شيخ العيطة الحسين السطاتي
تلك الأغنية الشعبية الشجية، التي تقوم على الغناء والرقص، وألفت ألحانها وإيقاعاتها وأشعارها من أوجاع الظلم والقهر والبؤس، ونشوة الحب وعذاب الهجر وليالي الأنس، ومتعة فرجة الصيد والفروسية والقنص.
تختلف أنواع فنون الغناء في المغرب لغة وأداء ونغما باختلاف مناطق هذا الغناء، وكثير منه يتخذ العربية الدارجة “العامية المغربية” لغة في التعبير، ومن بينها فن “العيطة”، فهو فن موسيقي غنائي يندرج ضمن الفنون التراثية والأغاني الشعبية المغربية التي تغنى ومازال يتغنى بها الجمهور، إذ يعتبر تراثا موسيقيا وغنائيا وتعبيرا ثقافيا وشعرا شفويا، كما يعد أحد التعبيرات التمثيلية الفرجوية المغربية، يؤديه فنانون مغنيون “شيخات” و”أشياخ” صناع الفرجة والفرح في الثقافة المغربية بشكل عام، والثقافة الشعبية بشكل خاص، على طول جغرافية الوطن، فنا أصيلا وتراثا شعبيا رافق المغاربة طوال عقود من الزمن ولا يزال مستمرا. وإنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح جزء كبير من المغاربة الشعبيين خلال فترة حاسمة من تاريخ البلاد..وسجل لنا مظاهر حية من معيشهم وطقوسهم وأحلامهم…
“وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وهذا الفن الموسيقي من أعرق فنوننا الغنائية الشعبية، غناء البدو.. فن رعوي أصيل، نداء كتعبير عن ألم مشترك، وعن الحب بلذاته وعذاباته..وعيط في اللغة تعني صاح، والعياط يعني الصياح، والعائط الصائح وجمع عيط عيطات.. ورغم ما أضيف إلى هذا الفن التراثي من تحسينات وتهجينه بآلات موسيقية عصرية، قد عانى ولا زال يعاني من الإهمال سواء على مستوى الدراسة أو على مستوى التأليف والنشر، ويعاني من قلة المصادر التي يمكن أن يعتمدها الباحثون والمهتمون بعلوم الموسيقى، وعموم المواطنين الشغوفين بهذا الموروث الثقافي..وهو غناء تراثي مركب، واكب مجموعة من التطورات الاجتماعية التي انطلقت من مخالطة اللسان العربي بصفة فعلية لسكان كثير من المناطق المغربية الأطلسية، التي تقع خلف الهضاب الأطلسية، عند أقدام جبال الأطلس المتوسط، وكذلك أقدام الأطلس الكبير في فسحة الحوز إلى منطقة تافيلالت سجلماسة، وكذا فيما يلي المناطق المجاورة بما في ذلك؛ الشاوية، ودكالة وعبدة إلى حدود مناطق حاحة.
و”العيطة” فنيا هي فن شعبي مغربي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، أشعار تغنى باللهجة العامية العربية المغربية، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية داخل فن العيطة..
“ومن الناحية الإيقاعية الصرفة تتشكل العيطة من مجموعة أجزاء مستقلة تسمى “قطيبات” تفصل بينها “حطات”..جمع حطة..وتعمل بمثابة لازمة موسيقية تنهي مقطعا وتعلن عن الدخول في “قطيبة” جديدة..وقد تتعدد فصول العيطة الواحدة فتفوق عشر “عتبات” كما في بعض نماذج العيطة المرساوية. وتختتم العيطة بإيقاع سريع..يشبه “الدريدكة” في الملحون..مهمته الإعلان عن الانصراف النهائي ولذلك يسمونه “القفل” أو “السدة” أو السوسة.. وقد تفتتح العيطة بمدخل يكون عبارة عن تقاسيم أو “مشاليات” يؤديها عازف الكنبري أو العود أو الكمان..ويكون ذلك على سبيل التمهيد لولوج العيطة بمعناها الخاص..وتنتهي ب”تعريضة” وهي فسحة موسيقية راقصة تكون مصاحبة بالأرجل يسمى “الحساب”. (المرجع الباحث الدكتور حسن بحراوي في كتابه “فن العيطة بالمغرب الصفحة 9”).
ونذكر أن هناك مجموعة من أنواع العيطة، سميت حسب المناطق الجغرافية التي نشأت فيها، وهي كالتالي:
العيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية التي تسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الملالية، والعيطة الحوزية، والعيطة الجبلية، وقد تفرعت عيوط أخرى حيت نجد العيطة الزعرية وهي تابع من العيطة الحوزية وقد ظهرت خلال ما بعد الاستقلال وهي لا تتميز بصورة التركيب، ومنها انشق صنف الحب أو الحساب الزعري، وهناك العيطة الغرباويةالتي تفرع منها الهيت الحسناوي والهيت الغرباوي الحلوفي، والعيطة الشيظمية، كما نجد هناك نوع أخر بمنطقة تافيلالت سجلماسة يسمى بالعيطة الفيلالية الجرفية، وتسمى أيضا بالعيطة الجرفية البلدية، ثم هناك نوع مشترك بن هذه العيوط ويسمى عيطة “الساكن”، التي لها علاقة بالذِكر بألحان روحانية وإيقاع الجذبة، وهذا الأخير “الساكن”، يوجد في جميع أنواع العيطة.
والحديث عن فن العيطة وأنواعها كثير ومتشعب، ونتطرق في هذه المقالة إلى نوع من هذا الفن وهو: “العيطة الغرباوية” والتي تسمى أيضا ب”العيطة الحسناوية”:
العيطة الغرباوية: أو”العيطة الحسناوية”، هي عيطة بسيطة التركيب أغنية شعبية تتكون من ثلاثة إلى خمسة أجزاء وأكثر، تسميتها تنسب إلى موطنها بسهل “الغرب”، وتسميتها أيضا ب”العيطة الحسناوية”، لارتباطها بقبيلة “الشراردة بني احسن”، وتنتشر بمنطقة سيدي قاسم والضواحي، بوسط المملكة المغربية، هذه المنطقة الغربية التي تشمل الحوض الأدنى لنهر سبو وحواشيه من التلال والهضاب. إذ يمتد سهل الغرب من مقدمة الريف شمالا إلى حافة غابة معمورة جنوبا، ومن ممر زكَوطة شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا. والعيطة الغرباوية لون غنائي عيطي متميز ، فهي أغنية شعبية تتميز بالبساطة اللحنية والإيقاعية وتغنى في مختلف الطبقات الصوتية.
