك الجيران اصطحبت معها ابنها واستقلت سيارة أجرة إلى الملهى “الكباري” بمنطقة “عين الذئاب”، دخلت باسمة تجر بيدها اليسرى ابنها “سعيد”، كانت تبدو وردة فاتنة حمراء، وكانت ترتدي جلبابا أحمر أرجواني فصل على جسمها الرشيق ليبرز محاسنه، وكانت تنتعل “شربيلا” أحمر مطرز بخيوط الحرير الذهبية “الزقلي”، محسورة الرأس، شعرها الأصفر الذهبي كسنابل قمح لم تتمر بعد، كانت فاتنة من فاتنات الأعشاب الندية والزهور البرية.. الفضاء يكتنفه الضجيج والغوغاء، الملهى يطن كخلية نحل تستيقظ، مضبب بدخان السجائر، يعج بالرواد.. قفاطين “الشيخات” الأربعة الحمراء اللون تمسح الأرض، لقد اخترن اللون الأحمر كأنهن محاربات شيوعيات يعلن الثورة والحرب على الرجال وعلى المجتمع الذي ينبذهن.. وجوههن مبتسمة، يُقرأ في عيونهن حزن عميق..جلست “ميلودة” بطاولة بالركن الشمالي للملهى، وكانت حينها المجموعة الغنائية “رباعة الشيخات” في تلك اللحظة تؤدي وصلة غنائية من عيطة “الحساب الزعري”، وكان “الشيخ سعيد الكمنجي” في أبهى حلته، لما رآها تهللت أساريره من الفرح، كان يرتدي جلبابا بلون أزرق سماوي وتحته قميص أبيض، وسروال فضفاض “قندريسي” أبيض اللون، وينتعل بلغة جلدية زرقاء، ويعتمر فوق رأسه طربوشا أحمر كأنه جمرة مشتعلة، وفور رؤية “الشيخة خديجة” لها بادرتها بتحية من العيطة الزعرية:
– الخيرات موجودة عند ميلودة
– سالف العودة عند ميلودة
– ميلودة الحنينة طلت علينا
– ميلودة لغزال…مهبلة الرجال…
لوحت لها “ميلودة” بتحية عبر الهواء بقبلة رمتها لها عبر أطراف أصابع يدها اليمنى، ليختم بذلك “الشيخ سعيد” الوصلة الزعرية بصوته الغليظ الرخيم:
– ياك يا لالة ما تعايرنا…ياك يا لالة ما تخاصمنا…حبي اللي نبغيه…ما نسامح فيه
وتوقفت الموسيقى، ومباشرة دخل الشيخ سعيد الكومنجي، قائد الفرقة في “عيطة الشاليني”، هو يعرف أنها عيطة العشاق، عيطة الحب، عيطة ايروسية وهي المحببة لحبيبته “ميلودة”، واستهلها بالمطلع:
الشاليني يا بابا…ديرني حداك…دبا تحتاجني يا حبيبي
يالالة يالالة حبك جرحني يا لالة….والشاليني
وتتناوب معه الشيخة خديجة البيضاوية “العياطة” في الغناء وهي تصدح بصوت حاد قوي:
على دوك العينين يا شيخي…المخبلين…حمقو شي بعضين يا سيدي
يا وليدي يا وليدي بضاض يعذب يا سيدي…وعلى الشاليني
وكان الجمهور يتفاعل مع هذه العيطة العاطفية، والأيدي تتلامس والأعين تتقابل، إلى أن انتهت هذه الوصلة العيطية، وقام أفراد المجموعة الموسيقية أشياخ وشيخات يصافحون “الشيخة ميلودة” ويقبلون ويطبطبون على كتف ابنها “سعيد” الصغير الوسيم.. وجلس إلى جانبها “الشيخ سعيد”، بينما غادرهم الآخرون،..كانت “ميلودة” تبدو كالزهرة الندية التي تتفتق حيوية ونضارة..كانت مشرقة الوجه لحرارة الترحيب.. وكانت هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليه وعقله وجميع حواسه ومشاعره، في كل حركة من حركاتها، وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها غنج ودلال، كالوردة الحمراء النظرة الناعمة التي تكمن حية الشهوة السامة بين أوراقها، إنها شيخة فاتنة، ذكية وقوية..وفي خضم الجو اللاهي اللاهب نسيت أنها متزوجة، ونظر “الشيخ سعيد” إلى عينيها النجلاوين وقال:
– أشكرك يا “ميلودة” على تلبية الدعوة، أتشربين البيرا أو الويسكي؟.
