شيخ العيطة الحسين السطاتي
الإنسان كائن حي عاقل، خلقه الله عز وجل وميزه عن باقي المخلوقات بالعقل، لكن هذا المخلوق البشري اجتهد وأبدع في صنع ما يُذهبُ هذا العقل ولو لفترة زمنية محددة، مقابل لذة وقتية وسعادة خادعة زائلة، ومن بين ما اخترع نجد شراب الخمر، وجميع الحضارات وشعوب الأرض عرفت الخمور، وذاقت من هذا السائل العجيب المتعدد الأنواع والألوان والصفات، فصنعوه من تمرات فواكه مختلفة؛ من التمر والعنب، والتين، والشعير والذرة..فكانت ولازالت الخمر عند البعض رمزا للكرم والجاه وعلو الشأن وقوة الشخصية، وهم يرونها تعبيرا عن المفاخرة، واثبات الجاه، ومادة محفزة ومنشطة، ومصدر طاقة وحيوية لشاربها، مشجعة له وملهمة لفكره.. واستوى في شربها الغني والفقير، والأمي الجاهل والعالم المثقف، والمتشرد المتسول، والملوك ذوي الأكاليل والتيجان والسلاطين أصحاب الصولة والصولجان، فقط اختلفوا في جودتها وأماكن شربها، إذ صاروا عبيدا للذتها وسحرها ومفعولها، فغدت بذلك سلطانتهم وحاكمتهم، وقد شربها الإنسان العادي والفنان، لكن الفنان شربها فأسكرته وألهمته وخلدها في أعماله الفنية، في الشعر والغناء والنثر، وفي اللوحة والصورة.. وقد ارتبطت الخمر ارتباطا وثيق الصلة بالشعر والغناء، فنظمها الشعراء وتغنى بها المغنون، وتخطت كونها سائلا كحوليا يُشرب فيجلب المتعة الحسية والروحية لشاربه، إلى مادة أدبية شعرية. وجاء الإسلام وظهر التحريم وفق النص، وتعددت عقوبات شاربها، وظهرت قيود على الخمور في بلاد المسلمين، وتفاوتت شدة هذه القيود من بلاد إسلامي لآخر، ورغم ذلك شربها ومازال يشربها كثير من المسلمين.
والمغرب بلد إسلامي حيث نجد شرب الخمر محرما شرعا، ومجرما قانونيا، وصنعه وحيازته وبيعه دون رخصة ولا إذن يشكل جريمة، وحتى بيع الخمر للمغاربة المسلمين يعد جنحة يعاقب عليها القانون، ولكن الترسانة القانونية شيء والواقع شيء آخر، إذ نجد متاجر كبرى وحانات وملاهي.. متفرقة عبر تراب المملكة تبيع الخمور، وتتدفق منها أنهار الخمر خلسة وعلانية، وشاحنات وسيارات وعربات تقوم بنقلها، إضافة لما يباع بطرق ملتوية عن طريق التهريب أو إنتاجا منزليا ذو صناعة محلية .. إذ تعتبر الخمور والنبيذ موردا مهما لخزينة الدولة.. والضرائب المفروضة على قطاع الخمور تدر على الدولة أموالا طائلة، وكثيرون من المغاربة يستهلكون الخمور، ويحصلون عليها بأية طريقة كانت رغم المنع والزجر، حيث نجد توريد المشروبات الحكولية من كلا الجنسين رجالا ونساء، ومن مختلف الأعمار بالليل كما في النهار. فألهمت الخمر الفنانين المغاربة وأسكرت بعضهم ودونوها في أعمالهم الفنية. ومناقشة موضوع الخمر كان ومازال من المواضيع “الطابو” المسكوت عنها، بل هو كذلك في تمثلات البعض فقط.
والخمر في اللغة العربية هي ما أسكر من عصير العنب، ولأن العنب منه، كانت العرب تسميه خمرا، وسميت الخمر خمرا لأنها تُركت فاختمرت، وسميت كذلك لمخامرتها العقل، ولشاربها ثلاث مراحل، نشوان ثم ثمل ثم سكران.. أما النبيذ فيعرفه ابن منظور بالشيء المنبوذ، يقصد به ما يُنبذ من عصير ونحوه، أي ما ينبذه المرء من تمر وزبيب أو شعير أو غيره في وعاء، فيتركه حتى يفور ويصبح مسكرا.
