شيخ العيطة الحسين السطاتي
مع العمل الشاق المتواصل والكفاح الرهيب من أجل لقمة العيش المرة، سارع قطار العمر بالشيخ “خليفة المسكيني” الملقب ب “اخْلَيْفَة” كما كانوا ينادونه. يصارع الزمن الغادر، وهو يواصل لعن الحياة القاسية التي فرضت عليه طقوسا استثنائية لتوفير لقمة خبز غير سائغة، شيخ تعدى الستين من عمره، فنان شعبي كوميدي ذو الوجه القمحي غزت التجاعيد البارزة جبهته المسطحة واكتسح الشيب الشعيرات المتبقية على رأسه، ترتجف أطرافه بفعل لهيب الشمس الحارقة، وأصابعه بارزة التنايا كقصب الخيزران ويدين معشوشبتين، حينها عرف أنه على مشارف الشيخوخة. نظر في المرآة طويلا، وصدر عنه صوت نصفه نحيب ونصفه تنهيد مخاطبا نفسه :
– أحياني عليك يا اخليفة مشات أيامك، خلاص شرفتي، فين ايام البوط والعيوط؟.
خمسة وعشرون عاما وهو يتنقل بين القرى والأسواق الأسبوعية، حاملا كمانه الغجري يعزف عليها ويغني ما يحفظه من أغاني من فن العيطة على طريقته الخاصة، يتنقل كالنحلة فوق الزهور، من مقهى إلى مقهى ومن دكان إلى آخر، يمزج الفن بالتسول.. يبدأ صباحه بالحلقة تارة حكواتيا وتارة مغني شعبي للعيطة. وهو الذي كان صيته معروف بالمنطقة رفقة مجموعته من شيخات السطات. صار حلايقي يقدم حكايات ممسرحة مصحوبة بحشرجة حزينة لآلة كمان غجرية عتيقة متهالكة تماهيا مع كبره وواقعه المعيشي، علها تنفس عنه كرب العيش و تمنح الضحك والسكينة لرواد الحلقة.
داخل السوق الأسبوعي لجمعة “فوكو”، بضواحي مدينة سطات، تحلق حوله بعض المتسوقين قرب رحبة الحبوب، استهل حكايته بالدعاء للمريض والمحتاج، وختم دعائه بالويل والجذام لمن تفرج في أدائه وغادر الحلقة دون تسليمه النقود.
يلبس الشيخ “اخليفة” عادة جلبابا باليا أسود اللون، وطاقية بالكاد تستوي على رأسه، وحين ترتفع درجة الحرارة وتضيق الحلقة بروادها، ينزع بعض ملابسه ويضعها في الوسط حيت تتحول إلى كيس لجمع النقود، ثم يبدأ في الصدح بكلمات لا رابط بينها بدون وزن ولا قافية، مصرا على تلحينها عيطيا، يضغط بأصابعه البارزة على الكمان، يعزف عيطة “الحساب الزعري”، ونوبات السعال تسبقه في الغناء مرددا :
-الغادي للثلاث جيب التفـاح .
– جيتو للحلقة وشكون عرض عليكم.
-بقيتي تعرش حتى شبعتي طـرش.
-بقيتي تحقق حتى شبعتي دق.
-اللي ما وسع الحلقة بغيت لو التكوفين.
اللي وسع الحلقة الله يوسعها ليه .
تنطلق الضحكات من أفواه المتحلقين من الرعاة والتجار المتسوقين.. يتوقف مهلة وسط الحلقة للهمز أو اللمز يجمع ما يسلمه له بعض المتفرجين من دريهمات وأحيانا يفر خارج الحلقة بعدما يتبين له أن زبائنه من المفلسين.
سبق وأن كانت ذات مرة امرأة بدوية واقفة بالحلقة تتفرج على الشيخ خليفة، فلمح بدوي خلفها يمارس عهره احتكاكا، فطن اخليفة لفكرة، توقف عن العزف ورفع يده اليمنى :
– “اللي هي مرا وجلست على الأرض، بغيت الله ينجيها من مرض الركابي”.
جلست النساء الحاضرات بالحلقة، فحمل يديه عاليا موجها خطابه لصاحبه:
– و دابا تيري في بهداك الميترايوز.
غالبا ما يغادر الشيخ “اخليفة” الحلقة بعد الزوال، ويختمها بنصائحه للمتحلقين حوله قائلا :
-“بقاو تابعيني أنا راني معندي شغل، سيروا تسوقوا على روسكم، و بقاو تابعين الكمانجة و العيطة حتى تخرجوا حاشية بحالي”.
