رواية عيطة بيضاوية،” الجزء الأول الفصل الرابع”لعن شيخ العيطة الحسين السطاتي

جسر التواصل26 يوليو 2022آخر تحديث :
رواية عيطة بيضاوية،” الجزء الأول الفصل الرابع”لعن شيخ العيطة الحسين السطاتي

 شيخ العيطة الحسين السطاتي

كانت كثافة الدخان داخل الخيمة تشتد لحظة بعد أخرى، وكان الليل يمضي، والصخب يزداد، والضحكات تتعانق والكؤوس تدور، والجوارح تعتمل، والقلوب تتوجع، والأفواه تتأوه، وزعيق الأنغام يصم الآذان؛ الكمنجة تنوح، و البنادير تقرع في حركات انفعالية، و”احميدة السرغيني الطعارجي”، شاب موسيقي في الثلاثين من العمر، متوسط القامة قمحي البشرة، له شارب كث وعينان جاحظتان عسليتان، كان يرتدي قميصا أزرق وسروال أسود من التوب، وينتعل حذاء جلديا أبيض..يسترسل في قرع آلته ” الطعريجة”، وكأنه محارب في ساحة المعركة يطلق طلقات غادرة من مسدس رشاش.. قام “عباس البالة” من مكانه وقد تعدى الأربعين من العمر، عريض الوجه، جاحظ العينين، ضخم الأنف، لحيته على ما يبدو عمرها أسبوع، يرتدي معطفا ذو ألوان قزحية ربيعية مفتوحة، وعلى رأسه طاقية من خيوط صوفية فاقعة الحمرة، كجمرة مشتعلة، غضون جبهته وندوبا بها تزيد وجهه الشاحب قبحا.. ومن خلف صف الشيخات شق مكانا له بينهن محاولا الاندماج وفرض وجوده كراقص، بدأ يترنح ويتمايل، يرقص رقصا من إبداعه، كان يتلوى راقصا بحركات مثيرة أمام سلطانة الشيخات، الشيخة “مليكة الزريقة” بطريقة تثير الضحك، جسده يهتز، تخترقه ارتعاشات واختلاجات عميقة، تنم عن اندماجه الكلي في الصخب الراقص، وكأنه يرقص “الفلامينكَو” على إيقاعات العيطة.. لم يستطع أن يركز أفكاره وهو يرى صدرها النافر يعلو ويهبط ويتزلزل، أخرج من جيبه ورقة مالية من فئة مائة درهم، وضعها في حزامها، على مستوى البطن، هزت الشيخة “مليكة” يديها إلى شعرها الطويل جمعته وشدته بمشابك كانت قد خبأتها بعناية على مستوى الصدر، وبدأت تراقصه، كانت ترقص دون أن تعرف لماذا ترقص..قفطانها الأحمر فاقع اللون، يكشف أنوثتها.. ويبرز مفاتنها..وكان هو يرقص وعيناه مغمضتان وكأنه في حلم، ووجهه يسيل وجدا وانتشاء، وأخذ يرقص ويداه تتحركان في الفضاء مثل جناحي طائر يحوم على وجه الأرض بهدوء وأناة، وكانت تنظر إليه وتبتسم وكأنه حيوان نادر، ولحظة توقف عن الرقص ورفع يديه الغليظتين إلى رأسها، فقام بانتزاع المشابك التي تضم شعرها الطويل واحدا بعد الآخر ليتركه ينسدل كستنائيا على كتفيها وتعدى خلف ركبتيها إلى ساقيها، وبدا منتشيا وهو يلامس بعض من خصلاتها، واستأنف رقصه ناشرا في المكان رائحة عرقه الفظة النافذة..وكانت تبدو له “مليكة” لحظتها كممثلة هندية بأصباغ لامعة، وكان يتخيل نفسه كبطل من أبطال السينما وهو يراقصها، رفع رأسه إليها مظهرا فما مشوها بآثار الجراح كأنه فم ثور وحشي، يزيده هولا شاربان كثان، وقد بدأت أبخرة الخمر تدور في رأسه، رفع إليها وجها نحاسيا يلمع بقطرات العرق، وحدق في وجهها بتمعن، فكانت تظهر إليه لحظتها وكأنها ملاك طرد من الجنة إلى جحيم النار والعذاب في برزخ العيطة.. ثم مد حنكه المزغب رقع إلى وجهها النضر المصقول متلفظا:
– حوبيني..حوبيني.. راك كويتيني وشويتيني يا ميليكة..
توقفت عن الرقص والحركة وتفرست في وجهه متأملة آثار الجدري القديمة المتناثرة على خديه وجبينه ممتزجة بتجعدات، فبدا لها كخرقة بالية متسخة، ولو انفتح باب العرش أمام بدوي بائس في ليلة القدر، لما شعر بذلك الفرح الذي هزه في تلك اللحظة وهي تلثمه في خده، قبلته قبلة صامتة لا صوت لها..مد لها الخد الآخر وفمه يسيل لعابا، لكنها هذه المرة أبعدت وجهها عنه وصدته، خلل يديه في شعرها محاولا مداعبتها لكنها رفضت نزقه، صارخة في وجهه:
– طلق مني ..بعد علي. ودفعت وجهه بيدها البضة المنقوشة بالحناء.

هز عينيه الجاحظتين إليها، وحاول أن يثور في وجهها، ويصب عليها جام غضبه، ثم أمسك بذراعها في قسوة عازما على صفعها، لكنه لم يستطع، رمته بسهام عينيها الفيروزيتين فنسي نفسه، وذاب غضبه، وانطفأت شعلة ثورته عندما أحس بملمس جسدها البض، فتراخت قبضته، فأشاح بوجهه عنها ومسح بعينيه الخيمة، ثم قال بنبرة أقرب ما تكون إلى نباح الكلاب بصوت أجش متهدج.
– واك واك يا الحق، الله ينعل بو الوقت. الله ينعل بو النشاط، واللي ما عرفك خسرك…
تنفس بعمق وهز عينيه منومتين وعاد يصرخ بصوت عال:
– والله يعطينا الشتا..وسير يا الجفاف لماريكان. عبارات تتردد على لسانه كثيرا كلما بدأت نشوة “الكيف” و”الماحيا” تتصاعد إلى رأسه وتسري إلى سائر أعضاء جسمه.. وهو يتراقص ويتمايل، ألقى بنظرة خاطفة على وجوه الجالسين وعلى محيطه بعين لا تعط اعتبارا لأي شيء، ناداه أحد الجالسين وكأنما أفرغ على رأسه دلو ماء بارد:
-“وأنت جلس يا عباس، نعل الشيطان وكون تحشم، بقا ليك ع الشطيح والرديح”.
رمقه عباس بنظرة حقد وتحدي قائلا:
– ماسوقكش..ديها في سوق راسك.. حتى يكون عرس اختك وهاديك الساعة تكلم”.
رد عليه معقبا على شطحاته في استخفاف ظاهر:
– “وأنت اجلس وهنينا أش داك للشطيح، خلي الشيخات يلعبو، أنت عينيك خارجات كيف الكلب اللي قاجاه الدفة “
ضحكت زمرة من المتفرجين، ولم يتقبل”عباس البالة” الإهانة، ركل بقدمه منتقده في الرقص، ونزع الطاقية من فوق رأسه وخبطها على الأرض، وحملها، ونفضها بيده، ثم أعادها إلى مكانها، وظل واقفا في طوله المتجرد، والعيون مصوبة إليه وتلاحق الشيخة مليكة، وهي ترتفع راية للجنس والكبرياء، إذ لن تصمد أمامها ذكورة أي رجل بالخيمة، وكان بمجرد أن تحط عيناه على عينيها تندفع دماؤه هادرة في شرايينه، وتود شفتاه اقتناص شفتيها وطرحها أمام الأنظار..إذ كانت الشيخة مليكة في تلك الليلة، هي تلك النجمة المشعة في سماء الخيمة..وعاد إلى مكانه تحت وطأة الضغط، ضغط الأجسام ونهر الأفواه، الكثيرون يطلبون منه أن يجلس..كان كل واحد منهم يريد مليكة له وحده..ولما جلس “عباس البالة” عاد للشرب من جديد لم يبالي بمنتقديه، فهو يعتبرهم حسادا غيورين، عاد يرقص بيديه ورأسه وهو جالس مزهوا يترنح، مفتخرا بعمله الجبار، فرقصه مع مليكة وتقبيلها له يعني له الشيء الكثير، لقد حقق انجازا مهما عجز الكثيرون على تحقيقه، ويعتبر قيمة مضافة في سيرته الذاتية بالقبيلة، وكان يترنح برأسه يمنة ويسرة تماشيا مع أنغام العيطة، ترى أيترنح من جراء مفعول مسكر ماء الحياة الذي أفرط في شربه، أم سريان سم العيطة في شرايينه، أم متأسفا على مبلغ مائة درهم شقاء عمل أسبوع غصبته منه الشيخة “مليكة”، وضاع منه في لمحة بصر وفي لحظة غواية وتبجح.
الوجوه تطفح بالبِشر، الأطفال الصغار يشاغبون بباب الخيمة، الشيخات يواصلون عروضهن الراقصة بايحاءات جنسية..وقد اشتد لهيب النشاط في الوصلة الراقصة، لكن فجأة سينقطع الوتر الأول للكمنجة إذ لم يحتمل كثرة الحك والجر، إلا أن الشيخة مليكة المتمرسة بفنون الفرجة العيطية، أنقدت الموقف بدخولها في خاتمة عيطية “سوسة” من “العيطة الحوزية”، وتبعتها الجوقة في صيحتها وهي تعيط بصوت نائح نادب في إيقاع ختامي متسارع:
الله يا سيدي كان شفناه ولا ريناه…غير حركَونا بالباطل حيث شافونا حطينا حداه
سيادي ساعة مباركة فاش تلاقينا….تلاقينا وتاوينا وتفقنا عليه
آه هاه .. آه هاه .. آه هاه .. آه هاه .. آه هاه .. آه هاه . آه هاه . آه هاه . آه هاه . آ لعزيز على ميمتو عمرو ما يتخص.

