بروكسيل : مصطفى منيغ
رَنَّ جرس الهاتف فكان المتحدِّث السيد “أحمد القرطبي” مدير ديوان عامل الإقليم ، الذي طلب منّي الحضور لمكتب العامل إن تمكّنتُ من ذلك الآن . بعد نصف ساعة كنتُ هناك لأجد السيد “محمد الدبّي القدميري” منشرح الخاطر مرتاح البال ليذكّرني :
– من حوالي السّاعة كلَّمني معالي وزير الداخلية ويطلبُ منى إبلاغكَ شُكره عن المجهود الذي بذلته ولا زلتَ ، وبخاصّة النتائج المُبهرة التي حقَّقتَها ببرنامجكَ “عمي صالح الجزائري” ، الكاسح للساحات السياسية الرسميَّة خاصة والشعبية عامة ، وأنّ فكرتَكَ خلال أسابيع ثلاثة ، و الأسلوب الذي قدَّمتها في قالبه المحصَّن باستحالة الانتباه لحقيقة شخصيَّتكَ إن كنتَ بالفعل ذاك الجزائري الذي تقمَّصتَ دوره بإتقانٍ خُرافي ، خَلَقْتَ ارتباكاً معنوياً شديد التأثير في مسار أجهزة مقرَّبة للرئاسة الجزائرية ، ممّا يترتّب علينا حمايتكَ من أيّ سوء مدبَّر من طرفها لإسكاتكَ ، وأوصاني أن أتكلَّف شخصياً بالموضوع . بالفعل بدأتُ في مثل الإجراءات ، فكان أوَّلها العثور على مسكنٍ دائم الحراسة ، عَصِيّ على مَن يريد الوصول إليه من أي كان، سيِّئ النيَّة والهدف ، تتلوها خطوات أخرى سأطلعكَ عليها في حينها وقريباً ، لان الموضوعَ لا يحتمل التّأخير . وعليك أن تساعدنا بعدم ظهورك كثيراً في الشوارع المزدحمة ، أمَّا علاقتك بالنساء يجب أن تكونَ محدودة للغاية فهنّ سبب المصائب جلّها ، إنني على اطلاع أولاً بأول بالشِّباك الملقاة عليك من تاجر الحمير أو الأغنام ذاك ، وقد برهنتَ أنّكَ في مستوى معالجة ما يخصّك باقتدارِ الرجل العاقل الذي يعرف مصلحته النظيفة المستقيمة مع مَن ، لا علينا التدخّل قي مثل الأمور لكن أمرك مختلف يندرج في اعتباري لكونك طاقة وطنية تستحقّ العناية بما يليق سلامتك ولا تنسى أن العيون مسلّطة عليك ليس في “وجدة” وحسب ولكن في “الرباط” أيضاً ، وبما أنك ذكي فإنك تعي جيّداً ما أقول . قبل أن أنسى هناك الاستاذ “الطيب بلعربي” أنتَ تعرفه جيّداً من المقرَّبين جداً لرئيس الحكومة السيد أحمد عصمان ، أراد مقابلتك أكثر من مرَّة وكأنه أحسَّ أنك ترفض مقابلته ممَّا جعله يكلّمني عسى أن أتركك تتَّصل حيث يقيم في النزل القريب من محطة القطار ، هذا لا يعني إرغامك على فعل شيء لا ترتاح له ، لذا اعتبر الفاعل مجرد تلميح .
– تعلم سعادة العامل بمعزَّتك عندي ، بالتأكيد حاولتُ البقاء بعيداً عمَّا يدبّره هؤلاء من اجتهاد لتأسيس حزب يُوضَعُ على رأسه الاستاذ أحمد عصمان ، وزير الداخلية نفسه نصحني بالابتعاد عن مثل الانشغال بسياسة الأحزاب ، ربما لمعرفته وهو متمكّن من ذلك لما له من إمكانات استعلامية دقيقة الملاحظة ، أنني إنسان لا يطيق أن تتحكّم فيه نظرية قائمة على التطاحن ولو السلمي وصولاً للسلطة كهدف أخير بطرق لا علاقة لها بالأخلاق البتَّة ، على كلٍ ورائي التزامات كثيرة يُستحسن الانكباب على قضائها لو سمحتَ لي سعادة العامل بالانصراف.
