
أ.د محمد سعيد حسب النبي

ما زالت فكرة الإبداع الفني والأدبي تثير الجدل عن النقاد والأدباء وعلماء النفس، حيث يرى النقاد أن المبدعين يولدون وهم يحملون جينات الإبداع في نفوسهم، بينما يرى كثير من علماء النفس أن المبدعين يحتاجون أدوات التعبير عن إبداعاتهم، وهذه الأدوات لابد أن توفرها البيئة المحيطة بالمبدعين، حتى يتمكنوا من نقش أفكارهم أدبًا وفنًا وإبداعًا ظاهرًا.
ولعل المتتبع لحياة المبدعين سيلحظ أن مادة الإبداع كانت متأصلة في المبدع منذ لحظة ميلاده، فهي خاماته الأولية، شأنها شأن فرشاة الفنان وألوانه، وخشب النحات وأدواته، وآلة الموسيقي ومعزوفاته، وقد امتزجت جميعها في يديه، وأفكاره، ومشاعره، وأحاسيسه، وأعصابه، وخلايا عقله، لتشكل شخصيته الإبداعية بسلوكها المبدع، وأعرف من هؤلاء من كتب ورسم وعزف دون معلم أو موجه أو مرشد.
وكل فعل من أفعال المبدعين يعبر عن أصالة إبداعية دون تقليد، أو امتثال، أو توجيه، حيث تدفعهم متعة التعبير على نحو يشعرهم بالتحرر والانطلاق عبر منابع اللاوعي التي لا تعرف الانحسار أو النضوب.
وأظن أن كل من عايش مبدعًاقد لاحظ ضروب القلق والخوف وعدم الاستقرار التي يستشعرها المبدع، ولا يعرف سببًا مباشرًا لها، وأن سعيه الإبداعي –إن صح التعبير- هو محاولة للتخلص من كل أشكال التوتر، حيث التماس الراحة والسلام النفسي بعد ظهور العمل الإبداعي.
والسؤال الآن.. هل يمكن اعتبار القلق الذي يقتات من نفوس المبدعين مصدر إبداعهم؟ والإجابة هي: نعم.. إنه ذلك القلق الذي يستشري في “لا وعي” المبدعين، ويحول حياتهم من الرتابة والروتين إلى حياة مفعمة بالإلهام والإبداع المبين، عبر طبيعة إنسانية متوترة، تشق طريقها من لا وعيها اليقظ إلى وعيها الكامل بطبيعتها المتفردة.
ولعلك تدهش إذا سألت مبدعًا عن الهدف من وراء إبداعه، حيث ترى بعضهم وكأنه يسعى لإعادة خلق العالم؛ فيغمس قلمه وفرشاته وأدواته في “لا وعيه”، ليسلك دربًا جديدًاأو يحل مشكلة مستعصية، وفق منظور يتماهى مع عالمه الذي خلقه أو عالمه الذي يتصوره. والمبدع الأصيل هو الذي ينسج على منواله هو، وليس على منوال الآخرين، حيث عمله القائم بذاته نسيج وحده؛ فالزهرة التي يرسمها المبدع الأصيل يراها في “لا وعيه” زهرة جديدة، وليست محاكاة جافة للطبيعة.
ويشبه ذلك بعض ما ورد في الموروث الشعبي الياباني وفق مذهب “الذي لم يُولد بعدُ”، ويعني أن أي شيء يراه المبدع أو الفنان، وإن كان في واقع حياته العادية، يتولد في “لا وعيه” أولاً، ومن ثم يتصل بخيط رفيع مع الواقع الحسي للفنان أو المبدع، وليس الواقع المرئي فقط؛ وإنما واقع الخبرات الماضية والحاضرة والمستقبلية.
والخبرات اليومية التقليدية عند المبدع ليس لها قيمة أو أهمية في حد ذاتها، وإنما تكتسب قيمتها وأهميتها عندما تثير “لا وعي” المبدع، ولا يستطيع أحد أن يجزم بتوقيت هذه الإثارة أو مسبباتها، فهي تحدث في أي وقت بغض النظر عن ساعات اليقظة أو النوم.
إن هذا التفاعل النفسي في “لا وعي” المبدع يفسر حالة القلق والتوتر التي يستشعرها، وفور اختمارها واكتمالها يصير التعبير عنها حتماً لازمًابحثًا عن السلام النفسي والراحة الوجدانية.
ورغم أن الإبداع وفق المنظور السابق يوحي بعدم القصد والتلقي السلبي من المبدع لمثيرات الحياة اليومية؛ إلا أن إمكانية الوعي “بلا وعي” الإبداع والمبدعين ممكن، حيث إن اللاوعي المُدَرّب الذي يعي تجارب الطفولة، بوصفها الكيان الأهم للنفس الإنسانية، يمكن أن يلعب دورًامهمًا في هذا السياق، كما أن براعة الربط بين الوعي الحياتي واللاوعي الإنساني يؤسس لقدرة الإبداع ويؤصل نواتجه.
Views: 21







