سعيد الكحل.
الطعن في نوايا أعضاء اللجنة وعقيدتهم.
لم تخجل قيادة الجماعة من نفسها وهي ترمي أعضاء اللجنة المشرفة على تعديل المدونة بالفساد ومعاداة الدين “والذي زاد الأمر قتامة أن بعض الأطراف التي أسند إليها الإشراف على “الإصلاح” الحالي معروفة بعدم حيادها وبنشوز مواقفها الإيديولوجية، وذلك على حساب العلماء الأتقياء الصادقين الذين ينبغي أن تكون لهم الكلمة العليا والحاسمة في الموضوع”. بل ذهب بها غلوها وعداؤها لمن يخالفها أن حشرتهم ضمن فئة “فاسدة مفسدة لأقلية تستقوي بالسلطة وبالدعم الخارجي، وتريد أن تصبغ بفسادها كل المجتمع، معادية لكل خلق كريم ولكل حياء متأصل في هذا الشعب”. بهذا المنطق الاستعلائي تتصرف الجماعة وتخاطب مخالفيها، علما أنا من أعضائها فقهاء ودعاة لكنهم لم يجسروا على نشر مقترحاتهم لإصلاح المدونة إلى العموم. كل ما يستطيعونه هو الرفض والمناهضة.
لا غرابة إذن، أن يصدر هذا الموقف التكفيري من الجماعة لأعضاء اللجنة الذين يخالفونها الموقف، فقد اتخذ ذات الموقف وأصّل له مرشدها الشيخ ياسين وادّخر لهم أشد أنواع العقاب همجية حين تسيطر الجماعة على الحكم، وذلك بسمل عيونهم وتقطيع أطرافهم من خلاف ورميهم في الصحراء يموتون عطشا. هذا هو مشروع الجماعة السياسي والمجتمعي القائم على التقتيل والتنكيل بالمخالفين والمعارضين. فهل في ظل هذا النظام الهمجي والوحشي سيتحقق العدل والإنصاف والمساواة ويرفع الظلم والتمييز عن النساء؟
إن المطالب المتعلقة بالمساواة في الإرث وإلغاء التعصيب وإلحاق الطفل بأبيه البيولوجي تقدمت بها عشرات الجمعيات النسائية التي تشتغل في الميدان وترافق ضحايا هذه النصوص والاختلالات، كما رفعها المجلس الوطني لحقوق الإنسان وهو مؤسسة دستورية، بالإضافة إلى عدد من الأحزاب السياسية. كل هذا الطيف من الهيئات يصغي لنبض المجتمع ويلامس هموم المواطنات والمواطنين ويعبر عنها في شكل مطالب واقتراحات.
مشروعية مطالب الهيئات وشرعيتها.
يُحسب للجمعيات النسائية الحداثية والهيئات الحزبية والحقوقية غير الإسلامية طرحها لمعاناة النساء ومآسيهن بسبب تحجر مواد مدونة الأحوال الشخصية التي شرعنت الظلم والاستغلال للنساء، ومن ثم نضالهن المستميت من أجل التعديل والإصلاح؛ بينما جمعيات وتنظيمات الإسلام السياسي ناهضت مطالب التعديل وكفّرت المطالبات والمطالبين به. ورغم تلك المناهضة الشرسة تم تعديل مدونة الأحوال الشخصية وإصدار مدونة الأسرة سنة 2004 التي كانت محط تنويه وتقدير وطنيا ودوليا. وها هي تنظيمات الإسلام السياسي تعاود الكرّة متوهمة أنها ستعطل التعديل والإصلاح الذي دعا إليه عاهل البلاد ويحرص على إجرائه، علما أن تلك المطالب التي ترفعها الهيئات النسائية الحداثية توافق الشرع والدستور والمواثيق الدولية كما هو بيّن أدناه:
1 ـ إلغاء التعصيب: إن التعصيب لا أساس له في القرآن ، بل تم ابتداعه لأسباب سياسية تتعلق بالصراع على السلطة بين آل البيت وخصومهم العباسيين. فبالإضافة إلى أنه غير معمول به في المذهب الشيعي، فإن الثابت عن الرسول (ص) أنه طبّق “قاعدة الرَدّ” التي تمنع العصبة من الميراث عملا بقوله تعالى (وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ) . ففي حديث عمرو ابن شعيب عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم ورّث بِنت المُلاَعِنة من أُمّها أي ورّثها جميع المال ولا يكون ذلك إلا بطريق الرَّدّ. ثم حديث وَاثِلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “تحوز المرأة ميراث لقيطها وعتيقها والابن الذي لُوعِنت به”. وجه الدلالة هنا هو: أن النبي جعل ميراث ولد الملاعنة لأمه، وهذا يقتضي أن يكون جميع ميراثه لها، ولا يكون لها الجميع إلا بالردّ. ثم ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية فماتت أمي وبقيت الجارية فقال (ص): (وجب أجرك وعادت اليك الجارية). فرجوع الجارية كلها إليها دليل على جواز الرد وإلا فليس لها إلا النصف فرضاً، بحيث يمكن بيع الجارية وأخذ نصف ثمنها والنصف الثاني يؤول إلى العاصب. لكن الرسول (ص) عمل بقاعدة الرد دون قاعدة التعصيب.
