سعيد الكحل
كعادته في التهريج والشعبوية “الحامضة” التي عافها المغاربة منذ أن اكتشفوا حقيقة تجار الدين وسماسرته، حاول بنكيران، يائسا ومخذولا، أن يقف في وجه تعديل مدونة الأسرة والقانون الجنائي من طرف وزير العدل. ففي كلمته التحريضية ضد السيد وهبي بخصوص رفع التجريم عن العلاقات الرضائية والمساواة في الإرث، أثبت بنكيران جهله الكبير للدين وللتراث الفقهي عموما والمغربي على وجه الخصوص، الذي تميّز فيه فقهاء سوس بالفتاوى المنصفة للنساء والمقدِّرة لكدّهن وسعايتهن في تنمية ممتلكات الأسرة.
دون أن يخجل من نفسه أو يستحيي من الشعب، يتحدث بنكيران عن غلاء المعيشة وضعف القدرة الشرائية لعموم المغاربة، وهو الذي اتخذ قرار تحرير أسعار المحروقات وتقييد صلاحيات الحكومة أمام تغوّل شركات توزيع المحروقات. بل هو الذي اتخذ سلسلة قرارات أشد إجحافا وظلما لغالبية الشعب المغربي. إذ لو كانت به ذرة من الحياء لخجل من نفسه قبل أن يخجل من المكتوين بنار الغلاء. عشر سنوات قضاها حزبه على رأس الحكومة فلم تزد الأوضاع الاجتماعية إلا تدهورا والفساد تغوّلا. أليس بنكيران من عفا عن المفسدين ناهبي المال العام بقرار “عفا الله عما سلف”؟
“لو سَتَرتَه بردائِكَ لكان خيرًا لك”.
على يقين أن بنكيران يعرف هذا الحديث النبوي الشريف ويعرف ملابساته، لكن جهالته أعْمته عن قول الحقيقة وهي أن الإسلام لم يعاقب دنيويا على الزنا في حد ذاته بقدر ما يعاقب على الممارسة العلنية له. أي حين يتم في مكان يسمح للغير بمعاينة العملية الجنسية التامة. لهذا أوجب الله تعالى أربعة شهود عدول يشهدون بمعاينتهم للفعل حتى يتحقق فيه شرط “الإخلال بالحياء العام”، أي يكون خادشا للحياء. وممارسة الجنس علانية هي مخلة بالحياء حتى وإن كانت بين زوجين شرعيين. وإذا لم تتحقق العلانية بتوفر أربعة شهود يُجلد المبلِّغون (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور:4. وهذا ما قصده عمر بن الخطاب بقوله (إنَّما جعل الله أربعة شهداء ستراً ستَركم به دون فواحشكم، ولو شاء لجعله رجلاً صادقاً أو كاذباً، فلا يطَّلعنَّ سِتْر الله منكم أحد). أما اقتحام المساكن والتجسس على الناس في الأماكن المغلقة فهو مخالف للشريعة ومناف للنهي الإلهي فعلها عمر بن الخطاب واعتذر نادما على فعلته كما جاء القصة (خرج عمر بن الخطاب يوما فرأى ضوء نار وكان معه عبد الله بن مسعود فتبع الضوء حتى دخل الدار فوجد سراجاً في بيت فدخل وذلك في جوف الليل فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب ومغنية فلم يشعر حتى هجم عليه عمر فقال: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله، فرفع رأسه إليه فقال: بلى يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أقبح تجسست وقد نُهي التجسس، ودخلت بغير إذن. فقال عمر: صدقت ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي، وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه).
إن من مقاصد الشريعة ستْر الناس وعدم التشهير بهم أو التجسس عليهم. والقانون الجنائي المغربي فيما يتعلق “بالفساد” أي الزنا غير مستمد من الشريعة ويتنافى مع مقاصدها من جوانب عدة أهمها:
1ـ إنه يحرض على التجسس على الآخرين والله تعالى نهانا عن ذلك (ولا تجسسوا).
2 ـ إنه يقوم على التشهير بالناس وقد أوصى رسول الله (ص) بالستر (مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا في الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ سَتَرَهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وهذه كانت سيرة أبو بكر الصديق الذي قال: (لو أخذت سارقاً؛ لأحببت أن يَسْتُره الله عزَّ وجلَّ، ولو أخذت شارباً؛ لأحببت أن يَسْتُره الله عزَّ وجلَّ). الرسول والخلفاء سعوا إلى الستر وبنكيران يسعى إلى التشهير.
