شيخ العيطة الحسين السطاتي
ومضى جزء يسير من الليل، كانت السماء صافية مرصعة بالنجوم، والجو خارج الخيمة باردا بعض الشيء تتخلله نسمات لطيفة من طلائع الربيع..أما داخل الخيمة الفسيحة فكان الجو يغلي، كانت لحظتها الخيمة كباخرة “التيطانيك” وهي تغرق في البحر؛ البعض يشرب، والبعض يتحرش بالنساء، والبعض يغرق حتى أذنيه، والموسيقيون يواصلون موسيقاهم النادبة الناعية غير مبالين بما يقع.. وفجأة ودون سابق إنذار، وقف “حمامة الشطيطيح” وسط الحفل، الشاب المدلل، وجسده الطري كله يغزل ويغلي، لم يعد قادرا على كبح جماح “نشاطه”، شاب بين العشرين والخامسة والعشرين، ذكر في جسد أنثى، جسد بديع التناسق مع امتلاء خفيف، بشرة بيضاء لم تلفحها شمس الحرث ولا صهد الحصاد، فاتن العينين برموش طويلة حالمة.. وملامح منحوتة في دقة..شاب وسيم في نعومة الأنثى العاهرة..إنه لا يهوى الموسيقى والرقص فقط، بل مزدوج الجنس أيضا،كائن بشري مخنث في هيئة رجل يحمل بداخله نبضات أنثوية لا تصمت، اسمه الحقيقي “حمو”، وينادونه “حمامة”، لخلقته الحلوة.. وبتشجيع من الحاضرين يدخل حلبة الرقص، وهو الراقص “الشطاح”، المتمرس في الرقص الشعبي بالفطرة، كان مرتديا بذلته الرسمية، قفطان أخضر غامق مطرز بخيوط ذهبية، فوق بذلة جبادور قميصها أبيض بخياطة السفيفة خضراء، وسروال قندريسي أبيض من نفس التوب ونفس الخياطة، وحزام أسود “زياني” بجعدي الصنع موشى بأقراص لامعة “موزون”، لا يأبه بمن حوله، الحال العيطي أعمى بصيرته، يثني في غنج كمي القفطان ويسوي حزامه على مستوى الخصر، وعلى قدميه بلغة خضراء كان يسرح فيها بيسر وخفة..شاب طري العود بعد، ولكنه في مشيته وفي حركاته وتصرفاته يحاول جادا محاكاة سلوك “الشيخات”، هدفه الرئيسي في هذه الليلة اقصاء الشيخة مليكة، وانتزاع منها لقب سلطانة الرقص. الأنظار مشدودة إليه، يتقابل مع الشيخة “مليكة” التي جلست متربعة إلى جانب الدركي “عبد العزيز”، تدخن سيجارتها وتشرب وتتفرج على خصمها، تعرفه فنان خنثوي مهوس بالرقص.. تهدأ الخيمة قليلا وتستعد لتلقي عروض الراقص “احميمة”، تصغيرا لكنية “حمامة”، يفسحن له الشيخات رحبة الرقص .. ليتقدم كطاووس ينفش ريشه، لم يكن يجيد شيئا من أعمال الدنيا غير الرقص الشعبي بكل تلاوينه، والاحتفاء بالجسد وتعبيراته.