ونشأ هذا الفن الغرباوي على ساحل المحيط الأطلسي وضفاف الأودية والعيون المائية وخيراتها، وسط طبيعة خلابة، بمنطقة “الغرب” الغنية بثرواتها النباتية والمعدنية والحيوانية منها البرية والبحرية، وحزامها الأخضر الغابوي، بين السهول الزراعية الخصبة والأراضي المنبسطة، وقد صدحت حناجر البدو بهذا التراث “الغرباوي” في البراري وسط المروج الخضراء، ووسط البحر، ودخل قصور السلاطين ورياضات البشوات والقواد والأعيان الكبار، وأثث الأفراح بالمداشر والدواوير النائية والمواسيم الكبيرة، وحفلات تنظم في الغابات أو المروج، حيث كانت تضرب الخيمة القايدية الغرباوية “الفراك” وتغنى العيطة الغرباوية على طلقات البارود وصهيل خيول التبوريدة .. وتقدم هذه العيطة صورة فنية بديعة عن البيئة الساحلية والزراعية والرعوية الخصبة التي احتضنتها ورعت محاولاتها الأولى، وهي عيطة تحريضية ثورية حماسية، نص شعري بمواضيع مختلفة، تؤرخ للشجاعة والحماس والثورة ضد العدو، والجهاد في سبيل الوطن، كما توثق الاضطهاد والمس بالكرامة الذي كان يتعرض له الشجعان الغرباويين على يد السلطات المخزنية الغاشمة، والعدو المستعمر الظالم، أولائك الأبطال الذين كان يقودهم نضالهم وثورتهم وتمردهم إلى أقبية السجون وساحات الإعدام، كما تتغنى هذه العيطة كذلك بجمال المرأة والعشق والهيام، والأوضاع الاجتماعية والسياسية بالمنطقة، ونجدها تشير لبعض مكونات البيئة الغرباوية التي ترعرعت وسطها كتمجيدها للخيل والفرسان..
والعيطة الغرباوية أو الحسناوية، تلك الأغنية الشعبية الشجية، التي تقوم على الغناء والرقص، وأُلِفت ألحانها وإيقاعاتها وأشعارها من أوجاع الظلم والقهر والبؤس، ونشوة الحب وعذاب الهجر وليالي الأنس، ومتعة فرجة الصيد والفروسية والقنص…حيث تختلط في متونها الحكمة والبسمة، والنغمة والكلمة..أشعار ذات مضامين بلاغية هادفة، بكلمات ناحبة باكية صاعدة بأنات من حناجر شيخات وأشياخ، كانوا يمثلون صوت من لا صوت له. يصدحون بمجموعة أهازيج وبراويل تتسم بطابع الحزن والأسى والنواح، وأنغامها عبارة عن آهات متحسرة وشكوى تحرك المشاعر وتهيج النفوس، وهي تغنى باللهجة العربية العامية المغربية.. .. وللأسف فرغم روعة وجمالية هذا الفن العيطي الغرباوي ظل مهمشا، ولم يُحض بالإشعاع الإعلامي الذي يليق به كسائر بعض الأنواع العيطية الأخرى، فنادرا ما نجد فنانو العيطة الغرباوية بسهرة على أثير الإذاعة أو بسهرة على قناتي القطب العمومي التلفزيونية، أو على صفحات الجرائد والمجلات..ولم يستفد حتى من المهرجانات التي خصصت لفن العيطة..وبفضل أصالتها الفنية وقوتها الشعرية، ظلت هذه العيطة متألقة تواجه أعدائها من الفنون الموسيقية الدخيلة، وقاومت العيطة الغرباوية الحسناوية كل الرياح والعواصف والتقلبات واستطاعت أن تحافظ على مكانتها في الوسط الفني الغنائي العيطي المغربي، ومن بين العيطات الغرباوية الشهيرة التي مازالت رائجة نجد هناك:
عيطة “الهيت، عيطة “قيلوني”، عيطة “أولاد اخليفة”، عيطة “الغابة”، عيطة “الحساب الغرباوي” عيطة”التهليلة” وتسمى أيضا ب”التهاونية”…وعيطةالساكن نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “سيدي سليمان، سيدي قاسم، سيدي علال البحراوي، مولاي بوسلهام، سيدي عبد الجليل، الباشا حمو، ميرة…” وهذه الأخيرة يعني “عيطة الساكن”، كثيرة بكثرة الكم الهائل للأولياء الصلحاء والأضرحة بمنطقة الغرب.وحسب ما جاء في كتاب الباحث الدكتور حسن بحراوي “فن العيطة بالمغرب”، أن من بين الأسباب الأساسية التي كانت تؤدي إلى الاختلاط والتمازج الذي شهدته متون وإيقاعات العيطة بالمغرب، نجد أنه كان من المعتاد أن يتنقل محترفو هذا الفن من أشياخ وشيخات أفرادا أو جماعات..بين المدن والقرى المجاورة أو المتباعدة..طلبا للعمل أو السياحة والاسترواح أو بمناسبة زيارة مواسم الأولياء..وخلال هذا الانتقال كان يتم الأخذ والعطاء والتبادل المعرفي بين الرباعات المختلفة. وفيما يخص هذا التراث الغرباوي نجد أنه يتقاطع ويتشابه في بعض الأجزاء مع بعض من أنواع العيطة المغربية، هذا التلاحم الناجم عن تأثير الجوار والتلاقح وأشكال الاقتباس، والتشبع بأنواع العيطات الأخرى في ثقافة الأخذ والعطاء، والتأثر والتأثير، ومن ذلك تقاطعه مع الغناء الزعري هذا الأخير الذي اقتبس منه بعض العيوط مثال: عيطة “الهيت الغرباوي” التي صارت “هيت زعري” بمنطقة زعير، وعيطة “الغابة” التي استحدثت فيها كلمات جديدة، وعيطة “الحساب الزعري” التي انتقلت إلى الغناء الغرباوي وأخذت طابع ” الحساب الغرباوي”..
