النضال الارتزاقي.

جسر التواصل27 نوفمبر 2024آخر تحديث :
النضال الارتزاقي.

سعيد الكحل

تغزو مواقع التواصل الاجتماعي ظاهرة “النضال الارتزاقي” التي لجأ إليها أشخاص كل رصيدهم هو العداء المقيت للوطن والحقد المحموم على المؤسسات. فقد اتخذوا من مهاجمة المؤسسات الدستورية والتشهير بالمسؤولين خبزهم اليومي، متجاوزين كل القيم والقوانين التي تؤطر حرية التعبير. غاياتهم من هذا كله: تصريف حقدهم الدفين وعدائهم المقيت للنظام وللدولة ومؤسساتها، وهو الحقد الذي تشرّبوه من الانحرافات الإيديولوجية التي أفرزتها الحرب الباردة في ستينيات القرن الماضي، والتي لا تزال تفعل فعلها في لاوعي بعض الفئات التي اتخذت من التشهير والحقد والعداء أسلوبا “للنضال الارتزاقي”.
النضال أخلاق وليس أسلوبا للارتزاق.
النضال لم يكن يوما هواية للتسلية أو نشاطا للارتزاق أو وسيلة للابتزاز. النضال قناعة ومبدأ وأخلاق. فهو، كما قال عمر بنجلون “النضال مسألة أخلاق، وكل من انحطت أخلاقه واستسلم للملذات فلا يحق له إطلاقا أن يكون مناضلا”. وهذا ينطبق على هذه الفقاعات من “مناضلي الارتزاق” الذين أفقدهم عداؤهم للوطن ومؤسساته كل شعور بالكرامة، وكل إحساس بالانتماء لهذا الوطن، وكل غيرة عليه. لقد قرروا أن يتحولوا إلى معاول للهدم والتخريب؛ كما اختاروا، عن طواعية، أن ينخرطوا في خدمة أجندات خصوم المغرب وأعداء وحدته الترابية.
إن الاصطفاف إلى جانب أعداء الوطن، والرضا بدور “حمار الناعورة” لتصريف أحقادهم على المغرب، لن يجعل من هذه الكراكيز مناضلين، إنما عملاء وخونة. بل كشف ويكشف عن انحطاطهم الأخلاقي وارتزاقهم المذل. ذلك أن الارتماء في أحضان أعداء الوطن وخصومه هو أحط أنواع العمالة التي سيظل خزيُها يلاحق العملاءَ خونةَ الوطن.
إن المناضلين الشرفاء استرخصوا أرواحهم وحرياتهم من أجل وطن مستقل وشعب حر. لم تغرهم أموال العمالة ولا مكاسب الخيانة. فحب الوطن لا يعادله جاه ولا منصب. وقد صدق بوح الشاعر أحمد شوقي:
“وَطَني لَو شُغِلتُ بِالخُلدِ عَنهُ // نازَعَتني إِلَيهِ في الخُلدِ نَفسي”.
لم يستوعب “مناضلو الارتزاق” أن الشعوب تعزّ مناضليها الشرفاء وتذلّ خونتها العملاء. وأيا كانت طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية، فإن التآمر على الوطن والعمالة لأعدائه باسم “مناهضة الاستبداد” أو باسم حقوق الإنسان، جريمة لا تُغتفر. فحتى في سنوات الرصاص لم يغير المناضلون الشرفاء ولاءهم للوطن ودفاعهم عن وحدته الترابية. إذ كان لسان حالهم يقول:
بلادي وإن جارت علي عزيزة // وأهلي وإن ضنّوا علي كِرام.
نضال نقّاري الخشب.
إذا كان المناضلون الحقيقيون أكثر استعدادا للتضحية بكل شيء من أجل الوطن والشعب، فإن مناضلي الارتزاق أكثر إصرارا على التضحية بالوطن والشعب من أجل المال. وهذا حال الذين يقضون كل أوقاتهم خلف الحواسيب نعيقا ونهيقا عساهم يرفعون من نسبة المشاهدين فترتفع مداخيلهم. أما ما يتعلق بالديمقراطية والحرية فهما آخر ما يعنيهم. إذ لا يهمهم استقرار الوطن ولا وحدة نسيجه المجتمعي طالما العائدات مضمونة والمخاطر منعدمة. فباسم حقوق الإنسان وحرية التعبير يتحولون إلى نقّاري الخشب يملؤون مواقع التواصل الاجتماعي ضجيجا ووقْرا.
لا يمكن إذن، بناء الديمقراطية وإشاعة حقوق الإنسان في أي دولة ينهشها الخونة وتنخرها الفتن ويتاجر باستقرارها العملاء. ذلك أن الأساليب الخبيثة لا يمكن أبدا أن تجلب الاستقرار أو تدعم الديمقراطية. ولعل مآلات الدول التي اجتاحها ما سمي زورا “الربيع العربي” خير دليل على أن سماسرة الأوطان وتجار حقوق الإنسان هم أشد خطرا على استقرار الشعوب ووحدة الأوطان. فالغاية هي من جنس الوسيلة، بحيث كما قال مارتن لوثر:”يجب أن تكون الوسيلة التي نستخدمها بنفس نقاء الغاية التي نسعى إليها.” إذ لا يمكن بناء الديمقراطية وإرساء دولة القانون باعتماد أساليب التشهير والتضليل والتحريض. ومن يبيع مواقفه وكرامته سيبيع حتما وطنه وشعبه.
وبالنتيجة، لا يمكن أبدا بناء الديمقراطية ودولة القانون بالاعتماد على “مناضلي الارتزاق”، أو بزرع الفُرقة وإثارة الفتنة بين مكونات الشعب. ذلك أن النضال الديمقراطي يقتضي تمثل قيم التعاون والتشارك بين القوى الفاعلة سياسيا ومدنيا في المجتمع. فالجامع بين تلك القوى هو الوطن. ومن يقبل على نفسه الاصطفاف إلى جانب أعداء الوطن أو الانخراط في خدمة أجنداتهم، فهو بالضرورة عدو لوطنه وعميل لأعدائه. وأيا كان العداء الإيديولوجي أو الحقد الطبقي محركا للصراع السياسي، فإن المصلحة العامة تستوجب التشارك بدل الإقصاء. وصدق نيلسون مانديلا بالنصيحة: “إذا كنت تريد أن تصنع السلام مع عدوك، فيتعين أن تعمل معه، وعندئذ سوف يصبح شريكك”.

 

الاخبار العاجلة