ومنذ القِدم تناول الفنانون المغاربة منهم الأدباء والرسامون والشعراء والمغنون الخمر في أعمالهم الفنية، ومن بين الفنون الغنائية نجد فن العيطة، هذا الفن الشعبي الذي يؤدى من طرف رجال ونساء، “أشياخ وشيخات”، يشتركون في النظم والعزف والرقص والغناء على حد سواء، في مساواة بين الرجل والمرأة. إذ يشكل صرخة الإنسان القروي، وهو نداء القبيلة والاستنجاد بالسلف، لتحريك واستنهاض الهمم، واستحضار ملكة الشعر والغناء.. فهو نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذابه..أشعار تحمل قيما إنسانية قوية، مازالت تصدح بها حناجر المغنيين من أشياخ وشيخات إلى يومنا هذا، وقد تطرق هذا الغناء لمواضيع مختلفة؛ سياسية واجتماعية وعاطفية..، حيث تغنى هؤلاء المغنون بالحروب وبالمقاومة ورجالاتها ونسائها، وبالوطنيين، وبالحركات السلطانية، كما تغنوا بالجمال بكل صفاته؛ جمال الطبيعة وجمال المرأة..والخيل والابل والليل والقمر، وتغنوا كذلك بالخمر.. وقد تأثر الشعراء العيطيون بسحر هذه المادة المنشطة والمسكرة، فأوسعوا في هذا المغنى وأطنبوا فيه، فمنهم من مدحوها وافتخروا بشرائها وشربها وإسرافهم في هذا الأمر، احتسوها كثيرا ووصفوها قليلا، ومنهم من وصفوها وأجادوا فيها دون أن يكون وصفهم عميقا، وإنما كانوا يقنعون بالظواهر، فيصفون لون الخمر ونوعها ومظهرها، ويصفون أقداحها وأباريقها وقنيناتها، ويذكرون مكان شرابها، كما يصفون طعمها وتأثيرها على العقل..فتغزلوا فيها، وخلدوها في أزجالهم وغنائهم في قصائد زجلية عيطية عمرت لسنين طويلة، بأشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، ضاربة في العمق الريفي البدوي، حيث نجد ذكر الخمر في المتن العيطي بمصطلحات خاصة، بأسماء ومعاني كثيرة، محلية ووطنية وأجنبية، إما بحسب لونها أو صفاتها أو تأثيرها، فمنها : “الكاس، والشراب، والسكرة، والخبطة، والكبة، والطاسة، والدوخة، والنغمة، والمرنيكَة، ولميهة..” ، وكما يتنوع مذاقها وألونها وقنيناتها وقاروراتها ومدلجاتها، تتنوع أحجامها وأشكالها ومشاكلها، لكنها كلها تتوحد بمختلف أنواعها في تبذير المال، وفي تلك النشوة الزائفة والسعادة الخادعة، ومن بين أسمائها الرائجة بالمغرب نجد؛ (الروج، الشود صولاي، الويسكي، البيرة، التولال، المُغرابي، بولبادر، بوضلعة، الفوتكا، السبيسيال، السطورك، الطروا كار، أمستريل، الدجين، الكونياك، لمكناسي، الفلاك، الهنيكل، البيزيكَا، الماحية، البونجة…)، فكانت ومازالت هذه المشروبات الكحولية حاضرة بأماكن الغناء العيطي كمادة منشطة للشراب والسكر “النشاط”، أو كمادة أدبية شعرية داخل النص، فيا ترى ما موقع الخمر داخل فن العيطة؟ وما هي السياقات الفنية التي جاء فيها ذكر مصطلح الخمر في هذا الغناء ؟ وألا يمكن لهذا الغناء التراثي الأصيل اللامادي أن يستمر دون ولوجه عالم الخمر والمجون؟ وما تأثير الخمر على الفنان العيطي بصفة خاصة، وعلى هذا الفن الغنائي الشعبي بصفة عامة ؟
و”العيطة” فنيا هي فن شعبي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية. وهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية.
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وفن العيطة هو فن شفوي وصلنا عبر التواتر والتناقل الشفهي من جيل لجيل، حيث لم يكن هناك توثيق للمتون العيطية، ليظل الشاعر العيطي مجهول الاسم، واستنادا إلى ما توفر لدينا من ربائد عيطية “أرشيف” غنائي قديم، ( أسطوانات اللفة، أشرطة الكاسيت، أشرطة الفيديو..)، وما سمعته شخصيا بالمباشر من أفواه الأشياخ والشيخات والرواة..، حيث أعزف موسيقاه وأغنيه في الحفلات والأعراس والسهرات.. بصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة مغني وعازف كمنجة، وجدت أن الأبيات التي يتحدث فيها الزجالون العيطيون عن الخمر كثيرة مقارنة بالمواضيع الأخرى، كوصف الطبيعة والمرأة والخيل والليل وغيرها.. فهي أبيات متفرقة ومدسوسة داخل القصيدة الواحدة، وقد نجد بعض الأبيات تتكرر من عيطة لأخرى، إلا أن الأثر الشعري والفني لتلك الأبيات التي ذُكِر فيها الخمر يبقى فيها ناظم الكلام “الشيخ العيطي”، مسيطرا على نوعية التصوير الفني والإبداعي للخمور وللمسكرات في القصيدة. فتارة يتغزل فيها فيمدحها بكونها تسعده وفيها ينسى همومه ومشاكله، وتارة أخرى يهجوها وينزل سخطه عليها بكونها سبب أزمته الصحية والمادية..وقد يفتتن المبدع العيطي بأثر المشروب الخمري، سواء تناوله أو سمع عنه حد تمثل مفعوله..فكل ما يعني السكينة والصفاء والسلام الروحي ممكن أن يتحقق له بهذا المشروب، في حدود الحصول على نشوة السعادة..على الرغم بأنه إحساس مؤقت لكنه مرغوب فيه من طرف بعض المبدعين، وذلك تشبيها لحالة الانتشاء بالنسبة للبعض واحتساء بالنسبة للبعض الآخر، وقد نجد بينهم من ذكر الخمرة في أشعاره العيطية مع أنه لم يشربها أصلا..ومنهم من عاقرها وأدمنها فأبدع وأمتع..ومنهم من احتساها ولم يحسب حسابها فضاع ببساطة لأنه لم يرسم خط الأمان…ونجد فن العيطة حاضرا بقوة في العديد من المناسبات الوطنية والدينية..حيث نجد الشيخات والأشياخ ينشطون مختلف المناسبات؛ “سهرات عمومية،حفلات زفاف، عقيقة، حفلات نجاج، وأحيانا حتى عودة الحجاج من أداء مناسك الحج..”، فنجد بعض الأشياخ والشيخات لا ينتبهون أو لا يهتمون ولا يكترتون لما يقولون في غناءهم، حيث لا يميزون بين الأماكن العامة والخاصة، وقد نجدهم مثلا، خلال إحيائهم لسهرة عمومية تذاع عبر شاشة التلفزة العمومية لا يستثنون من غنائهم الأبيات التي تتغنى بالخمر أو التي تكون فيها الصور الشعرية الخمرية واضحة رغم أن الأغنية العيطية هي بالأساس أغنية ايروتيكية وليست أغنية خمرية أو بورنوغرافية..
