رواية عيطة بيضاوية، الجزء الأول الفصل السابع

جسر التواصل29 يوليو 2022آخر تحديث :
رواية عيطة بيضاوية، الجزء الأول الفصل السابع

شيخ العيطة الحسين السطاتي

خرج الحضور زرافات يتمايلون من الخيمة الكبيرة التراثية، ودخلوا الخيمة المجاورة الحديثة الصنع والمعدة للأكل والشراب، تشكلت حلقات بشرية حول الموائد، تكلف بتنظيمها المسمى “قسطال حمادي” شيخ في الستين من العمر أسمر البشرة يبدو أصغر من سنه بكثير.. وهو في زيه التقليدي الأنيق جلابية بيضاء تحتها قميص أبيض، وعلى الرأس طربوشا أحمر وينتعل برجليه بلغة صفراء طرز على كل فردة منها رسم خنجر، هو الذي بدبلوماسيته وبابتسامته المعهودة ظل يردد “عشرة في الرباعة، عشرة على المايدة”.. كانت الوجبة دسمة، لحم البقر باللوز والبرقوق، ومزقت الأصابع الخشنة اللحم الساخن في اللحظات الأولى من انزاله، وبعد ذلك أُحضرت وجبة “سفة الأرز” المصقول بالكاكاو، وكانت لحظة الأكل مصحوبة بدردشة ونميمة. المتحلقون حول الموائد، يلتهمون في شراهة دون سكاكين أو شوكات، ويجرعون كؤوس المشروبات الغازية “الليمونادا” دون مراعاة لمخاطرها على الصحة. بينما الحاج عبد الله الفكاك يمر بين الصفوف مرحبا بالجميع، الخدم من الأقارب والجيران يتنقلون بين الموائد يحملون الأطباق والكؤوس من فوق الرؤوس بخفة، الأسنان تقضقض وهي تقضم، الأنفاس تتحشرج، والأفكاك تجعجع في الآذان وهي تمضغ، والكؤوس تجرع وتكرع، والملاعق في الصحون تقعقع، هذا ينادي الماء وداك يطلب الخبز، وثالث يشتهي ليمونادا الحمراء بدل السوداء، ورابع يغمغم وينهر الكلب الأعور الذي يغمزه بعينه الوحيدة، وآخرين يمضغون ويقهقهون.. صخب ولغط وضجيج وقهقهة تصنع موسيقى ريفية من نوع آخر..وخارج الخيمة وداخلها يتنادى الخدم المساعدين بأصوات عالية، يتخاطبون منفذين طلبات الحضور مقيدين بتعليمات صاحب العرس..مجموعة من الصبيان يتحلقون رغم كثرة عددهم حول مائدة طعام يحرسهم “المعيطي قنينيفة” راعي قطيع غنم “الحاج الفكاك”، بيده عصا غليظة يهش بها نهارا على الغنم، وفي مثل هذه المناسبات يهش بها على الكلاب وعلى الأطفال الصغار المشاغبين، والمعيقين للفرجة..”قنينيفة” مخلوق آدمي له تركيبة غريبة، غريب المنظر، صغير الرأس كبير الفم، مشروم الشفة العليا، بدين، ضخم الجسم في غير تناسق، مكرش، يظهر مثل مادة حيوانية لم تسو بعد، يمشي منفرج الساقين كأنه ذو داء.. يبدو وهو يسير كأنه يتدحرج لا يمشي..ضخم الجسم لا عجب إن كان كبير القلب، ولعل إفراط جسده في النمو جاء على حساب نمو روحه، فلا تزال به مسحة من سذاجة الأطفال، لا تخطئ العين حين تراه إمارات البلاهة والبلادة والغباء على وجهه، ولكنه كان طيعا خدوما للحاج عبد الله الفكاك، لا يسمع منه إلا التنعيم والشكر..كان فرحة وفرجة للكبار، وكابوسا للأطفال الصغار..فهو ضابط الأمن بالنسبة للأطفال في هذه الليلة، ورغم دهائه كان الصبيان يتخاطفون في الطعام ويتراشقون به وهو ينهرهم، لا يأكل من مائدة واحدة بل يلتقط طعامه من هذه المائدة وتلك المائدة، تارة يضرب طفلا على ظهره بعصاه وتارة أخرى يسب آخر ضاحكا…لكن الصبية لم يهتموا به ولم ينضبطوا لتعليماته ولا لتهديداته، وأكلوا بطريقتهم الخاصة، لم يكن أكلا ولكن كان التهاما وخطفا وسبا وعراكا في صحن اللحم بالبرقوق، وبلغت المعركة ذروتها حين فرغ صحن اللحم البقري..