“رواية عيطة بيضاوية”لشيخ العيطة الحسين السطاتي

جسر التواصل24 يوليو 2022آخر تحديث :
“رواية عيطة بيضاوية”لشيخ العيطة الحسين السطاتي

شيخ العيطة الحسين السطاتي

الجزء الأول
الفصل الأول
نهاية فصل الربيع، الجو ساخن واليوم سبت، الوقت بعد العصر بقليل، سماء ناصعة صافية، وزرقة لاهبة تطليها في هذا اليوم الربيعي، من أواخر شهر أبريل سنة ألفين، الوقت عشية قد تجاوز العصر بقليل، القرية تحتفل بعرسانها، والموسيقى الصاخبة تدق في شراسة، فوضى ضجيج مكبرات الصوت تكسر سكينة وهدوء القرية الصغيرة، كل شيء كان يسير في أحسن الظروف بحفلة زفاف بمركز القرية النائية “عين قيشر” التابعة لنفوذ مدينة “أبي الجعد”. قرية من بين آلاف قرى المغرب العميق.. الزوجان “الغزواني ورحمة” فرحان بليلة العمر، أفراد الأسرتين يتحركون بغنج ونشاط وهمة، من أجل أن يكون الحفل في مستوى تطلعاتهم، ويمر عرس “الغزواني ولد الحاج عبد الله الفكاك” في جو من الرضا والهناء، الحضور المدعو للعرس يعيش نشوة التفاعل مع إيقاعات العيطة للمجموعة الشعبية المنشطة للعرس”شيخات وادي زم”، داخل فضاء الخيمة الكبيرة”خيمة المرحوم “القائد بوعبيد”، المنسوجة تقليديا بمهارة من وبر الجمال والماعز، والمزينة ب”أقراص الموزون الفضية البراقة”، التي كانت تبدو من الداخل كسماء ظلماء في ليل بهيم مدلهم ترصعها نجوم براقة..تلك الخيمة المتوارثة أبا عن جد من السلالة القايدية، المنصوبة بالفضاء الفسيح أمام الدار، والمبثوثة بزرابي حمراء تقليدية، والمشرعة بالدوار على الريح والغبار..
أشعة الشمس تفقد حدتها وتتحول بالتدريج إلى رقة الغروب وألوانه..صهيل الخيل وصوت طلقات البارود يملأ المكان، عرس كبير بفرجة فن العيطة والفروسية التقليدية “التبوريدة”، فرسان مبتهجون فوق سروج جميلة مطعمة بالديباج والحرير، مطرزة ومزركشة بخيوط مذهبة، أبدعت فيها يد الصانع التقليدي المغربي، ونقشت عليها تطريزات وزخارف تبهر الناظر لشدة التناغم والإتقان، تتدلى منها أجراس نحاسية صغيرة رنانة ترن مع همس الحوافر، وخناجر فضية مصقولة مختلفة أحجامها تتدلى على السرج وهي تحاذي الفخذ الأيمن للفارس.. همس رنين الأجراس يتسرب إلى الوجدان، يحدث جلجلة لا تتوقف، يعزف سيمفونية متناغمة تحبس لها الأنفاس وتقشعر لها الأبدان، كأنها أجراس مبحوحة في سوق للرقيق، مجموعة من الفرسان الخيالة فوق جيادهم، مرتدين برانس بيضاء أنيقة، فوق جلابيب ناصع بياضها، وسراويل “القندريسي” الأبيض الفضفاض، ويحتذون أحذية بيضاء طويلة تصل إلى الرُكب “التماك”، معممين بعمامات صفراء، وجوههم تتوضأ بالشمس التي لونت سحناتهم، وأغرقت ملامحهم بسمرة عميقة، همهماتهم تمتزج بسنابك الخيول، التي كانت تسير في ركضها أشبه بعاصفة من تراب، وهم يؤدون للمرة العاشرة لوحات فنية استعراضية من عروض الفروسية التقليدية “التبوريدة”، ويبدون كمحاربين حقيقيين في حركة.. صهيل الخيل يصرخ كالتحدي، وحوافرهم تندفع فوق التراب…مثل إيقاع سريع على عشرات البنادير، بنادق ترُفع إلى الأعلى مصوبة نحو الأفق، والخناجر الفضية ترتفع وتنخفض في غمدها على جانب السرج.. الخيول مصطفة، متقاربة ومتحاذية، تتحرك في بطء متربص، وصوت “العلام” الشيخ الأسد “الحاج احمد ولد مبارك الشلخ”، بقامته المديدة وبهيئته وطلعته المهيبة..-قائد سرب الخيل- يتردد كنداء للهجوم، بين الحين والحين ينفصل بحصانه “الأدهم” المحجل الأغر، عن باقي الخيول.. كان جواده أفره الخيل.. شد الخيال “العلام” اللجام، فساط الفرس قائما على قائمتيه الخلفيتين وهو يصهل، ثم قاده أمام سرب الخيل جيئة وذهابا وكأنه مايسترو يُسير بحرص فرقته الموسيقية، ودار بفرسه دورة سريعة تفقدية في يقظة، ثم عاد إلى مكانه في الوسط صارخا بصوت مدوي راعد:
-واااااالرمى.. واااا الحافيظ الله..أراو الخيل…

يطلق الخيال “الحاج أحمد” العنان لحصانه، وهو يرعد بصوت جهوري: “وااا الخيل”، يتبعه السرب في تبختر.. خيول بالغة أنيقة ومدربة، بأزياء راقية، تشرع في الركض بحماس، تتنافس من أجل التباري، في استحضار لحماسة محاربين قدماء، واسترجاع لمجد عريق غابر.. الغبار يرتفع سحبا طويلة من الخلف، وحركة الخيول وهي تجري وتندفع إلى الأمام ثم تتوقف تدريجيا تحت شدة اللجام تأسر الناظرين..تبدو الخيول هي الأخرى فرحانة بالعرض؛ العرف إلى الأعلى في الهواء وبياض العين يلمع في جنون، ويزين اللوحة مشهد البنادق وهي تتخذ وضع الاستعداد، يتبعه نداء طويل شبيه بالعويل كنذير بالمعركة، ثم دوي صوت طلقات البارود دفعة واحدة متناسقة متناغمة المسماة ب”القرصة” تشهد على براعة “العلام” ومجموعته. وقد شكلت طلقات البارود تحت حوافر الخيل غيوما دخانية جعلتها تبدو وكأنها تركض في السماء على سحب بيضاء..وبزغاريدهن الصاخبة تساهم النساء في تأجيج حماس هذا الاحتفال الكرنفالي، طقس يحرك وجدان الحاضرين.. جمهور غفير من مختلف الأعمار والأجناس متعطش للفرجة والمتعة، يتتبع فرجة “التبوريدة” على أنغام العيطة في انشراح ويسخر من الخيالة الضعفاء قليلي التجربة. سقاء الماء “الكَراب”، “سي عبسلام”، بيده اليمنى جرس النداء النحاسي، وباليد الأخر إناء معدني “طاسة” نحاسية يلمع ماءها تحت وهج الشمس اللاهبة، هو الآخر يستمتع بالفرجة ويصنعها، ويطفئ العطش وهو يطوف بين الحضور كزهرة شقائق النعمان في بدلته الحمراء، وقبعته ذات الحواف العريضة المصنوعة من سعف الدوم والنخيل، المزينة بخيوط صوفية بألوان الطيف التي يغلب عليها اللون الأحمر، وطاساته الثلاث النحاسية معلقة على صدره كأوسمة شرفية تشهد على عقوده الستة في الحرب ضد العطش..أطفال صغار كالغزلان المرحة ينطلقون في سعادة وسرور فرحين بجو العرس البهيج. إنه عرس البادية المغربية، يجمع بين فرجة فن العيطة “الشيخات” وطقس الفروسية التقليدية “التبوريدة”.. موروث يستمر بين حلم الشباب وإرث الأجداد…
الشمس تميل إلى الغروب، الجو معتدل، سماء صافية خالية من الأديم، اختلطت أصوات صهيل الخيل، بأصوات الشيخات في العيطة البيضاوية، والمدعويين للعرس يأتون فرادى ومثنى وثلاث ورباع.. يفدون مطربشين ومقبعين ومعممين..وترددت التحيات بين نبرات ترن بالمرح، وأخرى أوتارها مرخية..الحفلة في أوج اشتعالها بلهيب النشاط، أما القلة من الرجال الواقفين عند مدخل الخيمة فهم من أبناء العائلة يحرسون الحفل من المتطفلين والدخلاء..داخل الخيمة مزدحم بأنماط البشر، تبودلت التحيات والمعانقات، وكانت إشراقة الفرح والبِشر تلوح على الوجوه، الأطفال يثبون هنا وهناك في فرح طفولي غامر، يجرون ويتقافزون كالأرانب الصغيرة حول الخيمة الكبيرة، غير عابئين بالصيحات التي تنهرهم وتدعوهم إلى التريث والحذر..”الحاج أحمد بن مبارك الشلخ”، سائس الجياد، “العلام” ومقدم سرب الخيل.. يرقص فوق حصانه الذي يرقص هو الآخر على أنغام العيطة البيضاوية، ينسج الحصان خطى متثاقلة يؤديها في تناغم فريد على نغمات العيطة المرساوية بأغنية “السعيدي” بباب الخيمة الكبيرة. يقفز”الحاج أحمد بن مبارك” نشوانا قفزة شاب يافع، من فوق فرسه الأدهم -العربي الأصيل الأسود الغري- يرقص مزهوا، ممسكا بحبل اللجام، يستأنف مراقصة الحصان الذي بدوره يراقصه وجها لوجه في حركات مثيرة تأسر عيون المتفرجين..والفرس الأدهم يواصل ضرب الأرض بحوافره ويهز رأسه وعنقه إلى أعلى وأسفل، تماشيا مع موسقيى العيطة البيضاوية المنبعثة من داخل الخيمة، والصادحة بها حناجر الشيخات..