…في النزل المذكور وبداخل غرفة من غرفه الأكثر أناقة وتجهيزا مما يجعلها تليق بمقام مستأجرها ، جلستُ وجهاً لوجه مع الأستاذ الطيب بلْعَرْبِي الذي سبق وشغل منصب المدير العام للإذاعة والتلفزة المغربية ، وأيضا سفير المملكة المغربية في كونكري خلال مرحلة سابقة ، المقرّب كما قيل لي بعلاقة مُصاهرة مع السيد أحمد عصمان الوزير الآول في حكومة ذاك الزمان المَلِيء ببؤر المشاكل العويصة كان ، المترتّبة عن بدايات يمكن إلحاقها بتحوّل يستحق دراسة الوسائل الطبيعية وغير الطبيعية التي استعملها ، لفهم مراميه ولو بالجزء البسيط من أسرار أسراره ، ومنها تغيير بعض الأسماء بأخرى أزيد ملاءمة مع المأمول إدراكه في مغرب ما بعد تحرير الصحراء . بادرني الأستاذ بلعربي في توطئة كلامية تتخلّلها دبلوماسية أعرف مغزاها جيدا وأوان استعمالها في مفاوضات غير متكافئة الطرفية :
– إعلَم أخي منيغ أن الحوار النزيه القائم سيكون بيننا على استشراف ما تتضمنه الفكرة التي حاولتَ بجدِّية التسويق لجزء من مضامينها وأنت تخطب علينا تلك الأمسية التي وَجَبَ مثل اللقاء أن يتمّ لوضع بعض النقط على بعض الحروف . أنت إنسان رغم حداثة سنّك تستحقّ مثل اللّقاء مع رجل له من التجارب ما كان يستطيع الترفُّع عن إجرائه لسببين ، أوَّلهما أنكَ لوحدك ستبقى مهما حاولتَ عكس ذلك ، وثانيهما أننا أصحاب هذه المدينة ازدياداً وتكويناً وترعرعاً ومعرفة لطبيعة مَن تواصلنا معهم طيلة عقود ليحصل بيننا ما يوطّد الثّقة الكاملة الساعية لخدمة حاضرها ومستقبلها ، لذا مصلحتك مرتبطة بالانضمام إلينا ليس إلاّ.
– اسمع أيها الرّجل المحنَّك ، لو كان ما تقوله عن قوَّتكم بالأمر الصحيح لما كنتم في حاجة لإقناع مواطن مغربي بسيط مثلي ، لذاك الانضمام الذي أشك في عدم هشاشته ، باستعمالكم وسيلة مُتجاوزة عند الكثيرين من المنتسبين لمدينة وجدة ، لا تخلو من الترغيب المُعتَمد مؤقتاً ممَّن يُظهر أنه حبيب بكلام منمَّق لا يصدِّق مجمله غريب . لستُ ممَّن يبحثُ عن مكانةٍ بينكم ، عكس ما تبحثون أنتم عن مكانة بيني ، لأنكم تتحركون بأوامر مطاعة تعادل ما تتوصلون به من ماديات ، وحبذا لو كان عملكم يرقى لانجاز ما تحتاجه هذه “الجَدّةّ” وجدة ، ممَّا تستحقه عن جدارة ، لتلتحق بشقيقاتها “فاس” ، أو “مراكش” ، أو “سِطَّاتْ” على الأقل . طالما سمعتُ السيد “عبد الرحمان حْجِيرَة” المناضل المكافح المحكوم عليه بالإعدام من طرف الاستعمار الفرنسي بتهمة المشاركة في مقاومته لتحقيق استقلال المغرب برمته وليس استقلال وجدة فقط ، طالما استمعتُ له وكانت لآخر مرة أثناء الاحتفال بعيد العمال فاتح مايو ، وتساءلتُ مادا يريد الرجل وهو ما هو عليه من توقير ومكانة رفيعة لدى الجميع ، فجاءني الرد التلقائي أنه يريد لوجدة وأهالي وجدة التمتُّع بكل الحقوق الضائعة ، وخلال وجودي المطوّل نوعا ما في قرية “عين بني مطهر” اتَّخذت والد