” رواية عيطة بيضاوية”، الجزء الأول الفصل السادس

جسر التواصل28 يوليو 2022آخر تحديث :
” رواية عيطة بيضاوية”، الجزء الأول الفصل السادس

شيخ العيطة الحسين السطاتي

الجو منعش بنسمات ريح باردة، موكب مستقيم ومتواز من السيارات على إيقاع أبواق “الكلاكسونات” وزغاريد النساء، يبشر بوصول العروس، تتقدم الموكب سيارة المرسديس 220، سوداء اللون، المزينة بالأشرطة الملونة والزهور، التي كانت تنقل العروسين، توقفت أمام منزل “الحاج الفكاك”، وكما جرت العادة نزل “الوزير” و”الوزيرة” أولا وفتحا للعروسين باب السيارة، كان العريس “الغزواني” طويل القامة، أبيض البشرة ينعم بالشباب في سن السادسة والعشرين، حليق الشارب واللحية، ذو عينان سوداوان مكحلتان بمسحوق الكحل ولا يعيبه سوى أنفه الأفطس، كان يرتدي جلبابا أبيض “البزيوية” منسوج من الصوف الرقيق، وعلى رأسه طربوشا أحمر يشع كجمرة زهر لهيبها، وينتعل بلغة صفراء اللون، أما عروسه “رحمة” فكانت في ليلتها الكبرى، إذ كانت في أبهى صورة وحلة، وقد قدمت للتو من صالون الحلاقة، شابة في سن الثامنة عشر ذات بشرة بيضاء، زادتها مساحيق التجميل جمالا، وكانت ترتدي بذلة العروس البيضاء وتنتعل بلغة خضراء وعلى رأسها تاج العروس.. تشابكت يد العريس اليسرى بأصابع يد عروسه اليمنى، وهما يتقدمان بخطوات ثابتة، راقصة ومتثاقلة، فتعالت لهما الزغاريد من أبواب ونوافذ البيوت المتداعية، كانت العروس تختال وتتبختر وهي إلى جانب عريسها “مولاي السلطان” بثوبها الأبيض، مهرجان من الأضواء والموسيقى الصاخبة، آه ما أجمل الموسيقى الشعبية العيطية، كانت تطير بالحفل والمحتفلين إلى فردوس من المشاعر الجياشة، الجميع يعيشون نشوة الفرح، وتلقى العريس التحيات بابتسام وزهو، كان يسير إلى جانب عروسه مزهوا كذكر طاووس ينفش ريشه، والزغاريد والهتافات من الخلف ومن الأمام تستقبلهما، وتتمنى لهما أطيب الأماني والعمر المديد وكثرة البنين، وهبت زغاريد عذبة، وهطلت أصوات تصلي على النبي..و”خناتة” أخت العريس وهي البنت الكبرى للحاج عبد الله الفكاك، ترش الضيوف بالعطر، ووسط هذا المد الهادر من الأنغام الصاخبة أطلق الرجل الأربعيني “الحبيب ولد الحواص”، طلقات نارية مدوية في السماء من بندقيته..وكان الجميع سادرون في الفرح إلى أن وصل العريس وعروسه مكان “البرزة” وجلسا على كرسي كبير باللون الأبيض خاص بالعرسان، وهما محاطان بجمع غفير من النساء والأطفال مقابلين لباب الخيمة الفسيحة.
