“إلى مجنونة الحرف و الركح . فاطمة بصور” للكاتب والشاعر عبد العزيز حنان

جسر التواصل13 سبتمبر 2022آخر تحديث :
“إلى مجنونة الحرف و الركح . فاطمة بصور” للكاتب والشاعر عبد العزيز حنان

عبد العزيز حنان
تمت بالدار البيضاء
في 12 شتنبر 2022

***
و يلبث الصبر ملاذنا .
*******
رقص على جمار الموت …
أو حين يتحول وجع الصبر ملهما
*******
قال الله تعالى في سورة النساء
<<< اَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ اُ۬لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِے بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖۖ >>> ( 77 )
و قال جلّ جلاله في سورة البقرة
<<< وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَےْءٖ مِّنَ اَ۬لْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ اَ۬لَامْوَٰلِ وَالَانفُسِ وَالثَّمَرَٰتِۖ وَبَشِّرِ اِ۬لصَّٰبِرِينَ (154) اَ۬لذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَۖ (155) أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُهْتَدُونَۖ >>> ( 156)
…………….
الموت / الصبر
قليلة هي النصوص الشعرية التي تطرق لهذا الموضوع ، نظرا لرهبته و وقعه على النفس الإنسانية . مما أذكره هناك من الشعراء المغاربة الذين لامسوه مثل الشاعرة مالكة عسال الشاعرة مليكة ضفير ، الشاعرة نجاة جعفري ، الشاعرة نجاة الشرقاوي ، الشاعر إدريس بلعطار ، الشاعر محمد عزيز بنسعد و أكيد آخرون لم أتمكن من معانقة نصوصهم ، لكن تبقى تجربة الشاعر ماجد فدراني ( ديجام ) و الشاعرة رشيدة الشانك متميزتان .
الأول في الصدمة و الحرقة ثم الوفاء لذكرى الزوجة الراحلة ، و الثانية السؤال الوجودي لفعل الموت بين الرهبة و الوقْع في قصيدة (مَنِّ تْجِي الْمُوتْ ، مَا هْدَرْنَاشْ عْلَ كُولْشِي )
.
صحيح ، الإنسان ينزاح نحو التناسي و ليس النسيان لاستمرار الحياة لكن الوقع يظل حاضرا . و الموت كما وصفها الله في القرآن الكريم ، مصيبة تصيب المخلوقات كلها و من ضمنها الإنسان .
جدلية الموت و الصبر من خلال الشاعرة فاطمة بصور
يقول المثل العربي ( الابن مولود ، و الأخ مفقود )
الابن يمكن أن يوجد من جديد سواء بالولادة أو حتى التبني ، لكن الأخر إذا توفاه الله فلا يمكن استرجاعه إلا من خلال التذكر المؤلم . و لذاك كان العنوان في القصيدة مؤطرا لما سيأتي :
وْجَعْ اٌلصّْبَرْ ” “
نعم ، الصبر مطلوب و واجب ، لكن بأية صفة و على أي شكل ؟؟؟
الصبر ترويض النفس على الاحتمال و التحمل ، على تقبل الحدث بقناعة إيمانية ، لكنه في الآن ذاته – مع الموت – وجع .
يبدأ النص بهذا النداء المتميز في تركيبته .
أمام المصاب الجلل لا يسع المعزين إلا الدعاء للمكلومين بالصبر ، و الذي تعتبره الشاعرة تحيّز للصبر في مواجهة وجع المكلومين ، تبدو المسألة محمودة لكن من يجيب عن السؤال ليكون هذا الاصطفاف إلى جانب الصبر ؟
“” وِيلَا زْعَمْ رَيّْكُمْ شْوِيَّا،
نَشّْفُو دْمُوعْ لَفْرَاقْ مَن عَيْنِيَّا، “”
من يستطيع فعل ذلك ، فلْيتقدّمْ .
لتجيبهم الشاعرة و مع موافقتها و الاقتناع بأن سبيل الصبر هو المسلك الوحيد ، بأن الأمر أكبر منها . و تختار لهذا الجواب كلمات تنتهي بحرف القاف . و من بين خصائص هذا الحرف :
الجهر : أي أن يكون الصوت واضحا في السمع بسبب جريان النفس و ضغط الأوتار الصوتية و اهتزازهما .