يستأنف الشيخ “العريبي الخيراني” العزف في موسيقى صامتة “التعريضة الشعبية” أو ما تسمى في لغة الأشياخ ب”الخيلاز”، دوت الكمنجة نائحة وهدرت البنادير داوية وفرقعة الطعريجة مجلجلة..بإيقاع سريع متناغم في وصلة راقصة”الخيلاز”، تتجاوب فيه الآلات الوترية مع الإيقاعية، العيون تبحلق في “حمامة”، وهو يتماها مع الموسيقى، يطلق العنان لجسده فيسبح مجاريا نغمات الموسيقى الصاخبة، يرعده..يزلزله.. وعيناه مغمضتين وكأنه في قداس ديني، تتدفق فيه تموجات الجسد واهتزازاته، يغلي كالمرجل، يهتز اهتزازا عنيفا، حساسيته المفرطة للغناء والرقص تجعل جسده يستجيب بنحو غريب تارة لنحيب الكمنجة، وتارة لإيقاعات البنادير الداوية، ونقرات الطعريجة المتواصلة، وتصفيقات وتأوهات وصفير بعض من الحضور.. يطلق العنان لكل الجسد ويترك الحرية لكل عضو فيه أن يتحرر من كل النواميس، يقف ليسوي حزامه ويأخذ نفسا عميقا، ثم ينطلق في حركات متناغمة مع الإيقاع الصاخب، وكأن خبيرا في تصميم الرقصات كان وراء إبداعه. وجرى اسم “احميمة” على الألسنة وتعالى له الدعاء والتبريك..هم يحكمون على “احميمة” بالشذوذ ولا يحكمون على عمله الفني كراقص، وهو لا ينتظر منهم حكم..وفي غمرة النشاط اللاهي يتلفظ “حسن الموسطاج” في مدحه بصوت أجش :
– “وا حميمة، تبارك الله عليك.. نورتينا هذ الليلة الله ينورك، ويزيدك نور على نور، الله يجعل منك الزرع والزريعة.. ..ورينا حنة يديك، وحنت لينا اليوم الشيخة ميليكة الزريقة”.
ينطق “المعيطي ساركوزي” من ركن الخيمة وعيناه تشع منهما حمرة جمرية:
– “سير ياوليدي يا “حميمة” الله يكثر من مثالك. فاجيتيها علينا الله يفاجيها عليك”.
تعالت الأصوات، تتخللها الصيحات، والضحكات، والانتقادات، والقفشات..وتوالت زغاريد النساء الجالسات غير بعيد من الخيمة، تشق زغاريدهن الجو اللاهي، الشيخات قائمات وقاعدات يقلبن في وجههن المقنعات بالزواق الفاقع أعين الترحيب والإغراء، يدخن السجائر، ويبللن بالماء والخمر حناجرهن المتحشرجة المبحوحة التي جففها الغناء الحماسي الصارخ ..ويتتبعن دروس “احميمة” في الرقص..يسترجع “حمامة” أنفاسه، يقلب عينيه في الوجوه المغبرة..يتغنج، ويتدلل بحركات أنثوية عذبة، نافثا سحر الأنوثة والذكورة معا، لكنه يعمل جاهدا وهو يرفع سقف أنوثته إلى الدرجة القصوى، لإخفاء شبح الذكورة الذي يتربص به، إنها امرأة وجدت نفسها محاصرة في جسد رجل، لكن لا من يحس به ولا من يرحمه، البعض يشتهيه والبعض يلعنه ويخزيه..وهو يتفنن في صنع الفرجة، يقلد “مليكة” في رقصاتها ويهز ردفيه على طريقتها، ينقل الصنعة..وأحيانا يتفوق على شيخته، وهو يمسح بيديه حبات العرق على أعلى جبينه في دلال راقصة محترفة، وقد تحول المسح إلى رقصة خاصة، يقف على رؤوس أصابع رجليه، ويدور ..ويدور، ليكون بذلك هو الراقص الشعبي “الشطاح” الذي استنبط الرقص على رؤوس الأصابع، وكأنه يمزج العيطة برقص “الباليه”، ورقص “الفلامينكَو”.. يتحرك بخفة ورشاقة حمامة تدرج بين سرب حمام حول نافورة مائية، يتجه صوب “حسن الموسطاج” يهش عليه بدلال أنثوي، يفتل الآخر طرف شاربه الوحشي في اشتهاء، يستدير”حمامة” ويترك لمؤخرته حرية الحوار مع صاحب الشارب المفتول وغيره من المتتبعين لعرضه الشبق والشيق، يهزها بمرح غامر، وكلما اقترب من الشخص تعالت الضحكات والقفشات منفسة عن رغبات مدفونة مكبوتة.. كان راقصا بارعا، يستنكره البعض ويشجبونه، والبعض الآخر يرمي الأوراق المالية تحت قدميه ومعها آهاتهم.