داخل الخيمة تدور طقوس رجالية مع الشيخات، تنتهي الوصلة الغنائية الراقصة المسماة ب”الوجبة”، وقبل انطلاق وجبة أخرى، تأخذ المجموعة المنشطة فترة استراحة، بين شيخة تشعل سيجارتها في غنج بليد تداري به صيحة القهر الصارخة في أعماقها، وكانت الشيخة “وريدة” مندسة وسط حشد من الرجال في ركن الخيمة، ترد الصرف، تشرب وتدخن من جودهم، تبتسم في قهر، وبين الحين والآخر تصدح بزغرودة أصيلة، تهز أوصال القابعين إلى جانبها، وبين الابتسامة الساخرة والزغرودة الأصيلة، كان جسدها يتهاوى بين الحشود منفلتا بين الأصابع كالماء.. وفي ركن آخر من الخيمة توجد الشيخة مليكة تبتلع صمتها بحوافر الوقت الراكض فيها، وهي تتوسط مجموعة من اللاهثين عن الاسم والعنوان ورقم الهاتف، مكدسين على الأرض وسط حلقات كثيفة من دخان السجائر والكيف وعرق الأجساد المتفصدة، يرفعون رؤوسهم نحوها مثل عجول يؤتى لها بالحشيش في ليلة شتاء باردة، وكانت هي وسطهم كدابة خلفتها القافلة وعلى مقربة منها تربض الكلاب السائبة منتظرة تعثرها ومتلصصة إليها بعيون تكبت جوعها السحيق، كانت تُقبل هذا وتحضن ذاك لترضيهم، لقد ألفت اللعبة، وتعودت على تحرشاتهم بالشيخات وعنف لغتهم الجنسية الناضحة كبتا، ونظراتهم التي تعتريها الشهوة، وكانت تلتقط الأوراق المالية التي تمنح إياها بسخاء أو تلك التي يدسها البعض بصلف وغواية بين نهديها…
كان الجو ساخن يغلي داخل الخيمة، عكس ما كان عليه خارجها، حيت كان مائلا إلى البرودة بعض الشيء في تلك الليلة من أواخر فصل الربيع، تمايلت الرؤوس والقامات، المكان يعج بالحاضرين، ازداد لهيب الأغاني، حمي الوطيس من جديد، امتلأت الحلبة، بدأت الرؤوس تتحرك اختلط الحابل بالنابل، في هستيرية الجدبة والنشاط، كمنجة وطعريجة وعود وبنادير تقهر صمت الليل البهيم، وشيخات مغنيات غاويات في لباسهن الأحمر كفراشات تحلق في سماء الأنغام، وقد انغمس جل سكان القرية في أجواء العرس الكبير، الشيخات بأردافهن الممتلئة المكتنزة، وعيونهن الكحيلة يتوزعن في رقص منتظم من يمين الخيمة إلى يسارها ومن اليسار إلى اليمين، وفي حركات دائرية يتمايل بعض الشبان، يتأوهون ويصفرون، ولما تقدمت الشيخة “مليكة” وسط الحلبة لتبدأ استعدادا لعرض جديد، جلس بعض الواقفون، وفسحن لها الشيخات زميلاتها الحلبة، وترك بعض الندامى الكؤوس من أيديهم وشرعوا يصفقون، يدقون أكفهم دقا منغوما تماشيا مع إيقاع الموسيقى الصاخب.. وأبصارهم رانية إلى معبودتهم في تلك الليلة، لقد كانت جميلة جدا..مثيرة جدا.. خفيفة الدم جدا.. لو أتيح لها العلم الغزير والمركز الاجتماعي الكبير لكانت فاتنة البلد..ولكن الأقدار شاءت لها هذه المكانة..شاءت لها أن تكون شيخة..ومع ذلك فطموحها لا حدود له.. وراح البعض يحملق فيها بعيون زائغة نهمة.
– يا رب كم هي جميلة وكم هي رائعة بنت الشيخة!!