يغادر الحلقة ويشرع في تجواله بين الرحابي والمقاهي الشعبية يعزف على كمانه ويتسول من المتسوقين، ليعود ليلا بعد أن يكون قد هده التعب، وعلى حصير قديم ملقى في ركن غرفته الصغيرة ينام ليله بعمق حتى تباشير الصباح، أيام تجر أياما ولا شيء يتغير في حياة الرجل البسيط، فوجهه الأحمر ظل يفيض حيوية رغم التجاعيد التي رسمت على ملامحه خطوطا بسنوات من المعاناة، وجسمه النحيل لم يمنعه من الوقوف مثل أسد هرم، ينتظر امتلاء الحلقة ليبدأ حكاياته وفرجته الشعبية.
لكن عشية يوم خميس، حملت له بداية ارتجافة لقلبه العجوز، وهو بداخل مطعم شعبي ينتقل بين رواده يعزف على الكمان ليمدونه ببعض الآكل والنقود، إذ نادت عليه المسماة “الزوهرة” بصوت حنون :
– الشيخ خليفة أش كدير هنا ؟
توقف الرجل برهة تلفت فيها يمينا ويسارا حتى صارت “الزوهرة” أمامه، كانت شابة في الثلاثين من العمر، بيضاء البشرة، ذات عينان زرقاوان.. تعمل نادلة بالمطعم، فرد عليها بدعابته الكوميدية :
– “جيت نخطب عندكم، واش ندخل ببلغتي ولا نحطها في الباب؟”
ردت عليه الزوهرة والابتسامة تعلو وجهها :
– مرحبا بيك، على راسي وعينيَ.
طلبت منه أن يعزف لها “عيطة العمَالة”، ومن خلال مظهرها والصينية التي تحمل بيدها عرف أنها تعمل نادلة بالمطعم، شرع في عزف عيطة العمالة التي طلبتها منه وهو يردد :
– العمَالة كواتني وزادت ما بيَ، وبالي بيَا، مالي مالي لغدر عيب.
و تجيبه هي و رواد المقهى يتفرجون على التنائي:
– نبقى عزبة ولآ زواج الدل يا سيدي، بالي بيَا، سيدي سيدي ما كَلت عيب.
ير عليها :
– مذا من زين تابعاه العين يا مالي وتكايسي علياَ مالي مالي الهوى صعيب.
و ترد عليه:
– مذا من رجال شاكة لجبال يا سيدي و بالي بيا سيدي سيدي الزمان صعيب.
توقف عن العزف والغناء بعدما عرف أنها ملمة بفنه وعلى اطلاع بتشفيره قائلا لها بصوت مبحوح:
– حافظة صواريك يالعفريتة، أحياني عليك يا العمَالة .
تجيبه :
-” رانا كنت اختك في الحرفة ( شيخة) وعفى علي الله، وأنا كنترزق في هاذ المطعم، الله يجيب من يسترني.”
فهم ما تقصده بكلامها، إنها تريد أن تهرب إلى الحلال، تريد أن تتزوج..أرادت أن تسلمه بعد النقود فرفضها، وعيناه لا تفارقان عيناها الزرقاوان وشعرها النحاسي ووجهها البيضوي الأبيض..وانصرفت تاركة له ابتسامة أمل في الحياة هو الذي لم يعرف طعما للسعادة مدة طويلة.
طال الليل بالشيخ اخليفة وعرفت أجفانه لوعة السهر، راح يسترجع في بطء ما حدث معه عشية أمس، وكيف ابتسمت له الزوهرة، صحيح أن كثيرات من النسوة ابتسمن له، لكن ابتسامة الزوهرة غير الابتسامات كلها.
وما إن سطعت الشمس على الكون حتى كان الشيخ اخليفة وسط مركز القرية، يحوم حول المطعم الشعبي الذي تعمل به، لكنه أبى أن يدخل إليه وكلما كان يبتعد عنه يجد نفسه يعود صوب هذا المطعم وكأن قوة مغناطيسية تجذبه إليه، لا أحد يعرف أية أحاسيس كانت تدفع هذا الرجل الشيخ لتكرار المحاولة، وأصوات في داخله تحاول جاهدة الطفو فوق سطح الواقع والحقيقة، خلال هذه الفترة القصيرة وجد ما كان يبحث عنه، وجد الحب، وهو الذي لم يسبق له أن ذاق طعمه، ذلك المفتاح الذهبي لباب السعادة.