الشدة : أي أن الحرف لا يتغير نطقه بسبب أنه نعتمد عليه في المخرج .
القلقلة : و هي أن يضطرب الصوت ، فينتج عن ذلك نبرة قوية عند النطق .فتحسّس النبرة عند النطق بهذا السطر .
“” شَاقّْ… شَاقّْ… هَدْ لَفْرَاقْ،
خَلَّى حَسّْ اٌخِّيِّي نْعَسْ مَ فَاقْ، “”
كم هي مؤلمة و موجعة هذه الصورة … و للتأكيد على أبعد مدى أثر الوجع ترد هذه الصورة بحقيقة أخرى تؤكد و تثبت ما عبّرت عنه .
“” وِيلَا كَدَّبْتُو ڭُولاَنِي يَا عَشْرَانِي،
سَوّْلُو اٌللِّي مَنْ عَيْنْ لْڭُرْحَة ذَاقْ، “”
لتنتقل الشاعرة و بشكل انسيابي سلي إلى معانقة الفقيد في صور جد متميزة ، تتسامى عن المباشر لتقدم صورا مركبة عنصرها الأساسي ، الماء . و كلنا نعرف قيمة الماء و مدلوله و خصائصه . ( عْوِينَة = وَكْحَاتْ ) / ( عَطْشَكْ = شَحْفَانْ ) / ( شْتَاكْ = سْحَاتْ ) . هذا التقابل المرّ يصور مدى الوجع الذي أحدثه الغياب / الحاضر .
و إمعانا في تصوير اللحظة الوجع تردف هذا المقطع بآخر يجسد النزيف تأت وطأة الوجع . نعم ، الصبر يمنحنا قوة و إرادة على مواجهة الاستحضار المؤلم ، لكن انهزام النفس أمام لحظات التذكر أقوى … لتعبر عنها الشاعرة بشكل سلس دون تعقيد و بلغة دقيقة في تصوير اللحظة .
“” كِينْدِيرْ نَخْنَقْ تَنْهِيدَة،
خَارْجَة جَافْلَة مَنْ جُوفْ لُكْبِيدَة،
هَدْ اٌلصّْبَرّْ كينْدِيرْ نْرَارِي بِيهْ،
وْلِيلَكْ غَمّضْ عْلِيَّا عَيْنِيهْ؟
بَانْ ضَوّْ اٌلنّْهَارْ ؤُمَ فَاقْ،
حِيتْ فْ شَمْسْ اٌلدَّنْيَا مَ بْقَى تَاقْ،””
لنتخيل و لو مجرد تخيل خروج تنهيدة و هي ( جافلة ). من يستطيع نقل الصورة إلى لوحة تشكيلية : صدر ينتفخ هواء مضغوطا ليخرج زفرة مجنونة من المستحيل إيقافها . و استعملت الشاعرة لفظا يكاد يندثر من معجمنا العامي رغم دلالته العميقة و وقعه النافذ للدواخل ( لَكْبِيدَة ) ما هو موقع هذا الذي أشارت إليه ؟ جميعنا نفهمه و نحسّه ، لكن من هو ؟؟؟ أين هو ؟؟؟ إنه ليس الكبد بمعناه الاصطلاحي كمكوّن من أعضاء المخلوقات ، إنه أبعد من ذلك …
و هذا الصبر الذي يوصي به المُعُّون ، كيف يمكن احتضانه و إنامته حتى يغفو في دواخل المكلومين ؟؟؟ إن الأمر أكبر من ذلك . و هنا أعيد استحضار المثل العربي ( الابن مولود و الأخ مفقود ) فالغياب يقلب موازين الأشياء و يُفقد معنى كثير من الأشياء ، بل و يُفقد الثقة حتى في بعض المسلمات في ذروة وطأة وجع الفراق .
حتى النهار أطل بضوئه و ما استيقظ من سباته الليل ، لأن الثقة في التجليات المعيشة تزعزعت .
إنه فعل الموت الكاسر لكثير من أوهام الإنسان كما عبرت عنه الشاعرة رشيدة الشانك في قصيدتها (مَنِّ تْجِي الْمُوتْ ، مَا هْدَرْنَاشْ عْلَ كُولْشِي ) .