إن البعض لديهم شرب الخمر يتجاوز كونه متعة ذاتية، ليكون متعة أشد احتفالية بوجود الآخرين خلال المسامرة والمنادمة، أو بمعية الندماء، وهي عندهم كرمز للكرم والسخاء وإنفاق المال بلا حسيب ولا رقيب، حيث يلمع الشخص صورته أمام أقرانه، فيظهر كريما جوادا، لا يقيم للمال وزنا، وإنما يعيش حياته بالطول والعرض، ونجد في غناء العيطة معان متعددة تدور حول الخمر، وكل زجال عيطي يرى الخمرة من منظوره الشخصي واستنادا إلى مرجعيته الفكرية، وخلفيته الاجتماعية، وطبيعته العاطفية. وبالنسبة للبعض يجدون فيها ملاذا آمنا للتعبير عما يخالج الصدر من أحاسيس ومكنونات الروح، وينسون همومهم فيها، فهم يعتبرونها أنيسة وحدتهم ورفيقتهم في العذاب، ومخففة آلامهم، وملهمتهم في مادتهم الأدبية الغنية بالصور الشعرية في قصائدهم العيطية، إذ يعتبرونها غداء لالهامهم ومساعدتهم على عدم الاكثرات للآخر.. وقد تناولوها بلهجة دارجية عيطية.
ويشغل الخمر حيزا مهما من هذا الفن، حيث نجده مذكورا في القصيدة العيطية سواء بإشارات رمزية أو بالمباشر، وكمادة منشطة ومسكرة حاضرة لحظة الاحتفال الفني، فمفعوله بالنسبة للبعض يلازم الخيال والإبداع والشاعرية والألوان كصورة عميقة ثرية ومتنوعة لا تخلو من التميز، فهو بالنسبة لهم رمزا لقوة الشخصية، وشربه دليلا على اليسر والغنى وعلو المكانة، حيث بمعاقرته يحلو البوح والدردشة والفضفضة، إذ يعتبر أنيس السهارى ومعزي المهمومين والمكويين بنار الحب، لذلك يحتاج التعبير عنه في الفن عموما إلى سلاسة الفكر وقوة الترميز، وهو مصدر إلهام لبعض الشعراء، في نظرهم مصدر للسعادة ومعينا لهم، يرتاح به العقل ويسبح فيه الخيال.
وفن العيطة هو فن بدوي بامتياز، والبدو الريفيون ذو نفوس حساسة وأذواق لطيفة، يعشقون مظاهر الجمال؛ بما في ذلك جمال الطبيعة والمرأة، والخيل والليل.. فإذا ما رأى أحدهم الجمال أخذ بشغاف قلبه، وملك عليه مشاعره، وإذا فارق من أحب جاشت مراجل الحب في نفسه، وخرج من فمه ما يختلج بداخل نفسه من آلام البعد، وتباريح الشوق ومنهم من يلجأ إلى الخمر عله يجد فيها ما ينسيه محبوبه.. والحب من أجمل المشاعر التي نشعر بها وتملأ حياتنا بهجة وسرورا، وتجعلنا نسهر الليالي نتغنى وننشد الكلمات التي تعبر عن ما بداخلنا، كما يجعلنا نقاسي ونعاني ألم الهجر والفراق.. وفي هدوء الليل يحلو السمر والدفء والعشق واللوم والعتاب، وعند بعضهم لا يحلو السمر إلا بشرب الخمر..فالزجال العيطي يصور الخمر صورا مختلفة في الصياغة ومتشابهة في المعاني، فهو يعبر عن سعادته للقائه بالحبيب واحتسائهما للخمر آناء الليل، كما يصف شربه للخمر من جراء معاناته لفراقه لمن أحب وهجره له، ويصور في وصفه أن الخمر متع ووجع ودمع.. والعيطة بمختلف أنواعها تطرقت بتفاوت إلى ذكر الخمر، ونجد بأن العيط المرساوي قد استولى على حصة الأسد في التغني والتغزل بهذه المادة السائلة المنشطة، كما نعثر على أروع الكلام عن الحب والليل والسهر والوجع المقرون بشرب الخمر..فنجد أن مجالس الشراب واللهو في العيطة “المرساوية” تمثل الركيزة الأساسية، وذلك لارتباطها بجو الاحتفال والسهر والسمر الليلي، والليالي الحمراء التي كانت تسود بيوت الكبراء والقياد والأعيان..وكذا في شتى المناسبات العادية أو الاستثنائية..حيث تكون أجواء العزف والرقص مدخل العيطة إلى ذكر الكأس والتغزل فيه لما يبثه فيهم من أسباب النشوة والابتهاج..كما جاء في الفقرة التالية من بحث الدكتور حسن بحراوي:
==( وإلى جانب ذلك، فإننا نعثر في نصوص العيطة المرساوية على تجاور غريب بين المقدس والمدنس..بين الديني والدنيوي..فإلى جانب ما نجده فيها..وهو كثير..من عبارات المديح للأولياء وآيات التبرك بهم إلى جانب التذكير بالموت والقصاص الذي ينتظر الجاحدين بالنعمة..إلخ.. هناك تصوير مجالس الشراب واللهو وأماكن المجون والقصف..وسوى ذلك مما يدل عليه بقوة تكرار لفظة (كاس) كثيرة الورود في الغناء المرساوي…)==المرجع: الباحث الدكتور حسن بحراوي كتابه فن العيطة بالمغرب..مساهمة في التعريف.. الصفحة23، عن منشورات اتحاد كتاب المغرب.
