*فن العيطة من السلف إلى الخلف وتحدي الاختلاف والتخلف*

جسر التواصل7 أغسطس 2022آخر تحديث :
*فن العيطة من السلف إلى الخلف وتحدي الاختلاف والتخلف*

 شيخ العيطة الحسين السطاتي

المغرب بلد يزخر بتراث موسيقي وغنائي غني ومتنوع وهو بمثابة طبق غذائي شهي دسم لذيذ ، تختلف مكوناته ويتنوع مذاقها لكنها تتوحد في أنها مغذية للجسم والوجدان، ومن بين هذا التراث نجد فن العيطة. وهو فن موسيقي غنائي تقليدي يُعد أحد مكونات تراثنا الفني والثقافي الوطني، يؤدى من طرف رجال ونساء، “أشياخ” و”شيخات” يشتركون في النظم والعزف والرقص والغناء على حد سواء ؛ في مساواة بين الرجل والمرأة..فن موسيقي فرجوي يجمع بين الشعر”الزجل” والموسيقى والغناء والرقص، يحتوي على رصيد غني ومتنوع من الألحان والإيقاعات والأشعار والرقصات، توارثته شريحة كبيرة من المغاربة جيلا عن جيل منذ قرون، فيا ترى ما هي المراحل التي قطعها الفن العيطي عبر صيرورة العصر ومواكبته للتقدم التكنولوجي ليصلنا على ما هو عليه اليوم؟ وكيف ساهم التطور الحضاري والتقدم التكنولوجي في تجديد وتطوير هذا الفن التراثي وفي انتشاره وشهرة العديد من الأشياخ والشيخات؟ وكيف يمكن ضمان استمرارية العيطة ونقلها من الأجداد إلى الأحفاد مع الحفاظ على جوهرها وقوالبها اللحنية ؟
إن فن “العيطة”، هو فن موسيقي غنائي، تراثي شعبي تقليدي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية. وهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية.
وضمن هذه الأنواع العيطية نجد عيطة الساكن التي توجد في كل نمط من هذه العيوط. كما نجد لوحات فلكلورية تعبيرية من الرقص الشعبي تأثث هذا الفن التراثي.
وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، إذ يتسم بالبساطة على مستوى التأليف الشعري والموسيقي، يؤدى بلهجة دارجة عربية عامية ضاربة في العمق الريفي، وبصور جمالية وتركيب فني رائع وعميق، زجل امتزجت فيه عوامل السرد والإنشاد، والحكي والغناء، وتتجلى شفوية العيطة في أنها ممارسة فنية وظيفية داخل المجتمع القبلي، بتلقائية وعفوية توارثتها أجيال عن أجيال، ولا يعرف مؤلفها الشعري والموسيقي، وإنما تقوم مثل كل تراث شفوي على المجهولية..إذ يشكل عنصرا هاما في التعبير عن التراث الثقافي لكل منطقة من خلال إيقاعاتها المتعددة ومقاماتها المتنوعة ونصوصها المرتبطة بالواقع المعاش والخصوصية المتنوعة لكل منطقة من المناطق التي ينتشر بها ذلك النوع من العيطة بالمغرب.
