الحلقة الثامنة من السيرة الروائية “عيطة دموع الخيل” لشيخ العيطة الحسين السطاتي 

جسر التواصل31 مارس 2023آخر تحديث :
 الحلقة الثامنة من السيرة الروائية “عيطة دموع الخيل” لشيخ العيطة الحسين السطاتي 

شيخ العيطة الحسين السطاتي 

أصعب اشتياق، أن تشتاق لنفسك القديمة، ضحكتك القديمة، وحتى لقلبك القديم.
صمويل بتلر


مناسبة عاشوراء.
كانت مناسبة “عاشوراء” بمثابة مهرجان يدوم مدة أكثر من عشرين يوما، يتم الاستعداد لها من طرف الكبار والصغار، وكان الاحتفال بها رائعا مبهجا، تعم الفرجة والبهجة في المساء بأغاني وأهازيج على دوي لعب المفرقعات ومسدسات الفلين والرشاشات المائية..وكانت البنات يحملن أدوات موسيقية ايقاعية ليغنين الأهازيج (البنادر، الطعارج، الدفوف، والنواقيس)، فرحات منتشيات يرقصن ويغنين دون قيد مواويل مأثورة أتذكر منها:
عيشوري عيشــــوري عليك دليت شعــــوري
كَديدة كَديــــــدة ومشوية على العــــواد
كَالوا لينا عيشور طـــاح زلكـَ وداه الـــــواد
هذا عيشور ما علينا لحكام يا لالة عيد الميلود كيحكموا الرجال يا لالة

كانت النساء يغنين في ابتهاج وسرور، لا من مزعج ولا من متحرش، كنا ونحن صبية نلعب إلى جانبهن ونستمتع بغنائهن، حيث كنا نعمد إلى الجري والمطاردة في لعبة الدينيفري، والغميضة.. أما يوم الشعلة “الشعالة” بمناسبة ذكرى عاشوراء التي كنا نسميها ب “العواشر” فهو يوم طوارئ في الدوار، يوم مشهود، نباح الكلاب، وصهيل الخيل يكسر سكون الليل في الدوار، كنا نعمد إلى إضرام النار في أكوام الحطب التي نجمعها سواء من نوادر التبن أو من الأشجار اليابسة والأخشاب غير المستعملة.. نتصايح ونتقافز فرحين مبتهجين فوق لهب النار، منتصف الليل يزداد التصعيد حدة، نتوجه خلسة إلى “نوالة” المسمى “المصطفى المناوي” زوج المسماة “عايدة” المرأة العجوز، وهو رجل ستيني معروف بعدائه لنا، كان يسبنا ويشتمنا بقاموسه الجنسي، مصاب بالثأثأة والنفنفة، نرمي شعلة النار أمام باب “النوالة”، يخرج ” المصطفى المناوي” من كوخه، فمه يقذف حمم الكلام النابي ويتطاير تفاله “مكشكش”، يسب الله والملة والدي، ويسبنا غاضبا مزمجرا:
-نشششد الززززامـ… تاع بوبوبوكم نححححـ…يا ولالالالاد لقحححـ….

تعجبنا اللعبة، تسحرنا عبارات شتائمه النابية الساقطة وطريقة نطقها، وسبه حتى للذات الإلهية، ويروق لنا غضبه وهيجانه، تبدأ المطاردة وتزداد اللعبة شوقا و تشويقا مع “المناوي” الحامل بيسراه مصباح يدوي “بيل” وبيمناه هراوة لقنصنا، هنا لا مجال للغش في الجري لأن من يسقط يعرف مصيره مع “المصطفى المناوي”.
وبعد ليال جميلة في الحرب بمسدسات الفرشي ومسدسات رشاشات الماء، ومتعة لعبة الشعلة “الشعالة” تستأنف الحياة العادية..
خلال هذه المناسبة كان يجتمع الأهل والأحباب، ويتم تبادل الزيارات، وصلح المتخاصمين بالدوار، وكان البعض يذهبون إلى المقبرة من أجل الزيارة والترحم على الأموات من الأهل، وتكون أيام عاشوراء بمثابة عيد سعيد، على عكس حال اليوم، صارت الفتيات يحبسن ويرغمن على البقاء في بيوتهن، خوفا من شغب بعض الشباب المتهورين المكبوتين الطائشين، وأصبحت لعب المفرقعات والمتفجرات تخيف حتى الكبار البالغين، في وقت زاد فيه الذعر والخوف من كلمة المتفجرات لما لها من هول و فزع وعلاقة بالإرهاب القاتل وسفك الدماء، لعب صواريخ وقنابل عنقودية صينية الصنع تحدث دويّاً وكأنها ألغام حقيقية، مما يذكي في الأطفال حب العنف وإيذاء الغير.

