آثارنا العريقة، المسروقة والمنهوبة، من يعيدها إلى موطنها؟.

جسر التواصل17 أبريل 2020آخر تحديث :
آثارنا العريقة، المسروقة والمنهوبة، من يعيدها إلى موطنها؟.

محمد أديب السلاوي

-1-

الآثار الحضارية، سمة ثقافية لأمتنا، يعود الفضل لها، لما تختزنه من حيوية وقدرة على الاستمرار، وعلى البوح بحسها الإبداعي/ الجمالي، لذلك تكون أسئلتها الثقافية والإبداعية محرقة، موجعة ومؤلمة، أسئلتها أبعد من ذلك، تتيح لنا في هذه المرحلة من التاريخ، استنباط كل ما يؤكد الشيء الخالد والنفيس لقيمنا الحضارية.
المغرب الذي لا يملك حتى الآن، جردا مدققا بآثاره المسروقة، يضم 15 ألف موقع أثري، منها المواقع المعروفة ما قبل الميلاد وما بعده، ومنها المواقع الإسلامية، اضافة إلى أضرحة وتحصنات ومدن أثرية، ما زالت مطمورة تحت التراب، يتربص بها الكنازين الذين يبحثون عن الثروة عن طريق الحفريات السرية التي يقومون بها بعيدا عن الأعين، للحصول على القطع الأثرية.
المغرب الذي يعتبره خبراء الآثار خزانا تراثيا هاما، اضافة إلى ما سرق من آثاره على يد القوات الأجنبية، في العهود الماضية، عرف في العقود الأخيرة، سرقات في واضحة النهار على يد أهله وأبنائه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، سرقة مكتبة تامكروت التاريخية في الجنوب المغربي/ سرقة حصن شالة التاريخي بالعاصمة الرباط/ السرقات المتعدد لموقع ليكسوس بشمال المملكة/ سرقة متحف الجامعي بمكناس/ سرقة واقيات ودروع من ضريح أبي المحاسن (باب فنوح بفاس) وهي آثار تؤرخ لمعرفة الزلاقة التي انتصر فيها المرابطون على ملك قشتالة، الفونسو السادس/ سرقة المنبر الخشبي لهذا الضريح وقطع أثرية أخرى يرجع في كونها تعود إلى ألف سنة واللائحة طويلة وعريضة.
لأجل ذلك، يكون السؤال الموجه إلى الوزارة المعنية/ وزارة الثقافة، في هذه الورقة: إلى متى ستظل السياسة الثقافية/ الحكومية ببلادنا، صامته عن السرقات التي تتعرض لها آثار المغرب التاريخية/ الحضارية/ الثقافية… وإلى متى ستظل مبتعدة عن إثارة هذا الموضوع الشائك..؟

-2-

طبعا، إشكالية تهريب الآثار، ليست مغربية.
تقول مراجع التاريخ، إن جهات عديدة من العالم العربي، من ضمنها المغرب بطبيعة الحال، عرفت أواخر القرن الثامن عشر غزوا استعماريا منظما، حيث وصلته بعثات ثقافية فرنسية وبريطانية وألمانية واسبانية وبرتغالية( ) لتصاحب حملات الغزو العسكري الأوروبي، ولتقوم بعمليات المسح الثقافي لكافة الآثار العمرانية والفكرية والفنية التي كانت تزخر بها البلاد العربية المستهدفة، عبر تاريخها العريق.
هكذا، تكون هذه البعثات، قد وصلت إلى المغرب في مطلع القرن التاسع عشر، في صيغ وحالات ومسميات مختلفة، وذلك قبل وصول الجيوش الفرنسية الإسبانية الغازية، لتقوم بالمهارات ذاتها التي قامت بها البعثات الأوروبية الأخرى إلى المشرق العربي (مصر/ سوريا/ لبنان/ العراق/ الأردن) والتي يندرج ضمنها مسح الآثار وتصنيفها إلى عصور وأزمان وقيم، وترحيل أهمها إلى بلاد الغزاة.
يقول صاحب كتاب “بريطانيون في الشرق الأوسط” أن الناس في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، “جنوا”بالمخلفات الأثرية، ولم تكن أية حديقة عامة أو خاصة تعتبر تامة، ما لم تقم فيها الصدور والجذوع والمزهريات الأثرية التي تجلب من بلاد المشرق، أو بلاد المغرب.
ولم يكن أحد لديه أي ارتياب في ضرورة نقل الأعمدة والتماثيل المرمرية الجميلة، التي جلبت من هذه البلاد أو من تلك، فالنظرية الشائعة آنذاك، أن مواطني بلاد الآثار الأصلية، ما كانت لديهم رغبة في الاحتفاظ بآثارهم، وهم لا يقدرونها ولا يفهمون معناها، ولذلك يجب أن يتخلوا عنها لهؤلاء الذين يقدرونها حق قدرها، أي للأوروبيين الغزاة.
وحسب هذه النظرية، ولولا أن بعض تلك الآثار كان ضخما جدا بحيث يتعذر نقلها، لما بقي أثر واحد في بلاد المغرب العتيق، أو في بلاد الشرق القديم.
وفي القرن التاسع عشر ازداد ولع الأوروبيين بالآثار العريقة والبربرية والإفريقية، وغير المتاحف التي أخذت تقتني من هذه الآثار المئات من القطع والتحف، بشتى الإمكانات والوسائل المشروعة وغير المشروعة، صار أثرياء أوروبا يتنافسون بجنون على استجلاب الآثار من بلادها الأصلية، حتى أن بعضهم مول بعثات خاصة إلى المغرب والمشرق، للبحث عن أقدم “الأشياء” واستقدامها سرقة أو شراء، وتوسع هذا “الاهتمام” في بداية القرن الماضي، بعد إمضاء عقد الحماية الفرنسية/ الاسبانية (2012) فكان من أشكاله، المنافسة بين المتاحف الأوروبية الشهيرة، على اقتناء هذه الآثار.