والقصيدة العيطية الغرباوية في عمقها هي قصيدة ثورية تحريضية حماسية، نداء إلى الجهاد والتمرد على الظلم والاستبداد، ونبد الغدر والخيانة..وقد برعت كذلك في الغناء العاطفي ذو نزعة النواح والبكائية المهيمنة، كما تطرقت كذلك إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية.
وارتبط فن “العيطة الغرباوية”، بالأعيان وكبار القبيلة، حيث ظل هذا الفن حاضرا في مجالسهم الخاصة والعامة في “القصارة” كما في حفلات الزفاف، وفي خرجاتهم إلى مواسم التبوريدة والصيد والقنص..ومثلما نشأت العيطة الحوزية في ظل “القايد العيادي”، قايد الرحامنة الذي كان لها نصيرا وذائدا.. والعيطة الزعريةوجدت الدعم والاحتضان في كل من القايد “التهامي بن عبد الله”والقايد “الحاج المكي”، والقايد “الحاج العربي بن عمر” بمنطقة زعير، ونشأت العيطة العبدية الحصباوية في مجالس القايد عيسى بنعمر، كذلك ترعرعت العيطة الغرباويةفي كنف قواد من أمثال القايد العوني.
ونظرا لروعة هذه العيطة بما في ذلك سلاسة ألحانها وإيقاعاتها، وجمالية صورها الشعرية وموضوعاتها المتشعبة، تمكن رواد العيطة الغرباوية من إخضاع أشياخ أنواع العيوط الأخرى، ومنهم فنانين أمازيغ، وجعلوهم يقتبسون منهم بعض العيطات الغرباوية، ويؤدونها بقراهم وحواضرهم، بعد أن غيروا فيها قليلا في المضمون، وكيفوها مع الموازين والإيقاعات الخاصة بهم..خاصة منها العيطة الشهيرة “الغابة”، وعيطة “الهيت”، وعيطة”التهليلة”..
كما نجد هناك عيطة “الحساب الغرباوي”، التي تختلف مواضيعها وألحانها في القصيدة الواحدة، فأبياتها الشعرية تلك “الشدرات” أو “الحبات” العيطية ذات حمولة أدبية عميقة، في صلبها معاني وأمثلة وحكم ونصائح، أبيات شعرية موزونة وذات قافية بكلمات ضاربة في العمق أحيانا بلمسة هزلية وأخرى بطابع الجد والتراجيديا، كما في الأبيات الثالية:
وحك جر…وطليتو خضر…الزغيبي كيسكر..والبيت كيكَطر.
ومالي مالي….ورفقي بحالي…كَولو للنحيلة..تطل ع طليلة
وعد عدا…..أشنو هذا…الفيم باش يعض…..شد فيه المرض.
ومالي مالي…والشاغل بالي….الحلوفة معروفة …ع من القنوفة.
واش هذ ليام…كلها تخمام….تهلا في الدركَ…راه العام زركَ
وعد عدا…أش يكَول هذا…بغا يحامي على خوه…حتى هو قتلوه
وميمتي ميمتي…وهذا مكتوبي….المزوق في لولاد….زاد بيه الواد
فهذه العيطة تتميز بعدم وحدة الموضوع، واستقلال البيت الواحد بفكرته، وهي تجمع بين العاطفي والسياسي والاجتماعي..وبين التفكه الذي يعطي طابع الكوميديا مثلا: ( “الفيم باش يعض…شد فيه المرض”، أو “عطيني لحساب …منين جاك الناب”، أو “الحلوف معروفة… ع من القنوفة..”، وغير ذلك ومن “الحبات”، حينها ترى الوجوه منبسطة أساريرها ومنهم من يضحك، ويتبادلون القفشات والقهقهات.. أما فيما يتعلق بالتفجع الذي يشير إلى التراجيديا من خلال البيت الشعري، مثلا: “وخا تقتلوني..ما تخلعوني”، أو”باراكا من لعذاب..مول الروح تصاب”، أو “مللي قتلتوه..علاش غطيتوه”، أو ” دبحتوه في طورينو..علاش جايبينو” أو “كيتي في كَلبي..حتى لعند ربي” أو “نموت ونتكَدد…وما نجبد حد” أو “المزوق في لولاد..زاد بيه الواد…) فهذه الأبيات يعمل المتلقي على تحليل صورها الشعرية في تلك الثواني القصيرة ليجدها عبارة عن قصص قصيرة جدا جدا، قصصا موجعة..تحكي معاناة الشخص من الاعتقال التعسفي ونزع الاعتراف تحث التعذيب من طرف ممثلي السلطة، أو تحكي عن فاجعة جرائم قتل أو غرق عزيز بالواد…وبهذا ترى الوجوه عابسة مكدرة واجمة وكأنها تعيش الواقعة من جديد..