أتذكر كيف كنا ونحن الذكور الصغار نعيش طقوس توديع “بابا عيشور”، حيث يتم أخذ عظم من أضحية العيد، ننظفه ونطليه بالحناء ونضعه في قطعة ثوب أبيض وكأنه ميت، نكفنه ونضعه في علبه بمثابة تابوت، ثم نطوف به عبر منازل الدوار رغبة في جمع مبلغ الدفن، وفي يوم السوق الأسبوعي كنا ننزل إلى الطريق المعبد نطلب من مستعملي الطريق القادمين على الخيل والبغال والحمير والعربات..إعطاءنا النقود “فلايسة عايشور”، وكل منهم يجود علينا مما لديه؛ نقود، تين مجفف، تمر.. وأتذكر تلك الجمل المعبرة:
– عطيونا فلايسات عيشــور؛
– عطيونا حق بابا عيشـــور.
كان مستعملي الطريق وأكثرهم راكبي الدواب وأصحاب العربات المجرورة بالدواب” الكرويلة”، يرمون لنا نقودا، ليمونا، تينا وفواكه جافة على الطريق، ونحن نتسابق فرحين نجمعها ونتعارك فيما بيننا.
أما البنات آنذاك فكن يصنعن ” بابا عيشور” من عودين يضعنهما على شكل صليب، ثم يلفونهما في قطع ثوب أبيض إلى أن يأخذ شكل رجل باسط اليدين في اتجاه أفقي، معنى ذلك أن الرجل الخاطب قادم، ثم يضعنه وسط صينية ويجبن به أزقة الدوار، يضربن على الدفوف والبنادر والطعارج ويغنين أهازيج تهز المشاعر، وما أن تبصر من تحمل الصينية عابر طريق حتى تقترب منه، ترفع الصينية إلى صدره وتنظر إليه في توسل والأخريات يتصايحن:

” وا الراجل عطينا حق بابا عيشور”
وبكل بساطة يخرج من جيبه المبلغ المالي ويضعه في الصينية، وغالبا ما تكون قطعة نقدية من درهم إلى خمسة دراهم أو أكثر حسب كرم المتصدق، وبالمقابل يغمرنه بالدعاء
-” الله يبيض سعدك”؛
-الله يجيب ليك شي نقرا فين يغبر نحاسك”.
يرددن دعاءاً يرمز إلى زواج المتصدق عليهن سواء كان رجلا متزوجا أو عازبا، وكن يتابعن طوافهن بالأزقة منشدات أغنية “بابا عيشور”:
عيشوري عيشــوري عليك دليت شعـــوري
كَد خيوط الجــرارة كيف الموت الغــــدارة
عيشوري كيتوفــى سدو عليــه الدفـــى
عيشوري كَالو مـات مات وخلا خديجــــة
عيشوري يا لالــة عيشوري بومديجـــــة
أما المحظوظ منا فقد كان يرافق والديه إلى السوق الأسبوعي (جمعة فوكو) الذي كان بمثابة مهرجانا أسبوعيا خلال أيام عاشوراء، نستمتع برؤية اللُّعب، وإكراميات المتسوقين، يتبرعون علينا بشراء جرار الطين الصغيرة ” لقلالش”، يهدوها إلينا مملوءة بالماء، أو مملوءة بالفواكه الجافة، حيث لا يتعدى ارتفاع “القلوش” عشرون سنتيما، كما يمنحوننا النقود والفواكه الجافة، نطوف بين خيام السوق التي تعرض اللعب البلاستيكية ( المش بولحناك، الكرويلة والعود، دمى مختلفة الأشكال “المونيكات”، وغيرها…)، لم تكن حينها ضجة الألعاب الالكترونية كما هو الحال عليه اليوم، كان البدويون يشترون الفواكه الجافة ( تمر، تين مجفف ( شريحة)، لوز، كَركَاع، زبيب، حمص..)، و في المساء تجتمع العائلة، حيت توضع السلعة وسط طبق كبير مصنوع من الدوم، وبراريد الشاي المشحر المثقل بالنعناع والسكر، يقوم كبير العائلة “الجد، الجدة، الأب أو الأم..”، بتوزيعها بواسطة قدح بالتساوي على المتجمهرين حوله، كنا نضع نصيبنا في الجرار الطينية الصغيرة “القلالش”، ونلتهمها في لذة ونشوة.

تلك كانت طريقة احتفال الأطفال، الذكور والإناث بدوارنا ” أولاد سيدي رحال” جمعة فوكو أولاد سعيد إقليم سطات بمناسبة عاشوراء ” بابا عيشور”، كنا نعتقد أنه حق للطفل، وكان الكبار يمنحونه عن طواعية. أتذكر لما صرنا شبابا كنا خلال الليل نحن “أولاد العسكري ” عبد ربه الحسين أعزف على الكمان وعبد القادر أخي على العود، وعمر المرحوم والمعقول أحمد في العزف على البنادر ، ورؤوف المصطفى يعزف على الطعريجة “، كنا نحيي سهرة لفن العيطة، ورجال وشباب من الدوار هم جمهورنا، متحلقين حول براريد الشاي المنعنع، أو المشروبات الغازية..والبعض يدخنون السجائر ومخدر الكيف.. أجواء فرح ومرح ريفية ممتعة رغم بساطتها، كانت تخلق بداخلي سعادة كبيرة، لم أعد أشعر بها اليوم رغم إحيائي لسهرات عصرية كبيرة.

 

الاخبار العاجلة