شيخ العيطة الحسين السطاتي
لو لم نكن قد قبلنا إرشادات آبائنا وأمهاتنا لكنا لا نزال بحاجة إلى من يعلمنا كيف نمشي، وكيف نلبس ملابسنا الداخلية، وكيف نغسل وجوهنا في الصباح، وكيف نجلس على مائدة الطعام..
الدكتور هادي المدرسي
مهنة الخياطـــة التقليدية:
كان عمري حينها تسعة سنوات، نجحت في القسم الثالث ابتدائي، وخلال عطلة الصيف كنا نسمي فترة العطلة ب”التحريرة”، وكأنهم يعنون بذلك التحرر من وزر الواجبات المدرسية، وبعد انتهاء الموسم الدراسي اقترح أخي “عبد القادر”، الذي يكبرني بسبعة سنوات، وهو من ذو الاحتياجات الخاصة، معاق مصاب بمرض الشلل منذ أن كان طفلا صغيرا، حيث كان يعمل متدربا عند خياط تقليدي للرجال، اقترح على أبي أن أرافقه لأتدرب على الخياطة وأساعده في غزل خيوط الحرير( ضريب القضيب)، على الفور رحب أبي بالفكرة أولا لأنه سيضمن مدخولا ماليا إضافيا في الأسبوع وثانيا أنه سيتجنب عبئ مؤونة أحد من الأبناء حيث كان شعاره دائما ” ديه فكني منو”.
رافقت أخي “عبد القادر” وأنا طفل صغير إلى دار منعزلة وسط الغابة بضواحي قرية “أولاد عبو”، تابعة لدوار “أولاد عبد القادر” جماعة وقيادة لهدامي، عند الفقيه المسمى “سي المصطفى الدكالي”، كان رحمه الله رجلا طيبا حاملا لكتاب الله، وخياط تقليدي للرجال، رحبت بي زوجته المرأة الطيبة واسمها “أمينة”، وكنت أناديها “أمي أمينة”، كان لهما بنتين صغيرتين ولم يرزقا بالذكور، كنت أعمل رفقة أخي بمرآب صغير خارج الدار معدا للخياطة والنوم، وكانت مهمتي تنحصر في غزل خيوط الحرير وتعني “ضرب القضيب”، وهذه العملية كانت تتطلب مني أن أظل واقفا أمام المعلم الخياط سواء كان أخي عبد القادر أو المعلم سي المصطفى، أقف مقابلا للمعلم بعيدا عنه بمسافة مترين تقريبا أمسك بيدي خيوط الحرير وأشابكها في عملية مسترسلة لتفتل ويرتقها الخياط بالإبرة ليصنع بها الجلباب والسلهام الرجالي.
وفي المساء حينما أنتهي من المهمة كنت بين الفينة والأخرى أتوغل داخل الغابة الكثيفة الأشجار رفقة أخي عبد القادر، وكانت هناك بركة مائية كبيرة “ضاية” تتجمع حولها الطيور، وكم من مرة رأيت الأرنب والنمس والطيور الكبيرة الكاسرة والثعلب والذئب، الذي كنت أسمع عويله بالليل وأنا نائم بالمرآب،كان أخي ينصحني بأن لا أعود إلى الضاية لوحدي داخل الغابة لكي لا تفترسني الوحوش، لكن رغم ذلك كنت أنسل أحيانا وقت الغروب لمشاهدة مختلف أنواع الطيور البرية بداخل الغابة، وأكتشف سحر عالم الغابة، وكنت أتفرج أحيانا على الصيادين، أتذكر أن أخي كان أحيانا يعنفني ويضربني بجريدة النخل حينما تأخذني إغفاءة نوم وأنا واقف أمامه ممسكا بخيوط الحرير، أو حينما يعرف أنني ذهبت لوحدي خلسة إلى البركة وسط الغابة.