عبارة رددها “الحاج عبد الله الفكاك” صاحب العرس وهو بباب الخيمة، يستقبل ضيوفه في ترحيب، يراقب ما يجري بالداخل، يتحرك بكل زهو ممكن، آمرا هذا، وداعيا آخر لفعل شيء آخر، يبتسم ويرحب بالجميع ويطلب الله في سر وعلانية أن تمر الليلة بخير..فنجاح سهرة العرس يعني مدى شهامته واحترامه من طرف ناس المنطقة وتفوقه على منافسيه في الغنى والأناقة وحتى في الأصوات خلال الانتخابات الجماعية القادمة، في حق كرسي الرئاسة يصبر لطيش الشباب وعربدة السكارى..فعرسه هذا بمثابة حملة انتخابية سابقة لأوانها، إنه يمني نفسه مستقبلا برئاسة الجماعة القروية للمرة الثالثة.. وهو الفلاح الكبير ابن القائد المرحوم “الحاج الهاشمي الفكاك”، ورث عن أبيه كما ورث هذا الأخير عن أجداده أراضي زراعية شاسعة وحب الخيل، ونخوة الكرم وعشق الشيخات ورئاسة الجماعة القروية…وكان ينظر إلى الشيخة “مليكة” وقد نسي كل شيء حوله، بلع ريقه مرات وهو يرى هذا الجمال المثير الصاعق، لم يصدق في أول الأمر أن مثل هذا الجمال موجود عند الغانيات المغنيات.كانت تبدو له “مليكة” هيفاء طويلة القامة، قدها ممشوقا، بيضاء، مليئة، مكتنزة،مربربة، مزعرة الشعر الطويل الذي يتعدى خصرها، ساخنة الشفتين، بارزة الثديين والردفين، ذات مكر وخبث تأسر الرجال بعينيها الزرقاوين الفاترتين. وبالفعل كانت أنثى بالغة الجمال، ذلك الجمال الريفي الوحشي الذي صقلته ليالي العيطة، يعرف كل من في الخيمة وصمة هذا الجمال، فهو مورد رزقها، مصدر عطاء وفير لها، ووصمة العار الحمراء لدويها..فكم من خاطب للزواج بها من معجبيها رفضتهم؛ من الفلاح الصغير إلى الموظف الكبير.. وفضلت العمل مع الفرقة الغنائية الشعبية “رباعة الشيخات”، كما تقول في غناءها “كَيطون مجرتل..ولا زواج الذل”..لأن الحمامة التي تعودت على سماء الحرية، وألفت جناحاها الطيران تابعة أزيز الكمنجة، مسلوبة بنغمات موسيقى العيطة، تفر من القفص ولو كان ذهبيا..!
كانت ترتدي قفطانا ضيقا أحمرا ممشوقا عاقدا للخصر، وكان جسدها الأبيض يظهر بوضوح من خلال هذا الشق، كما تظهر ساقاها وكأنهما عمودا مرمر! كانت تعرف بأنها أصغر الشيخات سنا، وأوفرهن جمالا ودلالا، كانت تتمشى داخل الخيمة الفسيحة بحركات راقصة مثيرة، وتوزع ابتسامتها الباذخة على الجمهور وهي تتفنن في إبراز جسدها الرائع. كانت تقوم في وقت واحد بأدوار مختلفة. الغناء والرقص والتدحرج والتصيد والقنص.. كانت تقوم بهذه الأدوار على التوالي وبطريقة مدهشة تحت بصر الجمهور المفتون..
وكانت تنتقل مثل فراشة شاب أجنحتها طرز بألوان الطيف. همها الأول التحبب إلى الناس وإدخال السرور على قلوبهم، وقد علمت بغريزتها الأنثوية أنه ينبغي لها أن تكون لطيفة، فلا يجوز أن تعارض رأيا ولو خالفته بقلبها، ولا أن تغضب ولو مست كرامتها..جلست بعض النسوة بعيدات بخفر وحياء في زاوية منزوية قريبا من الخيمة، وعندما حمي الوطيس نزل الشبان من جديد يرقصون رقصة “الثلثي”… صعدت مليكة فوق “القعدة”، أزالت “النواقس” النحاسية من أصابع يديها، وانحنت ووضعت كل واحدة في إبهام من رجليها البضتين، وشدت قامتها وسوت حزامها، وأخذت تمسح الخيمة بعينيها الفيروزيتين المنومتين وهي تبتسم، كانت تخفي حزنها ومرارتها خلف الابتسامات..وعلى أنغام الكمنجة الصادحة وضربات البنادير الداوية ولعلعات الطعريجة المسترسلة أخذت “مليكة” تضرب بقدميها في تناوب، فتصدر صوتا متناغما مع الإيقاع الموسيقي وشعرها الناعم يتطاير في تموجات، ضربات الأقدام عنيفة، وأنغام الكمنجة لطيفة..كان صوت “النواقس” على “القعدة”، يحدث إيقاعا شبيها بهرولة مهرة جامحة على طريق معبدة، وأخذت تدق القعدة دقا، ضربة، ضربتين ثلاثا وتتدحرج، وشعرها الكثيف يتماوج..فتقف من جديد وتعود وتشد قامتها، وتزغرد النسوة بانفعال ويشتد التصفيق، ويفغر الفلاحون الأفواه انشداها وكأنهم يتطلعون إلى حورية البحر، وصوت “الشيخ العريبي الخيراني” يلح في طلب بنت خاله ويردد:
جيبو ليَ بنت خالـــي…جيبو ليَ غزالــــي
تسهر معايا الليالـي…. صورتها ديما في بالـي
تخدم صمايم والليالي…وتحفظها واهيا العالـــي
هي كنزي وراس مالـي…وهي اللي عارفة هبالـــي…عفاكم جيبو لي بنت خالي

الدخان ينتشر سحبا في فضاء الخيمة، اضطربت الأرض وضج الجو وثار الغبار، ثم تصاعد من ركن الخيمة صوت جهوري، أجش غليظ النبرات يصيح كالرعد القاصف:
– “والله ينعل بو الزلط، عاش الحاج سي عبد الله الفكاك لعاب الشيخات..”