وتدور مواضيع هذه العيطة بين الجدية والهزل، تحمل في ثناياها رسائل مشفرة..وذلك راجع إلى الطبيعة الارتجالية المتحكمة في نظم الأبيات، وكذا التناوب في الغناء الذي يقوم به الشيخ المغني الناظم أو أكثر من شيخ واحد، قد يُنظَمُ ويغنى فرديا “فرادي”، أو ثنائيا “ثني”، أو يؤديه أكثر من مغنين وتسمى ب”الوجبة الدايرة”..حسب عدد الأشياخ والشيخات بالمجموعة الواحدة..و إن الشدرات الشعرية عند الفنان الناظم المبدع المتمكن، “الشيخة” أو ” الشيخ”، تتجه نحو سبر أغوار المشاعر الجياشة، التي تغمر الذات وتسعى إلى لفظها حارة بواسطة لغة عميقة وجارحة ليشرك في أحاسيسه المتلقي، غامرة أفقها المعجمي والدلالي بملفوظات ومقولات مستلهمة من القاموس الشعبي البدوي المتداول، مغنية بذلك الصور الشعرية بما تزخر به هاته المقولات من إيحائية وبلاغة، قد نجد أحيانا المستمع لا يستبين كلماتها التي يتغنى بها الشيخ “الكَوال”، ولكن المتعود على هذا الصنف من الشعر الشعبي التقليدي يستلذها ويتذوقها جيدا، ويستمتع بترديدها، فأبيات القصيدة العيطية اهتزت لمعانيها ورناتها أعطاف الجماهير المثقفة وغير المثقفة، وجدير بالذكر أن الترنم بهذا الفن قد يبلغ من النشوة شأنا جميلا لمن يدرك معانيها ومع من يجيد أدائها.
وفي العيطة الغرباوية الحسناوية، نجد ارتفاع الشعور الذاتي الوجداني لدى الشاعر..حيث نجد المتلقي نفسه أمام فن غنائي قوامه البكاء والنواح والنذب والشكوى الحارقة يصدع بها العشاق والمفجوعين، حيث يطغى أسلوب النواح والبكاء بالتغني على الهجر أو موت المحبوب أو هجره أو غدره، أو غدر الصديق ومكره، أو موت عزيز كأحد الوالدين، أو الأبناء..كما نجد هذا مبين في عيطة” التهليلة الغرباوية” أو ما تسمى أيضا ب”التهاونية”، إذ تبدأ القصيدة بموال حزين على صوت الكمنجة الناحب، يذكر فيه المغني مناقب الفقيد أو الغائب.. وذلك كما هو الشأن في يوم عزاء بالموت، حيث كانت تسود ظاهرة “البوحاطة”، وهي ظاهرة أوشكت على الاندثار، إذ كانت عائلة الميت تقوم بتأجير أشخاص يلقبون ب”العدادة”، يتباكون وهم يمدحون خصال الميت، وهم بذلك يقومون بالتذكير بأعماله وخصاله الحميدة في أسلوب حزين، كانوا يتصنعون البكاء بكلمات أحيانا موزونة ومقفاة ومسجوعة.. وبعد الموال يشرع في الاستهلال العيطي بالنداء إلى أن تختم الأغنية العيطية ب”سوسة” على شاكلة “سوسة” النمط الحوزي، ثم تختم ب”السدة”. فقد كانت هذه العيطة في الأول عيطة ثورية، تعد نداء للمقاومة واستنهاض الهمم، تمجد الأبطال الشجعان الذين سقطوا شهداء في فترة المقاومة، والمقاومين الذين زج بهم في غياهب السجون، والوطنين الذين أعدموا من طرف المستعمر الغاشم… ونذكر على ذلك هذا المتال:
بابا سيدي بابا سيدي بابا سيدي …أنا اللي كنت من الوالدات وصبحت اليوم من العاكَرات
ربي العالي ربي العالي ربي العالي، أنت العالي تشوف من حالي…لعديان هجمو هجمو ….كاع محشمو
ميمتي ميمتي ميمتي ميمتي …الكفار عدمو عدمو…. قبل ما يحكمو
ميمتي ميمتي ميمتي ميمتي…..العديان ظلمو وعدمو…كَاع ما رحمو
ياك ا سيدي ياك ا سيدي ياك اسيدي…مللي عدمتوهم فين دفنتوهم
ياك الميمة ياك الميمة ياك الميمة….الطيور كالبيزان قتلوهم العديان
عيش ميمتي عيش ميمتي عيش ميمتي….قطران بلادي ولا عسل البلدان
ياك يامي يا يامي ياك يامي….الحي يتراجا والميت ما بان
بابا سيدي بابا سيدي بابا سيدي…..كون ما اللسان ولودن ما يسمع حد غيار
ميمتي ميمتي ميمتي ميمتي….ماحد الشيطان بيناتنا حي بنادم ديما فيه الغدار
خليوني خليوني نبكي ونبرد كَلبي..خويا ايلا تعرف تهاوني زيد قابلني.
حين يسمع ويتلقي المغني الشيخ الثاني هذه العبارة الأخيرة” ايلا تعرف تهاوني زيد قابلني”، يأخذ بدوره النظم والارتجال في الغناء، وغالبا ما تختم هذه العيطة بعيطة الساكن مرادفة لها، ذات الإيقاع الروحاني، وبصفتي فنان شعبي ممارس لهذا التراث، “كوامنجي”، ومغني لفن العيطة، فإن هذا النوع العيطي وخاصة منه عيطة ” التهليلة” أو ما تسمى ب”التهاونية”، مطلوب بالبوادي بما في ذلك القرى والدواوير والمداشر، حيت يتفاعل الجمهور معه يستمتع ويتلذذ بسماع الكلمات الموجعة على نغمات الموسيقى.. لكن هذا الغناء صار مدموما ومرفوضا داخل الحواضر كالقاعات الكبرى أو بالمهرجانات، وعلى خشبات المسارح.. فالجمهور الحضري يريد ترفيها لا بكاء وندبة. كأن تسمع من الجمهور عبارات من قبيل “حبس علينا سيدي هذ شي، واش حنا جايين نعزيو” أو “راحنا بغاين نفرحو..مجايينش نبكيو وندبو”.