وخمدت نار النشاط، توقف الموسيقيون عن العزف، وارتاحت الآذان من الضجيج وجلس الراقصون، والشيخات الراقصات، وراح الشيخ “العربي الخيراني” يصلح العطب وذلك بتعويض الوتر المقطع بوتر آخر، وأخذت الشيخات والموسيقيين فترة استراحة، الخيمة مفعمة برائحة السجائر والكيف والخمور والمخدرات والأدخنة..صارت الخيمة فضاء للعربدة والعبث، كأنها جلبة زنوج في يوم عيد غجري، التلاسن والتنابز بالألقاب، والصراخ والضحك، ورائحة الأقدام الممزوجة برائحة العرق تختفي خلف روائح العطر الرخيص وروائع الحديث..
وبعد ربع ساعة استأنفت “رباعة الشيخات” نشاطها، واندفع بعض الرجال والشيخات إلى حلبة الرقص، وامتطت الأجساد صهوات الأنغام..ومضت ساعات الليل الأولى في غناء ورقص وإغراء وإغواء،..ووسط الجمع الغفير كان الشاب الدركي “عبد العزيز” لافتا للانتباه، وهو الشخصية البارزة في الحفل، بعد الحضوة المتميزة التي تحضى بها الشيخة مليكة، كان يجلس وسط شلة من خيرة أبناء الدوار حول مائدة زينت بأنواع المشروبات الكحولية، من نبيد أحمر وأبيض، وقناني الجعة، وشمبانيا استقدمها معه من شمال المملكة..لم يعد يرضى بشرب “الماحيا”..إذ ليس من المعقول بل غير مقبول أن يشرب دركيا خمرا رخيصة..وهو شاب في السادسة والعشرين من العمر، طويل القامة، قوي البنية، يميز وجهه البيضوي شارب كث طويل، وجحوظ عينيه العسليتين المخلوطتين بالاحمرار، وأنف مفلطح، وصعود شعيرات من حاجبيه طائشة إلى أعلى، هذا إلى نظرة قلقة متقلبة يوحي بريقها بالتحدي والسخرية..كان في إجازة عمل، فهو دركي “جدارمي” حديث التخرج في الوظيفة العمومية، حيت يعمل ضابط صف للدرك الملكي برتبة رقيب، ولم يتعدى عمر خدمته بعد سنتي التدريب سوى ثلاثة سنوات بكوكبة الدراجات النارية، وعلى الرغم من أنه دركي برتبة رقيب لكن دخله الشهري حسب قوله يعادل دخل وزير مغربي.. وكما يقول ويفتخر أن الوظيفة العمومية في البلد حظوظ، والشمال المغربي كريم والمخدرات سخية..وكان تعيينه الأول بمدينة تطوان، ليس بضربة حظ بل صفقة أبرمها مع “كولونيل” ابن بلدته بوادي زم وقريبا له بالقيادة العليا كان وسيطا وشفيعا له..وخلال هذه المدة القصيرة في الوظيفة العمومية، استطاع أن يشتري منزلا فخما بمدينة وادي زم، وصار يملك سيارة من نوع “مرسدس 190″، بيضاء اللون، واشترى أربعة هكتارات من الأرض بمنطقة “السماعلة” بضواحي مدينة وادي زم، فهو بالنسبة للكثيرين مثالا يحتدا به بالمنطقة ..مثالا للشباب ونموذجا للابن المجتهد البار لوالديه والعاق لوطنه، وكان في تلك اللحظة يشرب ويتكلم كثيرا بصوت عال أجش، وكانت تحيط به وسط الخيمة شلة كبيرة من الرجال وبينهم بعض الأطفال يصغون إليه في إمعان واهتمام وهو يحكي لهم مغامراته الدركية على الطريق، كان له عشرات من القصص الغرامية ومغامراته البوليسية، وكانوا يحيطون به كالتلامذة الصغار يشاركونه الشرب ويستمعون إلى حكاياته العذبة ومغامراته المثيرة، وهو يحكي، ويعلق، ويضحك، ويقذف الشيخات بالكلمات البذيئة كما يقذفهم بالأوراق المالية، والمتجمعين حوله ينظرون إليه في دهشة، كان يوضح لهم في حماسة كيف يحارب تجار المخدرات الكبار، وكيف يلقي القبض عليهم ويحجز كميات الحشيش بالأطنان على مثن الشاحنات..وكيف يغري بوسامته وأمواله وبدلته الدركية الفتيات وحتى النساء المحصنات..فكان البعض يتصور تلك الروايات بأنها حقيقية رغم عدم تماسكها، والبعض الآخر يعرف أنه يكذب وينسج قصصا من الخيال غير قادر على حبكها لتصير مقبولة عند المتلقي..وكان بين الفينة والأخرى يبرز حافظة نقوده الكبيرة المنتفخة ويستخرج منها ورقة مالية ويرمي بها إلى إحدى الشيخات، ثم يواصل الحديث عن مغامراته الدركية..وتارة يسلم الورقة المالية لأحد مجالسيه لينوب عنه بأن يضعها للشيخة في الحزام أو بين النهدين..وقد شرب حتى سكر وانبعثت النشوة في دمه فاهتز طربا وقهقه ضاحكا ونسي صفته المخزنية الدركية، وداخلته رقة فملأت نسائم الأريحية فؤاده، ولم يلبث أن نازعه شوقه القديم إلى الرقص، وكان قبل توظيفه يهوى الرقص واللعب مع “عبيدات الرمى” والشيخات، فلم يعص شوقه ونهض بجسمه الطويل الفارع وقد أخذ منه السكر..وألحت عليه شهوة الظهور والإعلان عن النعمة والسلطة، فأخرج رزمة أوراق مالية وهو يترنح ويتمايل، وراح يطوف على أفراد المجموعة الموسيقية المنشطة واحدا واحدا، يعلق لكل واحد منهم ورقة بنكية من فئة مائة إلى مأتي درهم، أما الشيخات فكان حظهن الأوفر، لكل واحدة منهن خمسة أوراق مالية من فئة مأتين درهم..أما عن الشيخة “مليكة”، فكان لها حظ اللبوءة من كرمه وسخائه، ثم وقف قبالة الشيخ “الكوامنجي”، وقفة الانتباه العسكرية ورفع يده اليسرى عاليا في إشارة للتوقف وكأنه في مهمة طرقية دركية يرغب في إيقاف حافلة على قارعة الطريق، وتوقفت الموسيقى ليتوجه إلى الشيخ ا”لكوامنجي” آمرا بصوت أجش:
– اسمع يا “با العربي”، وااا الشيخ..اليوم بغيتك تبرد ليا الكَلب، مرمد ليا الشيخات..العيطة والقعدة حتى يصبح الحال.

وأخرج ورقة مالية من فئة مائة درهم، وتقبها من الوسط وعلقها برأس الكمنجة، وأضاف آمرا:
– “متنساش تدير ليا ديك العيطة ديال جعيدان”.
وصفق البعض لهذا الأمر الرائع، وهللت الوجوه فرحا، وإلتفت الدركي عبد العزيز، وناد على “قنينيفة” عدو الأطفال، فقدم إليه مسرعا مطيعا وعصاه الطويلة الغليظة بيمناه، فنظر إليه الدركي مليا ووضع في يده ورقة مالية من فئة مائة درهم، وهو يقول:
– خذ هذه لك..وأرحنا من ضجيج الأطفال.
وأمسك “قنينيفة” بالورقة المالية، وطفح وجهه بالبشر، ودعا له بالخير وطول العمر، وما كانت ثمة قوة في الوجود تستطيع أن تمنع الدركي الكريم من المنح والعطاء في تلك الساعة، وتوجه “قنينيفة” إلى الأطفال يهش عليهم بعصاه ويأمرهم بالجلوس والسكوت، إن أرادوا أن يبقوا داخل الخيمة..وبأمر من “الحاج الفكاك” صاحب العرس، جلس الواقفون، ليبقى “الجدارمي” الكريم لوحده يرقص ثملا وسط الشيخات، والشيخ “العريي الخيراني” منتشيا وملامح وجهه كلها تضحك، ليدخل بذلك في عيطة “الوجبة الدايرة” في “الحساب الزعري” إكراما “للسي عبد العزيز الجدارمي”، وتتناوب الشيخات في مدحه ومجاملته، واقترب الدركي بمحاذاة الشيخة مليكة، فرنت إليه من خلال أهدابها الطويلة المكحلة، وكانت فعلا فاتنة لا يستطيع رجل في الخيمة مقاومتها، ونظر إليها الدركي في هدوء بعينيه الجاحظتين، وعلى فمه العريض ابتسامة كبيرة، واتستهلت “مليكة” عيطة “الحَب الزعري” ببحتها الحادة صادحة نائحة:
سعدي بالجدارمية…مهلين فيًا
وليدات الدرك….يطحنو باباك
نبات مع المخزن…ولا ع نموت احسن
لا سماحة للاجودان….اللي دارني سكران
ليرد عليها الشيخ “العريبي” ببحته التخيمة الخروفية، آمرا ناصحا:
شدي في الموطار…فيه ما يدار
صحاب الموطورات….كَاع كَريمات
العطار والموطار….رفاكَتهم خطار
الموطار والفقيه…..لا ثيقو فيه..
وبصوت تخيم أجش يختم الفنان صاحب البندير “الشيخ صويلح زميم” الوصلة الزعرية:
ويا بابا ما تعايرنا وياسيدي ما تخاصمنا…..الخلعة مو لبزازل بغات بورطابل
تلتفت إليه الشيخة مليكة وتجيبه في الحين مبتسمة: “واشريه ليها”.
وكان الدركي “عبد العزيز” يرقص نشوانا، ممتلأ النفس ثقة وطمأنينة وسعادة، وكان بين لحظة وأخرى يبرز حافظته ويستخرج منها ورقة مالية، ويرمي بها أمام الشيخات، ليتسابقن في مرارة ومهارة لالتقاط الورقة المالية، كن يتسابقن لالتقاط الأوراق المالية كالحمامات التي تتجرأ من شدة جوعها على تلقف الحب المتناثر حدو الأقدام.. وكان الدركي ينتشي ويضحك، والجمهور من حوله يستمتع بالمشهد. ودنا من “مليكة”، وتعمد أن يجعلها تلاحظ أن حافظة نقوده حافلة بأوراق النقد الجديدة من فئات مختلفة ألوانها وقيمتها…أخرج بعضها وأخذ يرشها فوق ٍرأسها منتشيا..ثم أخرج من جيبه هاتفه المحمول وحيد القرن أسود اللون من نوع “ألكاتيل”، بيده اليمنى، ووضع الهاتف على أذنه، وبيده اليسرى أمسك بالعمود زمام الخيمة “الركيزة”، وراح يجري اتصالا هاتفيا كان يرفع صوته فوق صوت الكمنجة والشيخات، وهو يخاطب المتصل بصوت مرتفع، ليخبره من ضمن كلامه أنه في ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة.