– لا أرجوك، لا تنسى أنني متزوجة، وقد سبق لي وأن أخبرتك بأنني لم أعد أدخن ولا اشرب الخمر.
ولوحت للشيخة “خديجة البيضاوية” بتحية من يدها، وعادت تنظر إليه واستطردت تسأله:
– أليس أضمن لك أن تبحث لك عن إمرأة موظفة تتزوجها، وتبحث لك عن عمل وتترك مهنة شيخ الشيخات.
– لا يا ميلودة، أنت تطلبين مني المستحيل، لن أتزوج امرأة غيرك، ولن أترك فن العيطة وحياة الشيخات.
– ولماذا أنت مصر أن تظل كل حياتك على هذه الحياة، شيخ للعيطة بين الأعراس والملاهي الليلية؟
– لأنني أجد فيها راحتي ومتعتي، وأعيش فيها عيشة الملوك.
ولاح يده اليمنى الغليظة فوق راحة يدها اليسرى البضة المنقوشة بالحناء فخطفتها بسرعة، وهز عينيه إليها وقال:
– أتوسل أليك شاركيني الشرب هذه اللحظات فقط، لماذا كلما كلمتك تذكرين لي أنك متزوجة، إني مستعد لأفعل المستحيل لتعودي إلي يا حبيبتي. أنت زهرة عمري التي لن تذبل مهما فرقنا الزمن، وباعدت بيننا الأيام.
وصفق بيديه للنادلة في إشارة إلى قنينة ويسكي ممتاز ثم حط يده على يدها من جديد، سحبتها بخفة ارتعدت فرائصها، تدفق الدم إلى شرايينها لا تدري أهي ينابيع سعادة أم لحظات خوف تجهل نهايته، تحشرجت الكلمات في لسانها وهي ترد عليه بصوت خافت وكأنه الهمس:
– صراحة يا سعيد، إني نادمة على زواجي من الضابط “حمودة”، ولولا هذا الابن لطلبت منه الطلاق وعدت إلى الملهى، فعلا كما قلتِ الأشياخ والشيخات يعشن حياة يحسدهم عليها الملوك.
وأجالت ببصرها تتفحص المكان واستطردت تقول:
– الله، ما أروع هذا المكان، ما أحلى فن العيطة والشيخات، وحب الجمهور وحياة الحرية.
قاطعت حديثهما النادلة ذات القوام الرشيق، وفتحت قنينة الويسكي وصبت لهما كأسين، ووضعت أمام الصغير كأس عصير البرتقال.
أجالت “ميلودة” بعينيها الواسعتين تتفحص ما حولها، الدخان يضبب المكان، كانت الملهى في حلة جديدة أحسن مما كانت عليه، زبائن من طبقات مختلفة، ومن مختلف الأعمار والأجناس والديانات “مغاربة، أوربيون، خليجيون، وأفارقة من جنوب الصحراء….”، وبواجهة الباب هرج ومرج، زمر من الفتيان والفتيات في غدو ورواح، يتصايحون يتضاحكون، وهم رافلون في ثياب زاهية، مختلفة أشكالها وألوانها.. استرجعت “ميلودة” ماضيها الدفين، استيقظت بداخلها شخصية “الشيخة ميلودة”، تلك الشخصية التي تحن إليها وتعشقها أكثر من شخصية زوجة ضابط الشرطة المحترمة المحرومة، وقذفت بالكأس في جوفها. و صب لها “الشيخ سعيد” كأسا ثانية من جديد، شردت ببصرها، تتأوه وتهمس في داخلها تفكر في “الشيخ سعيد الكومنجي” الذي تسلل إلى كل ذرة في عروقها، وتسرب إلى دمها وكيانها، فلم تعد قادرة على الخلاص منه، تابعا حديثهما وسكرهما حتى أخر جرعة من القنينة.