وتمضي العيطة الغرباوية، كذلك في تسجيل الوقائع السياسية التي تناوبت على منطقة “الغرب”، خلال تلك الفترة من تاريخ البلاد الحافل بالمقاومة ضد المستعمر والجهاد في سبيل الوطن، كما تمضي إلى المواضيع العاطفية كما هو الشأن بالنسبة لعيطة “الغابة”. التي برع فيها كثير من الأشياخ الغرباويين نذكر منهم، المحبوب داني، وادريس الزيطي، والمومن الشرقي، وجددها وأتقن متونها وألحانها وايقاعاتها، الراحل الفنان الأمازيغي الشيخ “المغاري ميلود”، ولروعتها اكتسحت جميع المناطق المغربية، وهي قصيدة مختلفة مواضيعها بأشعار ذات معنى، مستعملا في ذلك الناظم جميع آليات وأساليب التشبيه والاستعارة والترميز، مع التركيز على التلميح بدل التصريح، مع استعمال طريقة “التهليلة” أي “التهاونية”، داخل النص العيطي، ويفصل بين المواضيع بجملة شعرية من قبيل “هاو أهاو هو” أو “حاه حاه حاه”، ونأخذ على سبيل المثال هذه الأبيات:
مال الغابة مقلقة….ومن حر المنشار خايفة
تبكي وتكَول…يا حبابي سخيتو بيا
برجليا مشيت للغابة…سبحان الله يا عجابة
بعيني شفت شي حمام…كيتسرى بين لخيام
بعيني شفت شي حجل…كيتسارى وسط النخل
حاه حاه حاه حاه حاه حاه حاه حاه حاه حاه
كَالت لي تعالى نهار لخميس…تعالى كيف لعريس
وتلقاني لابسة قميص…..وتكون أنت زلالي
مككَواني أنا مكَواني….يطول الحال وتنساني
أنا والله ما ننساك….ولا نقطع رجاك
حبك شاغل بالي…ديتي عقيلي رديه
زينك جاني عجوبة…بين كدا وسهوبة
خيالك كالفقيه…اللي حاضي الكتوبة
كنت لالة حرة وبلا حراز…كيفاش اليوم حتى صبحتي مكسوبة
هو أهو هو هو أهو هو هو أهو هو هو أهو هو هو أهو هو
ايلا جاب الله الموت….ديرو قبري جنب الطريق
حفرو قبري ووسعوه…وديرو لحجر عليه
وديرو الشاهد صابرا وتكون الشهبة حاضرة ..والعدادة مخلصين
تسوقت خميس الرميلة…وشدوني لمخازنية
جا عمي كيبري…كَال ليهم تلقو ولد خويا
أنا مسرقت حوالا ما بانو عليا…ظلمني المخزن وسبابي أنتيا
راني كَايلها لمك وباقا ع أنتيا.
يتوب غ يتوب يتوب يتوب غ يتوب يتوب يتوب غ يتوب يتوب يتوب
واش المعزي في لغنم كيف الغنمي فيها
واش الكابر في لبلاد..كيف لغريب فيها
ديك الحايلة في لغنم راهية حلابة
سال الطلبة والرمى وسال الكسابة
هو أهو هو هو أهو هو هو أهو هو هو أهو هو هو أهو هو
وتقوم “العيطة الغرباوية” أو “الحسناوية”، على إيقاع بسيط خفيف، غالبا ما يبدأ رتيبا عند الانطلاق، ولكنه يمضي في التصاعد تدريجيا إلى أن يبلغ لحظة الذروة ثم يعود ويتباطأ من جديد، وقد يقف في بعض العيطات، ويعود تدريجيا من البطء إلى التصاعد ويخبو مرة ثانية ثم يحمى وطيس الإيقاع في صعود وهبوط تماشيا مع العيطة المغناة، ومنها من تتعدى خمسةأجزاء ك”الهيت الغرباوي”، لتبدو إيقاعات وألحان القطعة العيطية كأنها أمواج مد وجزر في بحر لا حدود له..أو سرب خيل هاجمة في عملية كر وفر، وفي بعض العيطات تقف الفرقة الموسيقية عن العزف ويواصل الشيخ الناظم “الكَوال” المنشد الغناء بمفرده وتسمى ب”الفرادي”، ثم تستأنف الفرقة العزف بعد ذلك لتختم العيطة ب”السوسة” وتليها “السدة”، التي غالبا ما تتبعها موسيقى صامتة “الخيلاز” مصاحبة بالتصفيق “الرش” ووصلات راقصة فلكلورية من الشيخات، وأحيانا تُختم ب”علفة” تتغنى بالخيل والفروسية التي عرفت بها منطقة الغرب، وفي هجماتها الثورية وتمردها على العدو. أو تنتهي بسوسة تتغنى ببروال اجتماعي مثلا:
– ورسى ورسى حتى تطيب الكَرصة ونعيك نصها يا والله ايلا دقتيه.
– ولدي ولدي طاع في عبوني لا من ركبو لا من رارا بيه.
ومعروف عن العيطة الغرباوية طولها الزمني، لذا فهي تتطلب التركيز والنفس الطويل، وتمتد مدتها الزمنية من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر. ونجد الفنان الراحل “المغاري ميلود” ذات سهرة أدى كشكول من العيطة الغرباوية لمدة ساعتان دون توقف، لذلك فهي عيطة تتطلب اللياقة البدنية والنفس الطويل.
والرقص في فن العيطة، هو فن حقيقي قائم بذاته، وليس استعراضا للمفاتن فقط أمام الناس، فهو إبداع جمالي ايروتيكي للجسد حيث يصبح جسدا للفرجة، وذلك إذ يصير الجسد الأنثوي خاصة، موضوع فرجة اتجاه المتفرج المتلقي، وهو بهذا يختزل لغته الخاصة التي تكشف عن مفاتنه وتضاريسه الباعثة على الإغراء، كما يتم توظيف الجسد والسفر به إلى ما وراء الغواية، في حركات تعبيرية مختلطة بالطبيعة والفروسية والقوة.
