شيخ العيطة الحسين السطاتي
خلقنا الله سبحانه وتعالى على وجه الأرض وميزنا عن باقي المخلوقات بالعقل، وكرم ديننا الحنيف الإسلام الإنسان، وجعلنا سواسية إلا في عبادة الله وتقواه، إذ لا فرق لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، إلا أن الإنسان منه من طغى وتجبر، واستعبد واحتقر وأهان أخوه الإنسان، وعامل البشر بعضهم البعض بأساليب عنصرية مهينة تحط من الكرامة الإنسانية، وقد عرفت هذه الظاهرة الخبيثة كل الشعوب، حيث تتواجد هذه الآفة في جميع أنحاء العالم، لكن طبيعتها تختلف حسب البيئة والسياق، وهي الوباء المزمن المتربص بكل المجتمعات، والمغرب ليس بمنأى عن ظاهرة التمييز والعنصرية ومازالت مستفحلة بالمجتمع، رغم أن بلدنا يعد بلدا مسلما ومتسامحا ومنفتحا على نفسه وعلى الآخرين، وصادق على المعاهدات الدولية المناهضة للعنصرية، ونجد القانون المغربي يجرم كل ميز أو تفرقة بين الأشخاص كيفما كانوا، وتجريم الدستور المغربي لأي تمييز أو سلوك عنصري، وعدم وجود أي أحزاب أو مؤسسات رسمية تحرض على العنصرية وكراهية الأجانب.. وعلى الرغم من هذا التطور القانوني والاقتصادي في البلاد، والدولة تحارب وتجرم العنصرية، ورغم إنكار البعض لانعدام وجود الميز العنصري بالمغرب، إلا أن الترسانة القانونية شيء والواقع شيء آخر، فإن العنصرية مازالت متواجدة بين بعض المغاربة، حيث أن بعض الأشخاص مازالوا يحنون إلى عهد الاستعباد والجاهلية، ويمارسون عنصرية على الآخرين، إذ لا يزال ذو البشرة السوداء أو السمراء الداكنة، والنساء، والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يوجدون في وضعية إعاقة والفقراء البؤساء..كل هؤلاء نجدهم يعانون عنصرية ويعيشون بعض الصعوبات الاجتماعية ونظرة دونية من المجتمع. ومازال الميز العنصري موجودا فعلا بالمغرب، سواء كان على مستوى اللون أو الجنس أو الدين، أو العرق، أو اللغة..وقد نجد هذا الوباء مستشريا في كل القطاعات وحتى بمختلف الفنون الشعبية والتراثية ومنها فن العيطة.
إن فن العيطة هو فن شفوي وصلنا عبر التواتر والتناقل الشفهي من جيل لجيل، وتعد الشفهية من حظ هذا الفن وامتيازا له، حيث لم يكن هناك توثيق للمتون العيطية، فظل الشاعر العيطي مجهول الاسم، واستنادا إلى ما توفر لدينا من ربائد عيطية محفوظات “أرشيف” غنائي قديم، ( أسطوانات اللفة، أشرطة الكاسيت، أشرطة الفيديو، تسجيلات بالكاميرا لحفلات عيطية، أقراص مدمجة، تسجيلات لسهرات عمومية وتلفزيونية، صور فوتوغرافية، ومنشورات فيديو على موقع التواصل الاجتماعي “يوتيوب”، فايسبوك، تيك توك..)، وما سمعته شخصيا بالمباشر من أفواه “الأشياخ” و”الشيخات” والرواة..منهم الذين ماتوا الله يرحمهم، ومنهم الذين مازالوا على قيد الحياة، وبصفتي الفنية فنان شعبي شيخ للعيطة مغني وعازف كمنجة، كوامنجي ل”رباعة الشيخات”، فمن خلال ممارستي الميدانية لهذا الفن التراثي الأصيل اتضح لنا أن هذا الفن ينخر جسده مرض العنصرية رغم أنه قد تكون هذه السلوكيات التمييزية أحيانا لا واعية..