كانت المسماة أمينة زوجة الخياط سي المصطفى امرأة حنونة وكريمة معي، كانت تمدني بالنقود وتوفر لي الأكل والحلويات وتتدخل حينما تراني أبكي من جراء تعنيف أخي عبد القادر لي الذي كان يمثل دور المعلم ويريد أن يعلمني بالطريقة التي تعلم بها.
ولما انتهت العطلة الصيفية عدت رفقة أخي إلى منزلنا وحكيت لأمي ما كنت ألقاه من ضرب وعنف من طرف أخي عبد القادر، فوبخته ولم تسمح لي بمغادرة المدرسة والبيت، عكس أبي الذي كان يفضل أن أكون خياطا تقليديا ليستفيد من مدخولي وأشاركه مصروف البيت، وكان يرغب أن تقوى شخصيتي لأعتمد على نفسي، وأبتعد عن الرعي وتعلم العزف على آلة الكمان.
وفي صيف سنة 1989، كنت قد تعلمت العزف على آلة الكمنجة والغناء، فإلتحقت بأخي عبد القادر حيث فتح محلا للخياطة بحي “ساسام” سيدي معروف أولاد حدو بمدينة الدار البيضاء، وصار خياطا ماهرا للنساء، وأعطى للمحل اسم “خياط النرجس للنساء”، كان قد تعلم عند كثير من المعلمين الخياطين التقليديين للنساء وصار فنانا في حرفته، يخيط باليد وبالآلة، وقد أسس مجموعة غنائية شعبية تحت اسم “أوركسترا الأفراح الشعبية”، كان يغني ويعزف على الإيقاع “البندير” وأحيانا يعزف على آلة “العود”، وصرنا نحيي حفلات وأعراس إضافة إلى مهنة الخياطة.
تعلمت من أخي عبد القادر ومن العاملين عنده بالمحل، أبجديات خياطة النساء، بما فيها اختيار الأثواب والألوان وتنسيقها مع الخيوط الحريرية، عرفت أثمان الأثواب وأنواعها، وأنواع الخياطة وجودتها وأثمانها، حيت كان يعمل عند أخي متدربان في العشرينات من العمر؛ المصطفى الزاكي من منطقة أولاد حدو بالدار البيضاء، والمصطفى الريفي من مدينة وزان، وكان يرافقنا “المصطفى الزاكي” إلى حفلات الزفاف التي كنا نحييها بالمدينة، وحينما تنتهي العطلة كنت أعود إلى دراستي بمدينة برشيد، ولما غادرت الدراسة سنة 1991، استقريت عند أخي بمدينة الدار البيضاء مدة سنة كاملة وبعدها إلتحقت بالتكوين المهني بمدينة سطات.
وفيما يتعلق بالخياطة،كنت أتكلف بمهمة الغزل والمساعدة في بعض مهام الخياطة، وكان أخي يمدني بالنقود كما كان المتدربان عنده هما الآخران كريمان معي، وإضافة إلى مهمة الغزل والخياطة كنت أقوم بأعمال السخرة، حيث كنت أذهب إلى مركز المدينة “قسارية الحفاري” أو “قسارية المنجرة أو قسارية الحبوس..”، وأشتري أنواع الحرير، وأذهب ببعضه إلى أصحاب آلات صنع السفيفة، وأنتظر إلى حين تحضيرها وأعود بها إلى محل الخياطة، تعلمت أخذ القياس للنساء والمساومة معهن عن ثمن الخياطة ونوعها، وصار لي مدخول مادي من الخياطة ومن الموسيقى والغناء في الحفلات والأعراس.
كنت آخذ يوم الأربعاء يوم عطلة أذهب إلى الحمام وألتقي بأصدقائي الموسيقيين، وأحيانا في المساء كنت أذهب رفقة أخي “علي” أو بعض أصدقائي من المجموعة الموسيقية إلى وسط مدينة الدار البيضاء، نتفسح بالمدينة القديمة، وندخل إلى السينما.