حيت ما كاد طبق اللحم بالبرقوق ينزل بينهم على المائدة، حتى كانوا قد أفرغوه ! فقد غطس الصبيان أيديهم حتى الرسغ، وأخذ كل واحد منهم ما وقعت عليه يده، وانحنى بغنيمته يأكلها على مهل..وهم يلتهمون قطع اللحم بلا خبز كالهررة الجائعة..غير مبالين بتهديدات”المعيطي قنينيفة” الذي أقسم بالله وحلف بالوالي الصالح “سيدي بوعبيد الشرقي” على أن يحرموا من مشاهدة الشيخات ويكملوا فرجتهم من خارج الخيمة إن لم ينضبطوا لأوامره..
وبباب الخيمة كان يقف كلب أسود هرم ناحل، يرنو بعينه الوحيدة إليهم في استعطاف..وتدور أسراب الذباب في إعياء فوق رؤوسهم، كأنها مروحيات ظلت وجهتها ومازالت تبحث عن مكان تحط فيه…تخم الطاعمون، وحتى الكلاب شبعت ولم يبق إلا أن تولغ في كؤوس الليمونادا أيضا…بجنبات الخيمة تناثرت قناني الخمر الفارغة منها الزجاجية والبلاستيكية، وعشرات أعقاب السجائر، وبقايا طعام متناثرة بعضها آت من معدة متقلبة متوترة من فرط الشراب، وأخرى من الجهل بأصوله، مخلفة رائحة عطنة إضافة إلى منظرها المقزز، كلب أبيض أجرب يقتات منها في توجس وحذر، وكأن الكلاب بدورها في تلك الليلة تطلب السكر والنشوة والعربدة على موسيقى العيطة..
الساعة تتجاوز الواحدة بعد منتصف الليل، امتلأت البطون، وتدلت الجفون، وانفتحت العيون تطلب المزيد من المجون، أراد صاحب العرس “الحاج عبد الله الفكاك”، أن يخلد ذكرى عرس ابنه بين أهل الدوار والقبيلة، وأقسم أن يجعل من هذا اليوم يوما مشهودا..ألقى بفراش زائد، حصير وزرابي حمراء تقليدية الصنع أمام باب الخيمة، وتُرك في وسطها مكان رحب للراقصات والراقصين، فاسحا المجال لإبداع الشيخات في الرقص والشطح والشقلبة…النساء يتموقعن غير بعيد قبالة الرجال بزيهن التقليدي كالفراشات.. شرع العروسان في مراسيم “البرزة” وطقوس الهودج “العمارية”، المقتبسة حديثا والغريبة عن عادات القرية الصغيرة، ليبدأ العروسان دورة مختلفة من حياتهما الجديدة، كانت مجموعة “عبيدات الرمى” المسماة “أولاد السروت” بقيادة المقدم “عبد الهادي بنشنافة”، تؤازر العروسان في الرقص، وتؤدي أهازيج وأغاني تراثية، يرقصون ويغنون أطيب المتمنيات وأغلى الآمال، كما يمدحون العروسين ودويهما بأحسن خصال كالنبل والرصانة والكرم وعلو الشأن، وحتى بعض العجائز من النساء حنَين إلى شبابهن ودخلن إلى حلبة الرقص، يغتنمن الوقت المتبقي لهن، فالزمان ناذرا ما يجود بمثل هذه الليلة..وكان إلى جانب فرقة “عبيدات الرما”، شابات وفتيات يتدافعن نحو الخيمة، يغنين مع فرقة الرجال المنشطة أغاني مختلفة يقاطعنها بصوت واحد أتناء الصلاة على النبي خير البشرية، تليها زغاريد داوية وطلقات نارية من بنادق فروسية ورصاص مدوي ملعلع من بنادق صيد تحية للعروسين في أفق الليل البهيم..ليلة ليلاء..طعام وفرجة وفرحة، مجون ورقص وغناء..أطفال صغار كالغزلان المرحة ينطلقون في سعادة وسرور، يشاغبون ويعبثون..وفتيات جميلات نضرات، يتبخترن ويتغنجن في ألبسة ذات الأزياء المختلفة العصرية منها والتقليدية..