على المستوى المغربي، لا أحد حتى الآن، استطاع إحصاء قطع الآثار والكنوز التي هربت على يد البعثات الفرنسية والإسبانية، التي رافقت الجيوش الاستعمارية، بعد عقد الحماية “1912”، أو البعثات السرية التي دخلت المغرب قبل هذا التاريخ بأساليب مختلفة، والتي هربت أثار معمارية وفنية وحضارية يرجع تاريخها إلى عصور مختلفة، من العصر البربري إلى العصر الإسلامي.

إن إطلالة قصيرة، على المتاحف الأوروبية، تؤكد أن الآثار المسروقة، من المغرب تشكل حالة متفردة، لا من حيث الكم فقط، ولكن أيضا من حيث النوع والقيمة.
إن العصر البربري، ترك لنا أنواعا شتى من الآثار الفنية النادرة في العالم، منها “الصورة المغارية” التي كان يوجد منها 3500 صورة في منطقة “أوكايمدن” جنوب المغرب، والتي يرجع تاريخها إلى حوالي عشرين ألف سنة، فهذه الآثار القديمة تعتبر لدقة صناعتها وإبداعها الفني من أحسن ما عرفته الإنسانية في العالم، ومع الأسف لم يبق منها سوى الصور اللاصقة التي لا يمكن تهريبها.
نعم، لقد تم تهريب الكثير من آثار العصر البربري، بطرق ووسائل مختلفة، إذ نقلت إلى البلاد الأوروبية على مدى عشرات السنين، مئات القطع، مرة باسم “التقنية” ومرة باسم البحث العلمي والتاريخي، ومرات عديدة باسم التعاون الفني، وواضح أن جبال الأطلس أصبحت شبه خالية من هذه الآثار، التي تتجلى قيمتها التاريخية في أنها تصور الحياة اليومية في العصور السحيقة من تاريخنا القومي. أنها الثوابت لعصرها، ومن الناحية الفنية لا تقدر بثمن، ولا يمكن أن يعوضها أي مبلغ مادي، كيفما كان حجمه.
أما بالنسبة للآثار الرومانية-المغربية، وهي متنوعة وغنية، أهمها آثار مدينة شالة (جنوب الرباط) وآثار مدينة وليلي (شمال فاس)، فإننا نعرف أن فرنسا ومتاحفها اهتمت بها إلى أبعد الحدود. فعلى مرأى ومسمع من الجميع، نقلت إدارة الحماية أغلبها إلى أوروبا، وفرنسا خاصة، ولم يبق منها إلا ما هو لاصق بالأرض، فسيفساء/ دور سكنية/ آثار معمارية/ مسارح/ نحوت مكسرة/ أنقاض/ خرائب… وغير ذلك مما نراه باقيا على أرضية “شالة” أو أرضية “وليلي”.