ويعد هذا الفن من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، فن موسيقي تقليدي، غناء البدو.. فن رعوي أصيل متجذر في التراث الشعبي، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته.. أشعار عميقة بلغة عامية دارجة ضاربة في عمق البادية المغربية، تتغنى بموسيقى ممتدة أنغامها امتداد السهل والصحراء، وصدى أنغامها تردده أعالي الجبال الشاهقة الشامخة، وتحضنه أشجار الغابات العالية الكثيفة، إبداع فيه قصص وحكايات، وأمثلة وحكم تحمل قيم إنسانية، وفيه مجاز، وتعبيرات جذابة، وفيه كنايات وأشياء مثيرة، نسجت بعبارات رنانة تتجه نحو سبر أغوار المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك الفنان المغني -الشيخ أو الشيخة- في أحاسيسه المتلقي، وغامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هاته المقولات من إيحائية وبلاغة، وقد جمع هذا الفن الشعبي التراثي بين الموسيقى والغناء والرقص.. فن طربي ثوري تحريضي وحماسي، كما أنه غناء تثقيفي توعوي ووعظي، والقصيدة العيطية هي بمثابة وثيقة توفر لنا فرصة لا مثيل لها لاستكشاف التاريخ الاستعماري والاستعبادي في المغرب عبر قرون، لهذا فهو فن تراثي زاخر أصيل، وقد عانى ومازال يعاني من التجاهل والتهميش والإقصاء والاحتقار، وكذا من تصرفات وأساليب عنصرية، تتجلى في نظرة التبخيس والاحتقار والازدراء لممارسي هذا الفن من أشياخ وشيخات، ونظرة المجتمع المهينة للشيخة بتلك النظرة الدونية ومعاملة الازدراء والاحتقار حيث نجد البعض منهم مازال يساوي بين الشيخة والمومس، وهذا التصنيف جعل الرذائل الاجتماعية والأخلاقية تلتصق بهم حقا أو باطلا، وهناك من المتخلفين الجاهلين من يزدري حتى اللهجة العيطية الدارجية المغربية “العروبية” التي يغنى بها هذا الفن.. وعلى الرغم من تلك الروعة والأصالة والجمالية التي تبدو عليها العيطة كفن شعبي تراثي أصيل، فهي لم تفلت من فيروس التمييز والعنصرية.
إن فن العيطة هو فن تراثي له سحر خاص على الجمهور الذي يعشقه ويفضله، لذا استمر هذا الفن لقرون عديدة ومازال يفرض وجوده بقوة في الساحة الفنية المغربية، وذلك بفضل أجواءه السحرية والعناصر الفنية المختلفة التي تميزه عن باقي الفنون الغنائية الأخرى، ولا يمكن أن ننكر أن هذا الفن يشكل مرتع عنصرية في الوقت ذاته، فقد دعمت العيطة بعمد أو بغير تعمد سيادة ونقاء العرق الأبيض منذ قرون سابقة، ومازال ذلك يتكرر إلى يومنا هذا، مع تكرار واجترار الأغاني العيطية، حيث نجد النص العيطي دسما ببعض المفردات والمصطلحات التي لا تليق من الناحية الأدبية والأخلاقية، ونجد ذلك واضحا كذلك من خلال هيمنة الأشياخ والشيخات ذوي البشرة البيضاء، وبأسماء محببة تفاخرية تفضيلية وعلى سبيل المثال: “الشيخ الشريف، الشيخ بوشعيب البيضاوي، الشيخ الماريشال قيبو، الشيخ العربي لشهب، الشيخ المصطفى لزعر، الشيخ الماريشال ميلود، الشيخة فاطمة الزروقية، الشيخة رحمة الزريقة، الشيخة سعاد الشهبة، الشيخة رحمة الزينة ..