سفر في نص ( أحمل منفاي ) لفاطمة محمود سعد الله :بقلم عبد العزيز حنان ( شاعر / ناقد )

جسر التواصل23 ديسمبر 2022آخر تحديث :
سفر في نص ( أحمل منفاي ) لفاطمة محمود سعد الله :بقلم عبد العزيز حنان ( شاعر / ناقد )

بقلم عبد العزيز حنان ( شاعر / ناقد )
الدار البيضاء / المملكة المغربية
تمت في 12/ 18/ 19 دجنبر 2022

بين النثر و الشعر
أو ما يسمى ( بالقصيدة النثرية )
مقدمة لا بد منها .
هل هناك تشابه ؟؟؟
هل هناك تداخل ؟؟؟
هل هناك جدار فاصل بينهما ؟؟؟
هي أسئلة طُرحت بحدة و أسالت الكثير من المداد و الجدال في ما سماها أدونيس في الجزء الثالث من رسالته لنيل الدكتوراه ( الثابت و المتحول ) ، بصدمة الحداثة . صدمة الحداثة هذه قد لا يعرفها كثير من المبدعين و لا يعرفون آثارها على المشهد الإبداعي في زمن كثُر الطعن في الإبداع العربي و تاريخه فعمد من سمّوا أنفسهم ( بالحداثيين !!! ) استنساخ البديل الغربي بمسميات متعددة رغم غربتها عن الامتداد العربي و تكوينه الإبداعي .
في رأيي ، إن تسمية ( القصيدة النثرية ) مصطلح خدّاع ، أطلق في ظرفية خاصة فتعلق بأهدابه عرمرم من المُتَشيْعرين يسترون النقص عندهم و في أدواتهم ، بامتدادات هذا المصطلح الزئبقي .
و يقول في هذا الشأن الباقلاني : – و معظم أنصار الحداثة و من ركب صهوة دابّتهم لم يقرؤوا له و إن كانوا سمعوا باسمه – : « حين نتحدث عن النثر الجاهلي ننحي النثر العادي الذي يتخاطب به الناس في شئون حياتهم اليوميه ، ‌فإنَّ‌ هذا الضرب من النثر لا يعد شيء منه أدباً إلا ما قد يجري فيه من أمثال،إنما الذي يُعَدُّ أدباً حقاً‌ هو النثر الذي يقصد به صاحبه إلی التأثير في نفوس السامعين والذي يحتفل فيه من أجل ذلك بالصياغة وجمال الأداء و هو أنواع،‌ منه ما يكون قصصاً‌ وما يكون الخطابة وما يكون رسائل أدبية محبرة ويُسمي بعض الباحثين النوع الأخير بإسم النثر الفني “”
القصيدة تكون أو لا تكون . و بعيدا عن مصطلح هدم الحواجز بين الأنماط الإبداعية ، أقدم هذا النص و الذي أصنفه ضمن النثر الفني . هذا الجنس الإبداعي المتخلّى عنه .
و أسأل اللاهثين وراء تسمية ( القصيدة النثرية ) و لا أنتظر منهم جوابا ، و إنما عليهم أن يجيبوا أنفسهم بكل جرأة و صراحة و صِدقية :
هل تعرفون أعلام النثر الفني من أمثال : زياد بن أبيه / المختار الثقفي / عبد الحميد الكاتب / ابن المقفع / ابن العميد / بديع الزمان الهمداني ؟؟؟ و في العصر الحديث هل قرأتم مؤلفات مي زيادة و جبران خليل جبران و إليا أبو ماضي و ميخائيل نعيمة و أمين الريحاني و نسيم عريضة و ندرة حداد ؟؟؟ هل قرأتم كتاب ( وداعا أيتها الحرب وداعا أيها السلام ) لمحمود درويش ؟؟؟ و هناك آخرون .
هذا النص
أحمل منفاي
بداية .
و لأننا أمة دَوْزَن الله حنجرتها بكرامة الشعر . و كما قال نزار قباني في كتابه قصتي مع الشعر ( أنا من أمة تتنفس الشعر و تتمشط به … ) نجد هذا الحنين الإبداعي يتسرب في كثير من كتاباتنا بل و حتى في خطابنا اليومي فيما نردده من حكم و أمثال و مواعظ .
نبض الشعر حي فينا نتنفسه و يتجدد بدورة الدم في أوردتنا .
أحمل منفاي
هي أسطورة “” أطلس “” يحمل الكرة الأرضية ( أو السماء ) على كتفه كما في الميثولوجيا ، تبقى لصيقة به لو حرّكها من الكتف للكتف الآخر يحدث الزلزال . و حفاظا على تفادي الزلزال ، تحمّل أطلس ثقل حمولته .