إن التماثيل الرومانية والنقود والأسلحة والألبسة والنسيج والأدوات والوثائق وغيرها من الآثار التي تشهد على تنوع حضارة المغرب في العهد الروماني، قد تم نقلها جميعا بطرق ملتوية، بالسرقة والنهب، لتزيين متاحف وقصور وحدائق، ودور البلاد الأوروبية. في هذا الإطار يذكر أن المغرب قبل العهد الاستعماري، وربما بعده، لم يكن يعطي أي اهتمام لآثاره، ولم يكن للسلطة المغربية، أدنى معرفة بقيمتها، فقبل عهد الحماية الفرنسية، كان المغرب يقدم قطعا من هذه الآثار هدايا مجانية إلى أصدقائه ومفاوضيه، أثناء سفريات وزرائه ورحلاتهم السياحية.

يحدثنا التاريخ، أن الأميرال المغربي عبد الله بن عائشة أهدى إلى “رمسيس ليو” وإلى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر، ثلاثة تماثيل رومانية عثر عليها بمدينة شالة، ولا شك أن هذا المثال ليس وحيدا الذي يعبر عن عدم اكتراث المسؤولين المغاربة بالتراث، فلا نكاد نجد اليوم في “شالة” أو “وليلي” إلا الأحجار الصامتة، التي لا روح بها.
ودون الآثار “الرومانية”، هناك الفنيقية، التي هي أقرب إلى هويتنا، ونحن نعرف أن العصر الفنيقي يسبق الروماني بألف عام على الأقل، فأول مدينة أسست في هذا العهد كانت “ليكسوس”، أي العرائش حاليا، شمال المغرب (عام 1151 قبل الميلاد) وفي المغرب تعود أهمية العصر الفنيقي إلى الفينيقيين أنفسهم، أنهم كنعانيون عرب، أول من أدخل اللغة العربية إلى المغرب، وأول من دفع لتبادل الآثار الحضارية والفكرية بين المشرق والمغرب.
ففي العصر الفنيقي الثاني، كانت الخريطة العربية عبارة عن مثلث، راس ضلعه الأول بالشام، ورأس ضلعه الثاني بالخليج العربي، والثالث بالمغرب، وكانت لهجات وأفكار وآثار هذا المثلث متقاربة، فمازلنا اليوم نجد في ملامح التحف الفينيقية العظيمة، ومن أهمها المنبر “الذي اختفى وعمره أكثر من ألف سنة ونيف. بريق الحس الجمالي العربي، الذي حاولت أحداث التاريخ طمسه وإخفاءه.

-4-

أما عن العهد الإسلامي، فإن آثاره المنهوبة، تمتد من التحفيات الإسلامية النادرة، إلى المخطوطات العلمية النادرة، حيث تتوزع اليوم الكنوز المغربية بين صالات المزادات ومتاحف ومكتبات وخزائن أوروبا.
في مكتبة الأسكوريال، توجد خزانة كاملة للمخطوطات والوثائق المغربية، وهي خزانة السلطان المولى زيدان( ).
وفي مكتبة أكسفورد، وفي متحف اللوفر، وفي مكتبة الكونغريس الأمريكي وفي العديد من المتاحف الأوروبية، توجد مناجم من الآثار الإسلامية المغربية، من بينها الآثار التي نهبت من جامع مدينة أبي عنان، وجامع القرويين، وضريح المولى إدريس بمدينة فاس، والتي لا أحد من المسؤولين المغاربة حتى الآن طالب بها أو يعمل على إعادتها إلى موطنها، لما تشكله من قيمة حضارية وثقافية فائقة.

-5-

الآثار التي تثير هذه الإضاءة الحديث عنها، هي باختصار شديد، الآثار الحضارية التي تجسدها: التماثيل الرومانية/ قطع النسيج والصياغة والطرز والنقش والنحت/ الزرابي والحنابل والسجاجيد المطرزة/ الأبواب الخشبية العتيقة في المدن العتيقة/ السيوف والخناجر والأزاميل/ القباب التي ترتبط بحضارات فاس ومكناس ومراكش وغيرها من المدن التي تشكل هويتنا الثقافية/ هي أيضا القطع المعمارية/ الصور المغارية/ الأواني الخزفية/ التحفيات الخشبية أو الحجرية أو المرمرية أو الذهبية أو الفضية، التي تنتمي إلى جهات عديدة من المغرب (شماله وجنوبه، صحرائه وجباله).