والعيطة المرساوية هي عيطة وجدانية في المقام الأول يهمها أن تحتفي بالعاطفة الإنسانية وتصور تقلباتها بين الحب والهجر والشوق واللوعة والتوسلات إلى الحبيب من أجل العودة ونبد الخلافات بين المحب والمحبوب، وداخل هذه الانفعالات الإنسانية نجد الخمر حاضرا، حيث نجد الأبيات الشعرية الخمرية مدسوسة داخل القصيدة العيطية، ومن ذلك ما نلتقطه متفرقا في رائعة عيطة “الغزال” تلك العيطة العاطفية الوجدانية:
أهياوين أهياوين…ويلي يايلي
داز ما كلمتو…هيا واهيا
ونعس ما فيقتو…ويلي يايلي
كب ليا كاسي…نطير نعاسي يا سيدي…سيرا واهيا
كب ليا نشرب…على غدايد الحب يا سيدي.. واهيا واهيا
أنا والليل والخليل… والكاس قليل يا بابا…هيا واهيا
يا مالي ما شفتو لغزال… يا صحب الحال يا سيدي ..سيرا واهيا
كاس الكاموني… باش لاموني يا سيدي..سيرا واهيا
كاس أختي طامو …رقيق بوشامو يا سيدي… سيرا واهيا
مالي كاس ونشوة…عند بيضاوة يا سيدي …سيرا واهيا
الكاس ولقواس…مع ولاد الناس يا بابا..سيرا واهيا
ايلا غلبك الكاس …دير لو لقياس يا سيدي…. أهيا واهيا
سيدي دازو بالليل …على كَصاص الخيل أمالي…سيرا واهيا
مالي الكاس ولبنات…والعيطة حلات أسيدي…سيرا واهيا
يا كاسي فريد…أهيا واهيا
يا جرحي جديد..هايلي ياييلي
يا المولى يا المولى وأنت تعفو عليه….وايلي هيا يلي…طالب العفو يا سيدي
ونجد أن الشاعر العيطي يحزن إذا خلى إلى نفسه في الليل لوحده، فهو يصف قسوة الليل حينما يبيت مؤرقا يتقلب على نار أشواق انتظار عودة الحبيب، فيطول سهاده ووجعه، وهو يعاني هموما وأحزانا تكون قد أتقلت كاهله، فيجد في الخمر مخففا لهذه المعاناة، كما نجد ذلك في العيطة المرساوية “رجانا في العالي”:
رجانا في العالي يا بابا…وبابا رجانا في العالي…غريب وبراني يا سيدي
سعدات الكَلب الهاني … سيادي معس الليل…ما سهر بحالي يا سيدي…حياني والليل طويل
كب ليا نورد ياسيدي…لعدو عليه لقليب مرض …دبا كيتو تبرد يا بابا.
من المحال يا سيدي…الكَليب يتهنا…حتى يجي لغزال يا بابا …ها حياني
وقد بث الشاعر العيطي من خلال مطالع قصائده، عاطفته ومدى حبه وشوقه للمحبوب، وهو يصف حالته النفسية المضطربة لما يكون في انتظار الحبيب، حيث يجد العاشق المتيم عزاءه وعلاجه في شرب الخمر..ويشير أن الخمر قد تنسيه في أهله وأحبته، كما هو واضح في الأبيات التالية من العيطة المرساوية “ركوب الخيل” :
ايلي ياييلي …مال حبيبي مالو عليا …ما بيدي ما ندير ياسيدي
واهلي واهلي …كب ليا نشرب… نبرد الكَلب… الله يداوي الحال حبيبي
ايلي ياييلي …سقيني نورد…دبا كيتو تبرد…حتى حال ما يدوم يا سيدي
هايلي هياييلي…سناح حبيبي فيه شي بولات…ع نجوم وضوات يا سيدي
كويتيني وشويتيني وشطنتيني…ياك الكاس شربناه…والعقيل ضامنو مولاه
هاااااه هيا واهيا…هااااه هاه يا سيدي
العدو راسو عدو راسو عدو راسو…هااااه هيا واهيا
عدو راسو شرب كاسو ونسى ناسو…هايلي ياييلي
أنا فين نخبيك عل الموت يا لعزيز عليا…اهيا واهيا
ولفتيني ظرافتك وسخيتي بيا..ها يلي ياييلي
يانا كاس ونشوة لقليب يداوا يا سيدي
سيدي الكاس والنخوة عند بيضاوة يا بابا
أنا الكاس الكاس يا الهرابا بلا قرطاس.