أمام كرم الدركي الحاتمي، حمي وطيس الإيقاع الموسيقي من جديد، وإزداد نشاط الفرقة المنشطة، استرسل الشيخ الكوامنجي “العريبي الخيراني” في ألحان سريعة بكمانه الصادحة النائحة، تصحبها الإيقاعات الصاخبة في موسيقى راقصة من وصلة موسيقى “الخيلاز”، تتقابل الشيخات الأربعة في موجة الرقص، شيخات فنانات، فاتنات، بوجوه مصبوغة ملطخة بآخر تقليعات مساحيق التجميل التي أصبحت تتفوق على الجراحة التجميلية علها تخفي ندوب الصورة بعد أن فشلت الآلات الالكترونية في تغطية بشاعة الصوت.. سكارى يقهقهون ويمرحون وبين الفينة والأخرى يتحسسون مناطق من أجساد الشيخات في نشوة ولذة وكأنما يفحصون ماشية معروضة للبيع..تتوسطهن الشيخة “مليكة” برشاقتها وخفتها، والجمهور يصوب عيونه عليها، يحثها على الرقص، ويأمرها بالجد في عملها..ذلك الجمهور المتعطش لهاته الليلة، والذي يشيد بأدائها وبجمالها ونظراتها التي يعشقها الشيخ قبل الشاب، وتلك النظرات الناعسة التي كانت توزعها بلا عدل وبلا رحمة.. كانت ترقص بوحشية على نحيب الكمنجة وألحان البنادير الداوية..ترقص، تشطح، تتشقلب، ثم تتمدد على الأرض، وقد اندفع في جسمها نشاط لم تستطع كبحه، كانت تتمرغ وتتدحرج يمينا وشمالا تماشيا مع أنغام الموسيقى..كانت تتلوى وهي تتمرغ وترقص رقصة الطير المدبوح وفؤادها يتمزق لوعة وأسى. لا تهن ولا تفتر ولا تستعفي ولا تعتذر.. وليس من حقها أن تجادل أو ترفض..هي التي ولدت في مهد الشقاء ونشأت في حجر البؤس والآلام..قد يحاسبونها على الضعف والعجز والحياء والعياء والخجل والاحتشام، يسوقونها إلى الإثم والرذيلة وهم يدًعون الطهرانية والفضيلة، يدعون أنهم مجتمع محافظ، فهي كومة القش التي اتهموها أنها تخفي الإبرة كي يحرقوها.. يكرمونها ويشجعونها على الغناء والرقص..ويحاسبونها محاسبة القاضي للمجرمين على الذنوب والآثام..هي التي احتقرها رجل فاحتقرت كل الرجال، تهزأ منهم وتسخر بهم، إنها تريدهم أشباحا بين يديها..كتلك الألعاب التي يلهو بها الأطفال، ثم يقذفونها بعيدا بعد مرور دقائق معدودة وهم يشعرون بالملل، لقد صار كل الرجال بالنسبة إليها بمثابة آلات مجردة من كل روح…كانت تحتقرهم وتسعد بإذلالهم..ولم يستطع أي أحد منهم أن يحادثها في الخيمة دون أن يشتهيها، أو ينظر إليها دون أن يُدوِر عينيه حول نهديها وبشرتها البيضاء الحليبية، وينزل بهما حتى قدميها.. كانت عيناها في تلك اللحظة تبدوان خضراوين بلون خضرة الغابة تحت النور المتراقص.كما بدت حافات رموشها متألقة، أما شفتاها فكانتا زاهيتين بلون النبيذ الذي أكثرت من احتسائه من كرم معجبيها..

واندفع “الحساك ولد صيكوك” وسط ساحة الرقص، وهو رجل قوي البنيان، واضح العنف، قمحي البشرة، يرتدي قميصا أزرق اللون، وسروال جينز أزرق تناه حتى الركبتين، حل أزرار ياقة قميصه وشمر على ساعديه..كان يبدو في الثلاثينات من عمره، لا يخلو وجهه من وسامة محببة، أفسدها شعره الأكرث الأشعث، وأخفتها نظراته النارية، التي تصعب مواجهتها، كان حافي القدمين، وصعد فوق آنية الرقص “القعدة”، وأخذ يرقص ويداه مشبكتان خلف ظهره، وعيناه مصوبتان إلى الشيخة مليكة، وكان رقصه عشوائيا لا يتناغم مع لحن وإيقاع الموسيقى العيطية، وكان يرقص فوق “القعدة” ويدق بقدميه في غير تناغم وكأنه يغسل الصوف على صخرة الوادي..فأنزلوه من فوق “القعدة” وهو يبرجم غاضبا:
– خليوني حتى أنا نشطح، نبرد غدايدي ..ولا والله لا شطح واحد.
وتقدم إليه صاحب العرس “الحاج عبد الله الفكاك”، فعانقه ولثم رأسه بقبلة حانية، ارتخت لها أوصال “ولد صيكوك”، وعاد يجلس مكانه ليكمل شرب الماحيا. وصعدت مليكة فوق القعدة، وراحت ترقص في غواية ..وفي رقصها تموجات من النداوة ترخي بشبقها المغري..كانت تبدو كالزهرة الندية التي تتفتق حيوية ونضارة.. وكانت هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليه وعقله وجميع حواسه ومشاعره، في كل حركة من حركاتها، وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها غنج ودلال، تتمختر في قفطانها الأحمر كالوردة الحمراء النظرة الناعمة التي تكمن حية الشهوة السامة بين أوراقها، إنها شيخة فاتنة، ذكية وقوية.. تحب الأذكياء والأقوياء..أصحاب النفوذ والشخصيات القوية..تحب الأقوياء كي تجرب تأثير سحرها وجمالها عليهم، تحب الأقوياء كي تحيلهم إلى عبيد أذلاء.. وكانوا في تلك اللحظة عبيدا لها، تأمرهم فيطيعون وهي تتلذذ حينما يتراقصون ويتقافزون أمامها كالفراشات وهي تحوم حول النار في فرح..وتنتشي أكثر عندما تراهم يحترقون..أجل يحترقون بسحر أنوتتها، وسحر ما تقدمه من فن العيطة ..فهي شيخة متكاملة، صوت وصورة، أناقة ورشاقة، منبوذة الكل ومعشوقة الكل، وقد يفوق عدد عشاقها في المنطقة عدد شعيرات رأسها..
وأخذت تشق طريقها وسط الخيمة في غنج ودلال ثم توقفت، وراحت ترقب أصحاب جلابيب ألوانها بين البني والأسود من الصوف الخشن يجلسون في ركن متصافين على الركب، كأنهم موكبا للعبيد يقدم فريضة الطاعة والخشوع للملكة، وكانت مليكة هي ملكتهم بل سلطانتهم في هذه الليلية.. وكل منهم يحاول أن يرفع عينيه إليها عله يحضى بابتسامة منها، وبعضهم يحاول أن يثير اهتمامها فيقف يجادل زميله بصوت مرتفع، أو يثير معركة مفتعلة ليظهر فيها تفوقه وبطولته أمام الشيخة مليكة، وآخر يلقي بنكتة بصوت مسموع علها تضحك لها..وكان يعجبها ذلك، وتتلذذ بهم وهم يتصارعون أو يتخاصمون حولها..كانت تتقبل تصرفاتهم بابتسامات متكسرة راضية..فهي تعلم أن كل ما يفعله المتفرجون هو نتيجة سحرها، وكل ما يبدلونه إنما يبدلونه لها، بل إنها تعلم أن خيمة العرس امتلأت عن آخرها وبجنباتها وخارجها بسببها هي، وتعلم أكثر من ذلك، فهي تعلم أنها أكثر بنات المنطقة جمالا وفتنة، وأنها حلم شبابها ومطمع رجالها، وحسرة شيوخها، وتعلم أيضا أنها مثار أحاديث نساء ورجال “عين قيشر” و”وادي زم” و”أبي الجعد” وخريبكَة..
*******
الفصل الخامس
وتمر الساعة وكأنها دقائق معدودة وسط هذا الجو اللاهي، اشتد الهرج والمرج ومضى الوقت مُنسرِقا، وحلى الدفء والسمر.. طرب الجميع طويلا وشربوا كثيرا، فدارت رؤوس وثرثرت ألسنة كتومة، وفاضت الأحاديث، وامتلأ الجو برنين الضحكات ووميض الابتسامات وإيماءات الغزل، والتقت أعين وتماست أنامل وارتعشت شفاه.. إنها ليلة مشهودة في تاريخ القبيلة قلت نظيرتها، وبعد فترة استراحة قصيرة، استأنفت الفرقة الموسيقية “رباعة الشيخات” نشاطها..الشيخ الكمنجي “العربي الخيراني” يقسم على آلته تقاسيم حزينة، والمغني “صويلح زميم” يضع البندير على ركبته اليسرى ويردد المواويل بنبرة شجن عن الدهر، وقسوة الزمان وعن الأشواق والخلان..ثم دخلت الفرقة الموسيقية من جديد في وصلة موسيقية راقصة جديدة.. وكان الجميع في حبور وسعادة انشرحت لها السرائر، وكانت “مليكة” ترقص وتبتسم في ثقة من أشعل الفتيل وأوقع الجميع تحت سطوته، كانت شعلة متوقدة من النشاط، وجهها بشوش مرح، وتبدو أصغر الشيخات، لها رشاقة المهرة، كالمغناطيس اللامع الجذاب الذي يستهوي قلب المتعطش الناظر إليه.. كانت ترقص بطريقة احترافية تخلب الألباب، وكان جسدها شهيا، يثير الشهوات الدفينة، وكانت في قفطانها الأحمر القاني كوردة حمراء وسط فيلق من قبيلة الهنود الحمر، وكانوا يلاحقون قامتها الممشوقة بنظراتهم المسحورة، وكان كثير منهم يلقي بذراعه على كتف صاحبه، وهم يتابعون رقصها وشطحاتها اللولبية والأفعوانية، وتلك الاهتزازات التي تقطر حلاوة في الردفين والبطن..كانت تلولب بطنها كأمواج بحر هادرة، وتحت قفطانها الأحمر كانت تظهر أمواجا أخرى لها حركة مستترة تبرز في الردفين الممتلئتين، والنهدين النافرتين، والفخذ الذي يظهر أبيضا حليبيا، والعنق يرتفع ملفوفا من فتحة القفطان الأحمر الأرجواني، والأظافر الحمر المدببة تنمو في اللحم الأبيض للأصابع الرطبة كالسلاح يطل في غمده..فهي الفريسة القادرة على الافتراس وهي اللبوءة التي تعيش على الاقتناص..وكانت وقتئذ ترقص أمامهم رقصة المهرة الجامحة، وفؤادها يتمزق لوعة وأسى، خارجها لا يعبر عن داخلها.. هي التي رقصت في كثير من الأعراس ولم تكن يوما عروسا..وكان البعض منهم يحملون الكؤوس ويلوحون بها ذات الشمال وذات اليمين، تلويحا مصحوبا بصرخات أشبه بالنداء على الأم، وكانت هي ترد على استغاثاتهم ونداءاتهم بصوت حنحنة رقيقة مقلدة صهيل فرس جامحة..ولكن اهتمامها كان مركزا في هاته اللحظة على مائدة “بوعزة الموسطاج ولد بوطربوش”، الذي كان ينهض ويرفع كأسه إلى أعلى، تحية لها كلما ابتسمت له من بعيد، وأرسلت له على أطراف أصابعها قبلة بسماء الخيمة الملبدة بغيوم الدخان، فيبرم طرف شاربه الكث ثم يهتف صارخا بصوت أجش:
-واه ميمتي ميمتي، حيطمتني بنت الكافرة بالله.