إن المراد من هذه الأحاديث النبوية الشريفة هو بيان تشريع الرسول (ص) لقاعدة “الردّ على ذوي الفروض مقدم على إرث ذوي الأرحام”. أي في حالة وجود بنت أو أكثر دون الإخوة الذكور، فإن التركة كلها تؤول إلى البنت/البنات. وقد ذهب عدد من الصحابة والأئمة إلى القول “بالرّدّ”، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عبّاس وابن مسعود وجابر بن عبدالله [= جابر بن يزيد] وشريح وعطاء ومجاهد وتَبِعهم في ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقال ابن سراقة: «وعليه العمل اليوم في الأمصار». أما قول عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وجابر بن يزيد: يُرد الفائض على جميع أصحاب الفروض حتى على الزوج والزوجة. ولعل الأخذ برأي الخليفة عثمان بن عفان سيحمي الزوجات اللائي لم يلدن أولادا، أو لهن فقط البنات، من ظلم العصبة، ويضمن لهن الاستفادة من كل التركة.
2 ـ جواز الإجهاض دخل 120 يوم من الحمل: من المآسي التي تترتب عن تجريم الإجهاض أن 14 في المائة من مجموع وفيات النساء ناتجة عن الإجهاض السري. إذ رغم التجريم والتحريم والمنع، فإن 800 عملية إجهاض سرية على الأقل تتم يوميا، و24 طفل يرمون يوميا في الأزقة وحاويات الأزبال. فضلا عن عشرات الألاف من الأطفال متخلى عنهم في الشوارع بسب أعطاب المدونة وأعطاب القانون الجنائي.
ولعلم الجماعة أنه تكاد تجمع المذاهب الفقهية على أن الجنين ما لم يتخلّق فإنه ليس بآدمي، وإذا لم يكن كذلك فلا حُرمة له ومن ثم يجوز إسقاطه. قال المرداوي رحمه الله في “الإنصاف” (1/386):” يجوز شرب دواء لإسقاط نطفة. ذكره في الوجيز، وقدمه في الفروع. وفي مذهب الحنفية: يباح الإسقاط بعد الحمل، ما لم يتخلق منه شيء، ولن يكون ذلك إلا بعد مائة وعشرين يوماً؛ لأنه ليس بآدمي. وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق: نفخ الروح. ومن الأعذار التي أجاز بها الأحناف الإسقاط: أن ينقطع لبَنُ الأم بعد ظهور الحمل، وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر، ويخاف هلاكه.
قال النووي: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر ”وقال ابن حجر: “اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر” وروى البخاري رحمه الله، قال: حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب: قال عبد الله: حدثنا رسول الله – وهو الصادق المصدوق – قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة”. فقوله صلى الله عليه وسلم: “ثم ينفخ فيه الروح” جعل هذا بعد أطوار النطفة، والعلقة، والمضغة، وقد كان لكل طور أربعون يوماً، فمجموع ذلك مائة وعشرون يوماً. وجواز الإسقاط قبل نفخ الروح، هو قول الحنفية والشافعية والحنابلة وجزء من المالكية.
3 ـ إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي: وفقا لدراسة نشرتها جمعية “إنصاف” بالمغرب سنة 2011، بالتعاون مع الأمم المتحدة، بلغ عدد الولادات خارج إطار الزواج بالمغرب 153 مولودا يوميا. ويتوقع رئيس الجمعية المغربية لليتيم أن يصل العدد إلى 155ألف طفل أقل من 15 سنة بحلول 2030. هذه الإحصائيات تتجاهلها الجماعة وباقي تنظيمات الإسلام السياسي. لهذا فإن مدونة الأسرة الحالية تخالف الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب ومنها اتفاقية حقوق الطفل التي تنص في المادة 7 على حق الطفل في معرفة والديه كالتالي: “يسجل الطفل بعد ولادته فورا ويكون له الحق منذ ولادته في اسم والحق في اكتساب جنسية، ويكون له قدر الإمكان، الحق في معرفة والديه وتلقى رعايتهما”. وكذلك المادة 8 من نفس الاتفاقية التي صادق عليها المغرب “تتعهد الدول الأطراف باحترام حق الطفل في الحفاظ على هويته بما في ذلك جنسيته، واسمه، وصلاته العائلية، على النحو الذي يقره القانون، وذلك دون تدخل غير شرعي”.