والرقص في العيطة الغرباوية له دلالات رمزية، يقوم بها الرجل والمرأة كل في دائرة اختصاصه، حيث كان المجتمع الغرباوي مجتمعا محافظا، لا يسمح باختلاط الرجال بالنساء خلال الحفلات والأعراس..فنجد الراقص أو الراقصة يقومون بحركات تمثيلية خلال الرقص تلك الحركات مستوحاة من الأعمال التي يمارسونها سواء منها الزراعية السائدة بالمنطقة أو حركات الصيد البحري والقنص، كطريقة شد المحراث التقليدي أتناء الحرث، أو طريقة نثر وزرع البذور، وكيفية فتح سواقي الأحواض الطينية للماء بالمعول، ثم إلى طريقة حصاد الزرع بالمنجل وتشكيل الغمرة، والدرس بالبيذر”الكَاعة”، وتذرية الزرع..وطريقة نفض الثمار من الأشجار، وكنس الأرض بسعف النخيل، وطريقة غزل الصوف بالمغزل على الفخذ، وطريقة غسل الصوف على صخور الوادي، وتقليد بعض حركات أرجل الطيور خلال فترة التزاوج المستمدة منها رقصة “القعدة”، وحتى الصياح الذي يصدره المزارعون لفزع الطيور التي تحط وسط المحاصيل، وكذا التصفيق المسترسل” الرش”، المصحوب أحيانا بالزغاريد، وبالنداء والصياح المتتابع كما هو الحال في طريقة فزع طرائد القنص من مخابئها “التحياح”، وإيقاد طرائد القنص من مرقدها بالضرب بالرجل اليمنى على الأرض وكيفية إمساك البندقية في وضعية الرماية، وطريقة رمي السنارة أو الشبكة للصيد في البحر.. وغالبا ما يتأجج هذا في جزء “السوسة” إلى “السدة” أو ما تسمى ب “القفل”، من العيطة الغرباوية… لتنهال من أجل ذلك على الفرقة المنشطة إكراميات الجمهور”الغرامة” أو ما تسمى ب”التعلاق”.
ونجد رقصة “الهيت الغرباوي” ومنه يتفرع “الهيت الحسناوي”، هناك من يتخذ أسماء أخرى منها “الهيت الكلبي” و”الهيت الحلوفي”، وهي رقصة تعتمد على البناء الداخلي للفرقة سواء أكان اللحن غنائيا أو إيقاعيا، ويؤدى من قبل عازفي الآلات الموسيقية الشعبية الوترية والإيقاعية، أحيانا مرفقا بالغناء العيطي الساكن ك”ميرة”، حيث يكون بناء الحركة الرقصية الجماعية أو الفردية قائما على الإيقاع مع تناسق في حركة الرجل الواحدة جماعيا، وهز الأكتاف في تناغم وتناسق مع اللحن والإيقاع، وبالتناوب ينفلت راقص من صف الجماعة ويشرع في عرض مهاراته وإبداعاته الراقصة ثم يدخل الصف ليعوضه آخر، وهكذا إلى أن تنتهي الوصلة العيطية، ويكون الرقص مصحوبا بالهوهوة بالصوت من قبل الراقصين أيضا، مقلدين بذلك حركات وأصوات كلاب الصيد المرافقين للقناصين، وبين الفينة والأخرى يصدح صوت جهوري مرتفع بعبارات حماسية دالة على الإنسجام التام وروعة الأداء مثل كلمات:(العداو العداو، حاه حاه، أهاه أهاه، راه راه..) تلك العبارات التي تصدر عن الحياحة والرماة لحظةالقنص، حيث كانت الفرق الغنائية تراق الصيادين القناصين من أجل الفرجة والاسترواح وكسر الملل. لتنقل تلك الرقصات إلى الحفلات والأعراس. وقد نجد هذا أيضا عند فرق عبيدات الرما.
وجرت العادة أحيانا عند قبائل الغرب أتناء تأدية العيطة وبالضبط خلال جزء السوسة المصاحبة بالرقص والتصفيق “الرش”، أن يطلق الرجال أصوات الأعيرة النارية من الأسلحة الخفيفة كالبنادق والمسدسات “خرجو البارود”، عندما تشتد حمى الطرب، فيما تتجاوب معها زغاريد النسوة وذلك في إشارة إلى القوة والشجاعة، كما هو الحال في خرجات القنص وصيد الطرائد، ومجابهة الأعداء بالأسلحة النارية..
كانت العيطة الغرباوية الحسناوية، في بدايتها تعتمد على آلات موسيقية بسيطة إلى بدائية، (غيطة وطبل، زمارة وطعريجة، ليرة وبندير، قصبة وطعريجة، ، لتلتحق بالركب الموسيقي آلة الكمنجة، فصارت ترافق الطعريجة والمقص والمهراس، أو تؤدى ب”مزمار” قصبة مشدوة إلى قرن عجل، وطعريجة وبندير)..إذ كانت في البداية هذه العيطة تقتصر على آلات بدائية متواضعة مما يجعل الصوت حاضرا بقوة، وترتكز أساسا على الإيقاع والكلام أكثر من النغم، فهي تعتمد على الكلمة أكثر من اللحن الموسيقي، وليس على الفرجة فحسب، كما يقال: “سر العيطة في كلامها”، إلى أن صارت تمارس كباقي العيوط الأخرى بآلات حديثة، أدخلت عليها آلات غربية وعصرية مختلفة أشكالها وأنواعها كما نراه بأوركسترا “فريد القنيطري”، وأوركستر “العامري الشعبي” وأوركسترا “حسن الناجي”، وأوركسترا “عادل الميلودي”.. ومن الآلات التي صارت تستعمل في هذا الفن؛ هناك آلات وترية، ونفخية، وإيقاعية ونقرية. ومن الآلات الوترية نجد: “الوتار، العود، القانون، الكمنجة، البوزق، السنتير، المندولين، البانجو، القيتارة..وفي الآلات النفخية هناك: الغيطة، المزمار، الناي، القصبة الأحادية والثنائية(المكَرونات) الليرة، إلى الساكسفون..وفي الآلات الإيقاعيةنجد: البندير، الطبل، الصنج، الدف، الطر، الصينية والكؤوس، والمهراس، والطعريجة بما فيها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة “أكوال”، الدربكة، والنويقسات، والمقص، والطمطام إلى “لباتري” العصري..كما نجد أيضا الآلات النقرية كالأركارغيون، والأورغ …