كانت أنغام الموسيقى تطرب السامعين وتوقظ النائمين في ذلك الليل المدلهم.. وكانت الشيخة مليكة تدور وتقطع الخيمة قفزا والخصر غاية في الدقة، والقدم منقوش بالحناء ولين، والخطو موزون ونابض والشعر الكثيف الطويل يتعدى مؤخرتها يوشك أن يلامس ساقيها.. تعددت انطباعات الجالسين بتعاليق مختلفة، والبعض أناملهم تلثم الشفاه وترمي إليها بالقبل الشبقية في كبت مفضوح..وقد هتف البعض: رائعة، ساحرة، وقال آخرون همسا: “شيخة عياطة، طباعة”، انسلت من بين المتزاحمين فرحة مرحة نشوانة..حيت ربت كل من اقتربت منه على كتفها مشجعين وداعين لها:
-“الله يعطيك الصحة…الله يكثر من مثالك..الله يحفظك..الله ينقي طريقك من الشوك”
ليختم الدعاء “محمد لعور الكبال ولد الغربال”، وقد تعدى الخمسين من العمر، صاحب العين الواحدة والجبهة العريضة والصدر العاري الغزير الشعر، واللحية الكثة المهملة والجلباب الأسود القديم الذي يلبسه على اللحم، ملامحه تبدو أكبر بكثير من سنه، يدعو لها بفم خالي من الأسنان وبصوت متهدج:
– “سيري يا بنيتي الله ينجحك، والله يطلعك لبيت الشهادة”.. يقصد بدعائه مستوى الخامس من التعليم الابتدائي، هو يجهل أنها حاصلة على شهادة البكالوريا علوم تجريبية.
التفتت إليه وأسبلت أهدابها بتراخ وكسل وهي تغمز له بالعين اليسرى، وترسل له قبله هوائية وتدعو له بصوت عميق متحشرج:
– الله يحفظك.. كانت عبارة “الله يحفظك” محفوظة لديها لتجيب بها كل مطري ومعجب.
وقفت “مليكة” بضع لحظات وسط الخيمة تنظر إلى الجمهور بعينيها الواسعتين الملتهبتين، كانت ترى عشرات الأعين تلاحقها، وعشرات النظرات، وعشرات الابتسامات، وكلها تحاول أن تلفت نظرها بطريقة ما، ولكنها لم تكن تأبه بهم جميعا، كانت لحظتها مسحورة..سحر العيطة يخدرها ويسري في عروقها.. وراحت تتمايل في غنج على أنغام الموسيقى العيطية بثوبها الأحمر القاني الضيق الذي شد محاسنها، فبرزت بوضوح بفعل تعرقها والتصاق الثوب بالجسد، وكأنها تسونامي يوشك أن يضرب الخيمة، فابتسمت عندما شاهدت نظرات الإعجاب في عيون الناس… كانت تعلم بأنها جميلة، وأنها رائعة، وأن جمالها يبهر الأنظار ويقطع الأنفاس.كانت تعلم ذلك حق العلم، تعلم أن الله أولاها حسنا لا يطاوع.. وتعلم بأنها قادرة على أن تعمل في أكبر وأشهر ملاهي المدن المغربية الكبرى كالدار البيضاء والرباط ومراكش وأكأدير…لكن عليها أن تكون حريصة في هذه الليلة الليلاء، يجب عليها أن تنجح في هذه الحفلة، كما نجحت في حفلات كثيرة، والنجاح في عرس ريفي وسط أهل البادية مهمة صعبة وشاقة، تقتضي منها أن تحتفظ بابتسامتها طول الليل..وأن ترقص رقصا مثيرا ومتنوعا..وأن تكون منتبهة لكل كلمة حتى ترد عليها بايجابية بابتسامة أو نكثة..وأن تجذب إليها أغلب الرجال من أجل إكرامها، وتحسب حساب الهدايا والإكراميات التي تعلق بحزامها وبعنقها وحتى بشعرها، وعليها أن تعقل جيدا على أصحاب المبالغ المالية لترد إلى بعضهم جزءا منها..يجب عليها أن تحسب حساب كل حركة من حركاتها حتى تبدو رشيقة، دون أن يلحظ أحد أنها تتعمد الرشاقة، يجب أن تعيش كل لحظة حتى تنتهي الحفلة..دون أن يتهمها أحد بالعجرفة وقلة الأدب..يعني يجب عليها أن تكون الفريسة القادرة على الافتراس..