شعرت “ميلودة” بدوار في رأسها، طلبت منه أن تخرج لتشم الهواء، جرت صغيرها “سعيد” بعدما انتهى من شرب عصير التفاح..أخدها الخليل إلى سيارته المركونة بالقرب من الكباريه بعدما أخبر الشيخة “خديجة البيضاوية” رئيسة المجموعة أنه ذاهب ليوصل “ميلودة” إلى مسكنها، وحمل معه عشر قنينات من خمر الجعة “البيرة”، وعلبة سجائر من نوع “مارلبورو”، امتطت السيارة إلى جانب “الشيخ سعيد”، وركب ابنها بالمقعد الخلفي حيث استسلم للنوم، كان “الشيخ سعيد” متعطشا لهذا اللقاء حاول العناق لكنها نبهته بأن الابن بالخلف مخافة أن يحكي بعفو طفولي لوالده ما يراه فور عودته، ثم طلبت منه أن يبتعد عن المدينة، وعن أعين دوريات الشرطة.
خارج الملهي كان الجو صحوا مشمسا دافئا، توجه الفنان “الشيخ سعيد” بالسيارة صوب الغابة بعيدا عن المدينة، عبر طريق المحيط، البحر يمتد مباشرة، أشعل سيجارة من نوع “مارلبورو”، ومد لها علبه السجائر فأخذت واحدة منها وأشعلتها من سيجارته، وكانت رائحة عطرها تطغى على رائحة دخان السجائر، اليم يترامى في زرقة صافية حتى الأفق، ونسائم الربيع تلاعب خصلات شعرها الذهبي، وفي السماء قطعان مبعثرة من السحائب، كانت السيارة تسير بانسيابية على الطريق الواسع، تتهادى كسفينة فوق مياه بحر هادئ، ونظرت “ميلودة” إلى “الشيخ سعيد”، وقالت:
– أشعر هذا اليوم أنني مختنقة، أحس بأنني لست على ما يرام، أريد أن أخرج إلى الطبيعة.
– الجو ربيعي وجميل شاعري، سأخذك إلى مكان رائع تحبينه.
– شكرا يا سعيد..إنني أسكن بمنطقة عين الشق، أرجوك أريد أن أعود إلى البيت قبل حلول الظلام. فزوجي مسافر في مهمة بوليسية خارج مدينة الدار البيضاء.
دق قلبه نشوة وطربا، وقال في انشراح:
– حاضر سيدتي، وسمعا وطاعة، لك ما تريدين.
– ونظر إليها بطرف عينه وهو يسوق السيارة وقال يسألها:
– أريدك أن تكوني صادقة معي، كيف حالك مع زوجك الضابط “حمودة”، هل تحبان بعضكما.
ولوت شفتيها في امتعاض وردت عليه:
– أعتقد أن زوجي حبك الأول هو عمله كشرطي، هو يعشق عمل ضابط الأبحاث فحتى في تلك السويعات التي يقضيها معي بالبيت يظل يسرد علي فيها أحداث القضايا التي يبحث فيها.
– مسكين “سي سعيد” لا ألومه، وفي نفس الوقت فهو سعيد الحظ لأنه لم يعرف الحب الذي يتغنى به أشياخ وشيخات العيطة، لم يذق طعم “بضاض” ولم يتمعن في كلمات “عيطة الشاليني”.
وضحكا معا، وراحا يدخنان، ويستمتعان بجو الطبيعة الربيعي خارج مدينة الدار البيضاء في اتجاه منطقة “بوسكورة”، كانت الطبيعة في أبهى حلتها، وكان جلبابها الأحمر البراق يخطف الأنظار، وكانت حليها من أقراط وقلادة تشكل لوحة فنية بديعة التفاصيل..استوحت من الطبيعة زهورها وورودها، تمزج بين الذهب والفضة، ومرصعة بالأحجار الكريمة بألوانها الناذرة، وغيرها من تفاصيل جمال تضيء الأنوثة وتبتكر الفتنة وتحيط المرأة بهالة من اليسر والبرجوازية..وكان يردد في قرارة نفسه أنها فرصته الأخيرة ويمني النفس بأن يمتطيها في تلك الأمسية، كان يعرف أنها صارت تفاحة طازجة آيلة للسقوط قد حان قطوفها، ولما لا وقد أفشت له أن زوجها مسافر في مهمة بوليسية خارج “كزابلانكا”.