وقد اشتهرت هذه العيطة بسهل “الغرب”، سهل ساحلي فيضي يقع في الشمال الغربي للمملكة المغربية، يتشكل من مناطق تتميز بطبيعتها الخلابة الغناء، عرفت بكثرة وتنوع مغروسات أشجار الفواكه والخضراوات، وانتشار “العرصات” و”الجنانات”، والضيعات الشاسعة “الفراولة” وقصب السكر، و”الأفوكا”، وعُرفت بثرائها الحيواني “الكسيبة”، والثروة البحرية والغابوية، وشساعة أراضيها الخصبة الزراعية منها البورية والسقوية، واشتهرت بخيراتها “الماء والخضرة والوجه الحسن”،.. كما اشتهرت المنطقة الغرباوية بتضاريسها المتنوعة؛ (سهول منبسطة، هضاب، وهاد، شعاب، تلال، وديان، شواطئ، غابات، عيون مائية، سواقي…مع وفرة المياه الجوفية والسطحية على امتداد الأودية، وقد شكل نهر “سبو” أهم مصدر للمياه السطحية بالمنطقة، وتبسط هذه العيطة أنغامها على مساحة شاسعة، من سهل الغرب والضواحي، حيث تصل إلى حدود طنجة شمالا، ثم إلى تخوم تازة بالشمال الشرقي، وإلى فاس بالجنوب الشرقي، وجنوبا يحدها سلا والرباط، ومن الغرب يحدها المحيط الأطلسي. وتشمل المناطق الثالية: (الرباط، سلا، سيدي بوالقنادل، السهول، العرجات، القنيطرة، لالة ميمونة، أولاد اسبيطة، أحصين، البعابشة، تيفلت، سيدي علال البحراوي، سيدي قاسم، ثلاث الغرب، الدلالحة، أولاد المصباح، المناصرة، سيد الطيبي، القصيبية، الغنانمة، مهدية، الحوافات، سيدي سليمان، سوق أربعاء الغرب، سيدي يحيى، حد كورت، الخنيشات، البراهمة، أولاد مبارك، أولاد موسى بن الحسن، أولاد عيسى، أولاد مالك، أولاد برجال، أولاد بنخدة، عين الدفالي، سوق الجمعة، دار الكَداري، اخميس الرميلة، دار بلعامري، جرف الملحة، زكَوطة، مشرع بلقصيري، القصر الكبير،….).
وأقف وقفة احترام للأشياخ والشيخات الذين بفضلهم قام فن العيطة عموما، على امتداد مسيرة طويلة في مختلف مناطق المغرب ببواديه وحواضره، حيت صدحت حناجرهم بأصوات طربية في مناسبات وملتقيات مختلفة، أصوات أشياخ، زجالين، نُظام، ومغنين حفاظ “كَوالين”، حملوا مشعل هذا الفن، وأصوات شيخات “عياطات”، حافظات “طباعات”، زجالات، ناظمات مناضلات..أصوات انبرت لنصرة من لا صوت له، فنانون استمد بفضلهن فن العيطة وجوده الفني وكينونته.. أسماء تركت بصماتها على مدى سنوات، بعضها انتقل إلى دار البقاء الله يرحمهم، والبعض يعاني التهميش ويعيش التنكر، أكثرهم يعاني شظف العيش، لا يعيشون ليحيون بقدر ما يعيشون لكي لا يموتون..والقليل منهم من كان محظوظا وحضي بعيش كريم.
وللعيطة الغرباوية أو الحسناوية أشياخ وأعلام قدامى وجدد، وقد رحل جل شيوخها من الرعيل الأول والثاني ممن كانوا يتقنون أدائها وحفظ متونها..وعرف هذا النوع العيطي الغرباوي العديد من الفنانين شيخات وأشياخ، إذ يتعذر ذكرهم واحدا واحدا، كما أعجب هذا التراث الأصيل فنانين شعبيين وعصريين، وسحر الكثيرين من الأشياخ، منهم “الزعريين” و” المرساويين” و”الحوزيين”..ومنهم العرب والأمازيغ، ونذكر من أشياخ هذا الفن الأصيل على سبيل المثال لا الحصر منهم العازفين والمغنين، ومنهم من جمع بين العزف والغناء:
– الرواد القدامى في مشيخة العيطة، أشياخ الرعيل الأول : الشيخ المحبوب داني، الشيخ أحمد لقمش، الشيخ ادريس الزيطي، الشيخ ولد أمو، الشيخ المومن الشرقي، الشيخ بن دحمان الغرباوي، الشيخ أحمد بلخمار، الشيخ العربي الغرباوي، الشيخ الصاحب بالمعطي، وآخرون..
– ومن أشياخ الرعيل الثاني في المشيخة العيطية نذكر: الشيخ ولد البولانجي، الشيخ لمغاري ميلود، الشيخ عبد الرحمن الغرباوي، الشيخ الملاس، الشيخ الداودي عبد الله، الشيخ قاسم الفراعي، الشيخ قويسم، الشيخ بنعلال، الشيخ بركيل، الشيخ التهامي، الشيخ ميزميز، الشيخ ولد المصباح، الشيخ المهدي الذهبي، الشيخ بن دحمان الغرباوي، الشيخ عبد العزيز الخشاني، الشيخ الشريف القنيطري، الشيخ ميلود عبد الدايم، الشيخ المصطفى البعبوشي، الشيخ ميلود النيح، الشيخ الشويخ، الشيخ المهدي الغرباوي، الشيخ الكبير الصنهاجي، الشيخ الستاتي عبد العزيز، الشيخ محمد ولد الصوبا، الشيخ المصطفى الميلس، الشيخ سعيد ولد الحوات، الشيخ محمد ولد مبارك الخريبكَي، الشيخ محمد الوافي الشرقاوي الملقب بالشيخ لفريخ، الشيخ سعيد الخريبكَي، الشيخ عبد الرحيم المسكيني، الشيخ هشام ملاكَة، الشيخ عبد الواحد فاطن، الشيخ صالح الكبوري، الشيخ خالد لمسوكر، الشيخ فريد القنيطري، الشيخ الحيرش، الشيخ سلام، الشيخ بوسلهام، الشيخ لشهب، الشيخ المنصوري، الشيخ ادريس الكَروة، الشيخ ..وآخرون..