لقد كان الفنان الشعبي العيطي في الماضي يخاطب جمهورا محدودا، وقد ينحصر هذا الجمهور ضمن حدود الدوار أو قرية الفنان الشعبي، وفي أحسن الأحوال فإن ذلك الجمهور لا يتعدى منطقة جغرافية تشكل جزءا صغيرا من القبيلة “الجهة”، ولهذه القبيلة ملامح ثقافية متشابهة، وإذا أخذنا مثلا شيخ للعيطة في فترة ما قبل ستينات القارن الماضي كالشيخ الرحماني “بن حمامة” في العيطة الحوزية، نجده كان معروفا بمنطقة الرحامنة وحوز مراكش، وبعض الضواحي المجاورة، وكان من النادر أن يتجاوز جمهور الفنان العيطي الشعبي حدود القبيلة بالجهة، فإن سر انتشاره وشهرته يعود لحركيته وتنقلاته بالمنطقة بالوسائل التقليدية البسيطة المتاحة أنذاك ؛كالترحال والسفر وظاهرة الركب..، حيث كان الشيخ أو الشيخة ينتقل مع مجموعته الغنائية ليتكسبوا من خلال غنائهم المباشر في مواجهة الجمهور، وفيما عدا ذلك كان الفن العيطي محدود الانتشار، حيث لم يكن لأغلب الأشياخ والشيخات أن تتجاوز شهرتهم قريتهم أو القرى المجاورة بنفس المنطقة، بعد ذلك جاء عصر التسجيلات الموسيقية السمعية، بداية بالأسطوانة المغناطيسية من خمسة وأربعين لفة وتسعين لفة، والتي كان يتم تشغيلها بجهاز “المانيطوفون”، ثم تلاها بعد ذلك ظهور الشريط الصوتي “الكاسيت”، الذي كان بشغل بجهاز “راديو وتحسنت الحالة المعيشية للكثير منهم، وأصبح بإمكان الفنان العيطي آنذاك أن يخاطب جمهورا خارج القرية والقبيلة ليصل صيته وصوته إلى المدينة وحتى خارج حدود الوطن بفضل تسجيلاته السمعية، بل وفي كل مكان وزمان، وأضحى صوته عابرا للقارات عبر شريط “الكاسيت”، ينقل من يد إلى يد ومن مدينة إلى مدينة ثم من بلد إلى بلد، وهناك من الفنانين الشعبيين الذين لم يراهم جمهورهم على الإطلاق في تلك الفترة بعد أن سمع أصواتهم وأعجب بفنهم العيطي عبر الكاسيت، هذا الابتكار الممغنط أتاح الفرصة للناس الذين لا يتابعون الفنان الشعبي بالمباشر مواجهة، أن يطلعوا على هذا التراث العيطي عبر السماع، ولهم أن يرسموا صورة متخيلة للمجموعة العيطية التي تشارك في الغناء، ولم تسمح ظروفهم بملاقاة فنانهم المحبوب، وقد يكون صاحب أول تسجيل للعيطة هو رائد العيطة للدكتور حسن بحراوي).

بعد ذلك جاء عصر الشريط المصور المسموع “كاسيت الفيديو”، وصار حينها بإمكان الجمهور الاستماع إلى الأشياخ والشيخات والتمتع بمشاهدتهم بالصوت والصورة عبر هذا الاختراع السمعي البصري، وصار المتلقي المستهلك لفن العيطة يشاهد فنانه المفضل ويستمع إليه وصولا كاملا بالصوت والصورة التي تحمل الحركة والإيماءة وأنواع الزي الشعبي وأدق التفاصيل.. واتسعت رقعة الفن العيطي كسائر الفنون الأخرى، ولم يسبق أن حلم بذلك فنان شعبي شيخ أو شيخة كان صوته محصورا ضمن قريته أو مجموعة القرى القليلة المحيطة بهذه القرية في أفضل الأحوال. وبهذا زادت شهرة الأشياخ والشيخات وانتشر فن العيطة بكل ألوانه، فكان لهذا التقدم التكنولوجي أثر ايجابي في التوجه العام من جانب الفنانين العيطيين لجمهور كبير الاتساع، الشيء الذي أدى إلى تغييرات أساسية على مادة وأسلوب وقوالب الفن العيطي، ذلك لأن ما كان يناسب مجموعة صغيرة من الناس هو في حاجة إلى تطوير ليناسب أذواق جمهور خفير، ثم تبع ذلك اختراع القرص المدمج الممغنط، وما صاحبه