الفضاء يكتنفه الضجيج والغوغاء، الخيمة تطن كخلية نحل تستيقظ، قفاطين “الشيخات” الأربعة الحمراء اللون تمسح الأرض، لقد اخترن اللون الأحمر كأنهن محاربات شيوعيات يعلن الثورة والحرب على الرجال وعلى المجتمع الذي ينبذهن.. وجوههن مبتسمة، يُقرأ في عيونهن حزن عميق..كلهن قست عليهن ظروف النشأة وضغوط العائلة المسحوقة..وقد شدت كل شيخة وسطها بحزام أسود مرصع بأقراص لامعة في لون الذهب، “حزام الموزون”، يكاد يقصمها إلى نصفين، يضحكن في خلاعة، ويقرعن باب النشوة بأقدام حافية.. زينتهن تبهر العيون، وتُميل الرؤوس، وكأنهن لعب جميلة من دمى المجتمع البدوي.. يتبخترن، يزرعن الابتسامات ونظرات الغواية، الحياء لا يعرف طريقه إليهن، نساء يشبهن بعضهن في أدق التفاصيل وكأنهن واحدة…الأجساد مثخنة امتلاءات، والأرداف الممتلئة الشبقة، والنهود النافرة.. والأغرب أن الشبه يتعدى الشكل، روح مشتعلة، متلهفة، محترقة..دفن أحلامهن الوردية تحت الأنقاض ولون حياتهن بسواد قاتم. نسوة اخترن العيش على حافة الفضيحة والانغماس في حياة اللهو، فنانات، مغنيات وراقصات.. لم يتخرجن من جامعات ولا من مدارس ولا من معاهد موسيقية، وجدن أنفسهن فنانات بالسليقة والصدفة، في عيونهن يرى خليط من الصور التي تجمع بين الجرأة والتحدي والإحباط، سلاحهن لكسب معركة الحياة حناجرهن ومفاتن أجسادهن، يصنعن الفرجة والفرح ويكسبن النكد والألم، لكل واحدة منهن قصة تختزل التحاقها بعالم العيطة والليل..عالم الشيخات والموبقات..الكل في الخيمة يمارس حولهن هواية التفحص، والتلصص، والتمعن.. كأن الأمر يتعلق بكائنات غرائبية حطت للتو من كواكب مجهولة، الأولاد فتحوا القمصان ليكشفوا عن جلد في لون البن المحروق، وجوه سمر مشدودة، يشرق الابتسام فيها بسهولة، يضحكون بسبب وبدون سبب..وذقون ينبت منها الشعر في إهمال..وأعين جائعة تدور كالرادارات، بعضها يتعلق بتلابيب فاتنة ويحاول أن يسترق النظر إلى ما تبقى من تضاريسها المنفلتة، والبعض الآخر يتفحص وجوه الغرباء في استغراب..
تبدو الخيمة من الداخل مزررة بالأقراص الفضية اللامعة كسماء ترقص فيها النجوم..وأجهزة موازنة الصوت موضوعة متصافة والميكروفونات في أعمدتها الحديدية منحنية وكأنها تحيي المغنيين على هذه الليلة المشهودة..يسوي الشيخ الكومنجي “العريبي الخيراني” من جديد أوتار كمانه الغجري، وهو شيخ مسن يصارع الزمن الغادر، يُرَقِصُ الشيخات وكأنما يُرَقِصُ أفاعي حيات، يواصل لعن الحياة القاسية التي فرضت عليه طقوسا استثنائية لتوفير لقمة خبز غير سائغة، شيخ تعدى الستين من عمره، نحيف البنية وقصير القامة..فنان شعبي متمرس في الحرفة، ذو سحنة قمحية، ووجه بيضوي، وعينان ضيقتان، وفم أذرذ خالي من الأسنان إلا من ناب مهمل، غزت التجاعيد البارزة جبهته المسطحة، واكتسح الشيب الشعيرات المتبقية على رأسه، ترتجف يده اليمنى بفعل إدمانه الخمر والسجائر والكيف، زيادة على قسوة عمله اليومي الفلاحي تحت لهيب الشمس الحارقة، لكن يده تستقيم فور أن تمسك بقوس الكمنجة، له أصابع طويلة رقيقة بارزة الثنايا كقصب الخيزران، ويدين معشوشبتين بالشَعر ضامرتين بالفقر والقهر..
داخل فضاء الخيمة تزدحم الأبدان، تلتصق العيون الجائعة بمفاتن المغنيات “الشيخات” النشيطات الناشطات، تنطلق الفرجة داخل الخيمة وخارجها، وعلى الرغم من احتجاج “الحاج عبد الله الفكاك” وبعض الشيوخ الكبار، فإن المشروبات الكحولية كانت متوافرة من كل الأصناف وفي كل ركن من أركان الخيمة.. امتلأت الرؤوس بمسحوق الكيف والكؤوس، واستأنفت وصلة الأغاني العيطية.. الكمنجة تنوح باكية، والبنادير تدق داوية شاكية في شراسة، وآلة الطعريجة تقرع وتصدر فرقعات كأنها شرارات من نار، والزغاريد تعلو وتنخفض..وكانت الشيخة “مليكة” الملقبة ب”الزريقة” وهو اسم الدلع والشهرة، جميلة الشيخات وأصغرهن سنا، وأمهرهن في الحرفة، تتقدم الفرقة المنشطة..عمرها بين الخامسة والعشرين والثلاثين، ذات بشرة بيضاء وعينان زرقاوان صافيتان، صدر ناهد نافر، وشعر منسدل على كتفيها يتعدى خاصرتها ويوشك أن يلامس ساقيها، ذلك الشعر الذي أعطاها لقب “مولات السالف”، والبعض ينادونها “مولات الباك” معروفة أنها الشيخة الحاصلة على شهادة الباكالوريا، ذات قوام ممتلئ، فتاة جميلة ساحرة تستهوي القلوب وتجتلب الألباب، ذات نظرات غريبة صاعقة لامعة، يقضي المتفرس فيها حين يراها أنها نظرات مريبة، ألفت الاجتلاب والافتتان من عهد بعيد..تمسح الخيمة بعينيها الواسعتين المنومتين وهي تدرك تماما أن العيون كافة تحدق إليها..وترفع عقيرتها بالعيطة البيضاوية المرساوية “الشاليني”، وقد شق صوتها الرفيع المشروخ المجروح، فضاء المكان المزدحم بصنوف شتى من عباد الله الزاهدين في محراب العيطة، وعينها اليمنى ذات الجفن المنكسر تغمز وهي تنوح وتعيط على المحبوب بصوت حاد ذو صرير:
الشالينـــي يا بابا …ديرني حــــــــداك…دبا تحتاجني يا سيــدي
ياوليدي يا وليـدي …درتها بيدي يا سيدي…هذي على الباليني
كَولو المحبوب يا سيدي…حبنا مكتــوب…والله يعفو ويتوب يا حبيبي
يا حبيبي يا حبيبي …الله يصفي القلوب يا سيدي…حبيبي الشالينــي
وتتناوب الشيخات، في النداء على المحبوب، بين أبيات هذه العيطة البيضاوية الخالدة، إلى أن يختم الشيخ “العريبي الخيراني” الوصلة الغنائية بشدرات عيطية في أبيات قصيرة ومعبرة، بجمل مبتورة مشفرة، من عيطة “الحساب الزعري” في انشراح وهو يردد بصوت خروفي أجش مبحوح وكأنه سعل دهرا :
-ودادا يا دادا وعدعــــدا…فوت علك الخيل…وشوف لك بغيل
– ودادا يا دادا وعدعدا…ضربت العــــرس….ما تدير الحــس.
– ودادا يا دادا وعدعدا…ندبو يا الشيخات…الحب كَالو مـات.
– ودادا يا دادا وعدعدا…الفروج المــزوق…محال يعوق.
– ودادا يا دادا وعدعدا …البنيدير تقبتيــه…أنتِ فين شطحتي بيه
– ودادا يا دادا وعدعدا…بدل الكســـــوة…بفلوس الرشـوة
– ودادا يا دادا وعدعدا…الفيم باش نعض…شد فيه المرض
– ودادا يا دادا وعدعدا…كَولو لسطيلة…تطل ع طليلة..
كان الشيخ “العريبي الخيراني” يعزف أنغاما حزينة تترجم بالضياع، وبالنجدة والإنقاذ، وكانت أصابعه الناحلة المعروقة تداعب أوتار كمنجته الغجرية في انسيابية، والقوس باليد اليمنى يقسمها من النصف وكأنه يمسك بحفيده يزيل أوساخه داخل حمام تقليدي.. فكان وهو يغني، يتفنن في سرد الفضائح، مختزلا هموم الناس ومشاكلهم في عبارات فجة، وفي قالب فكاهي ساخر لكنه حزين وله معاني، يعبر عن قيم إنسانية. تماشيا مع نحيب الكمان، ونداء الشيخات..بينما كانت “البنادير” ترسل فيضا من ألحانها الداوية والطعريجة تطلق طلقات وكأنها رصاصات تنبعث من سلاح ناري في يد جندي يقصف عدو في قصف متواصل مسترسل….
كانت الخيول واقفة أمام الخيمة والخيالة فوقها، وهي تطل من أعلى بعيون تبدو قلقة، ترفع رؤوسها في الهواء بخيلاء، وتنقل ثقلها من قدم إلى قدم في خفة ونخوة، كأنها ترقص على نغمات “العيطة البيضاوية” المنبعثة من داخل الخيمة، والصادحة بها حناجر الشيخات، ومن ورائها سماء زرقاء صافية، أخذ لونها يضعف بالتدريج تحت وهج الشمس الغاربة، والأطفال الصبية يرقصون ويضحكون ويلعبون ويتداعبون..
الوقت يمر بسرعة، ساعات الفرح تطير، الفرحة ترقص في القلوب والنشوة تشتعل في النفوس.. الليلة مفعمة برائحة البارود والدخان، وصوت الزغاريد والهتافات، ونحيب الشيخات..قبيل غروب الشمس بقليل، بدأت تغمر الجو لفحات نسيم الهواء الطلق تكتنفها رطوبة لطيفة عبقة بروائح نباتات وأشجار عطرة توقظ في النفس كوامن النشاط والحيوية.. عقلت خيول التبوريدة بعضها بمعاقل قريبة من خيمة الحفل، وبعضها عقلت إلى الأشجار، وأخرى إلى حلقات خاصة مدفونة في الجدران ورابعة اقتيدت إلى الإسطبل..وهب الفرسان الخيالة إلى الداخل، الموسيقى تصدح، النساء تزغرد، والحمير تنهق بالخارج والخيل تصهل والكلاب تنبح إلا القطط وحدها قد توارت عن الأنظار..لقد حضر معظم أهل القرية للعرس، سواء منهم المدعوين أو غير المدعوين للعرس، وحتى من مدن مجاورة، لقد شاع منذ شهر بالمنطقة خبر الفرح، بأن عرس ابن رئيس جماعة قرية “عين قيشر” ستحييه “رباعة الشيخات” للشيخ “العربي الخيراني” والشيخة “مليكة الوادزامية”..