كان يوم الجمعة يوم السوق الأسبوعي بالمنطقة، مركز القرية ممتلئ بالمتسوقين، الدقائق تمر وكأنها ساعات، والشيخ اخليفة يؤدي أدوارا ممسرحة وغنائية داخل الحلقة، وبعد الظهر ودع جمهوره كالعادة، شرع يطوف بين المتسوقين حاملا كمانه، توجه إلى المطعم الشعبي الذي يضم بداخله الزوهرة، توقف كثيرا أمام باب المطعم ذكرى اللقاء الأول الذي عصف بليله بالرغم أن الزوهرة لم تترك له إلا ابتسامة. أيقظت فيه حبه للشيخة بعدما كان قد كرهها لأنها السبب في شقاوته. وكانت سعادة الشيخ اخليفة لا توصف بعدما سمع صوتها قادما بقوة من كل جانب وبيدها تحمل صينية تقليدية بها براد شاي وكؤوس لا تشبه بعضها وصحن به لحم مشوي، ارتعش لحظات عصيبة كعمره الضائع رفض التسول بكمانه، وقف مشدوها ينظر إليها، فبادرته بابتسامتها المعهودة:
– مرحبا بالشيخ اخليفة خوذ ليك شي كرسي وريح تساراح شوية.
جلس على كرسي خشبي لكن لا راحة له وجسد الزوهرة الطري الفاتن، يتموج بين الطاولات وسط هؤلاء الرعاة من المتسوقين.. وقف من جديد وهو يتتبع حركاتها رغبة في مصارحتها.
عادت إليه بعدما سلمت الأطباق إلى طالبيها، هزت إليه عينان فاتنتان وقالت مخاطبة إياه بنبرتها الرخيمة:
– اليوم غادا نتهلا فيك، غداك على حسابي، راك عزيز وغالي.
أسرع بالجلوس إلى طاولة غادرها أصحابها للتو، أجال ببصره في المطعم. الصحون مليئة باللحوم المشوية.. وإلى جانبها براريد الشاي المنعنع، السمك المشوي والدلاح.. أسند ظهره إلى الكرسي وأشعل سيجارته من النوع الرديء، شرع يدخنها في تلذد، و هو يتابع مشهد الزوهرة تتنقل بين الطاولات، تجمع صحون السلاطة وبقية المقبلات. كان أصعب موقف يواجهه الشيخ اخليفة طيلة حياته. فكيف يقول للزوهرة أنني أريد الزواج منك؟ وهو يكبرها بنصف عمرها، لكن من قال أن الحب يعترف بالسن، واعتدل في جلسته على الكرسي، وأخرج خلسة مرآته الصغيرة، وراح يتحسس بداية تعاريج اقتحمت وجهه،كان العمر يجري به وهو في غفلة منه، داعب في يأس شعيرات رأسه البيض ونازعه الأمل واليأس، ثم سرح في شرود محدثا نفسه:
– هاكاوا على الحب، حتى شاب عادا عاب.
قاطعت شروده الزوهرة قائلة :
– خوذ تاكل السي اخليفة، ومدت له خبزة مملوءة باللحم المشوي وكأس شاي، تسلمها منها وفاتحها قائلا:
-كَولي ليَ يا الزوهرة منين طاصيلتك ؟
تضحك مقهقهة وتجيبه بعدما أزاحت خصلة من شعرها من أمام عينيها:
-أنا يا الشيخ اخليفة سعيدية، من أولاد سعيد سطات.
تنفست بعمق وأردفت تسأله:
– وأنت منين أصلك؟
هز عينيه يتفحص وجهها الأبيض وكأنه يراها لأول مرة، ثم قال في دعابة ممازحا:
-أنا ….. أنا كيكَولو طاصيلتي مسكيني، وأنا غير سمعت.
قالها والابتسامة بادية على محياه.
انفجرت ضاحكة على جوابه الكوميدي، لحظات اتخذ فيها الشيخ قرار المصارحة ليسجل انتصارا جديدا للرغبة في الحياة.
كل شيء مضى سريعا منذ هذه اللحظة، فقد وافقت الزوهرة على طلبه، وافقت على الزواج منه، فهي تعمل خادمة ونادلة لدى صاحب المطعم الشعبي، ولم تسلم يوما من تحرشات الزبائن، كانت تطاوع بعضهم تارة لحاجتها للمال وتارة مرغمة، وهي الآن تريد أن تصبح زوجة لرجل يخاف عليها ويغار على أنوثتها، فضلا عن رغبتها الجامعة في أن تصبح أما كمثيلاتها من بنات الدوار اللواتي كن يعيرنها بلقب “الشيخة”.
لم يتبادر إلى ذهنه أنه إنما طلب الزواج منها لا حبا بمساعدتها، مع أنه يرغب في هذا كثيرا، ولكن لأنه أحبها حقا.
إنه في خريف حياته، وقبل أن تبلغ خريفها سيكون قد أمعن في شتائه، مع أنه كان يحس بأنه قادر على إسعادها، وأن يقدم لها أرضية تقف عليها مؤسسة الزواج على الأمان والحب. والزوهرة بحاجة للحب كما تحتاج الزهرة إلى الشمس.