هكذا بدأت المبدعة د فاطمة محمود سعد الله بوحها .
أطلس هذا العصر ، قدره أن يكون خارج الأرض التي أنبتته و في الآن ذاته يحملها بكل أثقالها و ما يعتمل فيها سلبا و إيجابا .
المنفى ليس اختيار ، و إنما هو شيء مفروض . و المنفي مُجبَر عليه سواء قبل به أو رفضه . لذلك نجد المبدعة تئن تحت وطأة هذا المنفى و توابعه :
((( قد يكون المنفى إجباريا
قد يكون المنفى اختيارك قد وقع عليه )))
و بعملية إحصائية نجد اللفظ ( المنفى ) يتكرر في النص إحدى عشرة مرة . الشيء الذي ينبهنا أن حِمْل المبدعة ثقيل جدا … لا يفارقها أبدا ، فتحمله مكرهة :
((( لكن أن يطل عليك ..
بل منك كل ليلة )))
.
.
((( ذاك هو أقسى المنافي )))
النص متحرك لا يتوقف ، و الجمل الفعلية فيه تصل إلى ستة و ثمانين فعلا . منها سبعة و ستون فعلا مضارعا و أمرا أي الحاضر المستمر و الممتد في الآتي ، و هو غير منقطع . و حتى داخل الأحد عشر فعلا في الزمن الماضي منها ما تنتفي عنه الماضوية المحصورة لتتحول إلى زمن وصفيّ مطلق .
مقامات النص .
في البداية لا بد من تسجيل ملاحظتين مهمتين :
* الأولى تتعلق ببنية النص السردية . فعند قراءته قراءة متمعنة تجد نفسك أمام هذا السرد الذي يحيلك إلى الحكي لكن بطريقة ذكية غير مباشرة من خلال استحضار الأسطورة و إشراك مفكرين لهم صيتهم في التاريخ خصوصا المدرسة الألمانية بشكل ملفت .
* الثانية تنقسم هذه المقامات إلى سبعة .
و أطرح على نفسي هذا السؤال حين أجد هذا الرقم يتكرر في أكثر من إبداع عربي ، و من مبدعين من بلاد عربية عدة .
هل هناك إصرار من المبدع أو المبدعة على اختيار هذا الرقم نظرا لمرجعيته في الثقافة الإنسانية عموما و العربية على وجه الخصوص ؟؟؟
هل هو اللاوعي يدفع بالمبدع أو المبدعة إلى تمثُّل هذا الرقم ؟؟؟
للرقم 7 رمزيته كما له رهبته و حضوره في التفكير العربي بشكل كبير .
المقام الأول
المشهد العام المستمر
((( أحمل منفايّ
في رحم الحيرة زُرِع منفايَ نبتة متسلقة
منفايَ يسكن شراييني .. )))
*****
يبدأ بفعل الحدث / الحركة ( حتى لو كان عنوانا ) و هنا حركة داخلية اختارتها المبدعة أو فُرض عليها القيام بها . ثم هذا الفعل المضارع الدّال على الحاضر المستمرّ ، أي الممتد في الآتي دونما وجود ما يدل على توقفه أو انقطاعه . السطر الثاني من المقام فعل ماض مبني للمجهول ( زُرِعَ ) .
متى ؟؟؟
كيف ؟؟؟
لا إجابة . ربما كان هذا المنفى وُجد منذ بدء الخلق البشري …!!! مذ طُرد آدم و حواء و إبليس من الجنة ، و أنزلوا إلى الأرض . فكان النفي الأول و كانت الأرض المنفى الأول …!!!
هذا المنفي و المنفى ممتد …. فلا يوجد في هذا السطر ما يحيل إلى إمكانية توقفه ، بل هناك ما يؤكد استمراريته . في تعبير ( نبتة متسلقة ) و النبات المتسلق لا يتوقف حتى لو قطعت جذوره بل يستمر في التسلق بشكل كثيف … لأن عناصر وجوده و حركيته كامنة فيه .
و لأنه متسلق لا ينفكّ عن الاستمرار في هذا الفعل ، فهو يسكن الشرايين . و هنا العودة للزمن المضارع الممتد في الصغة و الحدَث . يتغذى من دورة الحياة في هذه الشرايين و يزداد تسلّقا …هذا المقام الأول من النص يقدم المشهد العام المستمر في باقي المقامات دون انقطاع
المقام الثاني
الحِمل …. / التيه ….
((( يتوالد وَرَما خبيثا شائك الوجع
الأحمالُ توضع بعد توقيت محدد إلا منفايَ
حملٌ سيزيفيّ ما له خط وصول.
قد يكون المنفى إجباريا ..