سيدي الكاس ولقواس مع أولاد الناس يا بابا
ونجد الشاعر العيطي في عيطة “الكافرة غدرتيني” من العيط المرساوي، يصف غدر الحبيب وهجرانه له بالكفر، ويصف تعاطيه لشرب الخمر كي ينسى ما ألم به من عذاب، رغم أنه يعرف بأن الخمر مضر بصحته ( الكاس ما فيه مزية…وعذابو كثير)، ورغم درايته بمخاطر الخمر فهو يطلب المزيد منها “كب ليا نورد…باش نيرانو تبرد)، ولنا في هذه الأبيات خير مثال:
الكافرة غدرتيني ….كَولي لي متابة لله…ما بيدي ما ندير أنا
خليني نشرب…القليب تعذب…لا سماحة ليك يا سيدي
ااااه أهيا واهيا…العقول زاهية.. ولبنات لاهية..والعيون فاهية
لاموني بيك يا الحبيب مابيدي ماندير…الكاس مافيه مزية وعدابو كثير
سيدي المكتوب كتاب عليا معندي ما ندير…نبات سهرانة الليل والكاس قليل
وايلي ياييلي ايلي ياييلي ايلي ياييلي
حاطة برادي …والمكتابة تنادي — حاطة صينيتي…نتسنى ف كيتي
رقاصها زربان…شي حاجة طرات—أجي نشربو كيسان…ياك العيطة حلات
راني مكنتش ناوي حبك جابني…حبك عذبني وقلل صحتي
حبك سكن الدات قاس الكبدة دمات..حبك رشى لعظام يا حطب جهنم
وايلي ياييلي ايلي ياييلي ايلي ياييلي
أجي بعدا نرادفو كيسان…كويسات الويسكي عاملة ويدان
حتى من البينو ساد البيبان…مزينو سقيان عند شي غزلان
سهرت طول الليل…والكاس قليل — طلعت الكَمرة…بان ضو الليل
الكَمرة ضوات…نيرانو شعلات — كب ليا نورد…نيرانو تبرد
كاس ونخوة….عند بيضاوة— خليني نشرب… على غدايد الحب
ونجد كذلك ذكر الخمر في عيطة “لعدو يا لعدو” المرساوية، التي غالبا ما تأتي مرادفة “طيوح”، تابعة لعيطة “الكافرة غدرتيني”، حيث نجد الشاعر العيطي يتغنى بزمان ومكان شربه للخمر “سطات”، فهو ينهل من المتع واللذات ما طاب له من حسن نساء وجودة خمر معتق، و يتمنى أن يختم حياته بتوبة نصوح بالحج إلى بيت الله، يزور ويطوف بالكعبة المشرفة، لتمحى ذنوبه:
لعدو يا لعدو لعدو يا لعدو لعدو يا لعدو…لعدو يا لعدو لوح سلاحك أجي نتفاردو
لعدو يا لعدو لعدو يا لعدو لعدو يا لعدو…لعدو يا لعدو جيب شرابك أجي نتواردو
أجي نتفردو ونتجردو ونتواردو…آجي نتجردو ونواردو ونتمرمدو
محداتنا عشران والقلوب طايبة…قبل ما المحبة تولي عداوة ويقساحو لقلوب
سطات راس العين مركَد الزين…الكويسات دايرين والشمعات شاعلين
الزين الظريف ظاهر من تحزيمتو…كاس لعنب لمقطر باين من ريحتو
كَمح لبرانش ظاهر من زريعتو…ويلا كان مصفي يضوي على كَاعتو
سعدات من زار الكعبة شاري جنتو…يشلل عظامو ويمحي زلتو
ويركز الشاعر العيطي على تأجج لوعة العشق بالخمر آناء الليل، حيث نجد كذلك ذِكر الخمر في العيطة المرساوية “دامي”، تلك الحالة التي يبرز فيها الشاعر عذابه العاطفي وشوقه وحنينه لملاقاة المحبوب، كعشقه للخمر، فهو يطلب المزيد من الخمر ليطفئ لهيب الشوق كما تصور ذلك هذه الأبيات :
دامي يا دامي هواك عداني…عداني عداني مشى وخلاني
ااه يا بابا …سهرت الليالي.. الحبيب ما عفى والي
بابا يا بابا …الكاس والنخوة…عند بيضاوة
لله يا دامي ….كب ليا كاسي…من الما كَاسي
وبابا يا بابا…كب ليا كاسي…نطير نعاسي
وبابا يا الكاس ولقواس…يخويو الراس
ونجد ذلك في عيطة “السطات بلادي”، حيث الشاعر(ة) يصف أنواع الخمر ( البيرة، الباستيس، الروج..) والأماكن ( لوطا، لجراف)، والتنقيب في ماهيتها المادية والمعنوية، حيث يجدها الشاعر تعطي للعقل اجازة مفتوحة، ويشعر بالسعادة تلك السعادة المؤقتة الزائلة:
سيدي سطات بلادي…سطات بلادي…قبلة للزاهي
سطات يا سطات…زين لبنات…لغليمي في الوسط
مزين الخبطة…مقابلة لوطا…ع الكاس والعيطة
مزين السكرة…مقابلة لجراف…الكبة بالغراف
ايلا وصلتي لبوفروج…ضربي الروج…وخلي الهم يدوز
وحدة سربيس…وجوج باستيس…نسافرو توريس
أو في عيطة “اللي بغا حبيبو” حيث تتكرر عبارة بمثابة لازمة:
ليام تلاقي…زرعو لكويس
وقد تكون عيطة “الشاليني” المرساوية، هي أرق عيطة تشخص الانكباب على استحضار الذكريات الجميلة مع الحبيب والبوح بمكامن النفس في الليل بمعاقرة كؤوس الخمر، وسؤال الذل للحبيب الموغل في الغياب، وغالبا ما يرتبط التغزل بالمرأة بمجالس الشراب التي يكون فيها العاشق نهبا لمشاعر المعاناة والمكابدة، ويجدها مناسبة لتذكر الحبيب الغائب، ويظهر هذا في الأبيات التالية من هذه العيطة:
الشاليني يابابا …ديرني حداك ..فين ما مشيتي يا سيدي
حبيبي يا حبيبي…دبا تحتاجني يا سيدي…والشاليني.