الوقت يمر بسرعة، الخيمة الفسيحة تغلي بالحضور الكثيف، وقد اكتملت الصورة، اختلطت الأنغام بالصياح والتأوهات، والضحكات والقفشات والحوارات..واكتظت الحفلة بالمدعوين وعابري السبيل، وغيرهم… رجال بدو لوحت الشمس بشرتهم، شباب مزود بما يكفي من قناني النبيذ مئونة للعرس…، الأسِرة المحيطة بالداخل مملوءة عن آخرها بالزوار، والباقي كل فرد جلس كما يحلو له، هذا متكئ، وذاك مقرفص، والذي بجواره في جلسة بين القيام والقعود، والآخر مستسلم لوثارة الكرسي، والبعض يتوسد كتف رفيقه، ومنهم من خلع جلبابه القديم ليجعل منه مسندا لركبته، لا يهم التناسق في اللباس، ولا قيمة للهندام، ولا اعتراف بالمظاهر، كل شيء طبيعي فحتى الضحكات كانت من الأعماق..وكان “الحاج عبد الله الفكاك” يستطلع ما حوله ويرحب بالضيوف، وفجأة طفر من الباب الداخلي للدار، سرب من الأطفال صبيان وبنات جميعهم في ملابس نظيفة وأنيقة، أكبرهم يناهز العاشرة من العمر، على رأسه طاقية صوفية برتقالية اللون، وضع على الأرض مصيدة فيها جرد كبير أغبر وفتح بوابتها، اندفع الجرد السمين إلى الخارج وهرع يتنطط بصعوبة نحو باب الخيمة، انطلق الصغار خلفه يتعالى صراخهم وسرعان ما تناهت هتافاتهم السعيدة الظافرة وصيحة أحدهم: “هذا هو العشا ديال الشيخات”، فضجوا ضاحكين..أسرع إليهم “قنينيفة” راعي الغنم ملوحا بعصاه عليهم، ومهددا اياهم بمنعهم من فرجة الشيخات، ففروا منه هاربين..

الحبور يعم الصدور، حديث مرح وجلجلة ضحك، مع العيطة يحلى السمر..مع الشيخات يمرح البدويون وينسون الخصومات والنزاعات، ومنهم من ينسون حتى أنهم متزوجون، وجوه قوية صدئة لفحتها الشمس، لحى مزغبة وشعور مشعتة منفوشة.. تقاطيع كالصخر تحميها القبعات، هذا معمم وذاك مقبع، وآخر مطربش.. المناكب تتكئ على بعضها البعض، أجسام في جلابيب سوداء كالوطاويط الضخمة تمتد على الأرض… ومنهم من شقق جلد وجوههم فأصبحت كجلود السحالي..وأعينهم ملتهبة من وهج شمس النهار ودخان الخيمة.. الجل موجه النظر إلى مجموعة الشيخات المنشطة، البعض منشغل بالمسكرات والمخدرات، والبعض مشغول بالمنشطات والمؤخرات..تأتي وفود المتفرجين الأجانب من الدواوير الأخرى المجاورة ومن القرى البعيدة، وحتى من مدن مجاورة، يجذبهم حب فن العيطة..كانت “رباعة شيخات وادي زم” هي تلك الخلية للنحل التي تسقي عسلا للمحرومين بالمنطقة..ومن الحضور في الخيمة من يتحلقون جماعات، إذ كانت الأسماء تختلف حسب الألقاب، فمنهم من يحمل اسم مدن وعواصم دول غربية، ومنهم من يحمل أسماء مشاهير في الفن والسياسة، ومنهم من له أسماء رؤساء دول وحتى أسماء البهائم والحشرات: “صويلح طورينو، الغزواني مارساي، بعيز ميلانو، الحبيب قمامة، سعيد غزلان، امحمد الرويبعة، الميلودي الحنحان، أحمد الخطار، سعيد جاك شيراك، شعيبة بوش، المعيطي ساركوزي، عويقة القافز، الهويشمي رونالدو، الجيلالي شارون، الحفيان بوتفليقة، بحيبح ولد جويليقة، أحميدة عتابو، عمر ولد الصوبا، صالح ولد الكرشة، حويسين الكمانجة، عليوات الشيكي، بوجمعة الفخ، حمامة الشطاح، الميلودي الطحيشة، العريبي الدحيشة، سليمان قرطالو، مبارك النعيرة، قويسم الدبيبينة وعمجيد سطيلة وآخرون…..”، أشخاص يحملون كنى ألصقت بهم، فالألقاب عندهم لا تخلق اعتباطا ولكل واحد نصيب من اسمه الجديد..وجوه مرهقة تظل نهارا تترنح تحت لهيب الشمس الحارقة، عطشى كفروع الأشجار التي جفت من قلة الماء، ومتعطشة لمثل هذه الليلة، إنها ليلة استثنائية بالنسبة لهم، تؤشر على ليلة حمراء ساهرة حافلة بالملذات وضروب اللهو.
*******
الفصل الثاني
حل الليل، وأسدل الظلام ستاره، انخفضت درجة الحرارة شيئا ما بالخارج، عكس ما هي عليه داخل الخيمة، كانت الخيمة مليئة بالضجيج والعجيج من الحاضرين سواء بدعوة أو بغير دعوة؛ نكت لا تفتر ومناقشات لا تهدأ وضحكات مختلطة، وتدخين تنعقد سحبه في الفضاء..الصبية الصغار يشاغبون، يركضون، يتدافعون، يتراشقون بالحصيات الصغيرة،يتخاصمون، يتصالحون، ومنهم من يقذف الشيخات خلسة بالحصيات ..أضيئت المصابيح العمشاء الباهتة، دارت الكؤوس وفاحت الأفق برائحة تفصد الأجساد بالعرق، وبرائحة التبغ والكيف وماء الحياة “الماحيا”، والنبيذ الأحمر والجعة.. أترعت الأكواب ودارت على الأفواه النهمة المشتاقة، وبدأت الخمرة تلعب ببعض الرؤوس، على أنغام العيطة..موسيقى وغناء ورقص..عيوط خالدة تصدح بها حناجر الشيخات..فوضى في كل شيء، لكنها فوضى ممتعة..موسيقى وطرب وشغب، وشباب فياض بألوان القوة ثمل بنشوة الحياة..موسيقى صاخبة، ورقص ماجن، وكأس ينتقل من يد إلى يد ومن يد إلى فم..وأخذت الوقاحة تظهر رويدا رويدا..تبودلت النظرات، والكلمات..فكانت في تلك الليلة كلمات ليست كالكلمات..كلمات في الأذن هامسة تخفي شيئا ما، وكلمات جريئة تعلو وترن، وتطفو فوق همهمة الأصوات..عيون مفتوحة على وسعها تتحدى..وعيون ضيقة تذبذب باحثة عن شيء مفقود..أياد خشنة عريضة تنفر عروقها، وأياد ناعمة تلمع بالفصوص، وجوه سمراء مكدودة من التعب..ووجوه ناعمة حالمة أشرقها السمر..جفون مشوهة من التعب والرمد..وجفون مزدانة بالكحل والرموش اللاصقة..نظرات تشتهي الأرداف الممتلئة والنهود النافرة..ونظرات تبحث عن الفهم..ملابس خشنة تفوح منها رائحة العرق والثوم والنعناع والتبن والتراب…وملابس حريرية هفهافة ترفرف برائحة العطر والإثم..وفي خضم هذا التلاقي يقف الشيخ عازف الكمنجة -“الكومانجي ” الملقب بلغة الشيخات “القوابزي” والمعروف باسم “العريبي الخيراني”- شامخا يدعك الكمان ويداعب أوتارها بأنامله الطويلة الرقيقة وترا وترا، يسوي إيقاع نغماتها رافعا إياها فوق ركبته، مصغيا إلى عزفه مرتبا إياه حسب مقامات وأدراج موسيقية عشوائية لا يعرفها إلا هو، كان لحظتها يتلذذ بعذابه الموسيقي، فلم تعد الموسيقى والغناء يعنيان شيئا بالنسبة إليه، لقد أزال من ذهنه فكرة أنه يعزف الموسيقى ويغني لذاته، كان ذلك الإحساس موجودا عنده في البداية، أما الآن فقد انتهى الأمر، فالموسيقى والغناء صارا بالنسبة إليه تجارة ومصدر قوت، يغني ليعيش ولا يعيش ليغني..هذه الموسيقى التقليدية العيطية التي تعلمها وراء قطيع الغنم…وورثها عن أسلافه المنعمين الميامين..
كانت الموسيقى الصادرة عن “الكمنجة” الغجرية تبعث لحنا شجيا حزينا دليلا على القهر الذي يعيشه عازفها، ارتفعت معه عقيرة الشيخات بالندبة العيطية، استهلتها بالغناء “الشيخة مليكة” -المدعوة “الزريقة مولات السالف”، فسايرتها “وريدة بنت الفطوشي”، و”عيروطة بنت الشرقي” و”ربوحة بنت لغزيويني”، شيخات مغنيات يتألمن ليفرح غيرهن وليفجروا حقدهن الدفين في عشاق العيطة.
تدخل الشيخة “مليكة” في الوصلة الزعرية بصوت حاد ماعزي يشبه إلى حد ما الندبة وبصيحة مجروحة تصدح بصوت رفيع عال، وهي تجاري اللحن العيطي المرح الصاخب في وصلة “الحساب الزعري” وهي تلفظ كلمات “العيطة الزعرية” التي تحفظها عن ظهر قلب:
– مذا من سر …في زغب الصدر
– العريس مكَفض… الله يحفظ
– خلي وجهك نقي…ليام تلاقــي
-رجال الدرك… يهلكو بابــاك
– فليسات الخرفان… داهم لاجودان
– حيح يا الحياح… را الحرامي طــاح
– كب لي نشرب …على غدايد الحب
-من كثرة لحشيش…مات ليه الدحيش.

