سعيد الكحل.
جائحة كورونا ليست فقط ذاك الخطر الذي يسلب أرواح البشر وينتشر بينهم كالنار في الهشيم دون تمييز بين أوضاعهم الاجتماعية أو عقائدهم الدينية والإيديولوجية ؛ فجميعهم سواسية في الإصابة به إذا ما ضعُفت لديهم أسباب المناعة والوقاية . إنها الجائحة التي جعلت الشعب يراجع نسبيا عددا من المفاهيم والقناعات كما أعادت التوازن إلى العلاقة مع الدين والدولة والعلم . فعلى مدى عقود خلت طغى الاستثمار في الدين كإيديولوجية وإستراتيجية عامة اعتمدتها غالبية الدول العربية لمواجهة مطالب الدمقرطة والعدالة الاجتماعية . إذ لم تكن الدول تدرك أنها تعمل على صنع “أجيال من الضباع” بتعبير السوسيولوجي المغربي الراحل محمد جسوس ،لا ولاء لهم للوطن ولن تكون لها عليهم أية سلطة. وطن هذه الأجيال التي تشبعت بالعقيدة الإيديولوجية المغلفة بالدين ليس الجغرافيا والتاريخ والشعب حتى تشعر بالانتماء إليه والولاء له ، ولكن وطنها هو عقيدتها الإيديولوجية. كما لم تدرك خطورة نشر تعاليم منظّري الإسلام السياسي على أمنها الداخلي وقيم المواطنة والتعايش، وعلى رأسهم سيد قطب الذي حدد في كتابه “معالم في الطريق” مفهومه للوطن كالتالي “وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم، وراية المسلم التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم… إنه النصر تحت راية العقيدة دون سائر الرايات ” . هذه هي العقيدة الإيديولوجية التي ستتولى تنظيمات الإسلام السياسي غرسها في الأجيال لضرب قيم المواطنة وخلق مقاومة لكل جهود التحديث .وها هي الدولة المغربية تواجه مقاومة تيار الإسلام السياسي الذي تغلغل في بنيات المجتمع وثقافته وصار يحدد توجهات ومواقف فئات واسعة من المواطنين باسم الدين وينافس إمارة المؤمنين صلاحياتها الدينية وسلطاتها الدستورية . ففي عز أزمة كورونا والتدابير الشجاعة التي اتخذتها الدولة لمواجهتها والحد من آثارها ، خرج أتباع التيار في مظاهرات ليلية خارقين الحظر الصحي ومعرضين حياة المواطنين للخطر .كما تتعالى دعواتهم إلى إقامة صلوات التراويح جماعة فوق سطوح المنازل والعمارات وداخل المنازل مع حلول شهر رمضان الفضيل . وقبل هذا خرج عدد من شيوخ التيار بفتاوى يحرضون فيها المواطنين على الصلاة في المساجد ويكفّرون الدولة ومؤسساتها بعد قرار إغلاق المساجد أمام الصلوات الجماعية تجنبا لانتشار الوباء وحماية لأرواح المواطنين .سلاح هذا التيار هو الدين في مواجهته للدولة وقراراتها التي لا تخدم مصالحه ، وكذا في فرض الوصاية على المجتمع وتحديد ما هو مسموح فعله أو ممنوع إتيانه . وبهذا تحول الدين إلى سلاح إيديولوجي لإضعاف الدولة والتحريض على التمرد ضد قراراتها وتدابيرها حتى تلك تهم حياة وسلامة المواطنين. ولعل حالة التجييش والاستقطاب التي فجرتها فتاوى محمد الفايد وفيديوهاته حول علاج كورونا وعشرات الآلاف من التوقيعات دعما لهذا الشخص ومنعا لمحاكمته بتهم كثيرة منها انتحال صفة طبيب ونشر الكراهية والتحريض ضد الأطباء؛(لعل هذه الحالة) دليل قاطع على كون أتباع ومناصري هذا التيار يشكلون دولة داخل دولة بمنظومة قيمية وتشريعية مناقضة لمنظومة الدولة والمجتمع (آخر حالات التمرد ضد الدولة حرّض ممثلو البيجيدي ساكنة دوار أيت داود بقلعة امكونة إقليم تنغير للخروج في مسيرة رغم الحظر الصحي ، احتجاجا على السلطة المحلية التي منعت جمعيتهم بتوزيع مواد غذائية لانعدام الشروط الصحية وخوفا من انتشار وباء كورونا بين الساكنة). لقد كانت الدولة تعتقد أن هذا التيار الإسلامي محدود الخطورة عليها وعلى مؤسساتها وأنه يخلق لها التوازن بين التيارات السياسية والاجتماعية المتنافسة والمتنافرة ، لهذا سمحت له بحرية الحركة والتأطير .لكن أزمة كورونا أظهرت حقيقة هذا التيار وسعيه إلى التحكم في الدولة والمجتمع معا ، مما يهدد المصالح العليا للوطن .وقد ساعد تغوّلَ هذا التيار وجود حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة مما وفر له حماية قانونية وسياسية أكبر حتى صارت عيادات الرقاة ووصفاتهم وفتاواهم تنافس وتضاهي المستشفيات وما يقدمه الأطباء من نصائح وخدمات .ورغم مطالب عدد من البرلمانيين وهيئات المجتمع المدني بمنع أو على الأقل تقنين هذا النشاط الذي بات يشكل خطرا على صحة المواطنين وأعراضهم ، فإن تجاهل الحكومة ساعد على استشراء “الرقية” واستئساد الرقاة. فجاءت جائحة كورونا لتصحح هذه الوضعية وتردع تيار الإسلام السياسي بعد أن فضحت متاجرته بالدين وبالوطن ، ورمت بشيوخه ورُقاته في غياهب البؤس الفكري والسفه الروحي بعد أن لاذوا كغيرهم من المواطنين بالحجر الصحي احتماء من الوباء . لقد أدرك المواطنون اليوم أن الدولة بمؤسساتها الطبية والأمنية هي الساهرة على أمنهم وأرواحهم ولم تعد لهم ثقة في أعشاب الرقاة وطلاسيمهم . حقيقة لم يعد يشكك فيها غير أتباع التيار الإسلامي وهي أن الرقاة والشيوخ وكل رجال الدين لا يجْدون نفعا ولا يدفعون ضررا أو وباء مهما فعلوا . وحده العلم الذي استنجد به المواطنون في كل العالم وتراهن عليه الدول للقضاء على الوباء. ولتكن هذه مناسبة هامة للدولة لتعيد النظر في علاقتها بالتيار الديني بكل فصائله بأن تضع له حدودا تمنعه من اقتحام اختصاصات مؤسساتها بالإضافة إلى استبعاد الرهان عليه في إقامة المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي .فالتيار الديني عموما يناهض التطور والتحديث ولا ينحني إلا خوفا وتملقا ( مناهضته لمشروع خطة إدماج المرأة في التنمية ، مناهضته لقروض دعم المقاولين الشباب ، رفضه للحجر الصحي ولقرار إغلاق المساجد أمام الصلوات الجماعية). جائحة كورونا ، إذن ، أقنعت المواطنين أن الدولة أكثر خوفا وحرصا على حياتهم سلامتهم مما يدعيه ويزعمه تيار الإسلام السياسي الذي يتغذى على الأزمات ويتاجر بالمآسي.