كانت صديقاتها الشيخات الثلاثة الأخريات يتناوبن على الرقص والغناء، كما يتناوبن على التدحرج بفضاء الخيمة الفسيح لكنها كانت غيرهن، كانت الأجمل والأروع والأمتع، تتقن فن الرقص والتدحرج كما تتقن الغنج والدلال، كان جسدها يتمايل ،يتثنى، فكانت تتلوى عذابا أكثر مما تتلوى نشوة، وكانت ترقص بخفة ورشاقة، وتنتقل بأركان الخيمة بخطوات خفيفة رشيقة كالغزال الشارد.. ازداد كرم الحضور، وصل اللهيب الذي تثيره الشيخات ذروته، يتواصل شلال الأموال المغدقة عليهن من المعجبين عشاق الزهو واللذة، وكانت “مليكة” متمرسة محترفة، تعرف كيف تسامر السهارى وتقطع الليل، كانوا ينظرون إليها مبهورين مشدوهين، وكانت تشعر بنظراتهم وكلامهم، ولكن لم تكن تأبه بهم، لأنها كانت على ثقة كبيرة بأن جمالها الصاعق يسمح لها بما تريد..كانت غانية لعوب، تخطو على القلوب وتسطو على الجيوب، وكانوا يعرفونها غانية فاتنة تأسر قلوب الرجال وتتحكم فيما لهم من مصائر وأقدار، كانت تتميز بجاذبية أنثوية فتاكة، وإن حياتها لسلسلة من المغامرات موصولة الحلقات في دنيا اللهو والمجون والهوى.
وسط هذا الجو البهيج الممتع..يقف الشيخ الأسد “البوهالي الحنحان ولد المهاوشة”، وعمره يتعدى سبعين عاما، لحيته البيضاء الكثة تتدلى من وجهه وتمنحه طولا زائدا، يلبس جلبابا أبيض، وجهه بيضوي أبيض في لون الشمع، وعلى جبينه رقعة بنية غامقة علامة صلاة، ذو عينان عسليتان واسعتان، وشعر قوي رمادي اللون منسدل على كتفه يعمه بعمامة خضراء فاقع لونها، يلقب ب”الشريف البوهالي”، كللت الشيخوخة هامته بتاج ناصع البياض وأضفت عليه وقارا وجمالا، وأذكت في عينيه الخضراوين دعابة وملاحة، تقدم أمام “الشيخة مليكة” يراقصها وتراقصه، على أنغام عيطة “الشجعان” التي تصدح بها حنجرتها المجروحة، تماشيا مع أنغام كمنجة “با العربي” النادبة النائحة.. إذ يخرج صوتها المشروخ بعد أن حمله الهواء على موجاته وناد به الليل الصامت في كل الأنحاء، وارتفع صوتها حزينا كأنه النواح:
واش من والى يتوالــــى ….. واش القياد تكون من والى
فين أيامك يا واد زم …..وراه الزناقي عامرة بالــــدم
فين أيامك يا بو كَـــروم…..ع الحركة والخيل تعــــوم
فين ايامك يا تخزريت…بكى النصراني كوَال عييت
تكشطو عيالات القبطان …. تكشطو في حوز جعيدان
بين السماعلة وبني خيران……تما العوافي شاعلة نيران
عوينكم بوعبيد الشرقــي……الخواجة مزوق لـــــولاد
القواس مقابلة لقواش…الشرقاوي على ولادو عساس
سيدكم دويدة الشيبانـي …… مات سبع و وطنــــي
واش من والى يتولــى ….أهاو أهاو الرحمة بيد الله.