وقف “عبيقة القافز” رافعا كأس الخمر بيمناه إلى الأعلى، واسمه الحقيقي “عبد القادر”، منتصب القامة قصيرها، وهو شاب في الثانية والعشرين من العمر، خفيف الحركة متحفز النشاط لا يقر له قرار ولا يسكت له صوت..يتمتع بحس فكاهي، وروح الدعابة..ينزل عينيه وينظر إلى أخوه “الشكَدالي” توأمه الجالس أمامه، وكان الشقيقان متشابهان لدرجة كبيرة، إذ يصعب التمييز بينهما، فكلاهما له هذا الوجه المستطيل، وعينان عسليتان واسعتان جاحظتان تشبه إلى حد كبير عيون الإوز، وحاجبان كثان أشعثان، وبشرة سمراء.. إلا أن “عبد القادر” أكثر طيشا من أخيه،الشكَدالي، ودونه طولا، وكان لكل واحد منهما أنف أفطح وشفتان غليظتان.. وجهان اجتمع فيهما الجمال والقبح الريفي..وكان يبدو أنهما متفقان على نفس اللباس، حيث كان يرتديان سروالان من الجينز الأزرق، فالذي يرتديه عبد القادر قد شحب لونه، أما القميصان فكانا في لون أحمر، لكن كانا يختلفان في الحذائين، حيث أن عبد القادر كان يرتدي حذاء أبيض رياضي، أما “الشكدالي” فاكتفى في تلك الليلة بنعل جلدي أسود..
شرب “عبيقة القافز” كأس الخمر دفعة واحدة، وأحنى رأسه ناظرا إلى شقيقه، ناهرا آمرا:
– كب الماحيا.
يملأ الأخ الشقيق التوأم له نصف الكأس ويمده إليه، فيرجعه له منتهرا بنبرة التفكه والسخرية:
– عمر الكاس حتى للفم، مقراوكمش في السكويلة الغش حرام.
يمرر كمه الأيسر على أنفه ويستطرد ناهرا أخوه:
– “زيد عمر، السكويلة علمتكم غير القبح وقلة العراض.”
مسح فمه من التفال، وأردف ساخطا:
– عمر السكويلة متخرج الرجال.
ملأ الشكدالي لأخيه الكأس حتى راح يتدفق، ومده إليه.
أمسك كأس الخمر وعينيه مصوبة إلى الشيخة “مليكة” وهي تلولب بطنها تماشيا مع الموسيقى العيطية الصاخبة، ورفع كأسه إلى فمه ثم تمضمض بحركة أرنبية وازدرد الشراب، توقف عن الشرب ثم قال لأخيه بصوت مسموع:
– “اشرب..المضمضة بالماحيا سنة عن جد لنا مات وهو يسكر.. وأتبع قوله ضحكة مجلجلة أبانت عن أسنانه الحمارية، تلك التي كانت تزيد من بشاعته..فضحك كل من حوله..ورفع إليه أخوه “الشكَدالي” رأسه قائلا:
– أنت كَلس يا عبيقة وخلينا نتفرجو.
لكن “عبيقة” في ليلته لا تنفع معه نصيحة، ولا يردعه نهي..وعاد شقيقه “الشكَدالي” يملأ له الكأس من جديد، فأمسكه بيمناه وعب ماء الحياة دفعة واحدة وهو واقفا، تلمظ، وأغمض عينيه ثم فتحهما فتجحظان، تجشأ وحمد ربه.. ومسح فمه بطرف كمه الأيسر، ومرر يده على رأس “المعيطي ساركوزي” الجالس بقربه ومشاركه في الشرب، وصرخ بأعلى صوته شامتا في صوت يعلو أصوات الضجيج:
– وتبارك الله على “ساركوزي”، العيطة عليك يا الحادر عينيك…
وأتبع قوله ضحكة قهقهة…وإلى جانبه كان يقف “احميدة الطعارجي” وهو يقرع آلته “الطعريجة” التي كانت على ذراعه الأيسر بملتقى المرفق، وكانت تصدر طقطقات تبدو كطلقات رصاص مسترسل من مسدس رشاش، في إيقاع شعبي جميل متناغم مع لحن الكمنجة النائح، فالتفت “عبيقة القافز” إلى شقيقه وهو يقول:
– وا الشكَدالي..وأنت اسمع الطعريجة أش كتدير، رابعة ديال الغيس منشطة دوار، وأنت فيك قنطار ديال اللحم مبكي قبيلة.
ليجيبه أخوه وهو يمسك بسرواله ويجره إلى الأرض:
– وأنت كَلس وخلينا نشوفو ونتفرجو في الشيخات.
صدحت وغنت الشيخة “وريدة” كما يحلو لها أن يناديها المتفرجون، وهي لا تحمل من الوردة إلا أشواكها، وردة آدمية ولدت من رحم الشوك والمعاناة..عمرها يتعدى الثلاثين، نحيلة ذات سحنة صفراء مرضية، جسدها الضعيف..المتناسق الرشيق..يتهادى وسط قفطانها الأحمر المشدود عليها..لها عينان داكنتان تحف بهما حاشية سوداء من الأهداب الطويلة، عيناها توحيان بالمرح والعبث..شعرها الأسود يتهدل بدلال ودلع على قفاها وكتفيها، خصرها ضامر كنبتة عذبها الجفاف.. ينعتونها عودا من أعواد جهنم.. لم يبق منها غير ملامح فتنة فانية، لا شيء فيها يُشتهى، لكنها في هذه الليلة كانت كلها بريق ونشوة.وحسب ما يروج أنها هاربة من بيت الزوجية.. هاربة من تجربة زواج فاشلة..زواج الفاتحة..تجربة عانت فيها كل أشكال العبودية مع رجل كهل امتلكها بدون وثيقة، وكان كل همه اغتصاب أنتاه كل ليلة..كان قد زوجها جدها منذ أعوام رغما عنها من رجل كهل في مثل سنه وهي صبية قاصر، امتص ربيع عمرها، وجفف زهرة ربيعها بعمره السبعيني، على الرغم من أنها لم تتجاوز آنذاك سن الرابعة عشر من عمرها، تزوجها صغيرة بينه وبينها تقف ما يزيد على خمسة وخمسين سنة، أكثر من نصف قرن يفصلهما، لا تربطهما أية علاقة وجدانية، لم تعرفه إلا في ليلة عرسها، بكت حتى جف دمعها ولم يرحموها، فرح أهلها بزواجها وحزنت هي وبكت.. ونسوا أن بفعلهم هذا أهلوها لتكون شيخة، كانت صفقة عقدها جدها ليداري بها خسارته، كان قد اشتراها الكهل فتية من جدها لتضخ به دماء جديدة، وهو لا يشبع من الجنس، رجل كهل أساء عشرتها وعذبها..كان يذلها ويضربها، يقول أنه يغار عليها، وهل تغار نهاية الخريف من بداية الربيع؟ كانت ترفض ممارساته الجنسية الحيوانية فيضربها بوحشية، فتركته والتجأت تبحث عن قوتها في العيطة، هاربة من ضرباته الموجعة وشتائمه البذيئة وأنفاسه النتنة وجوعه الجنسي الأبدي..لكنه ترك بها عيب برجلها اليسرى التي تخمع بها، كان يشوبها عرجا طفيفا بساقها غير واضح تماما يطبع مشيتها، الشيء الذي أعطاها وسط الجمهور لقب “العرجة”..ومع ذلك لا زالت مرأة تغني وترقص..وكان البعض من الجمهور يتنابزون عليها بألقاب مثل؛ “العرجة، العوجة، كَوادالوبي، فخيخة ..” فكانت ترد عليهم بابتسامات تتمطط عليها شفتيها اللتان وضعت عليهما قليلا من الأحمر القاني، ووجنتاها اخترقتهما تجاعيد متقاربة عميقة وقد اكتسبتا لونهما من مسحوق وردي، بينما ارتسم خطان من كحل عبر عينيها اللتين غابتا في محجريهما..وقد فضلت أن تعيش حرة..تعيش بدون رجل.. أن تبتسم في وجه الجميع رغم مرارة ظروفها، وهي التي تمردت على الجميع، وتركت بعلها والتجأت إلى الأعراس ترثي حالها بغناء العيطة، لعلها تجد متنفسا يخفف عذابها الدفين. كانت تظهر حزينة، وقد زادها الحزن سحرا وسط الخيمة، لتبدو وهي في حزنها أجمل بكثير من تألقها وهي في سعادتها..وقد حان لها أن تحرر نفسها من الأحزان لتعيش وتحيى..ولطالما حاولت أن تبدو جميلة في الأعراس، مفعمة بالأنوثة، حتى وهي في أسوأ المآسي والأزمات، فما من سبب لتزيد بؤس الناس بماضيها القاتم وشكلها البائس..
خطفت سيجارة من فم مخلوق بشري غريب جالسا أمامها، سموه والدية ضدا في القدر باسم “الزين”، يبدو في الثلاثين من العمر، يهز إليها وجهه القبيح، بشرته النحاسية الصدئة، وعنقه الطويل، وصدره العاري المشعر، ولحيته المهملة النافرة كلها ملامح توحي أنه حفيد سلالة العصر الحجري، تبتسم له “وريدة” فيبتسم لها ويسكت وكأنها خدرته مغناطيسيا عن بعد…تقترب منه، وتمج السيجارة في تتابع بتلذذ، وتنفخ دخانها على وجهه المخربش في تحد واضح، هي التي أهانها رجل فأهانت كل الرجال، ثم تسقط رماد السيجارة بطريقة المحترفات بالغواية وسط شعر رأسه الأكرث، وهو يضحك منتشيا ومفتخرا بالإهانة.. يرفع السارح راعي الغنم”بعيز ولد الحفيان” تلابيبها وهو يصرخ معاتبا الشيخ:
وااا الشيخ….وااا الخيراني ، أنت منين جبتي لينا هذ القرعوشة العرجة، ياك ع مقود مقود، وجيب لينا شي حاجة مقودة!
ويمدها آخر بكأس مسكر “ماحيا” يبتسم لها بوجه تعلوه صفرة الموت، وهو يتغزل بها بلسان متلعتم:
“تبارك الله على وريدة، تبارك الله على كَوادالوبي، وردة يا الوريدة، بصحتك وراحتك يا الزين !”