في المقابل نجد أسماء بذيئة ومذمومة وقدحية لوصف الأشياخ والشيخات، الممارسين السود أو لذوي الاحتياجات الخاصة الذين لقبوا بلون بشرتهم أو حسب إعاقتهم الجسدية عن جهل وعدم الوعي بمفهوم العنصرية من قبيل: الشيخ الضراوي، الشيخ سعيد لكحل، الشيخ العبد، الشيخ فاتح الحرطاني، الشيخ ولد الكحلة، الشيخ حمادة القزم، الشيخ ولد الصوبا، الشيخ ولد الكرشة، الشيخ بو الدروگات، الشيخ بوگلة..الشيخة سعاد لكحيلة، الشيخة لكبيرة الخادم، الشيخة التايكة الحرطانية، الشيخة مينة الجدية، الشيخة شكيليطة، الشيخة الكحيلة الزيتونية، الشيخة مسيكة، الشيخة فليفلة، الشيخة ميطيشة، الشيخة الهاترة، الشيخة القرعة، الشيخة فاطمة الزحافة، الشيخة فيطنة العمية، الشيخة مليكة العوجة، الشيخة فاطنة العرجة، الشيخة حليمة الكردة والشيخة خديجة لمجيريبة.. وغيرها من هذه الأسماء المترسخة في ثقافة لها امتدادات عميقة في المغرب العبودي البعيد للمجتمع المغربي، حين كان السود يعدون بالآلاف ويشتغلون في الجيش وبمهن أخرى وضيعة، وإننا نعثر على عدد من الأشخاص المغاربة من ذوي البشرة السوداء الذين أعطوا الكثير لفن العيطة، ولم يتم إنصافهم ولا حتى التعرف عليهم من طرف الجمهور بشكل يلاءم مواهبهم ومساهماتهم وانجازاتهم الفنية، كما نجد بين ثنايا النص العيطي تتشكل مفردات عنصرية من قبيل: العبد، العبيد، العزي، العزوة، العنطيز، الحرطاني، الضراوي، الضراوية، لعزاوة، لكحل…وغيرها من المفردات والأسماء ذات صبغة التمييز العنصري، إضافة إلى مصطلحات سيادية تكرس العنصرية بين العبد وسيده حيث نجد كلمات مكملة للجمل اللحنية العيطية مثل: “الله يا سيدي، بابا يا سيدي، مولاي يا مولاي..لالة يا لالة، لالة مولاتي..”، كما نجد من بين العيوط الفيلالية الجرفية البلدية عيطة تحمل اسم “البيضا” بمعنى المرأة البيضاء، تتغنى بجمال المرأة البيضاء وفتنتها، لكننا لم نعتر على عيطة باسم “الكحلة” ولا حتى باسم السمراء، وقد نجد أشياخ وشيخات العيطة عنصريون حتى فيما بينهم، فيا ترى هل فن العيطة هو فن عنصري؟ وهل الفنانون العيطيون “أشياخ وشيخات” واعون بذلك أم لا ؟ وهل يمكن اعتبار القصيدة العيطية التي قيلت قبل قرون بالقصيدة العنصرية؟ ولماذا نجد ذو البشرة السوداء قليلون بل شبه منعدمون في هذا الفن بالمقارنة مع الشخص الأبيض؟ وكيف يعالج غياب السود في هذا الفن التراثي الأصيل؟ وما هي أصناف الميز العنصري التي تمارس ضد أشياخ وشيخات العيطة؟ وهل يمكن أن نصل إلى إزالة مظاهر الاحتقار من فن العيطة ونترك الكلمات البذيئة التي تجرح مشاعر الآخرين؟ وهل يستطيع ممارسو فن العيطة تعديل لغة الشارع في متونه نحو الأشخاص المختلفة ألوانهم وعقائدهم؟
إن مصطلح العنصرية هو الاعتقاد بأن هناك فروقا وعناصر موروثة بطبائع الناس أو قدرتهم وعزوها لانتمائهم لجماعة أو لعرق ما، بغض النظر عن كيفية تعريف مفهوم العرق- وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين لهذه الجماعة، بشكل مختلف اجتماعيا وقانونيا، كما يستخدم المصطلح للإشارة إلى الممارسات التي يتم من خلالها معاملة مجموعة معينة من البشر بشكل مختلف ويتم تبرير هذا التمييز بالمعاملة باللجوء إلى التعميمات المبنية على الصور النمطية وباللجوء إلى تلفيقات علمية، وهي كل شعور بالتفوق أو سلوك أو ممارسة أو سياسة تقوم على الإقصاء والتهميش والتمييز بين البشر على أساس اللون أو الانتماء القومي أو العرقي.