وهي تغني عيطة “جعيدان” كانت تبهج النفوس الحزينة وتسري عليها.. صوتها الصارخ النائح يجذب إليها الأعين، وعيناها الفيروزيتان الساحرتان تستهويان الرجال وتجذب إليها القلوب، وهي في النواح لا أخت لها، فهي واحدة لا تضاهيها شيخة نائحة، كانت كالشمعة التي تزغرد وهي تحترق..وكان الجمهور يستمتع ويتهالك على نواحها..إنها تغني عيطة “الشجعان”، تلك العيطة التراثية الخالدة، التي حركت مشاعرهم، وأسرت قلوبهم..ألحان وأنغام وأشعار يسمعونها للمرأة الألف ولم يملوها..قصيدة حماسية خالدة، قد تتعدى أبياتها المأتي بيت، وكأنها إحدى قصائد “المهابهارتا” الهندية، تلك القصائد الهندوسية الكبرى..وكانت الشيخة مليكة تنظر إلى ذلك الحريق الملتهب الذي يتقد في نظراتهم، وهم يرقصون ويتراقصون، كان الكثير منهم يرقص على ألحان العيطة وينتشون حتى لو أنهم لا يفهمون ولا يستوضحون معنى بعض كلمات الأغنية العيطية..إنها عيطة “جعيدان”، عيطة الأبطال الشجعان..عيطة تذكرهم بأمجاد أسلافهم، كما تذكرهم بأيام طفولتهم، ومعاني صباهم، وهذه العيطة تهيج أشجانهم وتستثير آلامهم، وتذكرهم بنداء وطنهم..وكانت “الشيخة مليكة” تركز فيهم نظراتها وكأنها تريد أن تكتنز في مخيلتها تلك النظرة الاعجابية، لأنها كانت تعرف أن نظراتهم لها بالنهار، تحمل نظرات الشماتة والنبذ..كان صوتها نادبا نائحا متماشيا ومتناغما مع نواح كمنجة الشيخ العريبي”، وكانت تتغنى بنضال شجعان مدينة وادي زم ومدينة أبي الجعد والضواحي، في المقاومة وصد العدو المستعمر، ذات تاريخ بعيد قريب.. وتغنت بعدد الشهداء الذين سقطوا في ساحة الحرب وبقيت جثثهم لقمة للأطيار، وذكرتهم بنضال ومقاومة الشهيد “بنداوود”، الذي خلدته العيطة بكنيته “دويدة الشيباني”، كما خلدت هذه المرثية الخالدة الخونة الأشرار والمناضلين المقاومين الأبرار..غنت “مليكة” حتى تهدج صوتها، من جراء الشرب والغناء في مقام موسيقي عال، وكأنها تريد أن يسمع الجميع صوتها وعيطتها..وتحول على إثر هذه “العيطة الوادزامية”، فضاء الخيمة إلى صخب مرح ومجنون ومعربد..وجلجلت الزغاريد والهتافات..كانت الأغنية حماسية مؤثرة يعتبرونها موروثا تركه أجدادهم، تذكرهم الشيخة فيها بمجد وطنهم وتاريخه العظيم، وشهامة أجدادهم وبطولاتهم في المقاومة ضد المستعمر..يوم كانت الشيخة بكلامها الموزون تستنهض الهمم، وتستثير حفائظ النفوس، وتستحيي ميت العزائم، وتهيج عاطفة الثأر والانتقام في نفوس الرجال والنساء، وكأنها تلقي نشيدا من أناشيد الحرية، “عيطة ملالية”، يستظهرونها ويغنونها في ملاعبهم وأعراسهم ومحافلهم وأعيادهم..يتقاسمون المتعة وشغف ماضي الأجداد..هي عادات محلية توارثوها على وقع أنغام الماضي..