تمسك منه الكأس وتعبها عبا، وقد آلما الثناء وكأنه سب وهجاء..ومسدت حلقها بيدها اليسرى، وأعادت له الكأس، وهي تدعو له بأن يحفظه الله ويرعاه..ما ألذ الغزل في وجه الشيخة ولو كان كذبا، حال مخزية ولكن ترد إليها اعتبارها وكراتها كأنثى مهيصة الجناح..فالدمامة نفسها سلعة لا بأس بها في رحبة الخيمة وسط السكارى وسهارى الليل، حيت تختلط آهات الدلال بعواء العربدة، وسباب المتعاركين بقيء المخمورين.. واستأنفت دوريتها في رحبة الخيمة نابذة ما جرت به التقاليد الريفية والعادات البالية.. تحادث هذا، وتلاطف ذاك، وتسب الثالث وتقبل الرابع..بينما آخرون يتوهمون وراء الدعابة اللفظية التي تصدر عنها أشياء أخرى..كانت في تلك الأثناء تبدو في قفطانها الأحمر كوردة حمراء زاهية محاطة بسرب ضفادع..
وبدلال بدوي فاجر، تقف “الشيخة وريدة” أمام “المعيطي ولد زويزو”، خمسيني متربع في جلسته، متكأ بظهره على العمود الركيزة للخيمة، رجل أسمر البشرة له وجه يشبه وجه الدجاجة، على بشرته شحوب يدل على المرض، ونبت من الشعر نما منذ أيام…يرتدي جلبابا أسود رثا قُدَ من أكمام، وعلى رأسه طاقية زرقاء من خيوط الصوف بهت لونها.. وعلى أنغام عيطة “الحساب الزعري” تحرجه “وريدة” برقصها العاهر، تراوده عن نفسه، تتحرش به، فهام بها ولم تهم به.. كانت تبدو له كالثمرة الشهية الناضجة وهو الجائع المحروم.. شعرت بالنار في نظراته الشبقية، كما شعرت بغيرة النساء البادية على وجوههن من بعيد، وبإلحاح ذبابي تريد من كرمه وسخائه وهو الشحيح، آخرون إلى جانبه يغمزون ويهمسون لها، ويحرضونها عليه، تخطف طاقيته وتضعها فوق رأسها، يحاول استرجاعها وهي تدفعه وتتمسح به كهرة تطلب غداءها، وما عليها إلا أن تتحمل الرائحة الكريهة المنبعثة منه، أما هو فأسكرته رائحتها المنعشة، لا رائحة تفصد العرق الملبد بالتراب والتبن..ووضعت مرفقها الأيمن على كتفه وهي تغزوه بنظراتها الشبقية لهفة إلى المال وإلى الخمر التي تطلبها جوارحها..إنها فعلا امرأة شاذة..امرأة مثعِبة.. امرأة تتحرش بالرجال ويتحرشون بها، هذا يمسك الخصر وذاك يتلمس الردف والفخذ، وآخر يتحسس الساق.. كانت في تلك اللحظة مثل حيوان أليف آكل عشب يجد نفسه فجأة في غابة تعج بكل ذي ظفر وناب…ورمى عينيه إلى فتحة القفطان في الصدر، فبدا له النهدان يوشكان أن يفرا إلى الخارج، اشتعلت جوارحه، يطلبها في توسل ورجاء أن تجلس في حضنه كما تفعل زميلتها مع الآخرين فتتمنع وهي الراغبة!
رشاها أحدهم بكأس نبيد، جرعته دفعة واحدة، أكرمها آخر بكأس “ماحيا” تجرعته في مرارة وتلمظت، ثم تنفست بعمق وهي تشعر بأنها تريد أن تسكر، تريد أن تتيه، تريد أن تضيع رغم ضياعها، تريد أن تدوخ…كانت كلما شربت كأسا اشتدت رغبتها في كأس أخرى..كانت تطلب، وكانوا يلبون..لكنها ظلت متسمرة ثابتة في مكانها، وواصلت هز وسطها على أنغام الكمنجة، وضحيتها “المعيطي ولد زويزو” بين رجليها، يكاد أنفه يلامس فخذيها، وهي تراوده عن نفسه وتحثه على العطاء:
جبد لفلوس، جبد الغرامة، جبد علق.
يجيبها في استسلام الخانع:
أنا معاك بالله وبالشرع، سيري بحالك بدلي ساعة بأخرى.
وترنح ” الهويشمي قزيقز” القادم من “كويزة”، الجالس بجواره، وراح يسألها عن اسمها الحقيقي في صوت متلعثم، وصافحها من يدها قائلا إن له صديقة تشبهها بالحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء. فابتسمت له ونغزت ضحيتها تحته على العطاء والسخاء، فنطق واحد آخر إلى جانبه بصوت أراد أن يجعله أجش وبنبرة الواعظ:
فرقي عليك الراجل..سيري نعلي الشيطان، كوني تحشمي، سيري توبي وصلي وتقاي الله !
قال عباراته الوعظية، بصوت أراده أن يكون مسموعا، وكأنه يرش ملحا على جراحها..وهو المسمى “الصالح” المكنى ب”ولد الشطيطيحة”، في الأربعين من العمر يبدو أكبر من سنه بكثير، ذو وجه أصفر شاحب، انتشرت فوقه الغضون والتجاعيد طولا وعرضا، حتى صار يبدو وكأنه مومياء فرعونية، أو تفاحة تقادم عليها العهد فتجعدت قشرتها وأصبحت تعافها النفس، ومن تحت ذلك الوجه لحية كثيفة مخضبة بالحناء تغطي نصف صدره ومن فوق رأسه طاقية من الصوف المغزول قذرة بهت لونها الأخضر، ومن وسط وجهه تطل عينان سوداوان لامعتان صغيرتان، كأنهما مقلتا ثعبان.. وكان معروفا بالدوار بدهائه ومكره، يحرص كثيرا على أن يضمن حديثه بعض آيات القرآن، على الرغم من بعده عن قيم الإسلام الحقيقية..وتأملته الشيخة المقروحة مليا، ورمته بنظرات حاقدة، ودخنت من سيجارتها، وأرسلت إليه سهام عينيها، ورمته بقذيفة دخان من فمها على وجهه، وجعلت تضحك متظاهرة بالاستهانة بكلامه الجارح، بينما كانت في تلك اللحظة تعاني شرخا داخليا وشعورا مريرا جارحا ممزوجا بالخجل والقهر والتذمر.. هي التي ليس الفرح الصافي من حقها، لم تذق في حياتها أن يمر يومها صافيا، ذلك النوع من الصفاء الذي ينعم به مثيلاتها من النساء، ولم يتخيل إليها أنها تستطيع أن تتذوقه..فهي تعلم حق العلم أنها شيخة عرضة كل يوم بل كل ساعة لصدمة عنيفة تحطم قلبها وتهز كيانها، وتدرك كل الإدراك أنها دائما وأبدا هدفا لسهام المتخلفين من المتطرفين والمتشددين، والمنافقين..وما عسى أن يصنع الرقص والغناء، بنفس محطمة مكوية مجروحة منطوية على البؤس والشقاء..ومع ذلك فهي ملزمة بأن تحاول التظاهر كأن شيئا لم يقع..ونظرت إليه في غيض، إن نظراتها كانت تقول وتنطق بأنها سئمت تكاليف الحياة..فلملمت جراحها، تنفست بعمق وزفرت بتنهد، وأرادت أن تهينه أمام الرجال..أرادت أن تضعه عند حده، ولم تشفق عليه..ولماذا تشفق على أمثاله..لماذا تشفق على الآخرين؟..وهي تعلم أن هذه الدنيا للأقوياء فقط..وإنها لم تحس أبدا في حياتها كلها بعطف أو حب ولا حتى شفقة..فهي قوية بجرأتها وبفنها..فهي شيخة والشيخة لا تخاف الفضيحة بل تحترفها وتقتات منها..وتنفست بعمق لترد عليه وهي تقطب بين حاجبيها ورمته بنظرات نارية… نظرات احتقار عاجلة من النظرات التي تدخرها للمتطفلين، وقالت في صوت قوي رنان لا تتخلله رنة الخوف ولا تمازجه نغمة خجل، وتفوح من نبراته رائحة الاحتقار والكراهية:
سير تقَوًد، ديها أنت في سوق راسك. اللحية وقلة لحيا”.
وزم شفتيه وقد بانت على وجهه الشاحب- الذي يتوسطه أنف معقوف كبير- إمارات قلق وضيق، كانت تبدو له في قفطانها الأحمر وكأنها جمرة كبيرة من جمرات الجحيم..وأن هذه الشيخة المدمرة تستطيع أن تحرق دوار كامل..فهز عينيه الملتهبتين إليها، ونظر إليها في احتقار ثم قال مرة أخرى بلهجة الواعظ الناصح وقد أراد أن يكون صوته مسموعا:
الله يهديك..سيري توبي وتزوجي وديري أولاد. وفرقي عليك هذ الحرفة. تشياخيت غادا بيك لجهنم.
ومسح لحيته الكثة بكف يده اليسرى، ثم هز إليها رأسه واستطرد مدعيا الحكمة:
غدا تغني وتشطحي في جهنم.

أراد أن يحطم قلبها، ونسي أنها كلها محطمة، فكيف يحطِمُ ما هو أصلا مُحطم..وكان يريد إيلامها فكيف للشاة أن تتألم من السلخ وهي مذبوحة؟! وابتسمت ابتسامة بطعم المرارة ونظرت إليه في استهزاء، ثم ردت عليه في وقاحة، وهي تعرف مدى انتشار النفاق في البادية وتغلغل المظاهر الخارجية للتدين الزائف والنفاق المستتير، فقالت وقلبها المجروح يضرب وصوتها المبحوح يرتجف بالغضب:
“نوض نتف هديك اللحية وسير لحمارتكم”.
ضحك الجالسون حوله، وقال أحد المازحين شامتا فيه وهو مطلع بمغامراته الآثانية:
الله يعطيك الصحة يا وريدة، مكدبتيش.
