لم يعُد السّكوت خيرا من إجابة السفيه.

جسر التواصلمنذ 5 ساعاتآخر تحديث :
لم يعُد السّكوت خيرا من إجابة السفيه.

سعيد الكحل

كشف الواقع السياسي للمغرب عن ممارسات تتدثر بالسياسة وما هي منها. ممارسات عند الخاصة (الأحزاب) وعند العامة (المواطنون) تجسد الانحدار الخطير الذي انتهى إليه الخطاب السياسي تنظيرا وممارسة، قيما ومواقف. لقد تربى جيل الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين على قيم النضال الشريف ونكران الذات وشهامة التضحية من أجل مُثل العدالة والديمقراطية والمساواة والمواطنة. ولعل سنوات الرصاص تحكي تفاصيل ذلك النضال وشهامة أولئك المناضلين الذين استرخصوا حياتهم وحرياتهم من أجل أن ينعم جميع المواطنات والمواطنين بالحرية والديمقراطية والمساواة. أيا كانت المواقف من أساليبهم، فإن الغايات كانت مشروعة. خلال تلك الفترة كان للنضال ثمنه وكان للمناضل شرفه. لهذا تغلغل حب المناضلين في نفوس وقلوب غالبية المواطنين؛ لأن المناضل مثل المقاوم يضحي من أجل الوطن والشعب. وكان طبيعيا أن تبرز أسماء المناضلين وتدخل سجل التاريخ النضالي أسوة بالمقاومين. ومثلما أفرزت تلك المرحلة مناضلين تميزوا بالصبر والصمود، أفرزت، كذلك، سياسيين كبارا ساهموا في صنع مستقبل هذا الوطن، وظلوا يحظون باحترام الشعب.
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ // وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ.
العُمْلة الرديئة تطرد العملة الجيدة.
إن المكاسب السياسية والديمقراطية التي تحققت بفعل النضالات التي شهدتها تلك الفترة (سنوات الرصاص) لم يقدّرها حق قدرها جيل السياسيين الذي اعتلى كرسي المسؤوليات الحزبية مع العهد الجديد الذي طوى الصفحة مع “سنوات الرصاص” تلك. ولعل من أسباب تواري المناضلين عن المشهد الحزبي والسياسي، أن النضال صار دون تكلفة، فانفتح المجال لطالبي المكاسب والمناصب على حساب القيم والمبادئ. فأضاعوا المبادئ وضيعوا التنظيمات الحزبية التي فقدت نخبة مهمة من مناضليها الشرفاء. ولا تختلف الأحزاب عن العُملات، فكلاهما يخضع لقانون “توماس جريشام”، المستشار المالي لملكة إنجلترا في القرن السادس عشر: “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق”. هكذا “خلَف خلْفٌ” ـ بالتعبير القرآني ـ أضاعوا النضال وخرّبوا السياسية. خلْفٌ لا يراعي في المواطنين إلاًّ ولا ذمة، ولا يتردد في نعتهم بأقذع النعوت وتنزيلهم منزلة “الحمير والميكروبات”، كما هو شأن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في خرجاته الرسمية وغير الرسمية؛ أو من وصف المواطنين بأنهم ” خاصهم إعادة التربية”. لم يعهد المغاربة، منذ فجر الاستقلال، خطابا ينزلهم منزلة أحقر الكائنات، أو يرى فيهم “صلاﯕط”. فالسياسي، كما قال ماكس فيبر: “يجبُ أن يتحلَّى بنوعٍ محددٍ من الأخلاقيات والمسؤوليّة ويجب أن يمتلكَ الشغف في دعوته وأن يكون قادرا على إبعادِ نفسه عن المواضيع الشخصيّة التي قد تؤثّر في قراراته”. لكن الذي فاه به الأمين العام للبيجيدي، عبد الإله بنكيران، أبعد ما يكون عن السياسية وعن الأخلاق وعن الوطنية وعن الدين حتى. إنه سَفهٌ لا يمكن التعامل معه بالتجاهل أو السكوت، تمشيا مع قول الشاعل:
إذا نطق السفيهُ فلا تُجبْهُ ** فخيرٌ من إجابته السكوتُ.
ذلك أن السكوت على السفيه سيزيده سفها وتماديا في نهش أعراض مخالفيه. وليست المرة الأولى التي يتطاول فيها بنكيران على المغاربة، إذ سبق ونعت الوطنيين الذين يجعلون مصالح الوطن العليا فوق كل اعتبار، “بالخونة”. لهذا لا أمل في “شيخ سفيه” أن يتعظ ويرعو. فقد يغْلب حِلْمُ الفتى عن سفاهته لكن لا يفعلها شيخ مسنّ.
وإنَّ سفاه الشيخ لا حِلْم بعَدهُ **وإن الفتى بعد السفاهة يحلُمُ.
إن ما فاه به بنكيران في حق من يرفعون شعار “تازة قبل غزة”، أي يجعلون مصلحة الوطن أولى الأولويات، يعكس طينة الشخص واستلابه الأيديولوجي وانخراطه الهستيري في أجندات تستهدف المصالح العليا للوطن. فهو لا يقدّر عظائم المكاسب الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية التي تحققت بفصل مسار المغرب (تازة) عن مسار ومصير غزة. وعلى بنكيران أن يستخلص الدرس من عنتريات من جعلوا “غزة قبل تَعِزْ”.
إن قرار استئناف العلاقات مع إسرائيل، هو قرار الفصل بين المسارات وترتيب الأولويات. وما كان بنكيران يوما وصيا على الشعب حتى يفرض عليه اختياراته الإيديولوجية. إذ تكفيه ردود الفعل المستهزئة به والمنددة بسفاهته دليلا على فقدانه صلاحية تدبير الشأن العام وتخندقه ضد الشعب والوطن؛ “ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه”. سيظل بنكيران وصمة عار في التاريخ السياسي للمغرب الحديث. وصدق حديث الرسول الكريم (رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ).

 

الاخبار العاجلة