شيخ العيطة الحسين السطاتي
شكرا للجمهور الكريم المتتبع لمسيرتي الفنية بصفتي فنان شعبي موسيقي ومغني للفن الشعبي المغربي “العيطة”، وزجال، وكاتب، فهذا يحفزني للاستمرار ويشجعني على الاجتهاد والعطاء ومواصلة الغناء والشطح والفضح.
كان من الممكن أن يحمل الكتاب عنوانا آخر، ولكن بصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة “شيخ مغني وعازف كمنجة “كوامنجي” لرباعة الشيخات” حسمت في هذا العنوان العريض “عيطة بيضاوية”، فأغلب أحداث هذا العمل، تدور بمدينة الدار البيضاء، هذه المدينة العملاقة التي تصرخ وتعيط وتنادي، من أجل حمايتها، وإنقاذها من الفساد بكل ألوانه ..، وكذلك هو الشأن بالنسبة لفن العيطة، فالعيطة هي غناء مركب الموضوع، رثاء شخص مفجوع، شقاء بعشق ممنوع، عناء قلب موجوع، غداء يسمن ويغني من جوع، نداء مسموع بصوت مرفوع، دعاء بلا خشوع وبكاء بلا دموع.
وكتابي هذا بمثابة عيطة، فهو أنة ألم ونداء استغاثة، استنجاد كل الرعاع المهمشين، والمظلومين والمقهورين، وتذكرة عودة ومحاسبة ضمير لكل الرعاة الظالمين، القاهرين، المستبدين المفسدين…وصرخة لمدينة كبيرة “الدار البيضاء”، مما تعانيه من فساد إداري وأخلاقي، بما في ذلك من تلوث بيئي، وازدحام طرقي، وبناء عشوائي، وتسيب إجرامي، ودعارة وتجارة في البشر وغياب أمني…إنها المدينة البيضاء التي تعيط وتستنجد.
أؤكد أن هذه الرواية ليست سيرة ذاتية، لكن مهما حاولنا أن نهرب من واقعنا الذي نعيشه نجد أنفسنا نكتب من دواخلنا، من دواتنا، لهذا فأحداث كثيرة من هذه الرواية واقعية عشتها وعايشتها، عشت بعض الأحداث وساهمت فيها بشكل من الأشكال، إني لم أدرس الأدب، ولم أراع قواعد كتابة الرواية، فقد أردت أن أكتب وأُخرج ما بداخلي.. أكتب بدافع الكشف والتطهر، هاجسي هو الفضفضة وإبلاغ الآخر بما جرى، أكتب عن مرحلة عاصرتها وأحداث تركت ندوبا في ذاكرتي لا مجال للاستشفاء منها إلا بالكتابة. بصفتي كنت دركيا -برتبة “أجودان”ضابطا للشرطة القضائية والعسكرية، وضابط شرطة مكلف بالأحداث- بمراكز دركية مختلفة خلال مسيرتي المهنية.. عملت مع رجال قانون بعضهم شرفاء وبعضهم خربوا الذمة وخانوا الأمانة ، أمنيون أفسد المال قلوبهم..وكذلك عملت على سرد أحداثا أذهلتني وصدمتني وأنا أعيشها بصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة “شيخ”، عازف كمنجة ومغني لمجموعة الشيخات.. وقد أردت أن أرقى بهذه الرواية إلى مستوى الواقع، وأجعل الواقع متخيل، والمتخيل واقع. لذا وظفت الخيال لمصلحة الحقيقة، فأحداث كثيرة من قصة حياتي توجد بين سطور هذا العمل، وفي قصائد الأغاني التي أكتبها وألحنها وأغنيها، أحداث أنقلها وأخرى عشتها. أريد من خلالها مشاطرة قرائي جزءا من مشاعري ومتاعبي..، ويعيشون معي تجاربي. لقد ترددت كثيرا في البوح وكتابة هذا الكتاب، لكني لم أستطع أن أحتفظ بأسراري لنفسي، لم أنجح في كبح جماح مقاسمة أوجاعي وآلامي وما عشته من أوجاع مع القراء، وقد أحسست أنني صرت أهوى سرد ذكرياتي على بعض الناس، حتى شعرت أن البعض يرميني بالهبل والحمق، فاقتنعت في الأخير أن الكتابة هي علاج ودواء لآلامي النفسية وبلسم لجراحي الخفية، وأنا مستعد لتحمل العواقب، وكيفما كانت هذه العواقب فهي أهون علي من أن أظل سجين أسراري التي تحولت إلى وحش شرس ينهش دواخلي، ويتلاعب بسلامة قدراتي العقلية…وسأبدو في نظر البعض أنني أحمق، لكن الحمق هو أن أترك هذه الأسرار جاثمة على صدري تخنقني وتعذبني..