من ضجة القرصنة التي كان لها دورا سلبيا في عائدات المبيعات سواء بالنسبة للفنان العيطي أو بالنسبة لشركات الإنتاج الفني.. أما في يومنا هذا فإن الفنان الشعبي العيطي يواجه تحديات كبيرة، أنه عصر المكننة والرقمنة، وعصر شبكة الانترنيت العنكبوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي بما فيها ” اليوتوب، وأنستغرام، والفايسبوك وتويتر، والتيك توك..” وتطبيقات التراسل الفوري، وآخر صيحات الهواتف المحمولة الذكية واللوحات الهاتفية الالكترونية، وأجهزة الحواسيب المحمولة المتطورة..وبذلك فقد صار العالم عبارة عن قرية صغيرة، لهذا على الفنانين العيطيين “أشياخ وشيخات” أن يطوروا أنفسهم ويسايروا العصر، وأن لا يركنوا إلى الأساليب القديمة التقليدية طبعا مع الحفاظ على الأصالة والهوية العيطية، عليهم أن يغيروا في إبداعاتهم وأدائهم العيطي باستغلال هذه الطفرة التكنولوجية، وذلك بتقصير المدة الزمنية للأغنية العيطية، وباختصار النص مع الحفاظ على الهوية العيطية المغربية، فالعيطة الواحدة التي كانت مدة غنائها تتطلب من ربع ساعة إلى ساعة ونصف وأكثر، يجب تقزيم مدتها الزمنية لتتلاءم مع وسائل التواصل الاجتماعي وما تطلبه القنوات الإذاعية والتلفزيونية..مع الحفاظ على ترويج الأغاني العيطية الطويلة الأصلية الأصيلة خلال السهرات الخاصة وبالأعراس والحفلات.. وبتداولها المستمر سنحافظ على استمراريتها وفرض وجودها على الجمهور المتلقي.
إن الفنان الشعبي العيطي حاليا “شيخ أو شيخة” يخاطب الجماهير الآن من خلال وسائل تكنولوجية ولوجيستيكية جد متطورة، في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، وعبر تطبيقات التراسل الفوري، وعبر الأنترنيت، لهذا فهو ملزم بأن يكون حريصا جد الحرص على كل خطوة يقدم عليها، قد تحيي “رباعة الشيخات” حفلة عرس في مدشر نائي بالجبل، فتُنقل تلك الحفلة بالصورة والصوت مباشرة على الهواء إلى أبعد حد، ويتابعها جمهور من مدن مختلفة وحتى عبر ربوع المعمور، حيث يجد الفنان العيطي نفسه يواجه جمهوره المباشر، بما في ذلك الجمهور الحاضر معه في الحفل وكذا الجمهور الغفير على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بطريقة التواصل عن بعد، بدلا من تلك الحالة التي كان يخاطب فيها جمهورا محدودا في عرس داخل خيمة بالدوار أو وسط قرية معزولة.. ومعروف أن الفنان الشعبي هو لسان جمهوره والمعبر عن رغباته وأمانيه، فالتطور التكنولوجي وتقدم العصر يفرض على الأشياخ والشيخات أن يطوروا فنهم وأسلوبهم.. فأي عمل فني يصدر منهم فإما يحسب لهم أو عليهم. كما أنهم يواجهون جيلا من الجمهور الشباب يعيشون عصرهم، لذا فاستحداث الكلمات في النص يجب أن يساير تطلعات الجمهور وثقافته، وأن تستقطب اهتمامات مجموع الشعب، لقد كنا في الماضي نسمع كلمات بعض النصوص ضاربة في عمق البداوة بالريف المغربي تتحدث عن أشياء تبدو لنا الآن جد بسيطة، لكن اليوم حتى البادية لم تعد تلك البادية المغربية القديمة، فقد تغيرت مجموعة من المفردات والتعابير، وحلت محلها مفردات أخرى في اللهجة العامية المغربية، ونذكر على سبيل المثال هذه الأبيات “حبات” من عيطة “الحساب الزعري” من العيطة الزعرية:
فليسات لحوالة…شراهم نوالة
الحرث بالجوجة…الخدمة منجوجة.