حليت القرعة يامالي…وحطيت الكاس…شميت البسباس
ليلي ليلي ليلي…ماكاين نعاس يا سيدي….والشاليني
فين ديك الكَلسة يا خليلي…الراس في الراس…العيطة والكاس حبيبي
ليلي ليلي ليلي…الله يحد الباس يا سيدي….والشاليني
الكاس اللول ياسيدي…جاني حار…عرفتو مارشي نوار يا الغدار
ليلي ليلي ليلي…بغيت ننسى لمرار والغدار….والشاليني
الكاس اللول يا سيدي…والكاس الثاني….وحشو بكاني يا دامي
يا لالة يا لالة…الحبيب ما جاني يالالة….والشاليني
خاوفي عليك يا لالة…الكاس يبليك…حتى طبيب ما يدويك يالالة
يا لالة يا لالة…وتنساي اللي باليك يا بنيتي…والشاليني
خليوني نشرب يا سيدي…واللي كَال عجب.. يتبلى ويجرب يا سيدي
يا لالة يا لالة…الحب يعذب يا مالي….والشاليني
وفي العيط الزعري، نجد الشاعر ينظر إلى الخمر نظرة العاشق المتيم الولهان الحائر، والمتعطش للشرب والسكر، إذ يصوره في أبيات شعرية عميقة، فهو يخاطب الآخر بنبرة واثقة (خليني نشرب…على غدايد الحب / خليني نورد..حتى لعطش يبرد )، إنها صيغة التحدي النابعة من القناعة الذاتية، فمبدأ الشاعر يتمحور حول مركزية الخمر، ودورها في إزالة الظمأ، وبعث الحيوية والنشاط في أعضاءه..فهو على دراية بأن الخمر تمنحه الدفء الوجداني والخلاص من المشاكل والأحزان “كويسات الروم…يحيدو الهموم/ خليني نشرب…باش يرتاح الكَلب)، ويؤكد على أهمية النديم، رفيق الكأس وحضوره في المجلس، بوصف الخمر لا تحلو إلا بحضور الآخر، وبكونها تفتح القلب على الحديث، (تعالى يا لعشير…نشربو شي عصير/ خليني نشرب..ونخوي اللي في الكَلب)، وقد استسلم الشاعر أمام اللون الأحمر المبهر للخمر، تلك الحمرة المتفجرة الوهاجة وهي بالنسبة له علاج إذ يعتبرها دواء لأمراضه النفسية “كب ليا نسكر…من الدوا لحمر/ كب وسقيني..ع زيد داويني)، كما ينتشي كذلك بالصفرة الذهبية للسائل الخمري المسكر ( الشراب لمذهب…شحال كيعجب)، وتارة يصفها أنها سبب إفلاسه وتبذيره للمال “فليسات الخرفان..ضربهم كيسان/ فليسات الفروج…مشاو ع في الروج/ فليسات لحوالة…مشاو كفالة).. كما يعتبر الساقي على أهمية مشابهة التي يمتلكها النديم، بوصفه جميل وخفيف الظل ولطيف، زائد في الصرف والدلال يدهش بلطفه عقول أولي الألباب ( جيبو داك الساقي…اللي زايد في حماقي/ عفاك يا ساقي …كب ايلا باقي / كب وسقيني..ويا الكاويني)، وخاصة إذا كان الساقي امرأة ( مزينو سقيان…عند شي غزلان)، وتارة نجده يحذر من شربها وبأنها سبب الجرائم (الزيغة والكاس…عمرو لحباس/ بايت يطاسي…وصابح مگلاصي)، كما تفنن الشعراء العيطيون في أسماء الكؤوس والأباريق وأنواعها وصفاتها..كما يبدو ذلك في الأبيات اللاحقة من خلال عيطة “الحساب الزعري” من العيطة الزعرية:
فليسات الخرفان…ضربهم كيسان— خوذو حقي في الفروج…وعطيوه ليا روج
كب ليا نشرب…على غدايد الحب— الزغيبي كيسكر..والبيت ك يكَطر.
شراب الميكة…زين التصميكة —الكاس المذهب…كيعجب ويكَلب
سكرة الغراف…كتدير بوتفتاف—الروج بوضلعة…يحيد الخلعة
لويسكي والريكار…حتى يطلع النهار—البيرة والتولال…حتى يصبح الحال
كب ليا نسكر…من الدوا لحمر—بايتة سكرانة…وصابحة غضبانة
الروج ولغدايد…فين باقي زايد—مرضي في القرعة…كندير حتى نوعا
كون نصحابها تكتاب…ما نشرب شراب…سبابو في الديعة…الكاس والقريعة…..
ونعثر على عدد من الأبيات الخمرية في نفس العيط “الزعري” لكن بلحن وإيقاع موسيقي مغاير كما جاء ذلك في عيطة “الخادم” من العيطة الزعرية:
والخادم هااااااه أنت مالك مالك…براكا من السكرات…را قليبك مات
عدبتي ومحنتيني أش هذا ليــــــــــام…كاسك وسبسيك..ك يقتلو فيك
والخادم هااااااه أنت مالك مالك…الزغيبي كيسكر…والبيت كيكَطر
والخادم هااااااه أنت مالك مالك…نعل عليك الشيطان…وفرق الكيسان
ونجد كذلك في عيطة “الوجبة الدايرة” من عيطة الحساب الملالي، من العيطة الملالية، المعروفة باللحن الفجائعي النائح بالندبة والبكاء:
واميمتي ميمتي ميمتي..ميمتي أش هذ ليام…نبات كنشرب…ونظل نتعذب
واه لالة يا لالة لالة…يالالة الوقت يحنت…خلينوي نسكح…حتى يبان الصح
هذه بعض الأبيات “الحبات” من مئات بل من آلاف الأبيات من عيطة “الحساب الزعري” التي تتغنى بالخمر، كما نجد كذلك الفنان”العيطي الغرباوي”، يجد في الخمر ضالته، حيث يعتقد أنه بالشرب سينسى عذابه العاطفي وسيفرغ قلبه من الهموم، ونجده يرفض النصح بالتوبة من شرب الخمر، كما أنه يصف الخمرة بأنها هي التي ستشجعه ليذهب للقاء حبيبته بالليل، كما يظهر من الأبيات التالية في عيطة “الغابة”:
سقيني كاس لخمر… الكَليب فاض وعمر
حبها في كَلبي زهر…نشرب عليها المر
عمر جو الغابة مخسر…حتى وصل لمنشار لجدر
المش غلاض وتمر…عاد حاس براسو نمر
كَالو ليا توب توب…حلفت أنا ما نتوب
ولا ندير تسابيح لكذوب…وندي تقليدو عليا
انت كَلتي لي تعالى بين العشة والنوالة… وأنا خواف منجيكشي في الليل
وحشك عماني كَبالة….نضرب الكاس والكالة ونجي يا غزالي في نص الليل
هاه هاه ها وأنا…هاه وريني وحشك يا الغابة.