لتعرف عزيزي القارئ أننا نكمل بعضنا البعض، ولا فرق بيننا إلا بالتقوى وطاعة الله، وما يقوم به الموظف العمومي- الضابط، والقاضي، والطبيب …- المسئول السامي المحترم اجتماعيا، من أعمال مشينة -بما فيها من رشوة وفساد أخلاقي وإداري واستغلال النفوذ وخيانة الأمانة و.و..، – يخجل من أن يقوم بها الفنان الشعبي عازف كمنجة لمجموعة الشيخات المنبوذ اجتماعيا والمحتقر من طرف فئة عريضة من الناس، المتسترون وراء قناع النفاق الاجتماعي، والمدعين للطهرانية المزيفة.
ولأوضح للقارئ أن نفس الشخص ضابط الشرطة القضائية يمكن أن يكون هو نفسه ذلك الفنان الشعبي، ولنمحو تلك الصورة النمطية في مدح أصحاب المسؤولية سواء كان المسئول يتمتع بسلطة عسكرية أو مدنية، وأن نعري ما يدور في الكواليس داخل الإدارات العمومية، ونفضح ممارسات بعض الكبار المتحكمين في زمام الأمور، إذ سعوا وراء الامتيازات والمكاسب الدنيوية، وانساقوا للمجد الدنيوي والسلطة والمكاسب، باعوا الدين بعرض من الدنيا، لهذا علينا ألا نحكم على الكتاب من الغلاف ولا على الأشخاص بظواهرهم.
لقد توالت فضائح رجال السلطة، بشكل مثير، بما فيهم رجال الدرك الملكي وأفراد الأمن الوطني، والجمارك والجيش وأفراد القوات المساعدة وموظفون بالداخلية وبقطاع الصحة…، ومن بينهم بعض زملائي كانوا دركيين أصحاب الضمائر الضعيفة، من درجات ورتب مختلفة، باعوا ضمائرهم وخانوا القسم، نقدوا العهد وخانوا الأمانة..خصوصا منهم حاملي الصفة الضبطية، الذين أدوا القسم ووضعت فيهم الدولة ثقتها ومنحتهم هيبتها من أجل تحقيق الأمن والحفاظ على سلامة المواطنين وممتلكاتهم، إلا أنهم زاغوا عن الأهداف النبيلة لمهنتهم، وقاموا باستغلال وظائفهم ومناصبهم ونفوذهم لتنفيذ جرائم مثيرة، أدانهم القضاء من أجلها بعقوبات متفاوتة، وأدوا ثمن تهورهم من حريتهم وسمعتهم ووظيفتهم بعد تورطهم في جرائم مختلفة: كالتهريب، والرشوة، والابتزاز المالي والجنسي، والشطط في استعمال السلطة ، وتلفيق التهم وتزوير في المحاضر، والاتجار في المخدرات، والاتجار في البشر ،وإفشاء السر المهني بالتخابر مع بارونات، أو النصب والاحتيال والاختطاف، والاحتجاز…نفذوا جرائمهم بشكل فردي أو جماعي مع أفراد عصابات متخصصة غررت بهم وأغرتهم بالمال قبل أن تغرقهم في قضايا شائكة جرتهم للاعتقال والمساءلة والمتابعة القضائية، حيت لا ينفعهم الندم على سوء تقديرهم لعواقب أفعالهم. تلك الأفعال التي كان وقعها على الموطنين صادما قويا، وعلى رؤسائهم أكثر قوة.. فبعدما كانوا مسئولين أمنيين محاربين للعمليات الإجرامية تحولوا إلى شركاء فيها، بل حتى أبطالا لها، معتقدين أن صفتهم الأمنية ستعفيهم من المساءلة والمحاسبة ونسوا أن القانون فوق الجميع وأن الله يمهل ولا يهمل…
وفي المقابل أرفع التحية إلى الموظفين القضائيين والأمنيين والعسكريين نساء ورجالا، المخلصين في عملهم الذين ضحوا بالغالي والنفيس، هناك أشخاص وهبوا حريتهم وحياتهم فداءا للوطن. أولئك هم حماة الوطن، يبذلون في سبيله من ذات أيديهم وذات أنفسهم.