ونقارنها بهذه الشدرات من نفس العيطة:
تبعتي الفايسبوك…حتى فقصتي بوك
ولد البوحاطي…بايت يشاطي
تبعتي اليوتوب…ع الله يعفو ويتوب
خليوني نضرب الطاسة…مع القرطاسة
قد نجد هذه الأبيات من حساب العيطة الزعرية تغنى في نفس الحفلة “العرس”، وخلال العيطة نفسها، وتصدر عن نفس المغني “شيخ أو شيخة”، وقد لا يفصل بينهما في الزمن سوى بضعة ثوان، لكن المتأمل في معنى الكلمات يجد أنها تفصل بينها عشرات السنين، حيث الأبيات الأولى تحمل مفردات قديمة ولم تعد متداولة ” الجوجة” وتعني المحراث التقليدي الخشبي المجرور بدابتين، ومصطلح “النوالة” وهي مسكن تقليدي شيد بالقصب والتبن، أما في الأبيات الأخيرة فهي تحمل عبارات جديدة دخيلة على اللهجة الدارجة المغربية “الفايسبوك”، اليوتوب، الشاط، القرطاسة، “، وإذا أخذنا البيت الأخير ( خليوني نضرب الطاسة…مع القرطاسة) يعني بها المغني ( أتركوني أشرب الخمر…مع الفتاة الحسناء)..ونأخذ أيضا مثالا آخر من التراث العيطي الغرباوي من عيطة “الغابة” حيث يصور الشاعر العيطي حبه لمعشوقته بمفردات تقليدية لها دلالاتها الرمزية:
حبك كَرحني كَبالة …وأنت كَلتي لي تعالى
بين العشة والنوالة…وأنا خواف منجيشي بالليل
نديري ايدي على كَليبي…ونجيك يا الهايجة في غبش الليل
كما نرى هذين البيتين من نص العيطة الغرباوية “الغابة”، حيث يوجه الشاعر العيطي خطابة لمحبوبته بمنتهى البساطة والعفوية وبمفردات تقليدية “العشة” و”النوالة”، “كَبالة” ، و”الهايجة” و”غبش”، قيلت هذه المفردات قديما في مجتمع بدوي تقليدي بسيط، فهذه المفردات لم تعد رائجة حتى في البيئة التي أنتجتها. لهذا على الأشياخ والشيخات استحداث مفردات تُلائم العصر وتصب في القالب العيطي، وهذا نجده موجودا عند عدد كثير من الأشياخ والشيخات الوقتيين.

إن التطور التكنولوجي والتقدم الحضاري المتمثل بظهور وسائل معيشية جديدة ووسائل إنتاج آلية الكترونية ورقمية جد متطورة، أضحت في متناول الجميع بما في ذلك من هواتف ذكية ولوحات إلكترونية، وأجهزة حواسيب “كومبيوتر”، قد أدى هذا الزخم الحضاري إلى تغيير كامل في الذهنية الشعبية، ولم تعد البادية المغربية تلك البيئة الريفية التي تعتمد على الزراعة والفلاحة ومنغلقة على نفسها بل انفتحت وتفتحت عن المدينة بل عن العالم، كما أن الأساليب الزراعية الفلاحية بفضل الآلة لم تعد هي تلك الأساليب التي كانت سائدة في الماضي واللباس لم يبق ذلك الزي التقليدي القديم، لذلك فأغاني العيطة لم تبق هي تلك الأغاني العيطية الأصيلة القديمة بنصها الكامل ومفرداتها وألحانها وتركيبتها، ولكن لكل عصر عيطاته، وإن الوسائل المتاحة حاليا والتقدم التكنولوجي وتطور الآلة الحديثة طرد من الذاكرة الشعبية مفردات لغوية وتعابير لم تعد رائجة في الاستعمال وقد اختفت واندثرت، لكن اختفاء بعض المفردات لم يكن مؤشرا على اندثار بعض المتون العيطية، فقد استمر الأشياخ والشيخات يُعبرون عن وجدانهم الجمعي بطرق مختلفة وباستعارت بعضا من المصطلحات الدخيلة.. وإضافة إلى ضرورة تطوير وتجديد أساليب التعبير بسبب تغير وسائل العيش وأساليب الإنتاج، فهناك أيضا الواقع الاجتماعي الجديد الذي صار يعيشه المجتمع المغربي وخاصة منه المجتمع البدوي.