نجد الكثيرين من المستمعين لفن العيطة لا يستبينون كلماتها ولا يستوضحون عمقها اللفظي تلك الأشعار والعبارات التي تتغنى بها الشيخة أو الشيخ المنشد، ويكتفي البعض بالاستماع والاستمتاع بالموسيقى العيطية لوحدها، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها وما فيها من عبر وحكم وقيم إنسانية، وإن كل عرق أو جنس له مميزاته الجمالية التي قد تختلف مع المميزات الجمالية لبقية الأعراق، ونُقر أن العيطة دعمت سيادة الشخص ذو البشرة البيضاء، إذ نعثر على عدد كثير من الأبيات الزجلية في المتن العيطي قد ركزت على تيمة بعينها تم تداولها مرارا وتكرارا في مجموعة من العيوط، بأصوات عدد كثير من الأشياخ والشيخات، رغم اختلاف مضمون هذه العيطات، ذلك الموضوع العيطي هو الجسد الأبيض الغض شديد البياض، العاجي الشهواني، وشديد التناسق كما نجد في عيطة “الغزال” المرساوية:
أهياوين أهياوين..ايلي ياييلي
داز ما كلمتو…هيا واهيا
نعس ما فيقتو…ايلي ياييلي
يا مالي ما شفتو لغزال…يا صحاب الحال امالي…سيرا واهيا
مالي الغزال غادة…كاين شي صيادة يا سيدي…وايلي ياييلي
يامالي الزين ولبياض… سلالة القياد يا سيدي…سيرا واهيا
مالي الزهو في البيضة…بلا تمرميدة يا سيدي…ايلي هياييلي
سيدي عودك يا لشهب..شحال كيعجب يا مالي…سيرا واهيا
سيدي جيبو ليا…داك الزين بوكمية..ايلي ياييلي
سيدي جيبو ليا …سالب عقلي وعينيا..وهيا واهيا
مالي عينو كحلة… وحاجبو خروبي…ايلي ياييلي
حبيبي خدو وردة …مفتحة في الجردة…اهيا واهيا
مالي فيمو خاتم …داكَها مكاوي…أيلي ياييلي
في صدرو بيضات…مسلوقات منقيات…أهيا واهيا
مالي كرشو شقة مزوقة.. مفرشة في الحلقة..ايلي ياييلي
مالي الساكَ ولبياض…مهبلني بضاض …أهيا واهيا
هنا يستعمل الشاعر العيطي في بعض الأبيات الأسلوب المجازي والترميز في بعض التعابير، وللمتلقي أن يتخيل الصور الشعرية في جمال الغزال، وروعة الساق الأبيض، وبياض البيض المسلوق، وأصل البشرة البيضاء سليلة الحسب والنسب “الزين والبياض…سلالة القياد”، لكن في نفس العيطة “الغزال” سنجد أبيات ومفردات حاطة من كرامة الشخص الأسود ومهينة له قد تكون ناتجة عن عدم وعي الشاعر بمفهوم العنصرية كما في هذا المقطع من نفس العيطة:
ليلي ليلي ليلي…ايلي ياييلي
سعدي أنا وحليلي…هيا واهيا
نعنق ونعوز خليلي..ايلي يا ييلي
أنا وخليلي وقنديلي نضوري ليلي يا خليلي…سيرا واهيا
أنا حيدو لكحل راه جا لفحل يا سيدي…ايلي يا ييلي
أنا كَلبك كحل مالقيت ليه لحل يا مالي….سيرا واهيا
وخا ضراوي وعطيز…في لقليب عزيز يا سيدي…سيرا واهيا
حس الخلخال في الدروج ينادي…سيدي حس الخادم جايبة الصينية