3 ـ إنه خراب للبيوت وللنفوس وللعلاقات الأسرية والاجتماعية، إذ يذهب ضحيته كل أفراد الأسرة والعائلة الذين لا ذنب لهم فيما حصل.
4 ـ إنه يخالف الدستور الذي أقر في ديباجته تبني منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، وكذا سمو المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب على التشريعات الوطنية ، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص في المادة 17 على أنه “لا يجوز تعريض أي شخص، على نحو تعسفي أو غير قانوني، لتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته، ولا لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته”. وقد ارتأت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهي هيئة الخبراء التي تفسر بنود العهد، أنه “بقدر ما يتعلق الأمر بالمادة 17 فإنه مما لا خلاف عليه أن الممارسة الجنسية التي تتم بالتراضي بين بالغين في النطاق الخاص مشمولة بمفهوم ’الخصوصية‘”. فمسؤولية وزير العدل تقتضي منه ملاءمة التشريعات الوطنية مع المواثيق الدولية ومع الدستور.
إن بنكيران الذي يزعم دفاعه عن المرجعية الإسلامية، وهو ينتقد وزير العدل فيما يتعلق بنيته رفع التجريم عن العلاقات الرضائية، يتجاهل واقعة ماعز الذي زنا بأمَة هَزّال حيث قال الرسول (ص): ((يا هَزَّال.. لو سَتَرتَه بردائِكَ لكان خيرًا لك)). فبنكيران يصر على مخالفة الرسول وتعاليم الإسلام، ليس حبا في الدين ولكن تجارة به من أجل المكاسب السياسوية. لهذا يسعى إلى خراب البيوت وتشتيت الأسر بقانون وضعه الاستعمار الفرنسي (قانون نابليون سنة 1810) ليكبّل به المغاربة، بينما لا يطبّق في فرنسا وكل الدول الديمقراطية.
لا بأس أن أذكّر بنكيران بقصة شُرَحْبِيل بن السِّمْط الذي كان على جيشٍ، فقال لهم: “إنَّكم نزلتم أرضًا كثيرة النِّساء والشَّراب -أي: الخمر- فمن أصاب منكم حَدًّا فليأتِنا فنطهِّره”.. فأتاه ناسٌ..! فبلغ ذلك الفاروقَ… فكتبَ إليهِ: “لا أمَّ لك! أنت الذي يأمرُ النَّاسَ أن يهتِكوا سِتْرَ اللهِ الذي سَتَرَهُم به!!؟”
أما القول بأن رفع التجريم عن العلاقات الرضائية سيفسد المجتمع ويخرب الأسر فمردود عليه من نواحي عدة أبرزها:
1ـ إن المجتمعات الديمقراطية بما فيها المسلمة (تركيا نموذجا ثم الإمارات العربية المتحدة) التي تبيح العلاقات الرضائية يعيش مواطنوها التوازن النفسي والاستقرار الأسري والاجتماعي الذي يفتقر إليه المجتمع المغربي والمجتمعات التي تجرّم هذا النوع من العلاقات.
2 ـ إن تجريم العلاقات الرضائية لا يقضي عليها؛ ولعل الملفات المعروضة على القضاء وضحايا التجريم الموجودين في السجن خير دليل.
3 ـ إن ما ينخر المجتمع المغربي من جرائم الاغتصاب وزنا المحارم وهتك العرض والتحرش رغم وجود القانون المجرّم لهذه الممارسات المنحرفة لدليل على فقدان التوازن النفسي داخل المجتمع والذي مردّه إلى الحرمان الناتج عن تجريم العلاقات الرضائية.
4 ـ إن من أسباب التطرف والإرهاب الحرمان الجنسي الذي يعاني منه الشباب في المجتمعات العربية والذي يجعلهم يتوقون إلى “الاستشهاد” انتحارا ليفوزوا بالحور العين والحرية الجنسية في الجنة بدون قيود، أي ما سماه الديالمي “الحريك نحو الجنة”. لهذا يؤكد الأستاذ الديالمي “إن الإرهابي لا ينظر إلى نفسه كإرهابي، وإنما كاستشهادي يجاهد في سبيل الله ضد المرتدين والكفار. إن التواعد بالالتقاء في الجنة مكان السعادة الجنسية الأبدية لمؤشر له أكثر من دلالة على الحرمان الجنسي”. يمكن مراجعة كتاب “المدينة الإسلامية والأصولية والإرهاب: مقاربة جنسية” للأستاذ عبد الصمد الديالمي.