المناضل الكبير”عمر بن جلون” صديقاً ومعلّماً ومثالاً يُتحذى به من حيث التواضع وقول الصدق وتجلّد الرجال الواقفين ولو داخل شبر من الأرض وقوفَ النّخلة الصَّامدة للرياحٍ مهما هبَّت عاتية ، تلك الصداقة التي تتلمذتُ على يدها لأتخرَّج بموقفٍ لن أغيّره أبداً ، أن استقلَّ برأيي إن كنتُ فيه على حق ، وأن أعملَ لصالح وطني ما دام هذا الوطن على حق ، وأن احترمَ نفسي لأُحْتَرَم من طرف الجميع ، وقبل أن أنهي حديثي معك أودّ أن تسجّل أيها الطيِّب بلعربي المحترم في ذهنكَ هذه التجربة / الحِكمة . وصلتُ في السنوات الأولى من الستينيات إلى المملكة الهولندية وتحديداً إلى مدينة “اتريخت” لابتعد عمَّا واجهني من ضيق التضييق في وطني المغرب وأنا في مدينة تطوان كرئيس فرع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بالشمال ، أتطلَّع كشبابها لمستقبل أفضل ، تعرَّفت هناك بواسطة صديقي “الدكتور بَاوْسْ” محامي الحكومة الهولندية ، على فتاة آية في الجمال ، بعد أيامٍ قليلة اكتشفتُ أنها ميَّالة لي ، بل أكثر من ذلك طلبت مني وبمحض إرادتها ، أن يجمعنا بيت واحد ونحن متزوجين رسمياً ، قابلتُ العرض باطمئنان شديد وفرح لا يوصف ، الفتاة والدها من أصحاب مصانع وثروة هائلة ، لمَّا علِم بالخبر عن طريق ابنته ، أصيب بالدهشة وكأن صاعقة ضربته ، فكان عليه أن يقابلني في بيت العائلة الكبير وليس في مكتب من مكاتبه وما أكثرها ليقول إلى بالحرف الواحد:
– اعلمُ الآن أن ابنتي تعلَّقت بكَ لدرجة أكاد لا أصدقِّها ، طبعاً لن أتدخلَّ في اختيارها وقد تجاوزت العشرين من عمرها ، بل من حقِّها العيش مع مَن تريد ، لكن أودُّ أن أمتحن أخلاقكَ وقوة التربيّة النّبيلة التي ترجمتها وأنت تشتغل في إحدى مصانعي أن كانت حقيقية نابعة من جذور أصيلة متأصلة في كيانك ، أم مجرَّد مرحلة صبرتَ لتستغلَّها في مكاسب خطَّطتَ للفوز بها وبإتقان ، ومنها الاستيلاء على قلب وعقل ابنتي ، خلال هذا الامتحان أضعكَ بين اختيارين ، أن تعيشَ مُعتمداً على دخْلِك المادي أو علّة على محفظة نقودي ؟؟؟ ، وفي كلتا الحالتين ستخسر الكثير ، إذ مطالب ابنتي ستكون كثيرة قد تعرّضكَ لمواقف من الصَّعب أن يقبل بها رجل صاحب ضمير مثلك ، ومَتَى التجأتَ إليَّ سأذكّرك بقيمتك الحقيقية التي جعلتك تبيع كبرياءك من أجل نزوة لم تستطع مقاومتها لضعف مبادئك.
… قلتُ له وباحترام وبلغته الهولندية السليمة :
– مهما قسوت عليّ وابنتك وجدتك رجلاً عادل التفكير ، واضعا حداً لعلاقة لا يعير التَّاجر مثلك أي اعتبار لاية روابط إنسانية تبعده عن تكديس الربح بعضه فوق بعض بأقصى اهتمام، دون أن يعلم أنه مهما كسب مصيره الدود يزدرده بنهم . وحتى ألقِّنك درساً لا تنساه أن الواقف أمامك لن يبيع شرف مغربيته ولو بما في المملكة الهولندية من مصانع و ثروات ، وتيقن أنك وابنتك لن أشرّفكما برؤية وجهي ابتداء من هذه اللحظة . (يُتبع)