قد يكون اختيارك قد وقع عليه
لكن أن يطل عليك…
بل منك كل ليلة
كوُعولٍ أمازونية تتدلى من سقف غرفتك الغارقة في الصمت
و الظلمة …
أو كخِرافٍ تجرّ عرباتٍ في فضاء برزخي
لا ينتمي إلى الأرض …
لا ينتمي إلى السماء
ذاك هو أقسى المنافي …
*****
و مادام هذا المنفى نبتة متسلقة ، فهي تتكاثر بسرعة
الجراد . لكنه سرطان مؤلم :
(((يتوالد وَرَما خبيثا شائك الوجع)))
و حتى اسم الفاعل ( شائك ) يسير في نفس منحى الدلالة المستمرة مما يدل على هذه الديمومة للمنفى و لما يتولّد منه من آلام …
هو التشكيل باللغة . لوحة رائعة التركيب بقدر ما هي موجعة …
و إذا استحضرت المبدعة أسطورة سيزيف ، فذاك لم يكن اعتباطا أو ترفا معرفيا و إنما عن تصور عميق و ذكي للمنفى و المنفِيّ معا . هو التشبيه اللامحدود بينهما . سيزيف رفض الموت ، و رفض الإذعان المُذلّ فكان العقاب السرمدي . الصخرة التي لن تستقر بقمة الجبل و عليه أن يعيد الصعود بها إلى القمة لتتدحرج من جديد . هي حياة المنفى و النفي . و إذ أستحضر هنا أسطورة أطلس المحكوم عليه هو الآخر بالحِمل المؤبد .
سيزيف حلمه أبدي فكان العقاب بقدر الحلم .
في هذه الصورة استعملت المبدعة الجملة الاسمية و التي تدل على ثبوت الحالة و عدم تغيرها .
((( حملٌ سيزيفيّ، ما له خط وصول)))
بين الاستمرار بدون توقّف و الحالة الثابتة من غير تغيير يمتد المنفى مع امتداد وجع المنفي .
بعدها تطلق المبدعة العنان للتشبيه و الذي يشكل لوحات تشكيلية رسمتها في مخيلتها قبل أن تجسدها كتابة . فهل ستتمكن يوما ما من حمل الريشة و إنجازها لوحة ؟؟؟
المبدعة هنا لم تشر إلى وجه الشبه أو أنها أوحت به من خلال الوصف الذي أعطته للمشبه به .
وجه الشبه المشبه به الأداة المشبه
مضمر
يفسره :
ذاك هو أقسى المنافي …
وعول أمازونية تتدلى … الكاف طلّة المنفى عليك أو منك
خراف تجر عربات … “”
تخيل أيها القارئ و ارْسم في ذهنك وعول أمازونية . الوعول الكبيرة القوية بجسدها و قرونها الحادة و هي تخترق سقف غرفتك الغارقة في الصمت و الظلمة ….
أية لوحة أخّاذة هذه ؟؟؟
تفضل أيها المتلقي معي لنرسم اللوحة الثانية .
المشهد العام : فضاء برزخي . الفضاء هو امتداد بلا نهاية ، أما برزخي فهو نسبة إلى البرزخ و لغويا هو الحاجز بين شيئين .
مؤثثات المشهد عربات تجرها خراف . و الخراف ليست بقوة الوعول و لا بقوة حيوانات تجر العربات ، و الخراف خصوصا في الغرب رديف الغباء حيوانات غبية ، تجر عربات في فضاء لا متناهي ، لكنه في الآن نفسه حاجز يمنع الجرّ و المجرور و المحمول فيه من الانفلات من هذا القيد الخرافي الفاصل بين السماء و الأرض . فهل يمكن القول إن السماء و الأرض كناية عن الخلاص / الجنة و العذاب / جهنم . و المكوث في العالم البرزخي الرهيب على اختلاف العلماء في أقوالهم فيه هو ذاك العالم المشوب بالانتظار الحارق من الأرواح في انتظار الحساب؟؟؟
هو منفى بطعم مُـرّ فلنحاول تنزيل معالم اللوحتين كما جسّدتهما المبدعة .
المقام الثالث
لا شيء أقسى من عذاب غربة الذات
وطأة الغربة و النفي قاسية ، لكنها تكون أشد قسوة و رهبة عندما تكون داخل الوطن . تعبر عنه فاطمة محمود ب :
(((في طريقي إلى منفايَ، لم أغادر ترابك يا وطني
لم أغادرني … )))
الطريق هنا مجازي و ليس حقيقيا لكن المنفى حقيقة تعيشها المبدعة فهي ما غادرت تراب الوطن و ما غادرت وجعها . امتداد المنفى القسري داخل الوطن و داخل الذات في عالم البرزخ اللامتناهي …
في هذا المنفى ، تسترجع المبدعة تفاصيل رحلتها مذ صرخة الانعتاق من ظلمة الرّحِم حتى أكملت ستين دورة شمسية .