إن الجمهور الذي يتوجه إليه الفنان العيطي هو أصلا جمهور شعبي تقليدي بكل تأكيد، لكن هذا الجمهور يختلف تماما عن جمهور القرن العشرين، فهو يواجه جمهور الألفية الثالثة من القرن الواحد وعشرين، لقد كان جمهور القرن الماضي يتألف في غالبيته من الفلاحين والحرفيين والعمال الأميين وأشباه الأميين، لكن الجمهور المعاصر هو جمهور تنوعت عنده مصادر المعرفة العلمية وصارت متاحة له سبل التعلم من المدرسة، والصحف، والجامعة، والكتب، والإذاعات المتنوعة والقنوات التلفزيونية والقنوات الفضائية والهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي…وغيرها، لهذا فإن نصوص وأسلوب وموسيقى الغناء العيطي لابد أن تحمل ضمنها بصمات هذا التحول الهائل والتقدم الكبير.
إن الانتقال الإنساني في ظل عصر التكنولوجيا والعولمة حمل معه سمات المرحلة السابقة، تلك السمات التي تركت بصماتها على الفن العيطي والتراث الشعبي بصفة عامة، ونجد أن بلدانا متقدمة مثل؛ الصين واليابان والولايات المتحدة الأمريكية ودولا أوربية.. قد سبقتنا مدة سنين عديدة بتجربة التقدم التكنولوجي وأثر ذلك على الإبداع الشعبي فيها، لكن نجد تلك المجتمعات الصناعية المعقدة رجعت إلى تراثها ورعته بالدراسة والتحليل، كما اهتمت بممارسيه والمهتمين به ودعمتهم، لذلك ظلت تفرز أشكالا شتى من الإبداع الشعبي من تراثها الغنائي، وعلى رأسها الأغاني الشعبية، وظلت محافظة على تراثها إلى يومنا هذا. فلنحذو حذو هذه المجتمعات الراقية ونسير على خطاها في الحفاظ على موروثنا الثقافي بكل أنواعه ومنه فن العيطة.
إن بعض القصائد من الأغنية العيطية الكلاسيكية يمكن أن تتراجع لتتحول إلى نص شعبي تاريخي، حيث لم يعد الجمهور الحالي ليستسيغه ويقبله إذا سمعه بطريقته الكلاسيكية الأولى،كما لم يعد يتداوله بالمرة.