و يأتي المقطع الأخير بنوع من الاستسلام المُرّ للواقع رغم استمرارية المكابدة / الوجع .
“” كِينْدِيرْ نَصْرَطْ دَمْعَة،
نَازْلَة تَحْفَرْ خَدّْ شَمْعَة؟ “”
من أين سيأتي الصبر و كيف ؟
و كيف نأمر القلب أن يكف عن البكاء بدمع جفّ في المآقي و بقيت جماره متأججة في الدواخل ؟؟؟
لا يسع المكلوم تحت وجع مصيبة الموت إلا أن يُجبر نفسه على قبول القضاء و القدر . هو مكتوب في علم الغيب و لا يسعنا إلا الاحتماء بالإيمان الذي من أركانه ، الإيمان بالقضاء و القدر :
“” يَا صَبْرِي رْضَا بَ لْمَكْتَابْ،
لَحْبَابْ غَابُو،
وْسُورْتُو بَ قْفَلْ دَاكْ لْبَابْ . “”
لتختم الشاعرة النص بالنقطة . و بتعبير الشاعر الكبير محمد عزيز بنسعد ( نقطة ، وَرْجَعْ لَلصّْبَرْ )
هي نهاية الأشياء و علينا تحمل وقعها و نتائجها دون البحث عن السبب و المسببات . هو الإذعان و التمسك اليقيني بالصبر كما قال الله تعالى في سورة البقرة :
<<< … فَاذْكُرُونِےٓ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِے وَلَا تَكْفُرُونِۖ ( 151 ) يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ اُ۪سْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ مَعَ اَ۬لصَّٰبِرِينَۖ (152 )
لَحْبَابْ غَابُو،
و الآن أدعوك عزيزي القارئ إلى إعادة قراءة القصيدة لعلك تكتشف ما لم أتوصل إليه ، و تلامس ما لم أستطع اختراق دلالاته و أغواره .
# مَرْثِيَّة وَاجِبَة #
” وْجَعْ اٌلصّْبَرْ “
يَا لَمْحَرّْشِينْ صَبْرِي عْلِيَّا،
نْوَصِّيكُمْ فَاگْدُو فِيَّا،
وِيلَا زْعَمْ رَيّْكُمْ شْوِيَّا،
نَشّْفُو دْمُوعْ لَفْرَاقْ مَن عَيْنِيَّا،
شَاقّْ… شَاقّْ… هَدْ لَفْرَاقْ،
خَلَّى حَسّْ اٌخِّيِّي نْعَسْ مَ فَاقْ،
وِيلَا كَدَّبْتُو ڭُولاَنِي يَا عَشْرَانِي،
سَوّْلُو اٌللِّي مَنْ عَيْنْ لْڭُرْحَة ذَاقْ،
عْوِينْةْ وَحْشِي لِيكْ أَخِّيِّي وَكْحَاتْ،
وْعَطْشَكْ مَزَالْ شَحْفَانْ فِيَّا،
حِيتْ شْتَاكْ صَبَّتْ وْدَغْيَا سْحَاتْ،
كِينْدِيرْ نَخْنَقْ تَنْهِيدَة،
خَارْجَة جَافْلَة مَنْ جُوفْ لُكْبِيدَة،
هَدْ اٌلصّْبَرّْ كينْدِيرْ نْرَارِي بِيهْ،
وْلِيلَكْ غَمّضْ عْلِيَّا عَيْنِيهْ؟
بَانْ ضَوّْ اٌلنّْهَارْ ؤُمَ فَاقْ،
حِيتْ فْ شَمْسْ اٌلدَّنْيَا مَ بْقَى تَاقْ،
كِينْدِيرْ نَصْرَطْ دَمْعَة،
نَازْلَة تَحْفَرْ خَدّْ شَمْعَة؟
يَا صَبْرِي رْضَا بَ لْمَكْتَابْ،
لَحْبَابْ غَابُو،
وْسُورْتُو بَ قْفَلْ دَاكْ لْبَابْ.
مجنونة الحرف والركح:31/8/2022
و تغمد الله برحمته أمواتنا و أموات المسلمين الذين شهدوا لله بالوحدانية و لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم بالنبوة و الرسالة و ماتوا على ذلك .

الاخبار العاجلة