تزداد حرارة الخيمة وتزداد معها حرارة الراقص”، ويستعد لعرض جديد، يفك حزامه، ويخلع قفطانه، ليبقى في بدلة “الجبادور”، يسرع “حمامة” أو “حْمَيْمَة” كما كان يحب أن ينادونه، إلى صينية نحاسية لامعة مملوءة بكؤوس زجاجية قزحية ألوانها، يسوي الكؤوس، ويشعل بداخل كل كأس شمعة، يحمل الصينية على رأسه، إنها رقصة شعبية متوارثة “الصينية والكيسان”، التي اشتهر بها الراقص “حميمة الشطاح” في المنطقة، يقول أنه تعلمها من أشياخه بمنطقة “احمر” بجنوب المغرب..يصفق بيديه الناعمتين ويلوح بإشارات في تناغم مع ألحان الكمنجة، وطقطقات الطعريجة.. يطلب التشجيع، يستلقي على ظهره، ينقل الصينية من قدم إلى قدم ثم إلى الرأس، ويكرر العملية في تناغم مع الإيقاع وتصفيقات البعض..نور الشموع يزيد الخيمة نور على نور، الشيخات يتفرجن على العرض والشيخة مليكة مشدوهة منبهرة برشاقة منافسها “حميمة”، وكانت تنظر إليه وهي تشعر أن خنجرا قد دخل إلى صدرها..فكان تارة يستلقي على بطنه وتارة أخرى على ظهره في ليونة الثعبان، والصينية تارة في يده وتارة على رأسه، يتلوى بغنج زائد وهو يؤدي رقصاته التي شيطنت ما تبقى من رجولته، والصينية المشتعلة شموعها تتنقل في رحلة ذهاب وإياب، من قدميه إلى رأسه دون أن يسقط كأسا أو تنطفئ شمعة، تلك الصينية التي كانت ترمى فوقها الأموال، كإكراميات لهذا الجسد المتمرد..جسد مبهر يعلن عن تمرده ووجوده. وحينما انتهت وصلته صفق بعض الحاضرين، واستنكر البعض أنوثته .. وعاد “حمامة” إلى مكانه خلف المجموعة المنشطة ليقتسم معهم مدخوله المالي”الغرامة” الذي علق له ورمي عليه من إكراميات المعجبين برقصاته المثيرة.
وتابعت “مليكة” أداء “حمامة” وهي جالسة إلى جانب الدركي “عبد العزيز” تشاركه الكلام، والتدخين والشرب..كانت في تلك اللحظة محاطة بثلاثة رجال كلهم يحبون أن يقدموا لها شيئا تأكله أو تدخنه أو تشربه، فأرسلت واحدا يجلب لها فاكهة الموز الذي اشتهته، وآخر يأتي لها بالحلوى، والثالث أرسلته ليشتري لها علكة بمذاق النعناع..المهم عندها هو أن يخدمها الرجال، وبقيت جالسة إلى جانب الدركي عبد العزيز، وكانت تمسك بكأس الويسكي وقد شربته ولم يبق فيه إلا قطرات قليلة. وشعرت كأنها في حلم من كثرة كؤوس الويسكي التي شربتها..ووضعت الكأس من يدها ووقفت من جديد في طولها المتجرد وفي تحد لمنافسها “حمامة الشطاح”، فهي لا تقبل الهزيمة.. نظرت إليه وفي عينيها بريق غريب، وكأنه حد السيف عند احتدام المعارك، بريق التحدي..والتفتت الأنظار كلها إليها، عندما راحت تتهادى وسط الخيمة بجمالها الفاتن، وشعرها الطويل المتهدل على طول ظهرها..فهي تعرف أن لا أحد من رعاياها بالخيمة يستطيع أن يفلت من سحر جمالها وأنوثتها الطاغية ودلالها المثير..وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، ثم أشارت إلى شيخها الكمانجي وهي تقول:
– عيطة بيضاوية “عريس الخيل”.
وهز إليها حسن الموسطاج عينيه في فرحة غامرة وهو يقول بصوت راعد:
– “هديك هاديك يا ميليكة، أنا راضي عليك يا بنيتي قد ما صبت وسحات. والله يرحم من قراك”.