ومن الأمثلة على ذلك نجد بعض العيوط العبدية مثل عيطة “سيدي حسن” أو ما تسمى أيضا بعيطة “سيدي راكب جوادو”، وعيطة “الراضوني” أو ما تسمى بعيطة “برغالة”، وفي العيط الزعري نجد عيطة “جعيدان زعرية”، وكذلك الشأن نفسه بالنسبة لعيطة “البيضا” أو ما تسمى أيضا بعيطة “الحريمية” من العيط البلدي الفيلالي.. وذلك راجع لصعوبة أداء هذه العيوط، وطول مدتها الزمنية التي قد تطول من نصف ساعة إلى ساعة ونصف وأكثر لم تعد مواكبة لروح العصر،..وفي المقابل إذا ما ثم اختصار القصيدة العيطية في النص وفي التراكيب الإيقاعية والقوالب اللحنية مع الحفاظ على هويتها العيطية من الممكن أن تستمر في التداول مثال على ذلك ما نجده في بعض العيوط المرساوية مثل عيطة “العلامة”، وعيطة “السطات بلادي” وفي العيط العبدي نجد عيطة “خويتمو في يديا”، وعيطة “سيدي أحمد”، وفي العيط الملالي نجد عيطة “الشجعان”، وبالعيط الحوزي نجد عيطة “خالي يا خويلي” وسوسة “علفة العود”، وبالعيط الغرباوي نجد عيطة “الغابة”، فهذه العيوط تحضا بانتشار واسع وذلك من جراء تسليط الضوء عليها وكثرة تداولها بعد اختصارها وتقزيم مدتها الزمنية.. لذلك فهي تواكب التطور الحضاري بإدخال آلات موسيقية عصرية حديثة كهربائية وإلكترونية، وآلات ومعدلات صوت كهربائية إلكترونية ورقمية ساهمت في رواجها وحضورها المستمر.
وعلى الرغم من كل هذا التطور التكنولوجي الآلاتي والرقمي، واستعمال أدوات وأساليب عصرية فان هذا الفن التراثي يظل معبرا عن ثقافة الوسط الشعبي وروحه، وما التغيير الحاصل الذي نشهده على السطح إلا مجرد قشرة للوسائل العصرية، وهو مجرد شي بسيط على السطح الخارجي. وسوف لن يكون من المستغرب، وفي ضوء تقدم كبير في التذوق الشعبي للألحان واستيعابها وأدائها أن تصبح الألحان الشعبية لفترة زمنية قادمة قد بدت وكأنها أكثر تقدما مما كنا نسميه في الماضي الأغنية العصرية أو موسيقى عالمة مثقفة، ويظل كل ذلك منسجما مع الفرضية التي قبل بها بعض من الجمهور المعاصر، وهي أن الثقافة الشعبية هي تلك الثقافة المتخلفة بالنسبة لثقافة رسمية متقدمة مدروسة.

لقد غيرت الموسيقات التقليدية العالمية ومنها الغربية نظرة العالم لهذا النوع الموسيقي والغنائي، وعمقت الرؤية الجديدة التي كانت لدى الكثيرين الذين كانوا سجناء لأنواع من “الموسيقى العالمة”، لقد تغير معنى الموسيقى في العالم اليوم بفضل الانتشار الذي تحقق بفضل العلم وتضافر جهود المختصين، باحثين ومهتمين وموسيقيين وأشياخ وشيخات..، والذي ما كان ليتحقق لولا تكاثف هذه الجهود العلمية والفنية والإعلامية، وتوفر نوع من التكامل والتعايش بين البنيات الموسيقية والبنيات الاجتماعية والثقافية والروحية. كما يذكر ذلك الدكتور حسن نجمي الباحث الكبير في هذا التراث، حيث يجب علينا أن نعي بالدور الريادي الكبير الذي يمكن أن تلعبه الموسيقى التقليدية المغربية ومنها موسيقى العيطة، بما هي فعل فني وثقافي وحدث اجتماعي، في بلورة صورة المغرب الثقافي والسياحي المنفتح والمتعدد، وبالتالي ينبغي أن لا نولي أي اهتمام أو اعتبار للمختلفين معنا أولئك الذين يتهجمون على تراث العيطة أو غيره من