ونجد بالعيطة العبدية أو ما تسمى بالعيطة الحصباوية بعض الأبيات التي تكرس دونية الشخص الأسود، وترسخ أساليب العنصرية بين العبد وسيده والتفاضل بين الشخص الخادم والسيد المخدوم. والشاعر العيطي العبدي حسب بعض الأبيات لم يجد غضاضة في تصوير الرجل الأسود والمرأة السوداء بشكل مهين كعبيد وخدم، بينما يصور الشخص الأبيض والمرأة البيضاء كأبطال وسادة يمثلون الجمال والقوة والعنفوان والسيادة المطلقة، كما نجد ذلك في عيطة “العمالة” أو ما تسمى بعيطة ” با علال الساجني” ونجدها في العيط المرساوي تسمى بعيطة “الشاوية”، هذه العيطة التي تمجد القايد عيسى بن عمر وأبناءه وتهين خدمه وعبيده.
العمالة كواتني وزادت ما بيا…الله يا سيدي…هاهاه الخاوة الخاوة لغدر عيب
ولد حديدو عاجبو عودو يا سيدي…ياكا ابابا…هاه هاه كَاع حضروا العلامة ليوم
الله الله الله سيدي صباحك سيدي مساك…الله الله الله
فين ما بغيتيني تلقاني حداك…عدا الهوى عادا
فين ما بغيتيني نزهى معاك…الله الله الله
سيدي أحمد يا بابا أحمد…الله الله الله
سيدي أحمد يا حرش لعيون…عادا لهوى عادا
سيدي ادريس يا بابا ادريس…الله الله الله
بابا ادري يا ذهب لكويس…عدا الهوى عادا
العبد فراجي كَال شي كلام…الله الله الله
داك العسكر عاطي السلام…عدا الهوى عادا
حتى من لخويدم هازة لعلام…الله الله الله
أيا سيدي ما عملت بالشرع سوى مت ولا حييت با علال ساجني
ومعروف أن فن العيطة قد رافق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفها المغرب منذ قرون وعبر مراحل وفترات تاريخية عصيبة، سواء بتمردها وتحريض نصوصها للمواطن ضد ظلم والاستبداد وتسلط السلطات المخزنية المغربية الظالمة، أو ضد المستعمر الفرنسي والأسباني، وذلك عبر مراحل تاريخية بالشعر والغناء، سواء بالمدح أو الهجاء، أو الغزل والرثاء، كما يبدو ذلك في العيطة العبدية، عيطة “الحصبة “، هذه العيطة التي سميت باسم الشيخة “حادة الزيدية الغياتية” والملقبة ب “خربوشة”، في إطار تمردها على السلطة المخزنية، المتمثلة في ظلم وجبروت القايد “عيسى بنعمر” على قبيلتها “أولاد زايد” بمنطقة “عبدة”، هذه الشيخة لم تكن تلك المرأة الغادة البيضاء وحسب النص العيطي فقد كان سمراء “خربوشة، زروالة الحمرا لكريدة…بربعة محسوبين)، وعرفت بنضالها ضد رجل السلطة “القائد” حيث صارت هذه الشيخة شخصية أسطورية، اشتهرت بغنائها العيطي الثوري، وبصوتها الشجي الذي يتحدى الزمن ويتجاوز الأجيال، ومن خلال هذا الصوت ناضلت وعيطت بممارسة العصيان والتمرد وعدم الامتثال لسلطة القائد الغاشم، منددة بالتجاوزات والتعسفات التي مارسها ممثل السلطة “القائد”، وبقيت سيرتها تكحيها الأجيال، وقد سميت عيطة في العيط العبدي الحصباوي باسمها “خربوشة”، وفي العيطة المرساوية سميت بعيطة “خربوشة منانة”..