وصفق لها الجمهور، وفسحوا لها رحبة الخيمة، وراح الجالسين ينظرون إليها وكأنهم يريدون التهامها بنظراتهم..وتصايح كثيرون يطلبون العيطة البيضاوية “عريس الخيل”، هم مولوعون بمواسم التبوريدة وتربية الخيول، فالفرس عندهم رمز النخوة والقوة.. وعلا ضجيج، ثم ساد صمت ثقيل..وقد كفت كل يد عن التصفيق وكل فم عن التدخين والتفتت الأبصار عند السلطانة “مليكة”، وانطلقت الموسيقى بطيئة بتعريضة “الخمسة والخمسين”، ثم تلاها استهلال العيطة، وبيدها البضة المطرزة بالحناء أمسكت مليكة في دلال بالميكروفون وشرعت في الغناء بصوت مبحوح فيه رنة شجن:
الحبيب يا الحبيب الكية جديدة وبضاض صعيب .
الحبيب يا الحبيب لا تغيب، فراج الله قريب.
كَولو لحبيبي لا تعاديني عل اللي فات.
كَولو للمحبوب دابا ربي يعفو ويتوب
اجدب اجدب يا البركَي يا عريس الخيل.
اجدب اجدب شحال هذا ما جدبتيشاي.
أركَب يا خليلي والليل طويل.
اركَب اركب شحال هذا ما ركَبتيشاي.
حبيبي عود جواد على ربيع الواد اسيدي
سيدي ربيع الواد ع نده وزاد يا بابا
مالي عودك سريع ميستاهل بيع أحبيبي
سيدي عودك حران كسيبتو قطران يا سيدي
و كانت زميلاتها الشيخات والكثير من الجمهور يردد خلفها بين البيت والبيت اللازمة: “هيا واهيا”..
وبدأت الموسيقى الصامتة الراقصة ذات اللحن البطيء، الكمنجة تنتحب والبنادير تقرع في شراسة والطعريجة تصدر طقطقات متواصلة.. ومدت “مليكة” الميكروفون لزميلتها وتفرغت لترقص رقصة فريدة منفردة..رقصة الأفعى، “شطحة اللفعة”، كي تلقن خصمها “حميمة” درسا لن ينساه..فهي تكره من يتحداها..هي الأفعى التي تأكل الثعابين.. ولفت وسطها بالحزام الأسود، فماضيها أسود من سواده..وعقدت الحزام حول خصرها فوق عظام الحوض مباشرة، حيت يتمتع الجسم بمرونة بالغة، وراعت أن تجعل العقدة على الجانب الأيمن وهي تعرف أن لهذا الوضع ميزة كبرى، فهو يكاد يفصل البطن عن الردف ويعطي لكل منهما قدرة كبيرة على الحركة المستقلة، ومسحت بيديها حبات عرق ندت من جبينها وعنقها، كانت تبدو كوردة حمراء ندية تتقاذفها أيدي هنود حمر ..وتنفست بعمق، وخللت أصابع يديها وسط شعرها الطويل، وجالت بعينيها على الخيمة، كانت ترى عشرات الأعين تلاحقها، وعشرات النظرات، وعشرات الابتسامات وكلها تحاول أن تلفت نظرها بطريقة ما، ولكنها في تلك اللحظة، لم تكن تأبه بهم جميعا، كانت تبحث عنه، عن “حميمة” ..عن منافسها..وهي تكره من يتحداها..هي تكره الرجال الذين يصمدون لجبروتها، العيطة والرقص في دمها، والتحدي من شيمها..وارتفع صوت الموسيقى الصامتة، موسيقى راقصة بطيئة..وبدأت الرقصة وأخذت تتلوى وتنتني كالأفعى المتسلقة لجدار كهف، وكانت الأعين مذهولة ومشدودة إليها، في انبهار، وتعجب..وكانت “مليكة” تشعر بلذة النظرات، وهي تنظر إليها بدهشة وإعجاب، ورغبة..وكانت تتحرك ببطء وانسياب مع الموسيقى الصاخبة الحلوة..فيما كانت عيناها مسمرتان على “احميمة”، وخفت وثيرة البنادير والطعريجة وصارت دقاتها أهدأ و أنعم..