ومن يومها راح الشيخ اخليفة في سباق مع الزمن، استأجر شقة صغيرة بحي شعبي وسط مدينة سطات، اشترى سرير النوم الزوجي وحصير.. وبعض الأشياء لزوم الحياة الزوجية.
في حفل صغير، وسط فرحة نادرة تشبه الأحزان، تزوج الشيخ اخليفة بالشيخة الزوهرة. ولم يكن يتخيل أن هذا الزواج هو بداية المتاعب وليس نهاية الشقاء بالنسبة له، لقد تركت الزوهرة عملها ولزمت بيت الزوجية حسب ما اتفقت عليه مع زوجها، ولم تمض شهور حتى كثرت مطالب العروس.
كلما ارتدت فستانا أو جلبابا جديدا ملت منه في أيام قليلة وطلبت الجديد، وكان ذلك على حساب مشاوير طويلة يقطعها متنقلا بين الأسواق الأسبوعية بالمنطقة وبين رواد المطاعم الشعبية يستجديهم ويتسولهم لمزيد من الكسب المادي، ليسدد به طلباتها الكثيرة، فهي الأمل الذي لاح له فجأة بعد حياة طويلة من العزوبية، وهو الذي يرغب أن تكون له بنتا أو ولدا ليتذوق طعم الأبوة، ويكسر تلك النظرة الدونية والقدحية المرتبطة بشيخ الشيخات.
كان تمسكه بها شديدا،لم يرغب يوما أن يستفسرها عن ماضيها كشيخة، لكي لا يحرجها ولا يجرح كبريائها، فهو شيخ للعيطة ويعرف حياة الشيخة داخل الفرقة الموسيقية، وتصرفاتها مع الزبائن من الجمهور.. كان كلما أحكم عليها قبضته انسابت منها المياه . فالإبحار صار عكسيا وذلك نظرا لفارق العمر الطويل، وهو مؤمن بأن ليس بإمكان أحد مهما كانت رغبته أو سلطته أن يعيد المستحيل، وعودة الشباب من المستحيلات، وكانت الزوهرة تطلب الكثير، تطلب وتطلب، حتى في العلاقة الحميمية..
بانت الرؤية ووضحت الصورة، فلم يعد في حياة الشيخ اخليفة سوى كيفية الإنفاق على الزوهرة وإشباع رغباتها ومطالبها التي كثرت إلى حد جعله لا يفارق الأسواق والشوارع وأحيانا صار يتسول بالحافلات وبالمحطات الطرفية، يغني بفمه ويبكي بقلبه أضحى يقضي معظم وقته هاربا من شيء ما.
وكانت المفاجأة في انتظاره حين عاد ليلا، يجر أقدامه المتعبة وروحه المرهقة، شاب في الثلاثين من العمر قوي البنية.. يسطو على حلمه الكبير. و ارتعش الرجل لحظات غير مصدق لما يحدث. ولكن ما رأته عيناه من فاحشة وكبيرة من الكبائر، أعاد له شبابه لحظات لينقض على رقبة الشيخة الزوهرة، ولم يتركها إلا بعد أن أصبحت جثة هامدة، بينما هرب الشاب ناجيا بحياته.
يومان بمخفر الضابطة القضائية، وليال في السجن وأيام أمام النيابة العامة، لتتبعها أيام أمام قاضي التحقيق، وهو يعترف ويروي قصته من أولها.. وأمام القاضي بجلسة المحاكمة أعاد الاعتراف التفصيلي للجريمة، ولأن ما كان، كان دفاعا عن الشرف ودون سبق إصرار وترصد، فقد كان الحكم بضعة سنوات في السجن يجتر فيها الشيخ اخليفة ذكرياته، كما أفضى البحت الذي أجرته الضابطة القضائية التوصل إلى خليل الخائنة وهو بدوره يعمل شيخ للعيطة مبتدأ بإحدى مجموعات الشيخات بالمنطقة ليزج به في السجن من أجل جريمة الخيانة الزوجية.
وبداخل السجن كان الشيخ اخليفة معروفا وسط السجناء بدعابته وفكاهته يرفه عنهم بسكيتشات وأغاني عيطية، وكانت تستهويه دائما “عيطة العمالة”.
ولحسن سيرته داخل المؤسسة السجنية تم العفو عليه وعاد بعد ذلك إلى كمانه و إلى فن الحلقة إذ جعل قصته مع الشيخة الزوهرة ضمن حكاياته بالحلقة، مخاطبا جمهوره من المتسوقين المتحلقين حوله بدعابته المعهودة: -” دابا غادي نعاود ليكم قصة الشيخ المخدوع مع الشيخة العمالة، غير وسعو الحلقة الله يرحم الوالدين.”