وتناثرت ضحكات من حولهما، فأعوانها كثيرون وهو محاصر لوحده..وقهقهت هي عاليا، قهقهة الشماتة والانتصار، تلك القهقهة المتعجرفة المخصصة للغواني، وودت لو تستطيع أن تُنفِذ قوله، وتعمل بنصيحته، ولكن هيهات، فلم تظفر بأحد يحبها أكثر من ساعات ويرميها كلعبة في يد طفل صغير، لعله يسخر منها أو يعاني مرارة اليأس مثلها سواء بسواء، لقد كابدت من الرجال ما جعلها تحقد عليهم وتسبهم وتذلهم وتحتقرهم.. ولكن دون أن تخمد لها رغبة جسدها الذي يُسِيمُها الهوان والذل فكرهته..كرهته كما تكره الفقر والرجال، فما هي إلا أسيرة للجسد والفقر ولا تدري كيف تستنقذ نفسها منهما، جرفها التيار ولوثها الرجال وجرحتها الأيام، فلم تعد تدري من خير في أن تأوي إلى الأعراس تغني وترقص وتجلس بين الأحضان، ووتغني وترقص وهي تخمع برجلها الناقصة مثخنة بالجراح، تقاوم تكاليف الحياة بلا نصير ولا رحيم..ما عاد في قلبها مكان للأسى، فقلبها مثخم بالجراح لا تملك غير آهات الألم..حتى الموت عافتها، فلم تعد تخاف الموت، لأنهم قتلوا فيها الأنثى، قتلوا فيها الجمال، حطموا فيها كل ما هو جميل، فهي ميتة حسيا، قتلوها بقذائف نظراتهم ورصاص كلامهم، ووقاحة أفعالهم..هي المرأة التي أصبح الموت أملها الوحيد رغم أن قلبها متعطش للحياة، فأضحت هذه الحياة بالنسبة لها جحيما دائما قتلت ما في جوفها من أمل وأصبحت لها أمل، فهي لا تخاف من الفضيحة ولا تخجل منها بل تحترفها، تخاف من الخالق ولا تبالي بالمخلوق، ولا تخاف من أحد ولا تهاب السجن، لأنها بكل بساطة، أصلا تعيش وسطهم في سجن مفتوح.. دخنت من سيجارتها وتنهدت ثم نظرت إلى الذي أيقظ الجراح، وقالت موردة الوجه والناس تنظر إليها وفي عينيها آثار دموع:
واش تتزوج بيَ أنت؟
فلزم الصمت ولم يجادلها، وقالت متضاحكة وفي قلبها مرارة:
هاهاها …فيكم غير الهضرة.. وفين الرجولة؟ جميلنا في حلان الفم. لحيتك كيف العتروس، تفوو..
وانفجرت القهقهات من حولهما، وأحست أن جميع الرؤوس بالخيمة قد استدارت نحوها. تسجل لها كل نأمة وحركة..وقال آخر بلهجة تنم عن الإشفاق:
خليها في حالها ربي اللي عالم بيها..
فقالت داعية على من نخس جنبها، مدفوعة بمشاعر الألم والخذلان التي تصطرع في نفسها، وهي تسوي حزامها الأسود الأكثر حلكة من حظها، وكان دعاؤها أبياتا من قصيدة العيطة البيضاوية المرساوية الشهيرة، عيطة “ركوب الخيل”:
سير الله يبليك بما بلاني وتجرب حالي.. والله يبليك بالزين اللي يشربك لمحاين.
الله يشربك من مايا وتفهم لغايا…الله يدخلك من بابي وتجرب عذابي.
كانت كلماتها التي تلفظها في ابتهال تهتف في أعماقهم كتراتيل كاهن من عبدة السحر يدعو إليه الشياطين! وتحول تجهمها إلى ابتسامة مبتهجة، لا لأنها كانت تستمتع باللحظة الملتوية، بل لأن اللا مبالاة في أعماقها هي التي همست لها بأن لا تعر بالا لكلام الآخرين..وأكملت مهمتها وهي تتحرش بالرجال وتطلب المال، فلم تترك “المعيطي ولد زويزو” إلا بعدما أهداها من ماله ورقة من فئة عشرون درهما، وأهداها أحدهم حبة العلك، رمتها في فمها دون أن تشكره، واستأنفت عملها تنتقل بين الأحضان، من حضن إلى حضن ومن جهة إلى جهة..خطت خطواتها السكرانة، تتقاذفها الأيدي، وتطلبها الأحضان، غنت، وناحت، وضحكت، ورقصت، ورسمت برقصاتها الحال والمآل، وتوجعت، وغاصت عميقا في أمواج الألم.. إذ كان عليها أن ترضي الجميع..وتبحث عن صيد ثمين، هي الفريسة القادرة على الافتراس..وهي التي رزقها بين الأحضان، رزق مغموس بالوجع والذل والألم والمهانة..فهي دقيقة في حضن هذا ودقيقتين في حضن ذاك..بالدور..وكان صاحب الدور يبدو سعيدا منتشيا كأنه عريس..وفي التالي جلست في حضن “ساركوزي” بعدما شمت رائحة “البسباس” تفوح من فمه، وقد كاد ينز خمرا، فهي تريد أن تشرب الويسكي، وبالفعل تحقق لها ما تمنت. يشرع “ساركوزي” في تلمسها وهي في حضنه كالقطة الأليفة المدربة..يتدلى على ظهرها شعر طويل منقع بزيت رخيص، ورائحته القوية تملأ خياشيمه فتنقله رويدا رويدا إلى جو وردي جميل، أكثر من الجو الأحمر الذي يعيشه في تلك اللحظة، وشعر بأن في بدنه كله تسري تيارات جياشة، وكانت هي تمضغ العلك وتتجشأ بين فترة وأخرى، وهي جالسة في حضنه كاشفة عن فخدين أبيضين كالشمع مطرزين بوشم الحناء السوداء هما سلاح الإغراء لديها..تشرب من كأسه، يحسو هو رشفة، ويناولها الكأس فتحتسي رشفة… وهو في تلك اللحظة أسعد مخلوق في الدنيا لهذا التوفيق، وهي تقاسمه كأسه ومواضع شفتيه، قبلته على فمه، وأحست به مسحورا بين يديها، تلك بيداغوجيتها في شفط المال التي تعلمتها في صفوف مدرسة العيطة والتي علمتها كيف تعشق رجالا كثر ولا تحب إلا المال.. ورفعت رأسها باسمة باشة نكاية منها في الرجل الذي يطلب لها الهداية والتوبة بالزواج..كان الكل هائم في نشاطه بينما كان “الحاج عبد الله الفكاك” صاحب العرس يتقبل هذا المنظر الخليع بصدر رحب ونفس راضية..ويتمنى أن تمر هذه الليلة بخير وفي أحسن الظروف..
يتقدم الليل، ينعشه نسيم ذو دلال، وازداد الجو داخل فضاء الخيمة حرارة، علت ضوضاء الشاربين، واختلطت بأغاني العيطة؛ عيط الأشياخ وهيت الشيخات..وقرعت الكؤوس ببعضها، ثم سكبت في الأجواف..تُسمع في الأركان ضحكات غضة وأخرى غليظة خشنة، ضجيج السكارى وعبث الأطفال يحدث عيطة من لحن آخر..وشاعت الممازحات والممازجات..ودارت الكؤوس ومعها الرؤوس، وقد شربت الشيخة “وريدة” وما سكرت، وما لبث أن تورد خذاها بعض الشيء، ووقفت تستأنف مهمتها من جديد، وارتطمت رجلها بصينية مملوءة بالكؤوس فتحطم بعضها، ولم تبالي بذلك، فهي تريد أن تحطم كل شيء كما حطموها..ونظرت إلى “شعيبة الفروج” في إلحاح وبين أصابع يديها أوراقا مالية مختلفة قيمتها بألوان بين الحمراء والخضراء والقرنفلية، والزرقاء، و كان “شعيبة” يشرب مسكر “الماحيا” المخلوطة بالريدفور وماء الرادياتور، وأمامه قنينات من الجعة تركها مسك الختام..شاب في الثلاثين من العمر، متوسط البنية قصير القامة، يرتدي سروال من الثوب مخطط مربعات بالأبيض والأسود وقميصا باللون الكاكي وعلى رأسه طاقية زيتونية اللون مزيتة بالوسخ والعرق، وجهه الصغير ذو المسحة الماكرة تضرجه حمرة فاقعة فقوع عرف الديك..اقتربت منه وألصقت جسدها بجسده، وهمست في أذنه بكلمات ناعمة في ذل وتدلل، كانت أنفاسها تبعث الدفء في قلبه، والخدر في صدره كله، وانحنت قليلا، لفحتها رائحته، كانت تنبعث منه رائحة التبغ والتبن والعرق والتربة الرطبة، هز إليها رأسه فزلزلت ضرعها شبه العاري أمام عينيه، وأحس بأمواج ساخنة في صدرها تحت القفطان. غلى الدم في عروقه..ووقعت عيناه على الحفرة الناعمة بين النهدين، كان الجزء الأعلى منهما يظهر بوضوح حتى أوشكت الحلمة أن تطل، وأغمض عينيه ورج رأسه ثم فتحهما ليتأكد أنه ليس في حلم..ففغر فمه وجحظت عيناه، وكأنها نومته مغناطيسيا.. وسُمعت آهات من صدور البعض فضحكت الشيخة، وتنهد “الفروج”وابتسم، وأمال طاقيته الصوفية الزيتونية جهة اليمين، ولو كان يتقن الصياح لصاح قبل الصباح، وجعلت تتودد إليه وقد زعزعت نظامه العقلي..كان كلما نظر إلى عضو من جسدها نسي العضو الآخر.. ورجت من جديد تذييها ذوي الحلمتان المنتصبتان، اللذان تستعملهما للغواية والشهوة مادامت لم تستعملهما في انتاج الحليب..فهما أدواتها الايروتيكية في الخيمة، نهدها ينبت في صدرها..عضو من جسدها ولا علاقة للآخرين به، يمكن لها أن تتصرف فيه كما يحلو لها..لم يسبق لها أن كانت أما مرضعة، لم ترضع الأطفال الصغار، لكنها مدفوعة من الأيام أن ترضع الكبار، هي شيخة..إذن هي حرة..تملك ثديها وهي حرة فيه، لها الخيار تهبه لمن تشاء وتستعمله كيفما تشاء..إذ لم ينتج الحليب للرضاعة فها هي تستعمله للشهوة ولجلب المال..هم الذين منحوها صفة ولقب شيخة، يعتبرونها عورة وهي روعة..ويعتبرونها وعاء جنسي وهي جنس بشري..لها ما لهم من أحاسيس ومشاعر ومتطلبات..وتواصل عملها، فتعرض لعيني “الفروج” المشغوفتين محاسنها الغاوية..تداعبه بنظرات حلوة من عينيها..خطفت طاقيته ووضعتها فوق رأسها، بان عيب شعره الذي ينبت رقع، وضحك غير مبال بقرعه، يحصل له الشرف أن تشاركه الشيخة طاقيته.. ومهما تكون “وريدة” قليلة الجمال، فإنها أمامه في تلك اللحظة في جمال الزهرة البرية من جراء مفعول “الماحيا” البجعدية..فهي في تلك اللحظة هي الحسناء المحاطة برهط غجر، أفواههم مفتوحة وعيونهم تتفحصها في نهم وشراهة، قسمات وجوههم، ونظرات أعينهم توحي للناظر إليها، كأنهم يبحثون عن شيء مفقود، يتكلمون بينهم بهمس شديد، أو صراخ أشد، لا وجود عندهم لشيء وسط..وبطلب منه أعادت له طاقيته، فسواها فوق رأسه، وبإلحاح ذبابي منها، أخرج “الفروج” محفظة ورقية جلدية ضخمة من جيب الجلباب الداخلي، وفحص أوراقها بتمعن، ثم أخرج ورقة بنكية من فئة عشرين درهما، ورقة مالية بالية أنهكها التداول المفرط والتلمس بالأيدي أكثر من الشيخة الواقفة أمامه، قلبها في كفه مرات وهو يحدق فيها ليتأكد منها، هز عينيه إلى الشيخة “وريدة” فابتسمت له ابتسامات مغناجة، فأحس بابتساماتها أصابع تفتش جيوبه، مد لها الورقة المالية من فئة عشرون درهما ولما أرادت امساكها بيدها راوغها بالورقة وعينيه في عينيها وهو يطلب منها في زهو من أنفق أمواله في الليالي الحمراء، وقبل أن يبدأ الكلام تهدلت شفته السفلى كاشفة عن بقية من أسنان هدمها التبغ، ثم رسم تعبير جد على ملامح وجهه وهو يقول بلهجة كبار الفلاحين والأعيان وبصوت متهدج متحشرج يشبه إلى حد ما نباح كلب مسن هرم:
شوفي يا “وريدة” بغيتك تغني ليَ ديك العويطة ديال “خربوشة”.