ونجد كثير من الأبيات الزجلية من عيطة “الحساب الزعري”، تركز على تيمة اهانة ذوي البشرة السوداء، سواء عن قصد أوبغير قصد، وقد تغنى ومازال يتغنى بها العديد من الأشياخ والشيخات، وهم قد لا يُدركون بما يتفوهون به، من مفردات جارحة ولو أنها كانت على سبيل الدعابة والمزحة أو حتى للتفكه والسخرية أو التحبب إلى الشخص الأسود أو المعاق، وهذه العنصرية ليس ضد السود وحدهم بل حتى ضد ذوي الاحتياجات الخاصة من ذوي العاهات والإعاقات، وضد أعراق وقوميات تعايشوا معها عبر تاريخهم حين استعبد المغاربة بعض الأقوام وتفاخروا بامتلاك العبيد… ونذكر منها مثلا هذه الأبيات:
وخا ضراوية…لايقة بيا
وخا ضراوي وعنطيز…في القليب عزيز
حتى حب لعزاوة…داير غزاوة
حيدو لكحل…راه جا لفحل
وخا كحيليش…كيعرف يعيش
حالف عل الكردة…حتى نردها قردة
في ليلتك يا الجحموم…ما ضوات نجوم
حالفة عل لكرد…حتى نردو ضد
حبك يا العرجة…ع تا درج وجا
كيتك يا العمية…ما تبرا ليا
مزينها طفلة…خسارة كحلة
حالفة على النصراني…ايلا ركب تاني
حالفة عل ليهودي…ما نكَول لو سيدي
دقة النصرانية…اللي فازرة فيا
كلام الكحلة…عمرو ما يحلا
هذه بعض الأبيات من عشرات بل من مئات “الحبات”، من عيطة “الحساب الزعري”، التي مازالت رائجة، دون وعي من المغنيين الشعبين بمفهوم العنصرية، وما تسببه للآخر من مضايقة واهانة، كما نجد الشاعر العيطي الغرباوي يصب جام غضبه وسلاطة لسانه وقساوة شعره على السود، ويمرغ العرق الأسود في رؤية لا تخلو من عنصرية كما يتضح ذلك في هذه الأبيات من عيطة “الغابة”:
طالب ضيف الله في الغابة وماليها
واش الحولي في لغنم كيف المعزي فيها
واش الكابر في لبلاد كيف الغشمي فيها
ياك الكحلة ف لغنم ما هي حلابة
سال الطلبة والرما وسال الكسابة.
وتداولت الألسن عبر سنين، أبيات العيطة الحوزية “خالي يا خويلي” ومازالت متداولة إلى يومنا هذا، وهي قصيدة تقص فيها الشيحة وتحكي قصص المعارك التي شهدتها منطقة الحوز، والمقاومة الباسلة للرحمانين، رغم ما تحمله بين ثناياها من مفرات عنصرية، وهذا مقطع قصير جدا منها:
فبين أيامك يا بن كَرير…ع الغبرة والكور يطير
فين ايامك يا بوعثمان…الطرابش كبلعمان
الموتى كيف الدبان…شي مكسي وشي عريان
أولاد العديان كيف الفيران…وولاد الوطن كيف البيزان
فين ايامك يا لاربعا…كان موسم ولا حركة
لا خزانة ولا عود بقا…حس البكا والموت شلا
دوزها قايدي دوزها…دوزها القايد العيادي
داير برادو في قبو…فين ما رشق ليه يكبو
داير شيخاتو في جنبو…فين ما رشق ليه يلعبو
أولادو كيف البيزان…وعبيدو كيف الجديان
ويجسد هذا النص الغنائي بإيجاز شديد وبكلمات عميقة ومعبرة للمقاومة الشرسة للرحمانين ضد المستعمر، كما نجد وصفا غنائيا بديعا لسقوط الشهداء القتلى، والضحايا الجرحى على أرض المعارك التي تم خوضها ضد القوات الغازية، وتلك المقاومة الشرسة لأبناء الرحامنة بمنطقة الحوز “سيدي بوعتمان، بن كَرير، لاربعا..”، وفي المقابل يتضح لنا تلك الكلمات التي تسيء للشخص الأسود الذي تشبهه بالجدي، وتفضيل الرجل الأبيض “القايد العيادي” بصفته الرجل السيد مع وصف جمال وروعة أبنائه البيض الذين يشبهون الصقور “أولادو كيف البيزان…وعبيدو كيف الجديان”، “الخويدم تمشي وتجي…وحتى لعبيد يعيط سيدي”،