وانقضت فترة من الليل..ضجيج، غناء، عيطة بيضاوية، رقص، شرب، تحرش، ضحك، سباب، غزل.. مناقشات من هنا وهناك بلا ترتيب أو نظام يشترك فيها الجميع..سحابة الدخان تملأ الفضاء الأحمر.. “الشيخ العربي الخيراني” يستأنف ترويض الشيخات، يحمل الكمنجة، يسوي نغماتها من جديد، يدعك أوتارها دون شفقة، تنطلق الوصلة الشعبية، بإيقاع سريع صاخب متناغم، عادت معه الحياة النشيطة تملأ جو الخيمة الصاخب، والشيخات يرددن خلفه لازمة الأغنية:
دابا دابا دابا …..دابا تندم عليا و يجرا ليك ما جرا ليَا.


أخ العروسة يجري صوب الشيخ وبيده هراوة غليظة، لم تعجبه كلمات الأغنية، وهي فأل شر على أخته العروسة، يهمس في أذن الشيخ الكمنجي لتغيير الأغنية:
– “نعل الشيطان يا الشيخ وبدل علينا هذ الطبسيل، وخلي هذ الليلة تدوز على خير”.
ينفذ الشيخ الأمر صاغرا ويغير الأغنية، ينساب الإيقاع خفيفا سريعا، دقات البنادير تقرع داوية، وفرقعات الطعريجة متماهية مع نحيب الكمنجة، الشيخات الأربعة يرقصن ويشطحن في استرسال وفي تناغم بقيادة الشيخة مليكة، “الزريقة مولات السالف”، وحركات الأرداف المتراقصة تلهب الأفئدة، يسرن في حركات متناغمة وكأنهن خيل مسرجة في وصلة “تبوريدة”، يُعدن الكرة على وقع الأغاني الشبقية الشيقة التي تثير الشوق والدفء في الروح والجسد…وتدخل “الشيخة مليكة” في رقصة الحصان “شطحة العود” على نغمات خاتمة العيطة البيضاوية “السدة” والمعروفة عند الأشياخ والشيخات “بعلفة الخيل”:
وتبدأ الشيخة “رابحة” في الغناء وتتكلف باقي الشيخات الأخريات بالعرض الراقص:
هذا يا العود هدا…هدا يا العود هذا
علفتو ما بغا يهدا…هدا يا العود هذا
وردتو ما بغا يهدا…هدا يا العود هدا
والخيل…وها الخيل
والبارود…والخيل يا الخيل
جيبو ليا…عودي
فين هو….عودي
زين الركبة…عودي
عودي مشاي…عودي
منبيعوشاي…عودي
ما جاو عندك ياوا…شي عيون وحجبان هاه..
كانت الشيخة السمراء “ربوحة”، تلفظ كلمات الأغنية صادحة، بينما باقي زميلاتها الشيخات يرقصن في حركات مثيرة مستوحات حركات الخيول في ركظها وزمجرتها وحنحنتها، ومن التنقلات الخيلاء للخيل، كن وهن يشطحن كسرب خيل في عملية كر وفر، فتارة يرقصن متراصات في خط مستقيم كسرب خيل في وصلة تبوريدة، وتارة يتصادمن من الخلف بالمؤخرات، وأحيانا تمتطي الواحدة زميلاتها…لكن الملفتة للأنظار كانت “الشيخة مليكة” بخفتها ورشاقتها ومهارتها في فن الرقص. كانت فعلا تلك الفرس الجامحة..