لم يكن لفاطمة ( سأختار هذا الاسم تفاديا لتكرار لفظ المبدعة ) مفر و لا ملاذ سوى أن تحتفظ بكُنْه أيامها بدواخلها .لكن اللحظة الآنية طفح الكيل ، و ها هي تركب صهوة البوح و لو بمجازات تحاول من خلالها ألاّ تنكشف إلا على من يلامسون حِدّة الوجع من خلال حرف ، أو كلمة أو حتى إشارة مُطَلسمة .
على مدى ستين دورة زمنية حاولت أن تدسّ أناها بين ثنايا وحدتها التي تعبر عنها بالوسادة . الوسادة هنا رمزية للوحدة في أقسى أبعادها بل و خوفا من انفلات البوح ، فهي تدسها في تجاويف الوسادة و لإحكام المنافذ من أي تسرب تعطينا لوحة رائعة لمن يهوى التشكيل :
(((دسستُ ستين حولا في تجاويف وسادتي وتأبطتها …
حتى لا تسقط ريشة من جناح ذاك الكروان …
ألْ طرَّزَتْه غربتي بخيوط من ضياء وملح …
وجنينُ الوجع يُنشِب
مخالبَه في ذاكرتي )))
لوحة أبلغ من أي تعبير يحاول مقاربة الصورة للمتلقي لأنها وحدها تعبر عن كُنهها بنفسها و كل محاولة للتّفتيت هو تجنّي عل اللوحة الوجع .
و بعدها ؟
تصل فاطمة مرحلة الانفصال عن الأنا . ها هي ذي تخرج منها في لحظة تشبه التيه من وطأة الوجع . و كأني بها شخص يعاني من سرطان بلغ ذروته في أقسى درجات نهشه للروح قبل الجسد :
(((وجنينُ الوجع يُنشِب
مخالبَه في ذاكرتي
رأيتني بين الهذيان والنسيان )))
هي تصل الآن لمرحلة اللّايقين . هي الغربة / الوجع . حين يصل المرء إلى مرحلة الانفصال عن الذات فيصبح أنا ، غريب عن الأنا . حين ينشطر المرء عن نفسه و ينسلخ الأنا منه قطعة قطعة فلا يجد غير استجداء الخلاص . و هنا تستنجد فاطمة بأول ما يقفز إلى اللاوعي منها ، أما العقل فقد أزاحته اللحظة القاسية بين الهذيان و النسيان :
((( كتابا يتحوّل مسافة تفصلني عني ورقة..ورقة ..
وسمعتني بأعلى
الصوت أردد :
” هكذا تكلم زرادشت”!!! )))
هكذا تكلم زرادشت ؟ من المقصود بالنداء. المتكلم نفسه أم الذي تمثّل كلام المتكلم ؟ذهل هو زرادشت نفسه أم نيتشه ؟
هل هي تلك الثنائية التي تعدّ أهم العقيدة الزرادشتية ، الخير و الشر ، النور و الظلام ، الروح و الجسد ، التقدير و الفِعل ؟؟؟
أم هو الفكر الفلسفي الوجودي و ما بعد الحداثة التي تأسست على اللاعقلانية و العدمية ؟؟؟
يبقى الجواب غامضا و مبهما وحدها فاطمة يمكنها الإفصاح عنه .
المقام الرابع
في ضيافة فلاسفة ألمانيا
و ينطلق من السؤال :
((( من هو الإنسان الأرقى ؟
أهو نصف إله في نصف إنسان أم العكس ؟)))
و السؤال موجه إلى الفيلسوف الألماني – نيتشه – و هنا لا بد من وقفة قصيرة . نيتشه تبنى كثيرا من فكر زرادتش و منها تمجيد القوة و النخبة المفكرة
“” الجهال لا يستحقون الدعوة “”
و من تمّ اتجهت أفكاره إلى التركيز على “” الفلسفة اللاعقلانية والعدمية “” و تم تبني بعض آرائه فيما بعد من قبل ايديولوجي الفاشية.