جرع كأس الخمر في جرعة واحدة، ورج رأسه، أغمض عينيه وتلمظ، تجشأ وحمد ربه عن شربه للخمر، وشكر الله الذي أحياه حتى عاش هاته اللحظات المباركة السعيدة.. ثم استطرد بصوت جهوري:
– عاش بوعزة الموسطاج لعاب الشيخات، وسير يا الجفاف للماريكان الله ينعل بوك. واااه ميمتي ميمتي.
ويهز عينيه جهة باب الخيمة، فيظهر له صاحب العرس “الحاج عبد الله الفكاك”، يلوح له بيده ويتلفظ بصوت عال يعلو فوق الضجيج مادحا مجاملا، واعدا اياه بالنجاح في الانتخابات الجماعية القادمة:
– وتبارك الله على با الحاج الفكاك، الله يجعل هذ الليلة في ميزان حسناتك، كلنا غادين نصوتو عليك نشاء الله. وأنت اللي غادي تكون ديما الريس ديالنا.
طرب “الحاج عبد الله الفكاك” لكلماته أيما طرب، إنه يمني نفسه بفترة رئاسية ثانية للجماعة القروية، الكل يعيش نشوة الفرح..والأنغام العيطية تنساب في وصلة موسيقى راقصة بإيقاع سريع وخفيف “وصلة الخيلاز”، والشيخة مليكة تؤدي وصلة المتعة العابرة في جد ومثابرة، وهي في تلك اللحظة ليست أما لأحد، بل حبيبة الكل، كانت في تلك اللحظة هي الأنثى الوحيدة التي أجمع جل الرجال في الخيمة على حبها، وانحنوا صاغرين أمام جمالها.. ومرت من أمام “بوعزة الموسطاج”، فمد يده يحاول الإمساك بها والعبث بتلابيبها، وكأنه يحاول أن يمسك حمامة وهي تبتعد منه وتتمنع عليه، تتأبى تأبيا أشبه بالإغراء منه بالامتناع..ولما انتهت الوصلة العيطية، كانت تبتسم للجميع، وهي توزع ابتساماتها الباذخة، كنحلة توزع شهدها، وقد سحرت المكان بسحرها الأنثوي الأخاذ، موسوعة عيطية تجمع فيها ما تفرق في غيرها من شيخات المنطقة؛ جمال الصورة، وخفة الحركة، وروعة الصوت وصدق العيطة..تجمع بين روعة الأداء في الغناء والرقص..تعالى لها التصفيق والهتاف وتشبت بها كثيرون، تلقفتها غمزات الشباب وهمسات الشيوخ ..ولكنها كانت تفلت منهم بدبلوماسية المهنة..وتوقفت الموسيقى مرة أخرى لفترة استراحة قصيرة..فحملت “الشيخة مليكة”، حقيبتها اليدوية وأخرجت منها أحمر شفاه، ورممت ما اسود من شفتين مكتنزتين مرتجفتين، اللتين بدلت السجائر بريقهما..وكانت عيون الرجال حولها جافة جاحظة، وبدا بعضها مبللا بدمع خفي..ثم نهضت وراحت تجول بين السكارى الذين كادوا يلتهمونها بنظراتهم النهمة..كانت قدماها البضتين مطرزتين بالحناء، فكانت تتخطر بين الحضور كحمامة أليفة، وكان جسدها ينثني كلما سارت في فجور لفت أنظار الرجال..وكانت ترمق الناظرين بعينين ينعكس النور على زرقتهما الصافية ! وكانت ترى نظرات الرجال النارية الشبقية..وهي سعيدة بتعذيبهم..فكانت تجلس بينهم وعيونهم تكاد تخلع عنها ثوبها، وكانت تتحمل أسئلتهم الساذجة وحديثهم الممل وكل منهم يصر على أنها صديقته في تلك الليلة..كانت تتلقى هداياهم المسمومة من سجائر وخمر..بابتسامات مصطنعة وفرح مُمثل، وكانت تلقي بالخمر في جوفها وكأنها تلقي بها في هاوية. ورغم ذلك لم يبدو عليها أي أثر للسكر ..لم تسكر ولم تترنح ولم يتلعثم لسانها، بل ازداد طلاقة وازدادت نشاطا وحيوية. فهي المرأة التي أحجم الرجال عن التقدم للزواج بها في الحلال، نظرا لجمالها الفاتن ودلعها الباذخ..وهم يخسرون عليها الكثير في الحرام، خوفا من تحمل نزواتها، وكثرة عشاقها..ربما اشتهاها البعض، بل إن الكل يشتهونها، وربما أحبها بعضهم، ولكن لا أحدا منهم يفكر بالزواج منها..كانت تشعر بأنها فتاة الخيمة الزرقاء، وحواء الليلة الحمراء..رعشة طفيفة دبت في أهدابها المسبلة، وجهها المتوهج الحلو الملامح يعكس عذابا دفينا هائلا تدفنه ظلمة الليل، ونواح الكمنجة مع ندبة الشيخات، ويخمده عبث السكارى ومرارة الكأس.
كان الليل في أوله، والقمر يظهر بين الفينة والأخرى، والسماء برغم الضجيج تحتها، إلا أنها تخلد إلى سكون القرية النائمة. تحت ضوء القمر الشاحب ونجمة الشمال المبرقة في كبد السماء، الخيمة تغلي من الداخل، الأجواف عطشى تطلب الارتواء.. سقاء الماء “الكَراب”، المسمى “سي عبسلام”، يسقي الماء يطفئ لهيب النار المستعرة في جوف من أحرقتهم الخمر ودلال مليكة وزميلاتها..وبين الفينة والأخرى يشارك “سي عبسلام الكَراب” الشيخات في الرقص..مما يضفي على المشهد لوحة فنية تراثية رائعة.. أطفال يجرون حول الخيمة ويتعثرون بأوتادها وبحبالها، وجوههم البريئة تعكس ضوءها الأصفر الشاحب، رجال كبار السن يجلسون حول موائد صغيرة، غير بعيدين عن الحفل، ولكنهم كانوا يتسللون الواحد بعد الآخر إلى الخيمة ليشاهدوا الشيخة مليكة وهي ترقص، وكل منهم يمني النفس بشيء منها، فقد شاع بينهم أنها شيخة حسناء وسهلة رغم جمالها، تمنح كل شيء لكل شخص، وما عليه سوى أن يدفع لها الثمن..وبداخل الخيمة رصعت الموائد؛ سجائر، مكسرات، خمور تحتها ومن فوقها..وفي سكون الليل المدلهم نحبت الكمان ودقت البنادير ولعلعة الطعريجة وغنت الشيخات، واستبق الفتيان إلى الرقص، وشمل الفرح الخيمة والناس جميعا..