نزع “البوهالي ولد المهاوشة” عمامته الخضراء، ولف شالها حول وسطه، وأخذ يرقص في عنف رقصا متناغما مع ايقاع وألحان العيطة، كانت رقصاته جنونية لا تتفق وكبر سنه، ونزع عمامته من حزامه، وطوق بها عنق الشيخة “مليكة”، وقد لامست لحيته البيضاء الكثيفة بشرة وجهها البضة الناعمة، وراحا يرقصان ويتراقصان، تمسكه من لحيته، يطوقها بذراعيه ولحيته الكثة تكاد تلامس وجهها النضر، تنظر في عينيه وينظر في عينيها، يقف بين الحين والآخر ويطلق حنحنة عالية شبيهة بصهيل حصان، ويصدح بصوته الحاد، صوت قوي النبرات يهزأ بالسنين التي عاشها في هذه الدنيا:
– واك واك يا عباد الله..راه مكاين غير الله. والله يغفر لينا..
كان هو الآخر راقصا بارعا، يرقص ويقفز ثملا بخمر عيطة الأجداد والنشوة والفرح، وكان منظرهما شبيها بجواد أصيل يلاعب مهرة جامحة. شيخ راقص يلاعب الشيخة الحسناء، ينعش كهولته بشبابها، ويوهج جمر خريفه بزهر ربيعها.. رقص يحكي التاريخ ويتحدى السنين، والناس من حَولهما يصفقون تصفيقا توقيعيا تماشيا مع الإيقاع السريع الصاخب.. فعلت أصوات الصاخبين، والصائحين، والمستحسنين، والمستهجنين، وذهب كل في صيحته المذهب الذي يراه..
يزداد الجو حرارة داخل الخيمة، الإيقاع الشرس يزداد حدة، كانت الكمنجة تنتحب، ووقع قرع “البنادير” الأجش يدعم ثورة الغناء وفورة الرقص، وتعالت الأنغام وارتجت الخيمة بالرقصات وتصاعدت الغبار.. وتوقف رجل قصير القامة عن الرقص “الطحيشة الميلودي” ودس يده في جيبه، وأخرج رزمة من الأوراق المالية، ورفع يده في الهواء ملوحا بالنقود صائحا بلسان متلعثم:
– واك واك يا الحق، اللِي ما يعرفك يخسرك..والله يبيتها عند المغوبش.
ودنا من أذن الشيخ الكومنجي وطلب منه أن يعود بموسيقاه إلى عيطة الشجعان الأبطال “عيطة جعيدان”، تلك العيطة الخالدة التي رسختها الشيخة الشاعرة الملالية الراحلة “مباركة لمبيهيشية”، وهي تحث الرجال والنساء على المقاومة والجهاد في سبيل الوطن..الجهاد في سبيل الأرض..وعادت الموسيقى من جديد إلى هذه العيطة وعادت معها الشيخة مليكة إلى الندبة والعيط:
فين أيامك يا بو كَروم…ع الحركة والخيل تعوم.
فين أيامك يا تخزريت…ياك لعدو كَال خزيت
كَالت ليكم بنت المعطي…غير ضربو وأنا نعطي
غير ضربو ولا تهربو…يلا هربتو ناخذ كَومي…
واش من والى يتوالى هاه..وهاو أهاو الرجا والرحمة في يد الله
وشاركها البعض في الغناء، ومنهم من يلوحون لها بأيديهم، وهم يتغنون بمرتية الأبطال، عيطة الشجعان..عيطة جعيدان..يتغنون بأنشودة الحرية والاستقلال، ويترنمون بالمعارك المشرقة التي عاشها آباءهم وأجدادهم، عيطة خالدة من امرأة ثائرة قاومت بشعرها الغزاة وهيجت أنفس أبناء الوطن البواسل..نساء ورجال وصبيان واجهوا الموت أبطالا لم يقعد بهم الضعف والهوان والفقر..إنها عيطة مرثية ستبقى خالدة تتوارثها الأجيال كما يتوارثون فن العيطة وركوب الخيل.