سؤال المبدعة لهذا الفيلسوف لا يعني الاقتناع بمذهبه ، و إنما هذا اللهاث الفلسفي الذي ضرب البشر حول حقيقة هذا المخلوق المسمى الإنسان ( خارج السياق الإسلامي ). و الذي أدى في الأخير بنيتشه إلى الجنون . و بحكم انتماءه إلى الفضاء المسيحي ففي العهد الجديد من الكتاب المقدس عند المسيحيين يطرح ما يفضي إلى هذا التساؤل إن كان المسيح بن الله ثم نزل إلى الأرض ليخلص البشر فهو يحمل الصفتين لكن ، لمن الأسبقية ؟؟؟
و لأن نيتشه لم يصل إلى حقيقة فانتهى به الجنون ، فهو أحال المبدعة إلى ( هايدجر ) . لتنتقل من غموض و عدم يقين إلى ما هو أكبر . ففلسفة هايدجر تقوم على الوجود/ الحياة ثم العدم / الموت . و تتأسس على أركان ثلاثة : القلق ، الاغتراب ثم الموت .
إنه قلق اللحظة ، و قلق الإنسان في الوقت الذي خبت جذوة اليقين الديني لدى الكثيرين .
هنا تصور بشكل دقيق مآل الإحالة النيتشية على الهايدجرية :
(((حدثني بلغة غريبة … شائكة
بين نبرة و لكنة
تتحول الكلمات كتلة قنفودية حمراء
تقطر غموضا و غضبا )))
الغموض و الغضب الذي ينفجر منه ، مسار صعب و مؤلم لتجد المبدعة نفسها في دوامة ( آلام الشاب وورثر) التي تدفع به إلى الانتحار من أجل الخلاص . و كأنها وصية الفيلسوف الألماني “” ڭوته “” من خلال الرواية . يسكبها في نفسها ليس دفعة واحدة و إنما بالتقسيط المؤلم . تلكم وطأة الغربة المكانية و الزمانية .
و هنا يطرح السؤال : لماذا هذا التقوقع داخل الفلسفة الألمانية بالتحديد ؟؟؟
هل هو صخب العالم من يدفع إلى هذا التبني ؟؟؟
هل هي هذه الفوضى المنظمة و المتحكم فيها كما أشار إليها قادة القوة الضاربة في العالم ؟؟؟
هل يسير المجتمع الإنساني نحو نهاية آلام الشاب وورثر هروبا من غربته و اغترابه المميت ؟؟؟
المبدعة وضعتكم في الصورة فمنكم و لكم الاستنتاج و الجواب .
المقام الخامس
محاولة العودة إلى الذات
في هذا المقام نوع من الاسترخاء التأملي و كأن المبدعة أصيبت بإجهاد كبير فجنحت للحظة استراحة ، لكنها استراحة لا تخلو من مشاكسة عنيدة . أهم عناصرها الارتداد إلى الذات :
((( عندما أحاول الهروب
من منفايَ ..
أتقوقع داخل أنايَ المجهدة )))
هي مجرد محاولة ، هل تنجح ، هل تفشل ؟؟؟
من صقيع الفوضى و الضياع ، من ثلج الغربة على مستويات عدة ، تحاول أن تتدفأ بالجمر . من الصقيع إلى اللهب . مسافة ليست هينة و لا مُيَسّرة . فبينها و بين الجمر حاجز:
((( أمد يدي لأتدفأ بجمرة ملقاة بعيدا
تنتصب بيني وبينها مرآة مشروخة )))
كلنا نعرف المرآة ، شكلا و وظيفة . المرآة عاكسة للصورة دون تزييف . لكنها عندما تكون مشروخة يتغير الانعكاس و بصبح مشوها . لتكتمل فصول الغربة و الاغتراب بشكل أكثر إيلاما . المبدعة و طلبا لهدنة تهرب فيها من الوطأة ،تستنجد بأناها و إن كانت مجهدة لكن المرآة المشروخة لها رأي آخر .
و هي تحتمي بالمرآة العاكسة تحاول أن تنفلت من السجن الذي هي فيه . الصورة التي تترائى لها هي عكس ما كانت تصبو إليه . فمن تكون هذه الأنا التي تظهر في المرآة المشروخة ؟؟؟
((( قد أكون أعرفها وقد تكون عرفتني ذات ضياع
تعرض صفحتها صورة سرابٍ غير ثابتة صورة لا تشبهني )))
( قد ) حرف يفيد التحقيق مع الفعل الماضي ، لكنه يفيد التقليل من نسبة التحقيق مع الفعل المضارع . بمعنى إنها مع الفعل المضارع تدل على عدم اليقينية من الحدث .
فهذه الأنا الماثلة في المرآة المشروخة غير متيَقَّن منها . لتتحول إلى سراب لا يشبه المبدعة متحولة و غير ثابتة و لكنها سراب لا يشبهها . حتى هذه الأنا التي لجأت إليها للاحتماء ، خذلتها .