برُد الطقس شيئا ما، في زاوية الخيمة يتربع “العلواني البصير” رجل كهل يربو على السبعين من العمر، ذو وجه قمحي متجعد مقدود، يرتدي جلبابين واحدة فوق الأخرى جلباب أسود فوق أبيض، ويحيط رأسه بعمامة بيضاء يثبتها بين الحين والآخر، برغم أنها مستقرة ترجح كفتها إذا وضعت في الميزان أمام جسمه وملابسه جميعا، كان يجلس كحاكم متنكر في ثياب العامة، وضع بجانبه عدة الكيف -(سكين وسبسي مزخرف من صنع غجر دوار أولاد نهار، علبة وقيد مازال محتفظا بها، ويفتخر بها، عليها صورة السبع الذي دجنه –حسب روايته- الشيخ “بويا رحال البودالي” وأهداه لشركة لوقيد، “مطوي” مزين من جلد ثعبان)- يشرع “العلواني لبصير” في قص أوراق سنابل الكيف، وأوراق “الطابا”، وبعد انتهاء العملية يملأ الغليون (السبسي) يشعله بعود الثقاب “وقيد السبع”، ودخن منه أنفاسا متتابعة، ثم سلمه إلى “هينوط ولد حميمصة”، المحترف في تدخين الكيف، وهو كهل في مثل سنه، أسود البشرة سواد زرزوري كالبن المحروق، وجهه كضفدعة مسنة، رأسه لا يتوقف عن الحركة، شفتاه غليظتين مرتخيتين قلما تنطبقان، حليق الرأس والذقن كعادة الكهنة المصريين القدامى، نحيل الجسم، تلوح من عينيه نظرة حادة، تهزأ من فعل السنين، يشع منها الخبث والمكر..وجهه المتجعد الغائر العينين، البارز العظام والممصوص الحنك..لم يدع للموت شيئا يلتهمه، منظره يدل على أن الإنسان كان أصله قردا في قديم الزمان، أصابع يديه معقوفة كالمسامير المعوجة..كان يرتدي جلبابا أزرق بل الذي كان أزرق، ممزق رقع، وسروال قندريسي رمادي اللون، ناوله الغليون ليبدي رأيه في جودة المسحوق المخدر..فراح يحدق في المسحوق بدعة وهو يحرك فمه الخالي من الأسنان كأنما يلوك شيئا وهميا، بقايا إنسان هدته عشبة القنب الهندي، إلتهمه “الكيف”، لكن مكره يفوق مكر كل ثعالب الدنيا، رشف جرعة من فنجان الشاي، ثم بدأ يعب الدخان، تتوهج مقدمة غليون السبسي المعقوفة، يقوس المدخن عينه الحولاء…أدنه تستمع لموسيقى العيطة وعينه على غليون السبسي، احتفظ بالدخان داخل صدره أكبر مدة، ثم نفث الدخان إلى الأعلى، أعاد الكرة مرتين، في استلذاذ ونشوة وغرورو وزر عينيه من شدة اللذة، كأنما يكرر شرح الدرس لتلاميذ كسالى أغبياء حوله..ثم نفخ في ثقب الغليون ليلقي الرماد شعلة متوهجة على قفطان الشيخة “رابحة” رغبة في حرقها، هي التي نفخت في رماد جمر مشاعره المحروقة فأشعلتها، وهو يشير إلى”العلواني البصير” بأصبعه جهة المسحوق، إنه الخبير بمفعول هذه المادة المخدرة وبكيفية تحضيرها، وتلفظ ناصحا:
– خاصاه نغيزة، زيد شوية طابا، درحيه، درحيه…
يتسلم العلواني البصير “السبسي”، يملأه بالمسحوق، وييشعل ويدخن في نشوة غامرة، وقفت أمامه الشيخة “رابحة” أو “ربوحة” كما يحلو لها أن ينادونها، طلبت منه في توسل وذل وتدلل أن يمدها بالعشبة، كانت الشيخة الوحيدة بالمنطقة سوداء البشرة مكتنزة، لونها بين السمرة والسواد لذا ينادونها ب “الشكيليطا”، وتارة ينادونها ب”الجدية” لقوة صوتها الصادح النائح.. عمرها مابين الخامسة والعشرين سنة والثلاثين، لكنها تبدو أكبر من سنها، كانت مليحة رغم بدانتها وسوادها، نجلاء العينين عسليتهما، متفلجة الأسنان، ذات ناب ذهبية، متنمصة الحواجب..ويزيدها القفطان الأحمر تأنقا، صدرها ناهد كاعب، وشعرها مصبوغ بلون أشقر جعلته بقصة مربعة طويلة “كاري ايفيلي”لم يكن ينسجم مع لون بشرتها الذي يميل إلى العسل، ممتلئة حد البدانة تكاد رقبتها تختفي، لكنها لا تتنازل عن تطويقها بالسلسلة الذهبية المزيفة “البلاكيور”، كأنها تبرز الحد الفاصل بين الرقبة وباقي مكونات الجسد الممتلئ عن آخره، كانت مرحة جدا، تضحك وتتضاحك، تتحف الحضور بقفشاتها السمجة ومستملحاتها التي لا تنتهي، وجمالها المصبوغ ليس أقل زيفا من حليها وسعادتها، سمراء تمرية لم يطمس الزواق سمرتها، وفي حنجرتها وتر يذكر من بعيد بموسيقى الجبال الأطلسية الشامخة..كان قفطانها الأحمر القاني يبدو جميلا فوق لونها البرونزي الأسمر الذي يناسب جسمها الممتلئ، وما يزال في شبابها المتحفز للرحيل بقايا من جمال إفريقي ناضج وأنوثة هامسة..هي الأخرى ضحية دكتاتورية ذكورية، وقد سبق وأن باعها زوج أمها إلى عجوز دفع أكثر..باعها بيع السلع وما هي من الرقيق..باعها لشيخ هرم مدبر، قلما يعنى بمثلها مثله، استلذ واستمتع بسمرتها الثمرية اللذيذة، أراد بها أن يزيل الرماد عن جمر شبابه الراحل، لكنه مات وتركها للصدمات وللأزمات..لتترمل بعد سنة من زواجها إذ لم تحتمل الشرايين الباردة لقلب زوجها المسن، غليان دمائها الحارة، فاستقال من الحياة راضيا بمسك الختام، كموت هانئ في حضن صبية سوداء غجرية..فدفنت كرامتها وهي مراهقة..لقد ماتت كرامتها منذ أن تزوجت الكهل..وها هي الآن بعد موته تدفن أنوثتها وسط أعقاب السجائر وكؤوس الخمر، والنظرات الشبقية للسكارى ولسهارى الليل..
سارت بخطى وئيدة بين الحضور، ومد لها “العلواني البصير” الغليون المملوء بمسحوق الكيف الممزوج بالطابا بعدما أشعله ومج منه نفسا عميقا، تلقفته منه في لهفة، وسرت به سرورا شيطانيا..فدخنته واقفة أنفاسا متلاحقة، وتألقت بشرتها السمراء تحت ومضات النور الأعمش فبدت بشرتها كأنها النبيذ وراء البلور..أرجعت له الغليون وتبسمت له وغمزته في إيماءة شكر وعرفان بالجميل..وهزت ذراعيها إلى الأعلى فسمعت خشخشة أساورها العديدة من الذهب المزيف “البلاكيور”، التي تلمع تحت ضوء الخيمة الشاحب، وكأنها عروس الزنوج تتحلى في قلائدها الدرية..واستدارت عنه ففغر فاه، تركته وسارت تتبختر وهي تهز وتراقص أعضاء جسدها المكتنز كأن كل قطعة تكاد تسقط عنه..حوضها العريض مفعما بالوعود..ولم يتمالك “العلواني البصير”، نفسه من العجب عندما مرت أمام عينيه عجيزتها التي كادت قمتها تبلغ منتصف ظهرها ويفيض أسفلها على فخديها، فكأنها كرة منطاد ! وابتعدت عنه في خطوات متمهلة راقصة ناءت بأرثال اللحم والشحم.. وهزت عينيها ملوحة إلى شيخها “الكومانجي”، أومأت إليه بإشارة من رأسها وعينيها تبرقان في تطلع..ففهم الشيخ “با العربي” الإشارة وسايرها العزف في وصلة “الحساب الزعري”، وهي تعيط وتتغزل، مادحة لون بشرتها العسلي مكسرة بذلك هاجس العنصرية بين البيض والسود في الأغنية العيطية :
– نعاس الكحلة …شحال كيحلا
– سعدي لكحل…ما لقيت ليه الحل
– حب لعزاوة…..داير غــــــزاوة
– بايتة نتمرمد…مع وليد العبد
– وخا ضراوي وعنطيز….في القليب عزيز.
في الركن الشمالي للخيمة يركن “عبد القادر ولد السركوح”، اسود البشرة، سواد غرابي، متلفع بسلهام بنفسجي باهت يبدو أنه صار من التحف النادرة، رجل خمسيني، أثلجت صدره كلماتها الداعرة المتغزلة بلونها وبلونه، يلوح إليها بيمناه التي تحمل كأسا مملوءة بمسكر “الماحيا” الممزوجة بكحول الحريق، رافعا ذراعه عاليا وكأنه تمثال الحرية، تقدمت نحوه في لهفة وخطفت منه الكأس وابتعدت عنه، وتجرعتها دفعة واحدة وتلمظت مذاقها في مرارة، ثم رمت له الكأس فارغة، وتلقف الكأس في حنكة حارس مرمى مدرب مبتسما في سعادة لقبولها هديته المسمومة، وكان حين يبتسم تفتر شفتاه عن فم لم يبق فيه إلا أسنان قليلة سوداء بلون الرماد، تشهد على الخراب الذي ألحقته به شراسة أيام الكيف والماحيا والعيطة ولياليهم الطويلة الكثيرة.. كان يضع إلى جانبه مدلجا بلاستيكيا، قنينة من سعة خمس لترات، مملوء بمسكر مادة ماء الحياة “الماحيا”، التي كان يبيعها بالتقسيط باللتر وبنصف اللتر، وبربع اللتر.. وهي مسكر من صنع محلي إنتاج دوار “أيت الصالح”…وعاد مرة أخرى يسلم الشيخة “رابحة” كأسا مملوءة بمسكر ماء الحياة، جرعته عبا وأغمضت عينيها ثم رجت رأسا رجا، ومدها أخوه “احميدة النعانعي” بغليون الكيف “، مجت منه أنفاسا متلاحقة، واحتفظت بالدخان بصدرها ثم أخرجته من أنفها بشكل نافوري ضاحكة مرحة، فهي تريد أن تتمتع في هذه الليلة…تريد أن تنسى ماضيها الذي يعذبها.. تريد أن تنهل من لذة الدنيا قبل أن يجف هذا الرمق..فتمسح الفضاء بعينيها العسليتين المنومتين وتضحك، وضحكتها تجلجل وسط الخيمة، كانت تُظهر لتخفي..تظهر ضحكاتها لتخفي أحزانها..بكاء في الداخل، وغناء من شفاه تتصنع الابتسامة..
هزت عينيها إلى عبد القادر ولد السركوح، وهي تغمزه في توسل إذ قالت في نغمة رجاء من خلال ابتسامة باهتة تتخللها كحة مبحوحة:
– الله يحفظك، خلي ليا رابعة ديال الماحيا، محتاجاها للدواء.
غير أن ضحكة مجلجلة في مؤخرة الخيمة جعلتها تحجم عن إكمال عبارتها، فقد دعا شخص ما من المدعوين، زميلها ” احميدة السرغيني الطعارجي” في نبرات تحد، إلى منازلة في احتساء مسكر “الماحيا” الممزوج بالليمونادا نوع “هاواي”، مقابل مبلغ مائة درهم، تسلمته منه الشيخة “وريدة” وهي الحكم بينهما في هذه المبارزة، فملأ له كوبا كبيرا “غراف” بسعة لتر واحد من المشروب المختلط المسكر، وراح “الطعارجي” يحتسي ما فيه دفعة واحدة وبأسرع ما يستطيع، ممسكا الكوب باليد اليمنى والطعريجة بمرفق ذراعه الأيسر، وتمكن من إفراغه في جوفه، وتعالت تصفيقات وهتافات التشجيع من حوله، وأغمض عينيه وزم شفتيه ثم رج رأسه، وتجشأ بصوت مسموح مرتين :
– كَع..كَع..الحمد لله.