وقام شيخ آخر “بوعزة ولد الحاج الحسني” في عقده السادس، ذو بشرة قمحية وعينان عسليتان..يرتدي جلبابا أبيض ويضع فوق رأسه عمامة صفراء، يتأبط حقيبة يشدها بحزام جلدي مائل على صدره، أدخل يده في المحفظة وراح يخرج الأوراق المالية ويرشها على الشيخة مليكة وهي منتشية بقيمتها وقيمة العيطة التي تؤديها…منتشية بجمالها وغنائها وعيطتها..وتسابقت الشيخات تجمعن الأوراق المالية، كحمامات نثر لها الحب، وحمي وطيس الإيقاع الصاخب والرقص الماجن، وراح “احميدة السرغيني البجيقي”، عازف آلة الايقاع”الطعريجة” يقوم بحركات بهلوانية قردية، يقفز بوحشية وبوجه محتقن، يلقي بآلته الفخارية إلى الأعلى، يتدحرج ثم يمسكها ويعزف عليها دون أن يخرج عن الإيقاع، يرفع رأسه عاليا ويبتسم وكأن شيئا لم يقع، يبتسم وينحني للجمهور وعلى شفتيه ابتسامة النصر، يعيد الكرة مرتين، تركزت العيون عليه، استوى الإيقاع باللحن وبعد لحظة انسجام توقف بغتة، يخرج “الطعارجي” من جيبه ولاعة يشعلها ويسخن بها جلد آلته في حركات دائرية، وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة، يرجع الولاعة إلى جيبه، يمسح بعينيه الخيمة باسما في غبطة المرح والتحدي وإثبات المهارة، مرة كان صوت البندير يتردد مكظوما رتيبا ومرة كان ينفجر على حين غرة برشات متوترة مجنونة بينما صوت “الطعريجة” ينهمر من كل الأنحاء وفجأة تتوقف الموسيقى..ثوان من الصمت المطبق وإذا ب”الطعريجة” لوحدها تصدح بفرقعات كشهب من النار، انطلق القرع المتقطع الصادر من الطعريجة، واتسع شيئا فشيئا حتى أصبح مدويا متدفقا في الليل البهيم، كان العازف “الطعارجي” يطقطق على الطعريجة بوتيرة متسارعة، كجندي محاصر يطلق في استرسال آخر ما تبقى له من رصاصات، وكانت مليكة ترقص في تناغم مع طقطقات الطعريجة، واستأنفت الموسيقى من جديد وحمي الوطيس، وإذا بمليكة تشق طريقها بخفة في مشية راقصة عبر منعطفات خيالية هلامية تتوسط الحشد، تساير الطعريجة في نقراتها، ارتعش جسدها الريان في سباق محموم مع الإيقاع، وهي لا ترقص طربا، بل ترقص رقصة الطير المذبوح المتمرغ من شدة الألم ! قرعت البنادير داوية في سباق مع الزمن إلى نهاية الوصلة العيطية..

عاد “احميدة السرغيني الطعارجي”، وجلس بمكانه مزهوا بعمله الجبار، الذي شد الأنفاس، أخرج قنينة صغيرة مملوءة بتبغ “النفحة” أفرغ على ظهر يده قليلا من المسحوق، وسطره فوق ظهر كف اليد الممسكة بالطعريجة، استنشق منها أنفاسا متتالية، وعطس عطسا مترادفا مبلل بالدمع وسيلان الأنف، كنهاية وصلة نهيق حمار مغرم، تطاير رذاذ عطسه على من حوله فلم يبالي، ولا أحد منهم احتج، الأمر عادي بينهم..وأخرج من جيبه منديلا أفرغ فيه أنفه، واستأنف قرع الآلة، لاحقا بذلك “الوجبة العيطية الدايرة”، ولم يتوقف النشاط حتى جاء “الحاج عبد الله الفكاك”، ينادي لوجبة العشاء.
منتصف الليل، طرب الحاضرون أيما طرب، واستمر الفرح، نسي معه السكان بؤسهم، وقد خدرهم الرقص وسكرتهم أهازيج العيطة الممزوجة بشبق الشيخات الناشطات النشيطات، وعاشوا وقتا جميلا ممتعا نسوا فيه مشقة الأيام، وصراع الحياة في الحقول..
يتبع…..   

الاخبار العاجلة