كما نجد في عيطة “حادة”، من العيطة الحوزية توضح الفرق بين المرأة البيضاء والمرأة السوداء، حيث الأولى ترمز إليها ب”قالب السكر”، رمز الغداء والحلاوة والنقاء، بينما الثانية السوداء تشبهها بألة الحصاد التقليدية “المنجل” التي تصلح للعمل الشاق:
البيضا ايلا دارتو…تستاهل ايلا دارتو
كيف القالب هرسو مولاه…وداه للجماعة يتعنا بيه
والكحلة ايلا دارتو…تستاهل ايلا دارتو
كيف المنجل زندو مولا للحصاد
كما نجد في ملحمة عيطة “الشجعان” من العيطة الملالية، للشيخة الشاعرة مباركة لمبيهيشية، حيث تستكثر في الشخص الأسود المناصب العليا أو الارتقاء إلى طبقة اجتماعية أكبر من قيمته، وهذه بعض من أبياتها:
واش من والى يتولى…واش القياد تكون من والى
حتى عريوة دار كسيوة…حتى العبد حس براسو
كان وكان وكان وكان…من العسة ولا قبطان
واش لعدو يكون حبيب…واش الكَطران يرجع حليب.
أما فيما يتعلق بموضوع المرأة والتغزل بها والعشق والهيام، فقد احتلت المرأة البيضاء النصيب الأكبر، من تمجيد وتناء ومحاباة، حيث أبدعت العيطة الفيلالية البلدية روائع من عيوط و”براويل” مشهورة في هذا الشأن، فهي عيطة وجدانية تحتفي بالعاطفة الإنسانية وتصور تقلباتها بين الحب والهجر والعتاب والتوسلات ونذكر من بينها كما جاء في عيطة “البيضا” أو ما تسمى بعيطة “الحريمية” هذه العيطة التي نشأت وسط بيئة صحراوية يكثر فيها الأشخاص ذو البشرة السوداء، لكها لم تتغنى بالمرأة السوداء “الكحلة”، واكتفت بتخصيص عيطة للمرأة البيضاء، والتي صورتها بالغادة الفاتنة التي يتنافس ويتصارع حولها الرجال وهذا مطلعها:
البيضا منين منين منين وفين…..منين جاك المشماش عضمو حلو
جابو ليا سيدي وليد عمي…..بغاني نزهى معاه
البيضة منين منين منين وفين….من جاك الشربيل خلاني هبيل
جابو ليا لخليل وليد عمي…..جابو لي في الصداق
الله الله الله يا العالي….آهيا وهيا
أش كان سبابي……آهيا وهيا
حتى فرقت حبابي….اهيا وهيا
لالة عينيك عينيك طيحو الزرزور من فوق لقصور
لالة عينيك عينيك جابو الهوى من شيشاوة
هذه بعض النماذج بين ثنايا المتن العيطي التي تكرس لمظاهر وأساليب العنصرية، والتمييز بين بني البشر، سواء كان ذلك عن قصد أو بغير قصد، وقد يكون عن عدم وعي بمفهوم التمييز العنصري، كما نجد صورا فوتوغرافية لشيخات سوداوات من عصر غابر أخذت لهن تلك الصور بالأبيض والأسود، وهي تكشف عن الاستغلال الجنسي لهذه الشريحة، وهذا يبدو جليا من الطريقة التي أخذت بها هذه الصور، حيت نرى نساء”شيخات” بأفخاذ عارية وأثداء مكشوفة وهن يحملن آلات موسيقية “كمنجة” أو “طعريجة”، في حين أنه كان من المستحيل أن تُأخذ للمرأة البيضاء مثل هذه الوضعية التصويرية في ذلك العصر..وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تلك الممارسة العنصرية التي كانت تسلط على الشيخات.