حمد الله وشكره على شربه الخمر وفوزه في المبارزة، وانفرجت أسارير وجهه عن ابتسامة عريضة وسلمه الكأس، ومسح براحة يده اليمنى فمه وشاربه الكث العريض وذقنه، وأخذ من الشيخة الورقة المالية في نشوة وتحد أمام هتافات المحتشدين، وعلى اثر هذا الفوز العظيم منحت الشيخة “وريدة” قبلة طويلة لزميلها “الطعارجي”، قبلة تنم عن سعادة غامرة وعن تضامن الزمالة وفوز ناس العيطة في كل تحد، بعدها توقف “الطعارجي” ليندفع إلى الخارج بعد أن استبدت به حالة الغثيان والرغبة في التقيؤ.
واستأنفت المجموعة الغنائية الوصلة العيطية الزعرية، وتابعت معها الشيخة “رابحة” التغني بمفعول مخدر الكيف وسحر هذه النبتة، والكمنجة في يد الشيخ “العريبي الخيراني” تصدر نحيبا لا يختلف عما يخرج من حناجر الشيخات، نغم شجي يلامس قلوب الفلاحين، وكانت “رابحة” في تلك اللحظة تغني ورأسها مرفوع:
– لا سماحة للشقوفة اللي يخسرو الشوفة
– سبسيك ومطويك، كيقتلو فيــك
– ايلا كان رويسك خفيف، تقلو بالكيـــف
– باراكا من التقساس، راه القليب تقــــــــاس
– ذوقني من الكيف، راه الشوف ضعيف…
وعاد عازف آلة الطعريجة، مزهوا بعدما أفرغ معدته خارج الخيمة، واسترسل الشيخ الكومنجي “العربي الخيراني” في التعريضة الموسيقية بإيقاع سريع مصحوبا بتصفيقات الحاضرين، كانت “البنادير” تدق في شراسة، والطعريجة تقرع والكمان تنوح.. صعدت الشيخة “مليكة” من جديد فوق آنية الغسيل (القعدة) التي تفصل عنها السكارى وقد شربت من عند بعضهم كؤوسا من الخمر، وحملقت الأعين إليها، ورفعت عينيها إلى الأعلى وأخذت في الرقص.
كان رقصها جنونيا فجرت فيه حقدها الغائب والحاضر، كانت ترفع بيديها ثوب القفطان لتظهر الرجلين والساق، وتدق “مليكة” في شراسة برجليها الناعمتين على سطح آنية الغسيل”القعدة”، جسدها يهتز، تخترقه ارتعاشات واختلاجات عميقة، تنم عن اندماجه مع الإيقاع الصاخب، كانت تُمايل جسدها وتتلاعب برأسها ذات اليمين وذات الشمال، وشعرها الطويل الذي يتعدى خصرها يتماوج كستنائيا، وبسبب هذا الشعر يناديها البعض “مولات السالف”، كان شعر رأسها منسابا على طول ظهرها يتعدى خاصرتها يكاد يلامس أسفل ساقيها، وكان يمكنها أن تجلس عليه، وفتحة القفطان الأحمر القاني فوق اللحم البض الأبيض تساهم في رسم لوحة الإثارة والفتنة بإضفاء لون فاقع.. كانت أنفاس بعض المتفرجين تعلو وتهبط..وقد نسوا كل شيء أمام الشهوة الجامحة..وكانت مليكة ترقص وتهز عينيها إلى المصباح الضوئي المعلق بزمام الخيمة، ونهداها يتوثبان على نحو جنوني، وهي غير قادر على فعل شيء لتثبيتهما، بل هي التي تتعمد ذلك لتوهيج وتهييج المشاعر العطشانة..كانت ترقص رقصة الفراشة حول النار، وتترامى عليها، تريد أن تلعب بتلك النار التي تحرقها.. فراشة لها عقل يدرك أن النار تحرقها، ولكن عقلها عاجز..الخفافيش يتهافتون على الفراشة، والفراشة تتهافت في إصرار على لهيب النار! كانت راقصة بارعة حقا، ترقص ملأ أنوثتها ومن حولها إشعاع لا يسع نفسا أن تنكره، بشرتها الغضة الشقراء التي لوحتها الشمس قليلا، تشد إليها العيون الجائعة والقلوب المتعطشة.. المعجبون بها كثيرون، وعشرات الأقاصيص تروى عن عشاقها والمتشوقين لسماع صوتها ورؤية جسدها الثائر المثير، وكانت تشعر بالانشراح بجمالها وبفنها وروعة أدائها..
كانت ترقص لحشد من البدويين الحرفيين والفلاحين… فاغري الأفواه، وكانت تفرض حضورها على الحاضرين فيبدون بجوارها كالتماثيل الرديئة المرتصفة في معبد مهجور، وكانت هي معبودتهم في تلك الليلة، محبوبتهم، لقد تعودوا ذلك النشاط كما تعودوه آباؤهم وأجدادهم من قبلهم..كانت “مليكة” هي ملكتهم وسلطانتهم غير المتوجة في تلك اللحظات، هي المحبوبة بالليل والمنبوذة بالنهار، وكانت تنتشي بكلمات الإعجاب والتهليل من كل ناحية، فتغض طرفها لا حياء بل إعياء، وترفع جفونها قليلا لترى مبلغ دلعها على الهائمين، ثم تخفضهما من جديد، وقد أخذت من حولها ما ملأ قلبها سرورا ويدها مالا..ومضت تُشارب بعض الجالسين وتضاحكهم ممتلئة النفس ثقة وطمأنينة..وكانت في تلك اللحظات هي واهبة المتعة ومانحة اللذة والعنصر المغوي المغري..وهي لا تؤمن بقولة “فاقد الشيء لا يعطيه”، وهاهي تعطيهم مما ليس لديها، تمنحهم السعادة وقلبها جف منها وتخم حزنا وألما..فكانت ترشق بنظراتها الحارقة المثيرة في عيون صاحب طربوش أحمر ظاهر وسط خضم الطواقي والعمائم والقبعات.. .. “الهاشمي ولد احميمصة”، أربعيني ذو وجه أسمر، وعينان تشوبهما صفرة مرضية، حليق الوجه والشارب، كان يرتدي بدلة كاملة سروال وسترة مخططة مربعات بالأبيض والرمادي، وينتعل حذاء جلديا أسود وعلى رأسه يضع طربوشا أحمر يظهر كجمرة مشتعلة فوق رأسه، كان يبدو كالآغا التركي..وقد بدا لها طريدتها القادمة، وقفت أمامه ترفل في ثوبها الأحمر القاني، الرقيق الشفاف، تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى قفطانها الحريري، وجذب صدرها الناهد عينيه فجحظتا وزادتا اتساعا ودهشة، وهاله المنظر، فكان عقله يفكر بسرعة خيالية، غمز بيده الحلمة الشاردة، ومد يده بسرعة البريق وقرص النهدين، ثم مد كلتا يديه إليها وكأنه أحد الكهنة الفراعنة يبتهل للملكة “نيفيرتيتي” ويطلب الصفح منها..ومدت يديها الناعمين ولامست يديه المعشوشبتين زغبا، فأحس برعشة وقشعريرة تسري في كامل جسده، وابتسم وتهلل وجهه وكأنها شحنته بطاقتها، ولم يشعر حتى أخرج ورقة مالية من فئة خمسون درهما وعلقها لها بوسطها بالحزام الأسود، وأحس بنشوة فرح وزهو وقال لها بكل رقة:
– سيري يا بنيتي الله يوكلها ليك بالصحة والسلامة. سيري يا مليكة أنا راضي عليك في الدنيا وفي الآخرة، أنا بغيتك عمرك ما تخصي وبجاه الشيخ بوعبيد الشرقي وسيد الغزواني ورجال الميعاد، وهذ الليلة الكبيرة عند الله.
وضحكت وضحك كل من حولهما، واستأنفت دورتها، فهي تعيش لحظتها مرحة عابثة لا هم لها إلا أن تضحك وتبتسم وتسكر وتتلذذ بحاشية من عباد الجمال وعشاق العيطة تطأ أقفيتهم بقدميها وتصفع وجوههم بضحكاتها..فهي لا تحب أن يرثى لحالها أحد ولا أن يشفق عليها أحد، ولا أن يمد لها أحد يده على سبيل الإحسان..إنها تفضل أن يقال عنها “شيخة” أو مومس..على أن يقال عنها “مسكينة”، وتفضل أن يدعوها رجل لأنه يشتهيها على أن يدعوها آخر لمجرد أن يطعمها..
وكانت “الشيخة وريدة” في الركن الآخر من الخيمة تحاول أن تسايرها وأن تقلدها في رقصها لكنها تفشل لأنها حديثة التخرج في الشعبة، وكذلك باقي زميلاتها في الحرفة، فالشيخة “مليكة” شيخة “عياطة وطباعة”، يعني شيخة “معلمة”، يتعلمن منها قواعد العيطة وفنون الرقص، كما يتعلمن منها خاصيات الغنج والدلال وأساليب الغواية، وكيفية شفط المال.. الكل يعيش اللحظة، الجميع سادرون في الضحكات والقفشات فيما بينهم، ومنهم من يضربون القدح بالقدح، ترتفع الأصوات وتعلو الآهات، هرج صاخب وفوضى تبدو منظمة..الموسيقى تعزف ألحانا مختلطة، وكثيرون نهلوا من مسكر “الماحيا” والجعة والويسكي..حتى الثمالة، وراحوا يرقصون من وجد الطرب، أما”مليكة” وزميلاتها الشيخات فكن لايرقصن من نشوة ولا من طرب، بل من حاجة وعوز وحقد وكراهية ومأساة…كانت “مليكة” تضغط في حدة على خصرها وتسترسل في الضرب بقدميها في تناوب وبخفة على “القعدة”، ترفع رأسها إلى الأعلى لتركز نظرها على الضوء الأعمش مستلهمة من وسخه إيقاع الرجلين وعنف الحركة، لم تكن منتشية بل كان ألمها يلف روحها ويسري في شرايين قلبها المجروح، الكل يصفق وهي غائبة عن نشوة المصفقين مغمضة العينين مرتدية مرارتها، تفرغ مكبوتها الدفين، وتدفن كرامتها المذبوحة داخل الخيمة الكبيرة المفتوحة على الريح والغبار، في سهرة تتخللها تأوهات الأجساد المتعبة كبتا، وتمايلات الشيخات الهاربات من الجمر إلى النار في أصباغ باهتة وضحكات صفراء مقهورة..نساء نِسويات مسترجلات..نشاطهن بكاء في الداخل، وغناء من شفاه تتصنع الابتسامة، وغمز من عيون تبكي بلا دموع..