أما العيطة الحصباوية والتي تسمى كذلك بالعيطة العبدية، فهي تتميز ببعض الملامح الفنية التي لا نجدها عند غيرها بنفس الوضوح والقوة..مثل ارتفاع الشعور الذاتي والوجداني لدى الشاعر..أو الشاعرة..مقارنة بباقي العيطات الأخرى، الشيء الذي يجعلنا أمام غناء قوامه البكاء والندب والشكوى الحارقة التي تصدر عن العشاق المكتوين بنار العشق والمتيمين المتلهفين للجمال وشرب الخمر، كما يصف أن شرب الخمر لا يحلو إلا بوجود الرفيق أو النديم، ومن الأمثلة على ذلك مطلع عيطة “كاسي فريد”:
وبابا كاسي فريد..وبابا جرحي جديد…وايلي هياييلي هياييلي هياييلي
بابا اركب وتسناني…الفرادي وحدو غادي
يا سيدي الدنيا تفوت…وبابا وحيها يموت..وايلي هياييل هياييلي هياييلي
سيدي كب وتسناني…الشارب وحدو شي ما دارو
أو في عيطة “حاجتي في كَريني”، تلك العيطة العبدية الوجدانية الغزلية، حيث يختلط الحديث عن مجالس الشراب واللهو عند القايد عيسى بنعمر قايد منطقة عبدة بذكريات الحب:
ياو حاجتي في كَريني…لاموك ولاموني…ما يدوم حال يا سيدي
ياو حاجتي في الساقي…الساقي كب الكاس…ما يكون باس ألباس
يا هاهو هاهو…هاهو يا سيدي أحمد..ياو هاهو يا حرش لعيون
ياو هاهو يا سيدي ادريس…ياو هاو يا ذهب لكويس
ياو هاهو هاهو ياو دابا يعفو مولانا..ياو عادا الخيل يا سيدي.
ونجد كذلك عيطة “رجانا في العالي”، التي تسير على نفس النهج والبكاء والضياع الذي يصيب العاشق أو العاشقة عندما تنقطع بينهما عرى المحبة ويضيع كل أمل في اللقاء ، فيلتجأ إلى شرب الخمر عله ينسى ما حل به،كما هو الأمر في هذه الأبيات:
يا بابا رجانا في العالي…رجانا في العالي …سيدي غريب وبراني يا سيدي
يا بابا من حر الحب…نظل كنشرب…ونبات ك نتكَلب يا سيدي…هااااحياني
وفي عيطة “باع عزيبو في الميلحة” أو ما تسمى أيضا بعيطة “سيدي أحمد” نجد الشاعر (ة) يصف حالته النفسية المضطربة وهو ينتظر عودة الحبيب فيخمد هذا الانفعال بشرب الخمر:
واسيدي أحمد..سبع سلامات في سلام يا الغادي زربان..أيلي ياييلي يا ييلي…طال عذابي سيدي حبيبي
على قبلو بايتة نمشي ونجي نتسناه تا يجي…على قبلو بايتة عساسة نضرب في الطاسة.
على قبلو بايتة سهرانة والكاس عند راسي…حرك يا مول الجدع الزيتي مذا زهيتي.