وبمنطقة “بوسكورة” وبمكان مشجر معشوشب داخل الغابة، أوقف السيارة، أنزلت “ميلودة” طفلها وطلبت منه أن يبتعد عن السيارة ويلعب وسط الأشجار بعدما سلمته كرة بلاستيكية كانت بصندوق السيارة ليخلو لها المكان، عادت وركبت بالمقعد الخلفي للسيارة كانت متعطشة ومتلهفة لهذه اللحظة ولخليلها الفنان الشعبي الذي يحسن فن العشق ويعرف كيفية التجول بين تضاريس جسدها الممشوق، يعرف كيف يعزف على أوتار قلبها كما يتقن العزف على أوتار آلة الكمان.
واعتدل “الشيخ سعيد” في جلسته معها في المقعد الخلفي للسيارة، وخلل أصابع يده اليمنى وسط شعرها، ودفن فمه في عنقها، وأحرقتها أنفاسه اللاهبة، وتمنت أن تذيب كل درة فيها، وأرادت أن تدفعه عنها.. أرادت أن تكون قوية أمام سحره ولمساته وكلامه المعسول، ولكنها كانت عاجزة، ولم تستطع ذلك أمام هذا الشعور الغريب الذي يجتاح كيانها..أمام هذا الجو السحري الذي تعيشه..وتشبتت به حينما كان يقبلها.. لقد شعرت وكأنها تشحن عاطفيا، ذلك الفراغ العاطفي الذي تسبب لها فيه زوجها الضابط “حمودة”، ها هو “شيخ العيطة” يملأه ويشحن بطاريتها العاطفية، فهي تشعر الآن وهي بين يديه بسعادة لا توصف، سعادة نسجت حولهما أحاسيس لم تعرفها منذ مدة، لقد وجدت الحل لمشكلتها وها قد حلت عقدتها، إنه الشيخ “سعيد الكومنجي” الساحر الجذاب..ستتشبت به بكل ذرة فيها..وغرست أصابع يديها في ظهره، وفمها في فمه وغابت عن الدنيا أكثر مما هي غائبة..غابت عن الوجود وهي تشعر أنها أمام رجل حقيقي..رجل متكامل..رجل يعرف ماذا يريد..رجل يعامل المرأة كما يجب أن تعامل..وأبعدت فمها عن فمه، وظلت مركزة عينيها في حدقتيه الفيروزيتين، وأخذت أنفاسا من الهواء النقي وكأنها تستعد لجولة أخرى من القبل، وقرب فمه من فمها مرة أخرى فاستسلمت له صاغرة..والتقت الشفاه في قبلة محمومة عنيفة هذه المرة..قبلة نارية..أشعلت في قلبيهما لهيبا لا ينطفئ..أحست من حرارته أنها تعيش في حلم بوهيمي ساحر، وقد تساقطت كل نوازع الخوف والقلق تحت قدميها..وعاد يقبلها ويضمها إلى صدره بشغف، ويلتهم منها قبلات ملتهبة كأنه يختزن منها ما يعود إليه عند الفراق..وفي لحظة نشوة أبعدته عنها ومسحت فمها، ونظرت إلى عينيه الفيروزيتين وقالت سائلة:
– سعيد..أتمنى أن تجيبني صادقا على سؤالي، ماذا تفعل لو كنت أنا حرة؟ أعني مطلقة طلقة..ماذا تفعل تكلم؟
وأرسل سهام عينيه إلى عينيها العسليتين، وتنفس وتنهد ثم رد عليها متصنعا اللهفة في نبراته:
– ماذا أفعل؟ وهل هذا سؤال يطرح يا ميلودة ؟ أكيد سأتزوجك اليوم قبل غد. وسنقضي شهر عسل بمدينة مراكش، مدينة الحب والفن والثقافة والأنوار..
وتنهدت وزفرت زفرة ارتياح وقالت:
– أكيد سنعود لبعضنا، سأعود إليك وإلى فن العيطة وعالم الشيخات.