وكتابي هذا هو بمثابة برقية لكل مسؤول يفكر في الانحراف على جادة الطريق، فنهايته حتما ستكون مأساوية، ولكل مرؤوس نزيه مقهور عليه أن يؤمن بأن الصبر مفتاح الفرج، والخير غالبا ما يغلب الشر.. كما أن هذا المؤلف يعد رسالة أمل وليس رسالة يأس، والظلمة الحالكة يمكن أن تؤدي إلى النور، ويأتي يوم يكسر القيد، ويُفضح فيه الفساد.
وأنا أكتب فصول هذه الرواية، تذكرت لما كان يقول لي أبي الله يرحمه وأنا أعمل دركيا ضابطا للشرطة القضائبة ب”لبريكَاد”، من بين عباراته إليً ” حل عين وسد عين، دير عين شافت وعين ماشافتش وقضي حاجتك، تعامل مع الناس وبعد على قصوحيت الراس”.. وتذكرت عبارات أمي الله يغفر لها ويرحمها وهي تنصحني في نفس الموضوع وتقول لي: ” دير يا وليدي كيف ما يديرو صحابك، دير للماء منين يدوز، دير يا وليدي علاش ترجع، وبعد من الصداع”.. وأتذكر كلام “لاجودان” وهو ينهرني بقوله: ” ديما جايب ليا الصداع.. مخاصنيش خدمتك..فيك ع المشاكيل..، وتذكرت كلام النقيب وهو ينهرني ويأمرني بعنجهية متعجرفا صارخا : “شحال ما بقيتي غادي نصيفطك للحبس، راني عارف قوالبك، راني عارفك شفار..” وكلام الكولونيل وهو يأمرني ويتوعدني بالاعتقال في وعيد وتهديد بقوله ” باغي تولي بريسلي..داير فيها بطل، اخبارك كتوصلني…وجه النحس والمشاكيل.. قد ما بقيتي غادي نسد عليك”..، زد عليهم تهديدات نائب وكيل الملك وأنا واقفا أمامه بمكتبه وهو يوبخني على استعمال العنف ضد تاجر مخدرات أو عاهرة …: ” غادي تطيح تطيح غير ديرها فين تجيك..أنت وحدك من صحابك اللي فيك الصداع والمشاكيل مع المواطنين…مزال ليام تجيبك بين ايدي ونحيد ليك الصفة الضبطية…”، والكثير من عبارات تحث على الطاعة والخنوع للمفسدين وتشجع على مسك الرشوة والفساد، والتواطؤ مع المجرمين، حينها عرفت أن مهنتي الأولى “كومنجي شيخ للشيخات” من أنبل وأشرف المهن في البلد..