بعدها ؛ يتم الانتقال إلى قراءة الصورة المشروخة و المتحولة غير الثابتة . هي صورة متمحورة لا تأخذ شكلا ثابتا ، و كأن المبدعة ترسم مسارا لرحلة غربتها . بين الطفلة المفزوعة تطلب ملاذا مستغيثة بالأم ، و العجوز أصابها الخرف ( الزهايمر ) و أتلف ذاكرتها ( قرض ) تتشكل الرحلة .
ليتحول المشهد إلى مسرحية احتفالية أو لوحة تشكيلية من المدرسة السريالية . سيمتهما هذا التداخل في الأصوات و المشاهد و الألوان و الملابس . و هكذا تبقى الأنا على المرآة المشروخة شبحا لا تعرف المبدعة و لا الأخيرة تعرفها . لتعود لنقطة البداية تحمل غربتها ، ربما تعثر ليس على ذاتها أو أناها ، لكن فقط على ظلها . أي أن حجم الحلم و المنتظر تقلص كثيرا .
المقام السادس
القلم : الشاهد و المنقد .
القلم . و ما أدراك ما القلم …!!!
له سلطة و سطوة و هيبة . و لذاك أقسم به الله في سورة القلم و سميت السورة باسمه ، كما ورد القلم في الآيات الخمس الأولى التي نزلت على محمد صلى الله عليه و سلم في سورة العلق .
المبدعة هنا تضع نفسها أمام محكمة القلم .
((( ماذا أقول للقلم إذا سألني أين سكبتِ مدادي؟ )))
من سحر اللغة العربية و جماليتها ما نجده في الدلالة الزمنية للأفعال .ففعل أقول يدل على الآتي المنفصل عن الحاضر ، لأن فعل القول سيكون بعد السؤال .سأل فعل ماض لكنه ينفلت من هذه الماضوية لينحصر هو الآخر في الآتي لأن السؤال لم يحدث بعد في لحظة تساؤل المبدعة . سطر شعري ليس هينا تركيب الزمن الفعلي فيه .
القلم هنا قاضٍ يحاكم . فما هي دفاعات المبدعة حين تُسأل ؟
تضع احتمالين : إما الغرق في التيه أو طلب الخلاص .
التيه داخل النص . أي نص هذا ؟؟؟
هل هو وطأة الاغتراب ؟؟؟
هل هو وطأة الحياة نفسها و بكل ما يعتمل فيها و المآلات التي تدفع بالإنسان إليها من قبيل الجنون ثم الانتحار ؟؟؟
إنه البحث المضني و الجميل هذا الاستدعاء للآية القرآنية في قصة موسى عليه السلام . و هو مظهر من مظاهر البلاغة العربية فيما يصطلح عليه بالتضمين و هناك من يجعله في التناص ، الواردة في سورة ( طه ): <<< وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوس۪يٰۖ (16) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَيٰ غَنَمِے وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخْر۪يٰۖ (17 ) >>>
البحث عن العصا السحرية بقدرة عصا موسى تهش بها على هذه الحيرة للخلاص منها و من تداعياتها .
أو استجداء هذا القلم / القاضي المختفي وراء المحسوس أن يقودها إلى رحاب اليقين .
الغرق في التيه يقابله باب يفضي إلى اليقين .
أقصى و أقسى مدارج الانشطار بين مسارين .
و يبقى الاختيار الثاني هو الاختيار الأخير الذي تتبناه ، و ذلك لسببين :
* الخلفية الاعتقادية التي تبقى على صحو مهما شابتها إغفاءات المؤمن بها .
* التخلص من التيه بما هو آمن .
و رجوعا إلى إلى ما بدأت به هذا المقام “( و لذاك أقسم به الله في سورة القلم و سميت السورة باسمه ، كما ورد القلم في الآيات الخمس الأولى التي نزلت على محمد صلى الله عليه و سلم في سورةالعلق .) يقول الله تعالى في سورة العلق <<<
اَ۪قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَ۬لذِے خَلَقَۖ (1) خَلَقَ اَ۬لِانسَٰنَ مِنْ عَلَقٍۖ (2) اِ۪قْرَأْ وَرَبُّكَ اَ۬لَاكْرَمُ (3) اُ۬لذِے عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ اَ۬لِانسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْۖ ( 5 )
القلم نبراس الهداية إلى مقام اليقين . سواء كانت المبدعة تستحضر هذه المرجعية عن وعي ، أو انطلقت من الكامن في عقلها و مرجعيتها . فالقلم له هذه القدرة على الفعل الإيجابي . لذلك تأخذه نبراسا يقودها إلى الانفلات من التيه نحو هدْأة اليقين ، لأن ما ينتج عن هذا القلم من عطاء هو الذي يجعل البوصلة تتجه نحو المراد . فمداده هو من ينقل نبض الحياة إلى القلب عبر دورة الدم في الشرايين و الأوردة .