وأمال طاقيته الزيتونية وجحظ عينيه فيها، كثور هائج لوحت له بغلالة حمراء، وهو يضرب براحة يده اليسرى على صدره ممسكا بالورقة المالية بين أصابع يده، واستطرد كالآمر:
“وبغيتها تكون عيطة بيضاوية”.

نطق بهذا القول في زهو وافتخار وسرور، بل في شبه انتصار على أعداءه بالخيمة.. وأرسلت هي قهقهة يشوبها كثير من الغنج والشبق المتعمد..وخطفت الورقة المالية من يده في تلهف فاجر ماكر، وفي سخرية ساخطة وهي تشتم:
هاكاوا على القايد سي عيسى بن عمر.. ! هاك هاك..على وجه خربوشة..، وجهك مخربش كوجه الدحش!
تناثرت حولها ضحكات مجلجة، من بعض المتفرجين الشامتين، وضج المكان بهمهمات وتعالى صراخ الأطفال النزق..فصعد إليها “شعيبة الفروج” عينين ثاقبتين تدوران في مقلتيهما، فوجدها تنظر إليه في تحد بوجه خالي من تعابير الخوف وتعابير الفرح.. وحدجها بنظرة يلوح فيها الغيظ، ليرد عليها ثائرا والرذاذ يتطاير من فمه:
تفووو…سيري يا الشيخة بنت الشيخة الله يوكلها ليك في غٌرًيبة.
تعالت الضحكات والقفشات حولهما، وكان “حسن الموسطاج” في تلك الأثناء يفتل شاربه الكث الطويل، يصل إلى ذقنه، هذا الشارب الذي جعله يبدو دائم الابتسام حتى عندما يكون كئيبا، فأطلق ضحكة مجلجلة ورد على “شعيبة”:
-وااا شعيبة الفروج، وراها غبيلة ماشي غريبة، راه حبس ماشي حلوة العرس.
التقط “شعيبة الفروج” زجاجة “الجعة”من عند قدميه وفتحها، وألصق فتحتها بفمه، ثم مضى يجرع ليطفي لهيب الحرقة، لقد سلبته المغنية الغانية المال، وأضحكت عليه القوم..أما الشيخة “وريدة” فقد ألفت سماع مثل هذا الكلام، لم يعد يثيرها، وهي التي تفاخر أنها تزوجت كهلا وتركته يتحسر عليها، وعاشرت ذكورا وخبرت أنواع القضبان من الحماري إلى الخنصر والبنصر.. جالت ببصرها على الحاضرين، وتحركت وسط الخيمة، متنازلة عن كبريائها المطعون بالإهانة والاحتقار..كما شعرت بسعادة الرجال من حولها، وبغيرة النساء التي كانت تنظر إليها بشزر وتقزز وحسد، وببعض الاشمئزاز.. ووقفت متجردة وخللت شعرها بأصابع يديها، وراحت تجود بالرقص، على إيقاع الموسيقى العيطية الصاخبة، كان رقصها جميلا، وأضفت حركات رجلها الناقصة إبداعا راقصا، كانت ترقص دون توقف، وأحيانا تدوس عابثة بخلق الله من الرجال، فهي التي رأت في حلم أنها تمشي فوق رؤوس الرجال..
*******
الفصل الثالث
الطقس معتدل، أفراخ طائر”الجاووش” ترفرف بأجنحتها في تزاوج على أغصان الأشجار التي تبرق بلون الفضة مع ضوء الخمية، كأن العرس عرسها..فضاء الخيمة من الداخل يزداد حرارة، والإيقاع الصاخب يرتفع وينخفض، والصخب يصم الآذان، والجو مفعم برائحة العرق والدخان، وتفصد الأجساد.. ارتفعت أنغام الموسيقى تملأ النفس بهجة وإيناسا..تلعب الأوتار وتتهادى الأنغام..أصوات تغني المواويل الشعبية..أفراح فيها حزن..وأحزان فيها فرح..أصوات برية غجرية تعبر عن مكنونات النفس..وغدر الدنيا الدوارة..وفراق الأهل والأحبة..وعذاب الهجرة والحنين للأم وللوطن..وغنت ورقصت الشيخات في جو من العربدة والمجون..واللهو يهيج أشواق المحرومين ويثير استهجان أهل التقوى والورع..لكن الشيخات لا يؤمن بنصيحة ولا موعظة.. وأغلقت “وريدة” عينيها، والناس من حولها مشدوهين، ففتحتهما في تؤدة وهي ترفرف برموشها الطويلة المزيفة الملصقة، وكثر الضجيج، والطلبات، وكانت الحفلة تجمع خليط من القوم؛ الصانع، والحرفي، والفلاح، والمحامي، واللص، وتاجر المخدرات، والدركي، والعسكري.. هذا يريد العناق، وداك يريد الرقصة الخاصة به، وثالث يريد رقصة الفرس “شطحة العود”، وآخر يريد رقصة التمساح “شطحة التمساح” وثالث يريد رقصة النحلة “شطحة النحلة”..وهذا يريد عيطة عبدية، وآخر يريد “عيطة بيضاوية” تذكره بماض جميل وتاريخ عريق تليد..تفتح الشيخة “وريدة” عينيها، فتتوقف عن الرقص وتسوي حزامها الأسود لتشد به خاصرتها.. لم يعد الضجيج يصدع رأسها بل صار يزيدها نشوة وانشراحا، تتأمل وتنظر إليهم لمعرفة وجودها، وهم يقذفونها برصاص كلماتهم، كان البعض يمتدحونها فقط لامتلاكها، وكانت هي معهم لينة ناعمة تعرفهم أنهم يحبونها لفنها، وتعي جيدا أنهم يريدون حبا من نوع آخر، وكانت تسايرهم في هواهم فهي مضطرة لكي تعيش، واستمرار عيشها يستمر على حساب كرامتها..سوت حزامها من جديد وشدت أكمامها وهزت رأسها، ثم واصلت عملها، وهي تشعر بأن رقصها يروقهم ويسعدهم، كانت ترقص رقصة الرتيلاء وقد تركت وراءها الحشمة والحياء، ثم رفعت صوتها المشروخ بالنواح، وقد أوغل في العظام، ومضى إلى الحاضر والماضي والمستقبل، ببحة حادة لا تخلو من ندبة تختزل فيها عذابها، وهي تنوح بصوت مبحوح مجروح، كان في نبرات صوتها نحيب كأنها تحكي قصتها وتؤكد بقايا الأنوثة فيها، تترنم بصوت مخنوق من أثر اليأس والحزن لا يُعرف منه أغنت أم بكت.. وصدحت بعيطة “الحساب الزعري” على نغمات الكمنجة، تلك الآلة الموسيقية الخشبية التي كانت تصدر أنات شجية باكية:
– حالفة على الشيباني… ما نرجع ليه ثاني
-حالفة على ليهودي…. ما نكَول ليه سيدي
-والله النصراني …..ايلا ركب ثانـي
-العيطة والوتـاق…. حتاهما مذاق
-كَيطون مجرتل ….ولا زواج الـذل
– على غدايد الرجالا….نبقى هجــالا
– دويدة الشيباني ….مات وطنـي…
رفع إليها “بحيبح ولد جويليقة” عيناه الجاحظتين منتشيا، وهو عسكري متقاعد، في سن الخمسين، هزيل القامة طويلها، ذو عينين لوزيتين جاحظتين، تفصحان عن جذوة وذكاء، أصلع الرأس ذا لحية هي مزيج متساو من اللونين الأبيض والأسود، تظهر على ملامحه فتوة الشباب. برغم تقدمه في السن! يحييها بتحية عسكرية، وأصابع يده اليمنى مبسوطة متلاصقة فيما بينها، تكاد تلامس صدغه الأيمن، ويده اليسرى ممسكة بكأس مملوءة بمسكر”الماحيا”، صارخا من وسط المتفرجين بلسان متلعثم وقد أخذ منه السكر:
-وتبارك الله على كَوادالوبي….الله يحجبك يا وريدة والله يعمر جبحك. الله يقوي من أمثالك.
