مهاجر إلى أرض الله : تجربة متفردة لعبد الرحيم حمينة تستحق أن نتوقف مليا أمامها

جسر التواصل19 أبريل 2020آخر تحديث :
رشيد الياقوتي
ليست الهجرة دوما قدرا قاسيا على المهاجر ولا شرفة مفتوحة على العذابات والمكابدات الإنسانية، إنها تجربة وجودية تخترق المكان/القدر، مشرعة على احتمالات رائعة تعطي للحياة معنى يتجدد وفق الجغرافيا واللغة والبيئة المستقبلة. إنك لا تنتمي للأرض التي ولدت فيها ولا لشجرة الأنساب التي سقطت من اغصانها مثل فاكهة تحتفظ بطعم الجذع وطهارة الأغصان.. انك تنتمي للأرض وللإنسانية، قدرنا أن نضرب عصانا بأرض الله ونحن محملون بعبء رسالة إنسانية تعطي لوجودنا معنى خليقا بآدميتنا.
إنها تجربة متفردة تلك التي عاشها ويعيشها عبد الرحيم حمينة، الشاب المغربي الذي رأى النور بمدينة سلا باب بوحاجة، ذات يوم مشرق من أيام أواسط ستينيات القرن الماضي. كانت سمات النبل و النباهة بادية على وجهه، تجيش بصدره مشاعر إنسانية تتجاوز العشيرة والبلد إلى أخيه الانسان. كان عبدالرحيم يدرك بحسه المرهف أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.
نشأ عبدالرحيم في ظروف صعبة نسبيا، وهو الشاب الطموح، المشرئب إلى غد مشرق، يعانق فيه أمنياته التي لا تتحقق في واقع تشتبك فيه احلام اليقظة مع الاكراهات العصيبة. مع ذلك واصل، برباطة جأش وعزيمة لا تلين، تعليمه إلى أن حصل على شهادة البكالوريوس. لكن حلمه كان أكبر من مجرد شهادة ورقية، بالكاد توفر له شغلا مقابل أجرة بئيسة.. كان عبدالرحيم يحدس بذكائه الوقاد أن القدر يخبئ له أمرا ما يليق بطموحه الكبير..
في لحظة وهو يتأمل نهر ابي رقراق مثل حبل سري، مشدود إلى البحر، نظر عبدالرحيم إلى أبعد من النهر، ذات غروب وقد صبغ الأصيل الأفق بلون عسجدي يسحر العيون ويبهج الصدر، كانت نسيمات المساء تداعبه مثل حوريات قادمة من وراء المحيطات تحكي له عن عوالم وردية، أراض بكر تناديه إلى افيائها الخضراء حيث تتحقق الأحلام المجهضة دونما عناء..
في لحظة استفاق عبدالرحيم من اغفاءته الخفيفة وعقد العزم على شق البحر بعصاه… مقتفيا موسى و ماجلان وكل الرحالة الماخوذين بعبق البحر.
لم تكن في جيب عبدالرحيم سوى شهادة البكالوريا شعبة الاقتصاد وادعية الاهل والاحباب، زادا له في السفر وهو يطير إلى بلاد العم سام، أرض الأحلام المتحققة.
بعد ساعات من الطيران قاطعة المحيط، هبطت الطائرة التي تقل الشاب السلاوي، محملا بحقائبه، مشبعا بايمانه الراسخ وعزمه برفع التحدي مهما كلفه الثمن.