إن إلحاق الطفل بأبيه البيولوجي باعتماد النَّسَب للشبهة الذي يضفي صفة الشرعية على الطفل المولود خلال فترة الخطوبة، يمكن توسيعه ليشمل كل المولودين خارج إطار الزواج وذلك بالاستناد إلى نتائج الحمض النووي. ومن شأن هذا الإجراء أن يحد، بشكل شبه تام، من ظاهرة أطفال الشوارع والأمهات العازبات وانعكاساتها السلبية على الضحايا من الأمهات والأطفال. فالخطوات الدستورية التي قطعها المغرب لم تعد تسمح بأن تظل الأنماط الثقافية التقليدية تكبل المشرّع المغربي وتضعه في تناقض مع المادة 5 من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة التي تنص على:
“تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة، لتحقيق ما يلي:
(أ) تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على فكرة دونية أو تفوُّق أحد الجنسين، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة؛
(ب) كفالة أن تتضمن التربية الأسرية تفهما سليما للأمومة بوصفها وظيفة اجتماعية والاعتراف بالمسؤولية المشتركة لكل من الرجال والنساء في تنشئة أطفالهم وتطورهم، على أن يكون مفهوما أن مصلحة الأطفال هي الاعتبار الأساسي في جميع الحالات”.
إن مسألة إلحاق الابن بأبيه البيولوجي أفتى بها كثير من الأئمة وفقهاء المسلمين، قديمهم وحديثهم، بالاستناد إلى اجتهاد عمر بن الخطاب ومقاصد الشريعة الإسلامية. فقد أفتى به أبو حنيفة وابنِ تيميَّة وإسحاقُ بنُ راهويه وسليمانُ بنُ يسارٍ وابنُ سيرين والحسنُ البصريُّ وإبراهيمُ النَّخَعيُّ وغيرُهم.
ومما استدل به ابنُ تيمية في جواز لحوقَ ولَدِ الرَّجل مِنَ الزِّنا إذا استلحقه ـ ولا فِراشَ ـ:
ـ بما رواه الإمام مالكٌ في «الموطَّإ»: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الإِسْلَامِ» أي: كان يُلحِقُهم بهم وينسبهم إليهم وإِنْ كانوا لِزنيةٍ، وقد روى عيسى عن ابنِ القاسم في جماعةٍ يُسلِمون فيستلحقون أولادًا مِنْ زِنًا، فإِنْ كانوا أحرارًا ولم يدَّعِهم أحَدٌ لفراشٍ فهُم أولادُهم، وقد أَلاطَ عمرُ رضي الله عنه مَنْ وُلِد في الجاهليَّة بمَنِ ادَّعاهم في الإسلام، إلَّا أَنْ يدَّعِيَه معهم مَنْ أمَّهاتُهم فراشٌ له وهو سيِّدُ الأَمَةِ أو زوجُ الحرَّة.
ــ كما أيده ابنُ القيِّم بقوله: «والقياس الصحيح يقتضيه، فإنَّ الأب أحَدُ الزانيَيْن، وهو إذا كان يلحق بأمِّه، ويُنسَبُ إليها، وتَرِثُه ويَرِثها، ويَثْبُتُ النَّسَبُ بينه وبين أقاربِ أمِّه مع كونها زنَتْ به، وقد وُجِد الولدُ مِنْ ماء الزانيَيْن، وقد اشتركا فيه، واتَّفَقا على أنه ابنُهما، فما المانعُ مِنْ لحوقه بالأب إذا لم يدَّعِه غيرُه؟ فهذا محضُ القياس»(انظر فتوى رقم: (464) الموسومة ﺑ: «في حكمِ نكاح الزانية واسْتِلحاقِ ولَدِه منها» على الموقع الرسميِّ لفضيلة الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ).
لا يمكن أن ننتظر من الجماعة أن تقدّم مقترحاتها المتعقلة بإصلاح المدونة؛ فهي أولا جماعة غير معترف قانونيا، ومن ثم لن تشارك في اللقاءات الرسمية حول تعديل المدونة. ثانيا، تصورها لا يخرج عما حدده مرشدها في كتاب “تنوير المؤمنات”. ثالثا، اشتراط الجماعة تغيير النظام مدخلا لإصلاح المدونة.