كثر الهرج والمرج داخل الفضاء المزدحم، توقفت الموسيقى فتوقفت الشيخة “مليكة” عن الرقص، فتحت عينيها لتلتقي بنظرات وكلمات الإعجاب والحسد التي تحيط بها، إعجاب تشوبه حسرة، وحسد تخفف منه ابتسامات نفاق صادرة من زميلاتها الشيخات البدينات الممتلآت الأرداف، اللواتي ينظرن إليها بعين ملؤها الغيرة والحسد…كن في رقصهن كالأفيال التي تقوم بحركات الغزلان..شيخات نشيطات ناشطات، يعشن للمتعة والخمر والسهرات..دون حرج ولا مبالاة، لم يكن يبدو عليهن أنهن يفكرن في الرزق أو المستقبل المجهول، تلك هي حياة الشيخات، البعض منهن يتصورن حياتهن حلم رائع بلا قيود وبلا حدود..
ودارت الرؤوس، وملأت وفرغت الكؤوس مرارا، وكانت قلوب الجميع تتحرق رغبة وشوقا إليها، إلى الشيخة مليكة” .. “الزريقة مولات السالف ومولات الباك..” إلى ملكة العرس، كل شيء فيها يغري بالجمال وبالإثم، واكتسح المكان طوفان عبق الجنس، وجرى نهر الشبق عاويا مغرقا كل ما يمر عليه، وهي تتنقل راقصة هنا وهناك، زارعة الفرجة والفرحة والأمل والسرور أينما حلت، متحاشية جهدها تلك الفئة المشاغبة من سكارى ماء الحياة والنبيذ الرخيص.كانت تبدو كتحفة تهيم بها القلوب وتعلق بها الخواطر، يصفق لها الشيطان قبل أن يصفق لها “الحفيان” و”ولد العريان”..وقبل أن ينهرها “ولد الطيان”.. وكانت أصوات الاستغاثة الشبقية تنطلق من جنبات الخيمة، وصرخات عاطفية تشبه نداء الغابة، وهم يتابعونها بأنظار مبهورة جاحظة، مطلقين عنان المبالغات في التعبير عن إعجابهم بها:
– هز يا وز….، عومي يا حوتة …طيري يا حمامة….الله يرحم من قراك….، الله يكثر من أمثالك…
وكانت مليكة تطرب لهذا الإطراء أيما طرب، الكل يصفق عليها ويثني على خفة دمها، هتاف يعم الخيمة:
– أعيد …أعيد….. أعيد…..وا مليكة…وا المرضية..وهكا يكونو بنات الرجال محضية..
وضج القوم ضجة السرور والاستحسان، فعلت أصوات الصاخبين والصائحين، والمستحسنين والمستهجنين وذهب كل في صيحته المذهب الذي يراه وتشيع له. وكان صياحهم وهتافهم لجمالها أكثر منه لمواهبها..كانت تبدو كزهرة من الجنة تتألق في روضة إبليس.. وبينما “مليكة” منتشية جذلة بعشاقها ومعجبيها، كانت تحييهم هي الأخرى بابتساماتها اللامعة المتلألئة وكلماتها العذبة الحلوة الجميلة، ونظراتها الساحرة..فتنفست بعمق وببطء، كي تسترجع أنفاسها اللاهثة، ووقفت متجردة دست يديها في شعرها الأسود الطويل عدة مرات وهي تميل رأسها إلى الخلف، ورفعته وتركته يسقط من جديد بأناقة، وعرضت بشهوانية التعبير التراجيدي لوجهها على عشاق اللذة، وهي تمسح بعينيها الزرقاوين الخيمة، ثم خطفت بقايا سيجارة من فم “المعيطي ساركوزي”، مجتها في تتابع ونفثت دخانها دوائر إلى الأعلى، ورمت بعقبها في حجره وهو ينتشي بالإهانة. هي التي عقدها ذكر فعقدت كل الذكور، كانت تجد لذة في إذلالهم انتقاما من مأساتها، وكانت السعادة المتصنعة تشع من عينيها، تذوب آلامها وتضيع أيامها في خضم الدخان الأزرق المشبع برائحة الحشيش والكيف الممزوجة برائحة الأنفاس اللاهثة، وعرق الأجساد المتفصدة…توغل الإيقاع الموسيقي والنغم العيطي في موسيقى صامتة راقصة، فبدت “مليكة” كالفراشة تطير هنا وهناك. وكانت تقابل هتافات وتصفيق المتفرجين بابتسامة مشرقة، كانت جميلة وفي جمالها وداعة الغزالة التي تغري الذئاب..ثم وقفت ومسحت من جديد بعينيها المنومتين الخيمة، وهي ترى نظرات الجشع والاشتهاء التي تبرق في العيون، وإن كانت لا تتحقق من كل متفرج، إلا أن كل واحد منهم كان يشعر أنها تنظر إليه وتبتسم له،كانت تصنع لهم الفرجة وتتفرج عليهم.. أثارت إعجاب كل الرجال الذين أرادوا رقصة “القعدة”، كانت لحظتها سعيدة فرحة بجمالها المثير وبهالة الإعجاب المحاطة بها…
الليل يتقدم، والسمر يحلو، والخيمة تفور وتموج بالحاضرين ككتيبة نمل، دخول وخروج.. تصادم وتزاحم. يقف “الصالح ولد بوطربوش” الفكهاني القادم من مدينة الدار البيضاء، المكنى ب”ولد كويزة” كما يحلو له أن ينادوه، يحمل بيده هاتفه الخلوي يفتخر به أمام أبناء الدوار المغضوب عليهم، عمره بين العشرين والرابعة والعشرين، غير مؤرخ بسجل الحالة المدنية، له سوابق عدلية في سرقة المواشي والاتجار في مسكر الماحيا “فراقشي”..لكنه هاجر الدوار إلى مدينة الدار البيضاء، حيث اشترى حمارا وعربة وامتهن بائعا جائلا للفواكه، كان في تلك اللحظة يرتدي سروالا “جينز” أزرق اللوق ممزق رقع، وحذاء رياضيا أخضر اللون وقميصا رياضيا أحمر يحمل اسم لاعب لكرة القدم برتغالي مشهور، ملتصق بصدره ويحمل الرقم عشرة بالظهر، متعمدا بذلك إبراز عضلات الصدر والذراعين الغليظين، له وجه مخربش مليء بالبثور مزقه “حب الشباب”، شعره الأكرد منتصب كشعر قط ينوي الشجار، وعينان جاحظتان واسعتان يلمع فيهما غباء البقر.. وكانت شفتاه الرفيعتان الغليظتان تنفرجان، فتكشفان عن أسنان دافعة إلى الأمام تعلوهما صفرة، تلك التي تشبه إلى حد ما أسنان بغل، ربما كانت لافتة للنظر أكثر من بثور وجهه.. ويتحلى بثلاثة خواتم نحاسية في يده اليسرى يقول أنها مهداة إليه من جدته وهي حصنه الحصين من الحسد والعين..وأمسك بتلابيب قفطان الشيخة “مليكة” التي مرت أمامه، كاد يلتهم بعينيه الجائعتين مفاتن أنوثتها الطاغية، التفتت إليه وأرسلت إليه سهام عينيها الزرقاوين، ووجهت له ابتسامة معسولة وطرفت برموشها في دلال..وابتسم في وجهها مظهرا أسنان كبيرة كأنه يهم لافتراسها..فقال بلسان متلعثم وهو يرفع إليها عيناه المنومتين وقد لعبت به الخمر:
– عطيني لادريسة ولا نمرة التيليفون يا ميليكة، راك قهرتيني وشويتيني في كَلبي، وباغي نخسر عليك رزقي.
أجابته ضاحكة مستهترة، بلهجة دامية تمتزج فيها رائحة البؤس مع قتامة اليأس :
– حتى أنت علموك الزهو، سنانك مراجلات كيف القرشال. قالت عبارتها وأتبعتها قهقهة الغواني المحترفات بالغواية.