كانت امريكا ثمانينيات القرن الماضي مجمعا إنسانيا لكل الأعراق، القادمين من آفاق قصية فرارا من الأراضي الخراب، بحثا عن جنة الله في ارضه التي وسعت كل الأحلام. كانت امريكا بالنسبة له حلمه الذي راوده منذ سنين، الأرض التي فتحت له ذراعيها و احتضنته برفق وهو الشاب الودود والخلوق. و بقدر ما كانت بوسطن مغرية بقدر ما كان عبدالرحيم يتوجس خيفة من مغرياتها، من حسانها الأماليد من الشقروات المتربصات بالسحنات السمراء، من علبها الليلية الضاجة بالصخب حيث تجري ابنة العنب انهارا من المساء إلى الصباح،حيث طاولات القمار تستهوي الباحثين عن الثراء السريع…فكر عبدالرحيم مليا في مصيره المحتوم وهو مقبل على حياة جديدة، بعيدا عن حواري وازقة سلا، بعيدا عن الدفء العائلي، تذكر ما عانه وما كابد من مشاق من أجل تحقيق حلمه، استحضر دموع أمه وهي تودعه، داعية له بموفور الصحة والتوفيق في هجرته المشوبة بالخوف من المجهول والحذر من مطبات الايام. ما أقسى أن تسلم ام رؤوم فلذة كبدها إلى المجهول.. إلى قارة نائية حيث الغربة والوحدة بعيدا عن مراتع الطفولة وحنان الأم الذي لا تعوضه لا الدولارات ولا أرقى المناصب..
استجمع عبدالرحيم قواه، تنفس الصعداء رافعا نظره إلى السماء، متضرعا إلى الخالق : يا ربي عاوني انا مرضي الوالدين، يا ربي يسر لي أمري، واحفظني من كل مكروه”..
تابع عبدالرحيم دراسته الجامعية واتمها بامتياز، إذ حاز على شهادتي الليسانس والماستر متفوقا فيهما في مجال التدبير المالي والعقاري. شغل عبدالرحيم منصب مدير عام في شركة عقارية واستقر بمدينة بوسطن و هي عاصمة كومنولث ماساشوستس في الولايات المتحدة وأكبر مدنها سكانا. اخيرا ابتسمت الحياة لعبدالرحيم وهو يتسلق مدارج النجاح متسلحا دوما بايمانه القوي وعزمه على تجاوز الصعاب.
عاش عبدالرحيم حياة مستقرة، بتركيز تام في عمله بعد أن تزوج مهاجرة مغربية رزق منها ذرية حسنة، كان يرى في شريكة حياته وطنه وأهله، يشتم في عطرها عبق التراب المغربي. حافظ عبد الرحيم على هويته وعقيدته لا يتزحزح عنها في غمرة الأهواء والملل التي كانت تضج بها أمريكا. مع ذلك انتبه إلى أن الإنسان واحد في كل البلدان، لقد خلق الله سبحانه وتعالى بني آدم وجعلهم مختلفين في الألوان والأعراق والأرزاق، فخلق الفقير والغني والقوي والضعيف وسخر الناس بعضهم البعض ليبلوهم أيهم احسن عملا وايهم ارحم باخيه الإنسان..
كانت امريكا بكل عظمتها وجبروتها، بملء ناطحاتها السامقة وكل مظاهر الغنى، الفاحش احيانا، كانت مرتعا للفقر والهشاشة والعنف، في مفارقة غريبة لم يعهدها عبدالرحيم، لم يكن الأمريكيون بذلك التراحم الذي آنسه بين الناس بالوطن الأم..لذاك عقد العزم على القيام بعمل صالح، مصداقا لقوله تعالى في كتابه العزيز: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) صدق الله العظيم.
أسس عبد الرحيم جمعية ذات طابع إنساني خيري، تعنى بالأيتام وألمحرومين من الأطفال، وذوي الاحتياجات الخاصة، لم يأت هذا التأسيس من فراغ.. إن عبدالرحيم الذي نشأ في مدينة وترعرع في أحياء جل اسرها فقراء، عرف معنى الشدة والفقر، عرف وشاهد بعينيه أطفالا لا معيل لهم يتسكعون في الطرقات بحثا عن كسرة خبز، متسولين في الساحات العامة، متوسلين قلوبا رحيمة عساها تراف بهم و ترق لحالهم، أطفال حرموا من متاع الدنيا ومن عطف الوالدين، أطفال تقاذفتهم أهوال الزمان في مجتمع تقل فيه اسباب العيش الكريم بالنسبة للطفل اليتيم. إن عبدالرحيم بعد عقود من السنين ظل ذالك الطفل البريء الذي ينبض قلبه بالحب، حب الآخرين. هكذا يعيش ويفكر عبدالرحيم في غدوه ورواحه، متمسكا بمبادئ العقيدة السمحاء، مصداقا لقوله تعالى “ليسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ.. ” صدق الله العظيم.
الاخبار العاجلة