(((أن اِفتح لي ممرا
يوصلني إلى اليقين
مدادك يا قلمي
دماء في شراييني )))
فالمقصود هنا ليس الشرايين و إنما كناية عما تحمله معها من أسباب الحياة إلى القلب حتى يكون النبض متواصلا و مضبوطا . هو شكل من صور التورية ليس هنا مجال للغوص فيها .
(((أضخها كلما لمحت قلبا ،
يتعطش إلى السكينة )))
هو القلم ؛ به علّم الله الإنسان ما لم يعلم .
من حالة الامتداد غير المتغير إلى الحدث المرتجى المتحرك . هكذا تتحول المبدعة من الجملة الاسمية ( أنا يا قلمي ) إلى الجملة الفعلية ( افتح ) . و صيغة الأمر هنا هي نوع من الرجاء . و هذه من جماليات اللغة العربية حين يتحول الأمر من الزجر و النهي إلى دلالة الرجاء الجميل و الاستعطاف في غير مذلة .
(((اِفتحْ لي كُوّة صغيرة
أتهجّى بها الطريق )))
استجداء برقي و محبة لتَخرج به و بما يقدمه ( علّم الإنسان ) من المتاهة إلى اليقين .
و رغم امتدادات العمر ، فالمبدعة تعترف كونها على درب خبايا الطريق الحابلة بالمجهول و اللامتوقع ، ما زالت صغيرة تتعرف على أبجديات الرحلة فيه . و هي حقيقة الإنسان ككل ، مهما تقدمت به السنون تأتيه الأحداث و كأنه ما زال بمرحلة الحبو من الحياة .
المقام السابع
أين هو العدل …!!!؟؟؟
لماذا هذا الاستدعاء للشاعر نزار قباني ؟؟؟
كما هو نفس التساؤل عن استدعاء الفلسفة الألمانية من قبل ؟؟؟
هو بحث أتركه لذوي الاختصاص الأكثر تأهيلا مني للنبش ثم الإجابة .
نزار قباني . و هو الملقب ظلما و جهلا بشاعر المرأة ، تحصر المبدعة في دائرة الاتهام .
((( ليس عدلا أن تسعد
” حبيبتك السمراء ” )))
نزار قباني متهم بالانحياز . ( قالت لي السمراء ) أول مجموعة شعرية أصدرها الشاعر كانت سنة 1944 ، و كان حينها ثورة مدوية على مستوى مواضيع القصائد و كذلك على مستوى شكل الكتابة و جرأة التعبير عن الكامن في الدواخل ،خصوصا في مجتمع الشام الكبرى المحافظ .
فالكتابة لهذه السمراء بالنسبة للمبدعة ليس عدلا خصوصا إذا كان بكفتها في الميزان القصائد المتوحشة ( و هي مجموعة شعرية صدرت سنة 1970، من أجمل قصائدها رسالة من تحت الماء ، قارئة الفنجان ، اختاري ، أحبك جدًا، القصيدة المتوحشة ، أحبيتي بلا عقد ، يوميات رجل مهزوم وأسألك الرحيل ،إلى صامتة وقصيدة الحزن . ) في حين الكفة الثانية مثقلة بما وصفته المبدعة ب :
((( وأنا أنوء بحملي الذي استعصى عن الوضع .)))
فرق كبير بين حمولة الكفتين فبقدر ما ترتفع الكفة الأولى خفيفة بسحر القصائد وإن كان عنوانها ( صائد متوحشة) بقدر ما ترزح الكفة مترنحة بفعل الحمل الثقيل الذي استعصى على الوضع .
فإذا كانت القصيدة العنوان ( القصيدة المتوحشة ) تعطي للسمراء فرصة الاختيار من خلال قول الشاعر نزار قباني :
“”” اختاري إني خيرتك .. فاختاري
ما بين الموت على صدري
أو فوق دفاتر أشعاري
اختاري الحب .. أو اللاحب
فجبن أن لا تختاري
لا توجد منطقة وسطى
ما بين الجنة والنار “””
فالمبدعة هنا ليس لديها هذا الحق في الاختيار . فهي تحت وطأة الحمل المستعصي . حمل مفهوم الحياة و كنهها كما يراها فلاسفة الاتجاه الألماني سواء تلك التي أدت بنتشه إلى الجنون ، أو التي أدت بالشاب وورثر إلى الانتحار ، أو تلك التي ظهرت لها في المرآة المشروخة بكل ما تحمله معها من تداعيات .
ليس عدلا .