تناثرت في الفضاء اللاهي صيحات زائطة، وضحكات قاسية وقفشات ساخرة، وكركر البعض كلقالق مسنة، الجميع سادرون في الضحكات والمستملحات فيما بينهم، تتعالى الأصوات والقهقهات الهستيرية الساذجة..هم يضحكون بصخب ومن أعماق قلوبهم، هم لا يخسرون شيئا لأنهم أصلا لا يملكون شيئا.. البعض منهم كان يدخن “السبسي” ويشرب البيرة، والبعض يدخن الشيشة ويشرب الويسكي، وآخرون يدخنون السيجارة الرخيصة ويشربون الماحيا..المهم كل واحد يشرب ويدخن.. وكل واحد منهم -فرحا بوجود الشيخة بينهم -أعطاها مما يدخن ومما يشرب ومدها مما يملك، ودارت الكؤوس عن ثغرها..تأتيها مملوءة ثم تشيح عنها فارغة..فهي شيخة متمرسة لم تعد ترى فيما تفعله عيب ولا عار ولا إجرام..الخيمة بالنسبة لهم في تلك اللحظة موطن الروح ومشفى الجروح…فضاء للاستماع والمشاركة في الفرجة والاستمتاع..وقفز “عبيقة القافز” وانتفض من مكانه في كبرياء زائف وعجرفة متخلفة، أشعل سيجارة شقراء من نوع “مارلبورو”، ونفت دخانها بطريقة لا تخلو من زهو وكبرياء، تتحداه الشيخة “مليكة”، تتخطاه، تتحرك ببطء في غنج ودلال، وتسير بخطوات راقصة صامتة لا وقع لها، وهي تتحدث إلى الرجال بطلاقة وكبرياء شامخ، توزع صخبها، وتنثر شغبها، كانت تبتسم وتدرك أنها ليست كبقية النساء، وكانت أحيانا تتلفت إلى الرجال تعاتبهم وتعابثهم وتضحك كلما واتتها فرصة للضحك، وكأنها تريد أن تتزود بالضحك احتياطا لأيامها السوداء القادمة، وكانت أحيانا تضحك في بهجة غامرة، تضحك وفي قلبها ألف عزاء..فكانت ضحكاتها تضيع وسط صخبهم وضجيجهم..وقيل لها أنها كثيرة الضحك، فأيقنت أنها قوية وماهرة في إخفاء ما بداخلها من ندوب وجروح، وهم وغم..كانت تتنقل في خفة صاخبة، في مرح مستهتر طلق لا ينفك يرمي إلى الفتنة والإغراء، إنها لا تخجل من الرذيلة بل تمتهنها، تضحك وتقهقه، ولماذا تخجل؟ أليست من بنات الليل؟ وتارة كانت تضحك وتبكي بلا دموع دفعة واحدة، تضحك خارجيا وتبكي داخليا، تضحك في حزن وتبكي في فرح، تضحك عن ماضيها المسحوق وطفولتها المغتصبة، وتضحك على فقرها وحاجتها، وتضحك من أناس يريدون الشبع بدون تعب، تضحك من رجال يشتهون الجسد ويعذبون الروح، وتضحك من نساء أعياهن البؤس فبعن أجسادهن في سوق النخاسة دون ترو، تضحك وكأنها تشهد الحاضرين على فرحة عارمة ملأت حياتها.وعلى الرغم من كل الضحك والابتسامات التي تنشرها، فإن في أعماقها ندوب لا يراها الآخرون، تضحك كأي واحدة من عاشقات الليل، هزتها الحياة ودمرتها التعاسة، وعجنتها الأوجاع في براكين اليأس..أصبح للحزن والفرح عندها طعم الألذ اللذيذ.. لقد ضحكت كثيرا وشربت أكثر، ومع ذلك مازالت ساحية..تصول وتجول وتقف شامخة وسط الخيمة مليئة بالثقة كمعدن غير قابل للكسر.
الخيمة تغلي. الدخان يملأ الفضاء وكأنها خلية نحل حان وقت جني عسلها، الجمهور يطلب المزيد، يعيد “الكوامنجي” الشيخ “العريبي” الكرة في لحن موسيقي جديد، الموسيقى تصدح وتصدع الرؤوس، موسيقى صاخبة تنبعث من أوتار مترنحة وبنادير داوية..حيث تختلط الأنغام بالصياح والتأوهات، والضحكات، والحوارات.. والشيخات يتجاوبن في تناوب غنائي وصخب موسيقي ناري الإيقاع..ودارت الكؤوس وفاحت في الأفق رائحة التبغ والكيف والنبيذ.. والدخان كسحابة داخل هذا الفضاء اللاهي.. تكتسح الشيخة “مليكة” الخيمة في جلال، وتربط بصوتها وجسدها الأفئدة والأرواح الهائمة، تصعد مرة ثانية فوق “القعدة”، حول قدميها الصغيرتين المطرزتين بالحناء سلسلة “خلخان” رفيعة، من معدن أصفر، حتى أظافر قدميها مطلية باللون الأحمر، كانت ضاربة الجمال، تبهر الناظر إليها حتى تكاد تشغله عما حوله، كانت في تلك الليلة أمنية كل خاطر وجاذبة كل ناظر.. تسترسل في رقصة البطن بحركات لولبية، تدعك نهديها وتزلزلهما في عنف هستيري، حتى يوشكان أن يفرا من فتحة القفطان، تتركهما حران بدون حمالتان، تقول هي حرة في ثدييها وهما ملكا لها ويمكنها أن تتصرف فيهما كما تشاء.. تحرك الردفين، وتنيس الخاصرة، تشهق، تزفر وتترنح كمهرة جامحة متمردة وجدت نفسها حرة طليقة في البراري يحاصرها قطيع من ذكور الجاموس، تمرر راحتيها على بطنها في تناوب ثم تهز وسطها بعنف بتكرار مسترسل، تهتز معه أنفاس المخلوقات الرابضة أمامها وتتحلب أفواهها، ترفع تأوهاتها المجنونة، تعض على شفتيها بنعومة وهي ترفرف برموش عينيها الطويلة، بينما يطوف لسانها الأحمر القاني على شفتيها، فتختمها بشقلبة كشهادة على رشاقتها وسلامة جسدها. فتناثر شعرها الأسود الثائر الطويل كالليل الطويل السرمدي على كتفيها ذاك الذي تجاوز الخاصرة بطوله.. قدمت وصلة رقص وعرض مسرحي حي رفيعة المستوى، خلخلت الكوامن ورجت الأمشاج. وكانت العيون ترمقها بإعجاب ورغبة. ولم يكن يدري أحد لماذا لم تتزوج هذه المرأة الحسناء وهي تملك هذا الجمال كله، ولها هاته الرشاقة والخفة، وزعم البعض أنها وجدت الحياة هكذا أكثر فائدة وربحا من الزواج، وما أشبهها بالأميرة المدللة التي يتسابق إليها الرجال بالهدايا والتضحيات..ويقدمون لها مراسيم الطاعة والولاء.. ..والحقيقة فقد أحبها كثير من الفلاحين والحرفيين والسياسيين..وعرضوا عليها الزواج فلم تحفل بهم..
وسوت “مليكة” حزامها الأسود، والموسيقى الصاخبة تشحن الأوصال، وتزرع الرعدة في الأبدان..واستأنفت رقصها في انسيابية وروعة، وأمسكت “باعبسلام” سقاء الماء “الكَراب” من يديه وبدأ يراقصها، كان يشد قربته المائية المصنوعة من جلد الماعز على ظهره بحزام أحمر ويرقص في بدلته الحمراء وعلى صدره الطاسات النحاسية تبرق مع ضوء الخيمة، ومليكة تراقصه في قفطانها الأحمر الأرجواني.. وقفز “القافز” فوق مائدة وهو يترنح رغبة في الرقص، فأنزلوه وهو يسب ويلعن..فهم يعرفونه أنه أمي تعليم مدرسي وفن شعبي، وصعدت مليكة مكانه فوق المائدة، وراحت ترقص وهي تهز وسطها وتلولبه.. فصفر “الغزواني لقرع”، وابنته “الصالحة” ذات السبع سنوات جالسة فوق ركبته، صفيرا منغما مسموعا، كان يضع نظارة سميكة على حافة أنفه المعقوف كنسر هرم، رابطا علاقتي النظارة فوق أذنين كبيرتين منفصلتين عن الصدغ بفج عريض في غير تناسق، واضعا فوق رأسه الطربوش الأحمر الوطني تيمنا برئيس المجلس البلدي لأبي الجعد والذي كان يتباهى بقرابته..وإلى جانبه كان يجلس جاره “الشرقي” المكنى بـ”البوحاطي”، رجل ضئيل الجسم وجهه شبيه بفأر، ينم عن الخبث، ذو عينين ضيقتين براقتين تبدو عليه علامات المكر والدهاء، كان يجلس في ملابس فضفاضة والتي كان يختارها دائما هكذا كي لا تبلى سريعا، ويعتمر طاقية صوفية حمراء، وعندما يضحك كانت شفته العليا تكشف عن فم مظلم خال إلا من بضع أسنان تناثرت على فكه الأسفل، عيناه جاحظتان تسبران بطن الشيخة مليكة وهو يتلولب رقصا أمام ناظريه، لكز”الغزواني” بمرفقه الأيمن جاره “البوحاطي” قائلا:
– وا البوحاطي.. وأنت شوف خيرات ربي، شوف البوط يا المسخوط! وشوف النعمة يا العمى!.
ضحك البوحاطي ملأ شدقيه بصخب، فاغرا فاه الذي لم يبق فيه سوى ناب وضرس، وغمز الغزواني قائلا:
– نعل الشيطان يا القرع، بنتك كتسمع، صيفطها عند أمها .
كانت “الصالحة”، تجلس في حضن والدها “الغزواني”، تدرس في مستوى القسم الأول من التعليم الابتدائي، كانت طفلة ذات دكاء، لها عينان عسليتان، وبشرة بيضاء وخدان في لون الفجل، وشعر أسود سرح في شكل ضفيرتين طويلتين تتدليان على ظهرها..كانت تتتبع ما يجري داخل الخيمة، وهي سعيدة الحظ التي سمح لها والدها أن تدخل رحبة الشيخات..تململ الغزواني في مكانه وعدل من وضع طربوشه الأحمر الوطني على رأسه، ثم أجاب “البوحاطي” واثقا بنفسه، وهو يربت على كتف ابنته الصغيرة:
– مازال صغيرة يا الله دخلت للسكويلة، غادا تقرا وتهلا فيَ.
سأل البوحاطي الصغيرة بعدما ربت على كتفها:
– فاش كتقراي يا بنيتي ؟
وبعفوية طفولية تجيبه الصغيرة بلكنة تفخم فيها حرف الراء وتنطقه غينا:
-كنقغى في التحضيغي.
– تبارك الله عليك يا بنيتي.. واش باغا تولي ملي تكبري وتقراي؟
ترفع رأسها إليه وهي تبتسم وبعفوية برئية تجيبه:
– باغى نولـي شيخة.
رفع البوحاطي رأسه، وصوته يعلو بضحكة ذات قهقهة شامتة طائشة شوهاء، ضحك ببلادة منيعة، وأمال بيده اليمنى طاقيته الصوفية الحمراء جهة اليسار، وأخذ يتحسس بأصابعه العابثة قمة الشمامة القرعاء برأسه، وهو يقول داعيا وشامتا ساخرا:
– “ها سعدي، وها فرحي، الله يحجبك، الله يصلحك يا الصالحة، والله يكمل عليك يا بنيتي، الله يوصلك كل ما ناوياه في خاطرك..وملي تولي شيخة فرجينا وتهلاي في بوك”.. ثم التفت إلى لقرع مستطردا.
– “ها اللي ما بغيناش يا لقرع، ها اللي كَالت الشوافة، وها اللي دوينا عليه”.
يصفع “الغزواني لقرع” الصغيرة، تبكي، تصرخ، يخرج سائل لزج من أنفها، يبصق في وجهها ثم يرميها خارج الخيمة..
يتبع…

الاخبار العاجلة