إن هذه السلوكيات والتصرفات العنصرية هدامة للشخص وللمجتمع، فهي تولد الكراهية والحقد بين الشخص العنصري والشخص الذي يمارس عليه هذا التمييز العنصري، كما تجعل الشخص المهان قد يصبح عدوانيا وانطوائيا يعيش بعيدا عن الآخرين، وتساهم العنصرية في تفكك المجتمع وعدم ترابط أواصره، وقد تعمل هذه الآفة على اشعال فتيل العداوة والحرب لتعصب كل طائفة لأفكارها.
لهذا يجب على أولئك الذين يبررون هذه التصرفات والسلوكيات العنصرية أن ينتبهوا ويعلموا أن مبادئ حقوق الإنسان هي واحدة لا تتجزأ، ونحن كفنانين مغنيين طالما شكونا من ازدواجية المعايير لذا الآخر سواء داخل المغرب أو خارجه، حينما يدافعون على حقوق الإنسان في الحالات التي تهمهم ويصمتون عن انتهاك الحقوق نفسها في الحالات التي تهمنا نحن الفنانين، وها نحن نتمادى في ارتكاب الإثم المقيت عينه، ينبغي على الفنان بصفة عامة والفنان العيطي بصفة خاصة أن يعي بكل ما يتعلق بفنه، من كلمات وأزياء وموسيقى ورقص.. ويتحمل مسؤوليته فيما يقوم به وما يؤديه من فن.. وللإعلام دور كبير في التأثير على المجتمع، وعلينا أن نحرص أن يكون هذا الدور ايجابيا في نبذ التمييز والعنصرية، وتقوية الوازع الديني في نفوس الأفراد فيما يتعلق بنبذ العنصرية..
إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، لقد توارثه الأحفاد عن الأجداد الأسلاف، ولا يمكن أن نحكم عليه إلا من خلال الفترة التاريخية والعصر الذي أبدع وقيل فيه، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، يجب إدراج هذا الفن التراثي الأصيل ضمن البرامج الدراسية بالمدارس والجامعات والمعاهد والتوعية بما هو ايجابي وسلبي فيه، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة هذا الفن الشعبي إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه..ومن جهة أخرى علينا مكافحة العنصرية التي يعاني منها أصحاب البشرة السوداء في فن العيطة أشياخ وشيخات، هذا الفن الذي يهيمن عليه الأشخاص ذو البشرة البيضاء بشكل حصري، وتبديل الألفاظ العنصرية في المتن العيطي وتجريم المصطلحات التي تدل على التمييز، وبإمكاننا استحداث مفردات جميلة فنية مكان تلك العبارات القدحية المهينة التي تسيء للآخر وتخدش كرامته، وإعطاء مكانة أكبر للتنوع، وينبغي على القيميين على المجال الإعلامي الإذاعي والتليفزيوني العمل على ترسيخ الشمولية العرقية بما يعني إعطاء فرص للفنانين من ذوي البشرة السوداء المرور بالقنوات العمومية، وعبر مختلف المنابر الإعلامية، فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس أخلاقية وعلمية لإعادة الاعتبار إليه والسير به إلى الأمام. فالعيطة ليست حكرا على فئة واحدة أو جنس واحد أو طبقة اجتماعية معينة، العيطة فن والفن للجميع.