وفي العيطة البلدية الجرفية الفيلالية، تلك العيطة الصحراوية السجلماسية، نجد في عيطة “الساخي بيا” تلك القصيدة العاطفية الغزلية، بأن الشاعر العيطي الصحراوي يحن إلى الأيام الخوالي مع حبيبته ولا ينسيه فيها إلا شربه للخمر، فالخمرة هي التي تواسيه وتداويه، فهو لا يطلب توبة بقدر ما يطلب عودة الحبيب والصلح معه. فكانت بذلك الخمر أنيسته وبلسمه ومخففة عذابه، وهي بمثابة تلك الماء التي تسقي واحته الجافة، ونجد هذه الأوصاف في عيطة “الساخي بيا”:
الساخي بيا فين الولفية يا سيدي؟..هايلي ياييلي
علمتيني ظرافتك وسخيتي بيا…ايلي ياييلي
العيون اللي كواوني ما حنوا فيا …هايلي ياييلي
خليوني نشرب على غدايد الحب يا بابا…ايلي ياييلي
خليني نشرب لقليب تعذب يا خويا…هايلي ياييلي
يا الساخي… لهلا يبليك….يا ساخي…الهوى صعيب
…يا الساخي…ماكَلت عيب…يا الساخي…الكاس طبيب
………راني ما كَلت عيب.. يا الساخي بيا …خلينا نبقاو خوت………
خليني نمشي نعدبو ونجي يا يما….هايلي يا ييلي
خليوني نبكي على ايام مشات يا مولاي…يامولاي يا مولاي
البركَي بركَي كَاع لا يجري يا سيدي…هايلي ياييلي
خليوني نورد حتى كيتو تبرد يا بابا…ايلي ياييلي
أنا زيد سقيني حتى تواطيني يا بابا…هايلي يا ييلي
سقيني وسربيني وزيد داويني يا سيدي…ايلي ياييلي
كب وعمر لقليب مدمر يا سيدي…هايلي يا ييلي
الساقي… حبيب والطبيب…الساقي… يداوي لقليب
الساقي… الهوى صعيب… الساقي …مادرت عيب
………راني ما كَلت عيب يا الساخي بيا… الله يلاقينا خوت………
الله يبليك ما بلاني وتجرب حالي…اهيا واهيا
الله يشربك من مايا وتفهم لغايا…ايلي اييلي
الله يذوقك من طعامي وتفهم كلامي…هايلي ياييلي
الله يدخلك من بابي وتجرب عذابي..هايلي ياييلي
كاس تابع كاس حتى يدوخ الراس يا بابا…ايلي يايلي
سيدي ربي اللي بلاني قادر يعفو ويتوب…مولاي يا مولاي
………راني ما كَلت عيب يا الساخي بيا… الله يلاقينا خوت………
هذه بعض النماذج من الأبيات التي جاء فيها ذكر الخمر في النص العيطي، وبهذا نكون قد استعرضنا ما تيسر لنا في ما قيل في الخمر في الغناء العيطي، هذا الغناء الذي كان ومازال وسيظل يحتل مكانة مهمة في المشهد الفني الغنائي المغربي، فن يتعاطاه ويتبادله ويتوارثه المغاربة جيلا عن جيل، فهو تراث أصيل ومعمر وفن حي متحرك ومتجدد. فن يجمع بين الأصالة والحداثة ليؤكد أصالته في أشعاره وأشكاله وقوالبه الموسيقية التقليدية، كما يؤكد حداثته في الاستفادة من الأحداث والوقائع كعوامل مثيرة للإبداع والتجديد والإنتاج. وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة وكاتب، فأنني مولع وعاشق وممارس لهذا الفن الأصيل، وهو موجود وسيظل كذلك في كل أعمالي الفنية بما فيها الأغنية والمقالة والقصة والرواية، وسأظل وفيا لهذا التراث الغنائي اللامادي، لقد أعطاني الكثير ولم أعطيه سوى النزر القليل، فهو بالنسبة لي نقطة قوة ومصدر فخر واعتزاز.. فهذا الفن بئر عميق لا ينضب ماءه، نشرب ونرتوي منه من جيل لجيل، كنز ثمين، ورأسمال لامادي، يجب علينا أن نهتم به ونحافظ عليه، وننقله للأحفاد في أحسن حلة كما أوصله إلينا الأسلاف والأجداد. يمكننا أن نواصل حمل المشعل دون أن نشرب خمور أو ندخن مخدرات.. ودون سكر أو عربدة أو مجون، بل سيكون الأمر أحسن ونحن صاحين في كامل قوانا العقلية دون أن نكون تحث تأثير أي منشط أو مسكر أو مخدر.. حتى لا نضر أنفسنا ونضر بفننا. فباحترامنا لأنفسنا ولجمهورنا سنحترم فننا وسيحترمنا الآخر..
وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة، مغني وكومنجي لفرقة عيطية، فإنني أنقل للقارئ بكل أمانة وصدق ما عشته وما عايشته وما أعيشه خلال حياتي الفنية، حيت أجد أن عدد كثير من الشيخات والأشياخ يستهلكون مختلف أنواع الخمور والمخدرات، فبتعاطي الفنان العيطي لشرب الخمور واستهلاك المخدرات، تزداد معاناته وتسوء سمعته وتطيح قيمته في أعين الجمهور.. وكم من فنان شعبي شيخ للعيطة وصل من الشهرة مبلغا، وبسبب إدمانه على الخمور ذبلت شهرته وعاد إلى الحضيض مفلسا مدمنا يجر أذيال الخيبة، وخير دليل ما يعيشه الكثير من الشيخات والأشياخ من ذل وتسول وأمراض في نهاية مشوارهم الفني، فغالبا ما يكون سبب معاناتهم تبذيرهم للأموال في الخمور والمجون، وتتدهور حالتهم الصحية بسبب إدمانهم على شرب المسكرات والمخدرات، إضافة إلى موت بل قتل بعض شيخات وأشياخ العيطة الذين كانوا مشهورين ومتمكنين من فنهم، وكانوا يعدون مراجع لهذا الفن، وللأسف كانوا في النهاية ضحايا جرائم قتل خلال جلسات خمرية.. وبضياع هؤلاء تكون الساحة العيطية قد فقدت مرجعا حيا ومكونين فنيين.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى وبصفتي متقاعد “دركي سابقا”، كنت ضابطا للشرطة القضائية والعسكرية، وضابط الأبحاث المكلف بالأحداث، حيث كنت فاعلا ناشطا ونشيطا في حقل الضابطة القضائية بقرى ومدن مغربية، فبحكم تجربتي الحياتية المتواضعة، أشهد أن الخمر أم الخبائث، كثيرة هي الجرائم التي بحثت فيها؛ من قتل وسرقة واغتصاب وزنا المحارم..كان الخمر هو السبب والدافع الرئيسي والمشجع على ارتكابها.
وختاما لهذا المقال نختمه بأبيات “حبات” من عيطة الحساب الزعري التي تتغنى بهذا السائل المنشط المفلس والقاتل:
باراكا من السكرات…را قليبك مات
فوت عليك الشراب…راه تابعو لعذاب
كَولو لداك المحبوب…الله يعفو ويتوب.