تشكل هذه الآثار الحضارية، التي بدأت تظهر قطعها باستمرار على مرأى ومسمع من العالم، في المتاحف الأوروبية والأمريكية الخاصة والعامة، وفي صالات المزادات في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وجهات أخرى من العالم، تشكل سمة حضارية لأمتنا/ هي سمتنا في التمييز عن غيرنا من الأمم والشعوب/ هي بعض من عبقريتنا/ بل هي أحد وجوه الهوية التي تميزنا عن الآخرين، والتي لا يمكن أن ننهض أو ننخرط في حداثة العالم المعاصر، دون اعتمادها كحس قومي وخصوصية ثقافية.

إن التماثيل الرومانية والمنحوتات الحجرية والأواني الخزفية والمزهريات والأسلحة التقليدية والألبسة التقليدية والزرابي والنقود والأدوات الخشبية والنحاسية والفضية والذهبية، والوثائق والمخطوطات وقطع النحت وقطع الخشب والأبواب والقباب وغيرها من الآثار، تشهد على تنوع الحضارة المغربية/ يعود تاريخها إلى عصور مختلفة، من العصر البربري إلى عصر الاستقلال، وحتى عصرنا الحاصر، ثم نقل الكثير منها، على يد البعثات الاكتشافية الأوروبية، وتم نقل بعضها، الآخر بطرق ملتوية، بالسرقة والنهب والاحتيال.

-6-

السؤال الذي يبحث عن إجابة، هو: ألا ينبغي الإسراع بإرجاع الآثار المسروقة إلى موطنها الأصلي؟ انطلاقا من أنها جزء من الثروة القومية؟
منظمة اليونسكو تقول أن لهذه المشكلة جوانب متعددة، لا يمكن تناول أي منها بالبحث كأولوية، لأنها متلازمة الآن، أكثر مما كانت في أي عهد مضي. والمشكلة سياسية في نظر منظمة التربية والثقافة والعلوم، لأن مسألة إعادة الآثار الفنية تقوم على أساس سياسي، يختلف اختلافا جذريا عما كان سائدا من أفكار حينما سلبت بلاد المنشأ شيئا من ماضيها.
نتساءل اليوم: متى يعيد المغرب آثاره المسروقة؟ ونحن نعلم علم اليقين، أن الدول المستعمرة، أصبحت تتشبت بحقها في التحف المنهوبة، تزعم أنها أشترتها ولم تهربها، تتبحج بأنها أحسنت لهذه الآثار الضائعة، إذ لو لم تكن قد اقتنتها وأنقذتها من الضياع والموت لاندثرت وانتهى أجلها، وتلوح بذريعة أخرى جاهزة، هي ذريعة التقادم التي تتحقق بالنسبة للمنقول في مدة سنتين من حيازته، في حين أن نزيف الآثار بالنسبة إلينا في المغرب، بدأ قبل هذا القانون/ بدأ في القرن الثامن عشر، واليوم نعتقد أننا استيقظنا من سباتنا، ويحق لنا استرجاع آثارنا بالقانون/ بالتراضي… أو بأي أسلوب آخر.
طبعا الأمر سيطرح علينا عوائق كبيرة، ولكن ذلك يجب أن لا يجعلنا نقبل بالأمر الواقع.
لا نحتاج التأكيد هنا، إن حماية المآثر التاريخية والمعمارية هي مسؤولية السلطات الثقافية إن وجدت، لأن في ذلك حماية للذاكرة الوطنية من الضياع، وهو ما يعني أن وزارة الثقافة ومندوبياتها في كل المدن المغربية، مسؤولة عن هذه الحماية، إلا أن الجميع يعرف أن هذه الوزارة بميزانيتها الهزيلة، بسياساتها المهترئة، برؤيتها الضبابية للمسألة الثقافية، لا يمكنها ولا تستطيع، أن تقوم وحدها بهذه المسؤولية الجسيمة.
أمام هذا الخطر الداهم الذي يهددنا في هويتنا، يكون من اللازم على المجتمع المدني بكل مكوناته أن يتحمل هو الآخر مسؤوليته، ليس فقط بتأسيس مواقع/ منظمات/ جمعيات لحماية التراث التاريخي، ولكن أيضا بتحسيس كافة المواطنين ومختلف الجهات المعنية، حكومية أو غير حكومية، جماعات محلية أو مصالح وزارية، بضرورة تكثيف الجهود لاسترجاع ما يمكن استرجاعه/ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه/ لترميم ما يمكن ترميمه، فنحن شعب عريق يضرب بجذوره في التاريخ، ولابد من إثبات ذلك.

أفلا تدركون…؟

الاخبار العاجلة