وبدأت “مليكة” تدور حول نفسها ببطيء، وهي ترعد وتزلزل جسدها وكأنها تراقص شبحا غائبا، كانت ترعد كل جزء من جسدها الثائر، وكانت بينهم ترتعش وتنتفض كأن زلزالا دب في كل جزء من جسدها..ثم راحت تداعب بطنها وخصرها بيديها، كانت ترقص بمهارة..وفن..وإثارة..ودلال..وبخلاعة كلية..جسدها يرتعش على وقع نحيب الكمنجة الباكية ودقات البنادير الداوية..وكان الرجال ينظرون إليها بنهم وإعجاب وفي قلب كل منهم لهفة..وكانت النساء تنظرن إليها بحسد وغيرة وبعضهن يقلبن شفاههن ويهمسن في آذان بعضهن..والحقيقة أنها كانت صورة رائعة لما أغدق الله على المرأة من جمال وجاذبية وسحر..وتركت شعرها الأسود الطويل يسترسل بدلال وإغراء على كتفيها مرورا بظهرها ليتعدى خاصرتها..وكان القفطان الأحمر رائعا..فيه دلال..وفيه جمال..وفيه خيال، وكان جسدها الرائع يبدو كما لو كان عاريا، لأن القفطان كان يلتصق بالجسد بفعل التعرق، فيرسم اللوحة بوضوح..ويترك الباقي للخيال، وكان جزء كبيرا من الفخذ يظهر من فتحة القفطان..لقد كانت كل قطعة في جسدها رائعة، بل كانت كل قطعة فيه ذات سيادة وسلطان، كانت ترقص كعود من الشهد لا يستطيع لفرط طراوته أن يتماسك، فيهتز وتتحلب له الشفاه وتتطاير القلوب من حوله..وقد أتعبت مليكة عيون المتربصين بفتحة القفطان الأحمر الأرجواني التي تظهر الساق ونصف الفخذ في لون الشمع والخالي من الزغب، فتجعلهم يسبحون في عريها ويتطهرون من عقدة المرأة التي خرجت من ضلع آدم لتعذب كل أبنائه الرجال.. وراح هدوؤها ينقلب رويدا رويدا إلى حركة وقوة منسجما مع الموسيقى الشعبية العيطية..وانتقلت مليكة من رقصة الأفعى “شطحة اللفعى” إلى رقصة النحلة “شطحة النحلة”، حيث إلتفت من حولها زميلاتها الشيخات وتوسطتهم هي ، ورفعت تلابيب قفطانها من الأسفل إلى الأعلى حتى أوشك أن يظهر لباسها الداخلي “التبان”، وأخذت تدور حول نفسها بسرعة وترسم برقصها رقم ثمانية كتلك النحلة الشغالة التي حددت هدف غدائها وتدعو زميلاتها إليه، كانت رقصة ملتهبة مثيرة بإيحاءات شهوانية، وضعت فيها قوة الإغراء والغنج والدلال..غايتها في دنياها: اللذة والقوة، بأيسر السبل والوسائل، دون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة.. وقد استعارت هذه الفلسفة بإرشاد وتعليمات من أشياخها الأسلاف..وإلتمع لها بريق يهز العيون، وهبت في أرجاء الخيمة عاصفة تهلل وتصايح وتصفيق لها..وصافحت سمعها هواتف تردد في إكبار وإعجاب..وانتشت هي بذلك، وكأن “عيطة عريس الخيل”، ما غنيت إلا لها، وكأنها هي من أوحت بها إلى نفس الشيخ العيطي الأول فأبدعها..كان معظم خيرها في خصرها، وسمها في صوتها..أنستهم في تلك اللحظة تعب الحقول..أنستهم قسوة الأيام، وأنستهم نسائهم وأبناءهم..إنها تحس أنها سيدة…أنها “مليكة” الملكة..مليكة السلطانة المتوجة بتاج العيطة..تحس أنها أنثى مهمة..الراعي يغازلها، والجزار يبش لها، والموظف يضحك لها..وآخرون يبحلقون فيها بعيون ملؤها التشهي وشبق الشهوة..والدركي “عبد العزيز” كلما نظرت إليه يبرم لها شاربه العريض..