وانتهت الوصلة الغنائية الراقصة، وردت الشيخات أنفاسهن اللاهثة..وساد بعض الهدوء وسط الخيمة، دخول وخروج في الباب المشرع، جلوس ونهوض، تبادل كؤوس خمر، ونكت..ووسط هذا الضجيج رن صوت عظيم من ركن الخيمة:
– سيري يا مليكة لهلا يحركـَ فيك شي عظم حتى نتحركَوا كاملين. سيري يا بنيتي أنا بغيتك عمرك ما تتخصي ولا ترخاصي.
وابتسمت له ابتسامتها الحلوة، وحيته بقبلة على الهواء من أطراف أصابع يدها اليمنى، وهنا تقدم رجل خمسيني “حمادي ولد قزدار”، أسمر البشرة، قصير القامة، زري الهيئة ،قذر المنظر دميم الخلقة تلوح على وجهه سمات المهانة والضعة الممزوجة بالوقاحة وقال لها بصوت خشن أجش:
– سيري يا مليكة كيف فرحتينا الله يفرحك.
وردت عليه وابتسامة عريضة ترصع شفتيها:
– آمين يا رب.
وشق طريقه وسط الحشود وتوجه إليها إلى أن وصلها وأخرج ورقة مالية من فئة عشرون درهما وعلقها لها في حزامها، كان يبدو كدودة رمادية قذرة قد دبت من مكانها إلى وردة نضرة ناعمة فلصقت بها، ودون خجل أو ذرة حياء هز عينيه إليها واختلس من الوجه الجميل نظرات جائعة، وقال يسألها ويطلبها للزواج:
– واش تقبلي تتزوجي بيا يا بنيتي، الله يعظم أجرك؟
وضحكت له وضحك كل من سمعه، وعاد خائبا إلى مكانه، وبدأ الموسيقيون يوقعون على آلاتهم نغماتهم العيطية الشجية، وسكتت الجماهير، وما هي إلا دقائق معدودة حتى استأنفت الفرقة الموسيقية نشاطها، واستأنف القوم لهوهم بإرادة أشد نزوعا للصبا والمسرة..وحمي وطيس العيطة من جديد، وتأجج لهيب النشاط، الأنغام تتواصل في ألحان صاخبة، والأموال تتدفق بكرم، والشيخات يغنين ويرقصن.. يتدحرجن على التوالي، يشطحن، يتشقلبن من ركن إلى آخر، يرقصن رقصة النحلات ” شطحة النحلة”، يطفن رقصا حول أنفسهن ويتواصلن بالمؤخرات، كما تفعل النحلات شغالات الخلية النحلية لتحديد مكان وجود الغداء..وكانت مليكة تتغنج وتتبختر، وتتلاقى مع زميلتها بالأرداف ثم تدور نصف دورة وتختم الرقص بالتدحرج وبالشقلبة..وتتبعها رقصة التمساح “شطحة التمساح” “غزلة الموت” تتمرغ الشيخة مليكة من اليسار إلى اليمين في مشهد تمثيلي كأنها تمساح ينقض بفكيه الطويلين العريضين على فريسته داخل بحيرة ويغزلها ليخنقها في الماء..لقد رقصن رقصات فاتنة التصوير، دقيقة التعبير، أخذن بمجامع القلوب، وكانت في تلك اللحظة الشيخة “مليكة” هي ملكة الخلية، ومالكة القلوب..وهتف لهن الجمهور بحماس وإعجاب..وختمت الشيخات رقصهن برقصة الردح، رقصة الندبة “شطحة المندبة” في وصلة العيطة الملالية، كأنهن بذلك يندبن حظهن العاثر، نساء يتصف ماضيهن بتجارب قاسية لكل واحدة منهن قصة مؤلمة حزينة، وثمة شك في عيونهن، وجروح غير مرئية في أرواحهن…

الاخبار العاجلة