وتحية لبعض زملائي الدركيين المخلصين في عملهم، وأسطر على كلمة بعض، أولئك الذين كان لي شرف العمل معهم، وأنا مدين لإدارة الدرك الملكي بالشيء الكثير، فهي بمثابة أمي الثانية، قد أعادت تربيتي وتكويني…وتحية إكبار وإجلال لحماة الوطن وسادته، الشرفاء المخلصين..من مختلف المهن كل من موقعه، الذين أوفوا بعهدهم للثالوث الخالد “الله، الوطن، الملك”، والذين يبدلون في سبيل الوطن من ذات أيديهم وذات نفوسهم، يضحون ويقدمون إلى المخاطر وإلى الموت زرافات ووحدانا، وهم يعلمون أن قطرات الدماء التي يبدلونها في سبيل الدفاع عن الوطن وعن المواطن وأمنه إنما هي المداد الأحمر الذي تسجل لهم به صفحات تاريخهم آيات الشجاعة والوطنية الحرة والمجد الحقيقي..
الفنان الشعبي “الحسين السطاتي” كاتب هذا الكتاب، له هفوات وأخطاء وخطايا، أكثر منها عند “الحسين” بطل هذا العمل الروائي، لذلك أؤكد بأن هذا العمل ليس بسيرة ذاتية، بل فيه جزء قصير من حياتي لأنني بصفتي المؤلف فأنا أعتبر نفسي أكبر كذاب، أجل أكذب من أجل أن أروي الحقيقة، ويقول البعض عني أنني أمهر “شفار”، فعلا أحيانا أسرق لأعري الحقيقة، وأخطر “غدار”. أغدر لأفضح الخائنين..وأطلب من الله عز وجل أن يغفر لي ويعفو عني، وأن يوفقني في هذا العمل حتى أكون عند حسن الظن، وأعتذر للجمهور الكريم – مستمع ومتفرج على سهراتي كفنان شعبي “شيخ للعيطة”، وقارئ لأعمالي الأدبية -، عن وقته الذي يخصني به، وأطلب منه أن يسامحني عن أخطائي، فأنا إنسان ما دمت حيا أرزق أخطأ وأصحح أخطائي. وأظن أنني كتبت ما عجز الآخرون عن كتابته وما لم يتجرأ أحد حتى على قوله. فليس من السهل أن يبوح الإنسان بعذابه السابق، فحينما كتبت فصولا من هذا العمل كنت أعيش اللحظة من جديد، وأتألم وأبكي، وأحداث أخرى كتبتها وأنا أضحك، وأعتقد هذا ما سيحدث لبعض قرائي الأعزاء، وهم يقرؤون هذا العمل..ورغم طول الرواية فإني اختصرت الكثير، ليس حبا مني أن أختصر الأحداث بقدر ما اختصرت الأوجاع والآلام..والطول والتكرار من صفات العيطة، فهناك من يستمع ويتفرج في الأشياخ والشيخات ويظهر له ذلك الفن نمطي ومستهلك، لكن تجده يكمل الفرجة ويستمتع بالعيطة، أعتقد أنه كذلك الشأن بالنسبة لهذا الكتاب، ولهذه العيطة البيضاوية.
وأؤكد للقارئ الكريم، أنه في هذه الرواية كثير من الوقائع والأحداث متخيلة وأن أي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها مع أشخاص حقيقيين وأحداث وأماكن حقيقية هو محض مصادفة ليس إلا، ومجرد عن أي قصد. أما الأسماء فهي أسماء وهمية، فالأبطال الحقيقيون لا يعنيهم أن تسلط عليهم الأضواء ولا أن يصفق لهم الناس، ولا أن يكتب عنهم المؤلفين…
وشكرا للجمهور الكريم، على التشجيع الفني الموسيقي وعلى القراءة، وأعتذر لكل من أسأت إليه يوما، وأسامح من كل قلبي كل من أساء إلي، وتحية حب من المحبوب الحسين الفنان الشعبي شيخ العيطة “الحسين السطاتي” إلى جميع القراء الأحباب، وأطلب من الجمهور الكريم أن يطلب لي الهداية والتوبة، فإذا سجنت تذكروني واذكروني بينكم، وإذا مت أطلبوا لي الرحمة والمغفرة..وقراءة ممتعة.