ورغبة في حب الاستطلاع الطفولي توغل الطفل “سعيد” داخل الغابة يدحرج الكرة البلاستيكية، لكن قدره العاثر قاده إلى ثلاثة ذئاب شرسة جائعة، هاجموه، حاول الهرب لكن صغر سنه لم يسعفه، سقط فريسة بين أنيابها، قتلوه ونهشوا من لهمه الطري، وبالصدفة كان أربعة من الرجال الحطابة يتوغلون داخل الغابة، فلاح لهم مظهر الذئاب وهي تفترس خيل إليهم في بادىء الأمر أنها تفترس طائرا أو وحيش، فأسرعوا جريا يتصايحون صوبها ففرت الذئاب تاركة فريستها مدرجة في الدماء، كانت الصدمة قوية للحطابين الذين تفاجئوا بجثة طفل مفترس ولم يتبق إلا بعضا منه وثيابه ممزقة، في الحال أرسلوا أحدهم ليخبر رجال الدرك الملكي، وبقي الثلاثة قرب الجثة.
انتهت ميلودة من ممارسة الجنس مع خليلها داخل السيارة أشبعت عطشها الجنسي لعشيقها، وبعد ذلك فكرت في طفلها وتذكرت أنها تركته يلعب خلف السيارة بين أشجار الغابة، التفتت من داخل السيارة يمينا وشمالا فلم تجده، راودتها وساوس، دق قلبها في فزع وولولت.. نزلت ومعها خليلها تنادي “سعيد..سعيد”.. وتبحث وسط الأشجار، وقد بدا لها الرجال الثلاثة متحلقين حول بقايا الجثة، تقدمت منهم مندهشة مرعوبة.. راعها ما رأت، فلذة كبدها “سعيد” مفترس، لقد قتلته الذئاب، صرخت بأعلى صوتها ، بكت ندبت.. انهارت وسقطت مغمى عليها، حاول الخليل “الشيخ سعيد” مغادرة المكان لكن الحطابة الثلاثة كانوا أقوياء أمسكوا به إلى أن قدمت دورية الدرك الملكي التي اعتقلت الخليلين وبحثت في القضية.
أخبر الشرطي الضابط حمودة من طرف مركز الدرك الملكي ببوسكورة، بالخيانة المفجعة، بالصاعقة الماحقة، وبموت فلذة كبده، وبعد البحث التمهيدي المعمق، وجلسات الاستنطاق والتحقيق، حوكمت “ميلودة”، وقلبها مفجوع يتحسر على فقدان طفلها في موت مروع، وفقدانها لزوج ضابط شرطة رجل سلطة، كما حكم خليلها بمشاركته في الخيانة الزوجية.
شاع الخبر بالمدينة كالنار في الهشيم بما في ذلك رواد كباريه نجوم الليل، وتعدت شهرتها الحدود، وتغنى بها أشياخ وشيخات العيطة، فرثتها الشيخات وقد خلدنها في مرثية لها لتكون عبرة لكل امرأة خائنة، ولكل من سولت لها نفسها نكران الجميل والخيانة والغدر، مرثية الشيخة ميلودة والذئاب، ومن ثم بقيت قصتها قصيدة شعبية، وهي القصيدة القصة، متداولة وأصبحت درسا تراثيا، إذ يقول مطلعها :
ميلــودة يا بنتــــي أش هذ لفضيحة درتــي
ما حشمتي ما رحيتـــي خنتي العشرة وغدرتــي
ملي بلاك اللــــــه خلي الدري لبـــــاه
الديب فرسو وكـــلاه الغدار فعلو يلقـــــاه
ميلودة بنت ادريــــس تبعت طريق ابليــــس
رجلها في السربيــــس هي داوها لا بوليـــس
يا ميلودة الكذابــــة في الغابة دايرة سرابـــة
ثلاثة من الحطابــــــة لقاو ولدها في الغابــة
ميلودة مع لحبيـــــب وليدها ياكل فيه الديـــب
ملي ركبت في الدجيــب في الكلام تدي و تجيــب
جابو ليها التمـــــام تقاضى ليها لكــــلام
حيدو ليها لثــــــام باش ينطقو لحكـــــام
القصة مستلهمة من خيال الكاتب من المجموعة القصصية بعنوان “العيطة والغيطة”.