الفنون الأخرى الموسيقية التقليدية، سواء عن جهل أو لأسباب إيديولوجية معينة، وربما لاعتبارات تتعلق بالتنشئة والتربية الاجتماعية الأرستقراطية أو النظرة المنغلقة التي لا تنظر إلى الأنواع الموسيقية والغنائية الأخرى كمنبع ثقافي حامل لقيم ومعبر عن رؤى اجتماعية وثقافية مختلفة لكنها ليست بالضرورة متخلفة أو منحطة، فمازلنا نجد أن هناك البعض من المغاربة من ينظرون إلى العيطة كما لو كانت نغمة نشاز في اللحن الموسيقي المغربي ينبغي حذفها. ففن العيطة ليس فنا رديئا سيئا بمجرد أن البعض لا يفهمه ولا يستسيغه بسبب من اختلاف في التربية والذوق أو في نمط في التفكير، ويمكن للذي لا يقبل هذا النوع الموسيقي أو الغنائي أن يتساءل: كيف يقبله آخرون ويستهلكونه كما يستهلك هو ما يعجبه وما يعثر على نفسه فيه؟ ولماذا يهيج الشغوفون بهذا الفن الموسيقي كل هذا الهيجان ويقولون أنها تسري في دمهم كما تسري الموسيقى التي تهم هؤلاء المختلفون المتخلفون في دمائهم؟ ولما نجد عائلة عيطية فنية حيث الابن يشارك أمه وأباه في مجموعة غنائية عيطية واحدة؟ كما نجد الزوج وزوجته فنانان برباعة للشيخات؟ ولماذا نجد موظفين مدنيين وعسكريين من مختلف الرتب والوظائف يسمحون في وظائفهم وكراسيهم ويفضلون ممارسة فن العيطة الذي يعشقونه؟.. أسئلة عديدة عليهم أن يجيبوا عليها لكي يتأكدوا أنه فن أصيل وعريق حاول أمثالهم قبلهم قتله وطمره منذ سنين خلت، وقاومهم ولم يمت، بل حاول المستعمر دفنه لكنه هو من دفنهم وأخرجهم من احتلال الوطن.
علينا أن نتعلم كيف نختلف وكيف نحترم الاختلاف في الفن، كما في الثقافة والمجتمع، وإن ما نبدعه وننتجه اليوم سيكون في المستقبل تراثا لأحفادنا، لهذا علينا أن نحسن الإبداع لنرتقي بتراثنا، وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة ممارس ومهتم بهذا التراث الأصيل، فإن من ضمن ما أعتز به هو صداقاتي العديدة مع أشياخ وشيخات العيطة من مختلف الأعمار، ومنهم الشبان المهتمين بهذا الموروث الثقافي، واحتفائي بأعمالهم الغنائية الشعبية على اختلاف مواضيعها يستهويني وبشرفني، فالحنو على الجيل الصاعد ليس مسألة عاطفية في نظري، والفنان الصادق هو الذي يشعر أن الجنان المثمر المزهر الذي يعيش وسطه يجب أن يستمر في إنتاجه وجماليته، وأن يسلمه جيل إلى آخر، وذلك بعد الاعتناء به، بسقيه وتشذيبه وعلاج المريض منه، لتأكل منه الأجيال اللاحقة، هناك بالطبع تسري عقلية الأب وهو يرى ابنه يتقدم، ولكن اللذة المتصلة تكون بوجود الفن واستمراره. وإن الفنان العيطي المغربي “الشيخ أو الشيخة”، قد وجد نفسه حائرا في عصر الرقمنة والأنترنيت، وقد أصبح أمام تحد لا مفر منه، وهو إما أن يساير عصر التيكنولوجيا الرقمية وعالم الأنترنيت أو يتقهقر ويضمحل، وعلى الأشياخ والشيخات العيطيين أن يتسلحوا بخلفية ثقافية لمسايرة الركب، ومن أجل مواكبة روح العصر حتى لا يجدوا أنفسهم يغردون خارج السرب ويعيشون على الهامش، وختاما تبقى العيطة كالحرية سواء عملت معها أو ضدها فأنت تعمل من أجلها، والعيطة باقية ما بقي الدهر، لكن لكل زمن عياطه وعيطاته، كما لكل عصر أشياخه وشيخاته.

الاخبار العاجلة