يعب كأسه دفعة واحدة ثم يتلمظ، يغمض عينيه ويفتحهما بصعوبة، يمرر يده على فمه ماسحا لحيته، ويستأنف دعاءه لها:
-سيري يا بنيتي الله يجيب ليك شي نحاس فين يغبر قزديرك…والله ينقي طريقك من أولاد لحلال. سري أنا راضي عليك قد ما صبت وسحات..
قال دعاءه واستأنف يرقص جاثيا على ركبتيه وكأس الخمر بيده اليمنى، ثم توقف عن الرقص وجرع ما تبقى في كأسه دفعة واحدة، وأعاد تحيتها من جديد. بينما “وريدة” المتمرسة بالغواية، لم تفتها أي حركة من ظواهر شهوانيته، بل جعلت تتفرس فيه وتحملق إليه بعينين منومتين، وحيته هي الأخرى بطريقتها الخاصة، إذ رمت له بقبلة من طرف أصابعها عبر الهواء المثخن بدخان السجائر ورائحة تفصد العرق.. وراحت تكمل دورتها ..راحت توزع ابتساماتها الباذخة على الحضور، إلى أن وصلت أمام “رحال ولد الطيان” الفخراني صانع الأواني الفخارية “الطيان”، وهو يجلس على كرسي خشبي بلا ظهر، رجل أسمر الملامح، تغزو وجهه تجاعيد صلبة، ويحتل الشيب جزءا من رأسه المشبع بالمحن والحيل، صغير العينين مثلث الوجه، تحث ترقوته هبوط غائر، قد يكون من الجوع، تقيم عليه عظمتان بارزتان ينتهي عندهما شعر صدره المكشوف، وجهه مشوك كجلد الدجاجة المريشة ! وجه من جلد وعضل مشدود مهما جرى لا يهتز فيه لحم. وإن حرك فكه، تكسر سطح صدغه فجوات وكرات، ورغم هذا فهو لا يفتر عن الرمش والحركة، ذا مظهر يشبه مظهر الثعلب الذي يحوس بحثا عن طريدة..كان يرتدي جلبابا في الأصل أصفر لكن يبدو كاكي اللون بفعل القدم وكثرة الاستعمال، جلبابا مرقعة بالية متآكلة من صوف حال لونه تحت الأوساخ والرقاع..وقد حطم رقما قياسيا في تعدد الزوجات، فاقت زوجاته العشرين، لم يعدد وإنما كان يتزوج الثانية بعد أن يطلق الأولى، كان يتزوج بالفاتحة ويطلق بأمر من أمه “العالية”، وهوايته هذه جعلته مرفوضا من الأهل والأحباب، كان في تلك اللحظة يضع بجانبه لتر من خمر الماحيا، وفي حجره صندوق مملوء بعلب سجائر مختلفة أنواعها يبيعها بالتقسيط، وقد نشطت تجارته في هذه الليلة المباركة السعيدة بالنسبة إليه مما زاد نشاطه، لا يفارقه مذياع ضاعت موجاته، كان غارقا في عالمه منغمسا في كؤوسه..نغزته “وريدة” من كتفه، عرف مبتغاها، فرفع إليها عينين محتقنتين قائلا بدون مقدمات وهو يرمش:
راك عجبتيني..واش تزوجي بيا ؟
تجيبه نفيا بإشارة من رأسها، ترمش برموشها المركبة المزيفة باسمة، فهي لو سمحت لنفسها بأن تتزوج كل رجل أعجبته في عرس لجمعت قبيلة من الرجال..إنها لا تبحث عن الزواج ولا عن الحب، إنها تبحث عن المال والانتقام..تعتقد بأن الله لم يخلقها لتحب..كلا..إنها تترك ذلك لغيرها..وبإشارة بأصبعيها، بحك الإبهام بالسبابة تلمح له أنها تريد من ماله..تريد من كرمه.. فيتمنع، وتطلب منه سيجارة فيرفض، رقصت أمامه رقصات استفزازية، ولم تحرك فيه شعرة، يبدو أنها استفزت حواسه بما فيه الكفاية ولم تستفز جيبه، وأعادت نغزه في كتفه ليرد عليها في غيض وهو لا يكف عن الرمش:
سيري تلعبي مع كَرانك، خليني نبيع ونشري، مبغاش تتزوجي وباغا ع تلعبي..اللي هربت للزواج هربت للطاعة..سيري في حالك من القبح وقلة الحيا.
همست في وجهه بكلمات مبهمة، تبدو قذفا وسبا، كلمات متهتكة..جعلته يسب ويشتم كل نساء العالم، كانت السيجارة بين شفتيها قد احترق نصفها، فأخذتها بين أصابعها، وانحنت عليه ودستها في شعره، ثم بصقت بجواره وهي تبتعد وتسب وتلعن ثم تضحك! أجل تضحك، ولما لا تضحك؟ وماذا ستخسر؟ هي التي سبق وأن خسرت كل شيء..وقد ملت السهر والغناء ومازالت تضحك وفي قلبها فوق البكاء بكاء..وعادت أدراجها قرب الشيخ الكوامانجي الذي كان هائما مع كمانه في لحن حزين، وتحولت الموسيقى إلى إيقاع بطيء، وراحت ترقص رغم العرج الواضح برجلها اليسرى الناقصة، وكانت تتحرك بين زميلاتها الشيخات مثل نوتة موسيقية شذت عن اللحن..وأخذت تغني وتتمايل بارتخاء مع نغمات الموسيقى وتصدح بحبات من عيطة “الحساب الزعري” وكأنها تعري جراحها لتداويها:
خليوني نبكـــــــــي…ضرني كَلبي
خليوني نغوت….باش نتقوت
شلا في كَاشوشي….منعاودوشي
القليب تقسح….كيبيكي بالصح
سعدي لكحل…ما لقيت ليه الحل.
خليوني نندب…على غدايد الكلب
ويختم غنائها زميلها في الحرفة قارع البندير “صويلح زميم” بصوت مقجوج كنعيق غراب:
ياك الغزالة ما تعايرنا..ياك يالالة ما تخاصمنا….حبك يا العرجة…ع تدرج وجا.
واستأنفت تتناوب معه في حبات “الحساب الزعري”، كانت تغني كلمات بالهم طافحة، اشرأبت إليها أعناق وفغرت أفواه، كانت تلقي الكلمات الموجعة الصاهدة والصاعدة بالأنات، وكان سرب الكلمات الناعية يندلق من حنجرتها مخلوطا بالندبة، كانت تغني للمقهورات، وعذاب المهديات، تغني عن ماضيها المغتصب وحاضرها البئيس، ومستقبلها المبهم، نبراتها الصوتية مجروحة بين الحزن العميق ورنة الانتصار، في نبرة صوتها أنين مغموس في وجع عميق، كانت شفتاها بالأسى تنطق، وحبالها الصوتية تتمزق، والدمع في مآقيها يترقرق، وقلبها بالحسرة يخفق ويدق، والجمهور من حولها ينتشي ويتذوق، تارة يبصق وتارة يصفق، وهي غائبة عن عالمها لا تعي بما تنطق…
يرد عليها الشيخ “العريبي الخيراني” متسائلا :
وياك ابنتي ما تعايرنا ياك ألالة ما تخاصمنا ….اللي ما عندوش الحب علاش كيشرب؟
يخبط الخماس “بوعزة الموسطاج ولد بوطربوش” راحتا يديه مع الفراش الأحمر المبتوت منتشيا، عمره فوق الأربعين بشارب كث وفم كبير خالي من الأسنان، عريض الوجه متورد الملامح، رمادي الشعر قصيره، ذا كرش ينسى أن يخفيها عن الأنظار حين ينفعل، أقلع طاقيته التي فقدت ألوانها الأصلية بفعل القدم دون أن يبالي بقرعه، وهو يصرخ من وسط المتفرجين يتلفظ في مدح الشيخ:
هكاك نبغيك يا با العربي، فاجيتيها علينا هذ الليلة، الله يفاجيها عليك.
جرع كأس الخمر دفعة واحدة، رفع كأسه فارغا مكملا دعاءه لشيخه وهو من أتباعه:
حفظاك الله ورعاك يا با العرببي، لهلا يحركَـ فيك شي عظم حتى نتحركَو كاملين.
كان يضع أسفله زاد الشراب مستورا بسلهامه الوردي الشاحب، وخلفه صديق من حين لآخر يمده بغليون الكيف “السبسي”، فيناوب مع الشيخة “وريدة” تدخينه، وهي التي تظل واقفة في طولها المتجرد، وفي كل همسة تتكئ لتأخذ دورها في الشرب أو التدخين.
الخيمة تبدو من الداخل كفرن تقليدي يشتعل، رائحة السجائر والكيف، رائحة العرق، موسيقى العيطة، أصوات زاعقة تنبعث من كل جانب من الخيمة، بعض داخل وبعض خارج..وجوه ساهمة في الشيخات، صفراء، سمراء، بيضاء شاحبة.. عيون شاخصة، وجوه ذات لحي كثيرة..ويستأنف الشيخ العربي الخيراني” عيطة الحساب الزعري، لكن هذه المرة بلحن بطيء نائح باكي شاكي، إنها نوبة الشيخة “العالية بنت الشرقي”، الملقبة ب”عيروطة”، وهي تقف في طولها المتجرد ممتلئة الجسد، فهي ليست بالقبيحة ولا بالجميلة، تكسو بشرتها سمرة تشوبها حمرة خفيفة، أما العينان العسليتان الضيقتان فلا بأس بهما على الإطلاق، وإن كانتا خاليتين من أي سحر أو جاذبية، كانت تبدو كالمنبوذة داخل الخيمة، وكان حظها من إكراميات الجمهور ضعيفا بالمقارنة مع زميلاتها، وكانت موضع انتقاد من طرف عشاق القفشات والمستملحات، لكن كل هذا لا يمنع من أنها شيخة عياطة متمكنة من حرفتها..وما كان يشفع لها هو صوتها الحاد النائح النادب، وكانت ترفعه عاليا تماشيا مع صوت كمنجة “با العربي” وهي تغني من أعماقها:
خليوني في حالي…حتى يعفو العالي
بكايا وشكايا…عليك مولايا
حبك يا الراجل…تحد لو لاجل
خليوني نفاكَد…دوك لمراكَد
خليوني نفتش…دوك لمخاشش
يتبع…
 

الاخبار العاجلة