حين تصر حبات المطر على نقر الجرح فتجدد آلامه مع كل نقرة ، و ترمي بها الريح و بلا رحمة نحو منافي متعددة في الآن نفسه الذي تحمل فيه بطلة النص منفاها الثقيل على عاتقها . أي عدل هذا ؟؟؟
هي رحلة مع هذا النص ، و بقدر المتعة فيها بقدر مشاركة البطلة أوجاع الرحلة .
فعلا ، ليس عدلا .
أعترف أن النص أكبر من هذه القراءة ، نص عميق مفتوح على احتمالات عدة و قراءات تصل حد التباعد و التنافر .
هي دعوة للآخرين ، كل الآخرين بالمحاولة ، و لو مجرد المحاولة .
و أدعوك أيها المتلقي إلى إعادة قراءة النص ، فحتما ستكتشف عناصر أخرى لم أنجح في التطرق إليها أو لم أعطها حقها .
//////////////////////////////
أحمل منفايّ
في رحم الحيرة زُرِع منفايَ نبتة متسلقة
منفايَ يسكن شراييني ..
*****
يتوالد وَرَما خبيثا شائك الوجع
الأحمالُ توضع بعد توقيت محدد إلا منفايَ
حملٌ سيزيفيّ،ما له خط وصول .
قد يكون المنفى إجباريا ..
قد يكون اختيارك قد وقع عليه
لكن أن يطل عليك…
بل منك كل ليلة
كوُعولٍ أمازونية تتدلى من سقف غرفتك الغارقة في الصمت
و الظلمة ..
أو كخِرافٍ تجرّ عرباتٍ في فضاء برزخي
لا ينتمي إلى الأرض …
لا ينتمي إلى السماء
ذاك هو أقسى المنافي …
*****
في طريقي إلى منفايَ، لم أغادر ترابك يا وطني
لم أغادرني
..
دسستُ ستين حولا في تجاويف وسادتي وتأبطتها …
حتى لا تسقط ريشة من جناح ذاك الكروان…
ألْ طرَّزَتْه غربتي بخيوط من ضياء وملح …
وجنينُ الوجع يُنشِب
مخالبَه في ذاكرتي
رأيتني بين الهذيان والنسيان
كتابا يتحوّل مسافة تفصلني عني
ورقة..ورقة ..
وسمعتني بأعلى
الصوت أردد :
“هكذا تكلم زرادشت”!!!)
*****
سألت ” نيتشه “
من هو الإنسان الأرقى ؟
أهو نصف إله في نصف إنسان أم العكس قهقه دون أن أسمع له صوتا ؟
أشار علي بالبحث في أوراق ” هايدجر “
هههه … أمسكني هذا الأخير متلبسة …
حدثني بلغة غريبة … شائكة
بين نبرة و لكنة
تتحول الكلمات كتلة قنفودية حمراء
تقطر غموضا و غضبا
و لم تسعفني إلا ” آلام الشاب وورثر “
يسكبها ” جوته “
داخلي قطرة .. قطرة ..
*****
عندما أحاول الهروب
من منفايَ..
أتقوقع داخل أنايَ المجهدة
أمد يدي لأتدفأ بجمرة ملقاة بعيدا
تنتصب بيني وبينها مرآة مشروخة
قد أكون أعرفها وقد تكون عرفتني ذات ضياع
تعرض صفحتها صورة سرابٍ غير ثابتة صورة لا تشبهني
.. لا أعرفها ولا تعرفني
فهي حينا طفلة تائهة تصوّت من قاع حنجرتها: أمي..أمي …
وهي طورا عجوز قَرَضَ الزهايمر
ذاكرتها
صورة تتداخل فيها الألوان
تتداول عليها الأصوات
لكنني لا أعرفها..
ولا تعرفني
أحمل منفايَ وأواصل الطريق إليّ..
علّني أعثر على ظلّي.
ماذا أقول للقلم إذا سألني أين سكبتِ مدادي؟
أأقول له إني تائهة داخل النص
أبحث عن عصا سحرية أهش بها على حيرتي
أم أناشده من وراء الستارة العنكبوتية
أن اِفتح لي ممرا
يوصلني إلى اليقين
مدادك يا قلمي
دماء في شراييني
أضخها كلما لمحت قلبا يتعطش إلى السكينة
. أنا يا قلمي عالقة بمتاهة النص
اِفتحْ لي كُوّة صغيرة
أتهجّى بها الطريق
*****
ليس عدلا أن تسعد “حبيبتك السمراء”
” ) ب”القصائد المتوحشة)
وأنا أنوء بحملي الذي استعصى عن الوضع
ليس عدلا أن تنقر حبات المطر جرحي
وتطوّح بي الريح بين المنافي
ومنفايَ على عاتقي
..
فاطمة محمود
سعدالله/تونس20\9\2022

الاخبار العاجلة