فأحست أنها شيخة بمعنى الكلمة..إنها ملكة في عالم الخيمة..عالم ليس فيه أسياد..عالم يتنافى مع القانون والأعراف..بل هي سيدتهم وسلطانتهم..واشتد التنافس من حولها، هذا يرمي الأموال فوق رأسها وآخر يصنع طوقا من الأوراق المالية ليجعله كالقلادة ويضعه حول عنقها، وثالث يرمي الأموال تحث رجليها وهي تنتشي بذلك..وكثرت خصومات بعض السكارى بعضهم ببعض، ويقال حولها أنه في عرس آخر بالمنطقة سبق لأحد السكارى من الفلاحين المعجبين بها أن تهور وطعن آخر بسكين من أجلها.. وقد ظنت أنها تستطيع أن تفتخر بهذا التنافس وأن تتباهى به أمام زميلاتها الشيخات، وبين مُهِيناتها من النساء الحاسدات الشامتات..فطبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال، وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها..ولكنها وجدت نفسها فجأة وسط دوامة من المضايقات لا تستطيع أن تخرج منها، لكن بذكائها ودبلوماسيتها في الحرفة كانت تخرج منها كالشعرة من العقيق..
وازداد أفراد المجموعة الموسيقية نشاطا وحيوية وهم يرون الأوراق المالية تتهاطل عليهم بغزارة، تلك الأموال التي أخذت من “البجيقي” عازف “الطعريجة” “احميدة السرغيني”، وقتا ليجمعها بجراب الكمنجة..، أما الأصوات فقد تلاقت واختلطت في دوامة صاخبة دارت بها الضحكات والهتافات ونحيب الكمنجة وقرع البنادير، وفرقعات الطعريجة وتصفيق الأيدي الراقصة وسعال الحشاشين وتأوهات السكارى..ومسحت “مليكة” بعينها الدعجاوين الفيروزيتين الخيمة فوجدت نفسها تقف متنمرة، بين أيد تصفق وحناجر تهتف لها بالدعاء وطول العمر.. وكان وجهها في تلك اللحظة محمرا ينم عن الحيوية والجمال الفذ والنضج المثير..نضج المرأة التي تطل على سن الثلاثين إلا بقليل..وقام الدركي “عبد العزيز”، من جديد يمطرها بوابل من الأوراق المالية تتوزع بين الخضراء والقرنفلية والزرقاء..وفعل آخرون مثله..ولم تستطع “مليكة” أن تمنع ابتسامة الانتصار على شفتيها الشهيتين..واعترف “حمامة” بضعفه وصغر حجمه وبتلمذته أمامها، كما اعترف آخرون بجمالها وروعة أدائها. وحملت من جديد الميكروفون وواصلت العيطة البيضاوية “عريس الخيل”، هذه العيطة المعمرة التي سبق وأن جددتها الشيخة الراحلة “الحاجة الحامونية” وكأن ألحانها وضعت خصيصا لمليكة، لأنه ليست هناك امرأة ولا شيخة ترقص على أنغامها بهذا المزاج والانفعال. أما “الحاج عبد الله الفكاك” فقد بلغ به الطرب حد نزعه لسترته والرقص أمام الحضور، ليظهر للجميع أنه مازال في ريعان شبابه، ومن حقه أن يتزوج مرة ثانية وثالثة ورابعة. ومن حقه أن يترأس الجماعة، مرة ثانية وثالثة ورابعة..فتخلى عن وقاره للتعبير عن فرحه بزواج ابنه في هذا العرس البهيج. لم يبد عليه شيء مما ينقص فرحته، كان يرحب بالجميع منشرح الملامح والابتسامة تعلو محياه، يصافحهم ويشكر لهم حضورهم ويدعوهم إلى الرقص، أو الجلوس، وبين الفينة والأخرى ينادي على راعي غنمه “المعيطي قنينيفة” ليلبي طلبات الحاضرين من ماء وشاي وقهوة…