– ومن الأشياخ الجدد نجد، الذين جددوا في فن العيطة الغرباوية الحسناوية، وبسطوا إيقاعاتها واختصروا أجزاء منها، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الداودي عبد الله، الصنهاجي سعيد، حجيب، فريد القنيطري، العامري الشعبي، زهير الماريشال، علي البوشاني، حسن الناجي، مجموعة…وآخرون.
كما اكتسحت العيطة الغرباوية الحسناوية نمط المجموعات والأوركسترا، ونذكر من المجموعات علي سبيل المثال لا الحصر:
– مجموعة أولاد التريعات، مجموعة أولاد الغرب، مجموعة أولاد احسين، مجموعة أولاد الخدير، مجموعة أولاد لفكارنة، مجموعة مسناوة، مجموعةنجوم غرباوة، مجموعة نسيم بوركَون، مجموعة النجوم الشعبية، مجموعةنجوم سيدي سليمان، مجموعة التكَادة، مجموعة أولاد الشريف، مجموعةأولاد يعيش، مجموعة أولاد العياشي، مجموعة الخيالة، مجموعة أولاد العطار، مجموعة الإخوان الناجي، مجموعة أولاد الرحالية، مجموعةأولاد العطار، مجموعة أولاد العوني، مجموعة أولاد العز، وغيرهم…
وفي نمط الأوركسترا نجد بعض الفنانين الذين غنوا بعض العيوط الغرباوية الحسناويةبطريقة عصرية ومنهم : ( فريد القنيطري، عادل الميلودي، محمد أحفيظي، الداودي عبد الله، سعيد الصنهاجي، عبد الرحيم الصنهاجي، حميد المرضي، العامري الشعبي، عبد الحفيظ العمري، حسن الناجي، رضى الغرباوي، الناجي الطلياني، وحاتم ولد ميليكة.وآخرون..
ومن الفنانين الأمازيغ الذين غنوا بعض العيوط الغرباويةوبرعوا في أدائها، نجد الفنانين الأشياخ : “المغاري ميلود، حمي عاشور، عزيز خير، رويشة محمد، نعينيعة المصطفى، أحوزار عبد العزيز، المصطفى أومكَيل، أوشطين، حوسى 46، عزيز خير، أزلماط، لحسن الخنيفري، عبد المجيد القصيبي،وغيرهم…
وعلينا أن نستحضر دائما الدور الكبير والفعال الذي لعبته المرأة، إلى جانب الرجل في هذا الميدان، وكثيرات هن المبدعات في هذا الفن، يصعب عدهن.. ونذكر من الشيخات اللواتي أبدعن في فن العيطة الغرباوية، وتركن بصماتهن في الساحة الفنية ونذكر منهن:
الشيخة شامة الغرباوية، الشيخة سعادة الزعرة، الشيخة همة عيسى، الشيخة فاطمة حمادي، الشيخة مليكة، الملقبة ب”ميليكة الغرباوية”، الشيخة ميلودة الغرباوية، الشيخة حورية، الشيخة رحمة الغرباوية، الشيخة ميلودة الفقيرية، الشيخة حفيظة القنيطرية، الشيخة حليمة القصراوية، الشيخة فاطمة المالكية، الشيخة نعيمة الغرباوية، الشيخة زينة الداودية، الشيخة سميرة العمراني، الشيخة نادة الغرباوية.. وغيرهن..
ومن الفنانات الأمازيغيات اللواتي غنين من العيوط المرساوية نجد الشيخات: حادة أوعكي، خديجة أطلس، الشريفة، ايطو أوفول، الحسنية، الميلودية، سميرة، الحسنية، ومايا وغيرهن..
أما اللباس الذي يلبسه ممارسو هذا الفن التراثي اغرباويي، فنجد غالبا الزي التقليدي المغربي: للذكور( الجلباب، والجباور، والعمامة أو الطاقية أو الطربوش على الرأس والبلغة، أما النساء الشيخات فنجد: (التكشيطة، والقفطان، والدفينة، والسبنية، والدرة على الرأس والشربيل)، لكن مؤخرا صرنا نجد المجموعات الغنائية تخرج عن العادة وترتدي لباسا عصريا أو إداريا بربطة العنق ولباسا شبابيا بسروال الجينز والقمصان القصيرة والأحذية الرياضية..
وفيما يتعلق بعدد أفراد المجموعة المغنية لفن العيطة الغرباوية الحسناوية، قد نجد فردا واحدا داخل حلقة بآلته الوترية وسط سوق أسبوعي، أو يتجول حاملا آلته الوترية أو النفخية بين المقاهي والمطاعم الشعبية يعزف ويغني بين رواد الموائد يتحفهم بأغانيه العيطية ويتحفه الناس بعطاياهم، وبلغة أهل الحرفة “يجقر”، أو تجده بعرس بأحد المداشر النائية ينشط المكان بالفن الغرباوي، ثم تنتقل إلى نمط الثنائي وإلى المجموعة، ثم إلى النمط “الأوركسترالي”، حيث تضم الفرقة عشرات المغنيين والعازفين من الجنسين، ونادرا ما نجد المرأة عازفة على آلة وترية أو نفخية.. وغالبا ما تنطلق العيطة الغرباوية بعد فترة التقاسيم على آلة وترية أو نفخية بلحن شجي ناحب يتبعه بذلك أحيانا الموال، بعد ذلك يحتد الإيقاع واللحن ويميل تدريجيا إلى السرعة عبر الأجزاء العيطية، وقد يقف في بعض المتون، ليردد المغني كلامه بمفرده “فرادي”، ويستأنف بعد ذلك العزف، لينتقل تدريجيا في تصاعد ثم يزداد بجزئي كل من “السرابة” و”السدة” وهي قفل وخاتمة الأغنية، ويفصل بين العيطات فترة استراحة تتخللها نكت ومستملحات فكاهية. وتستغرق العيطة الواحدة من ربع ساعة إلى نصف ساعة وأكثر، وذلك حسب الزمان والمكان ونوعية الجمهور، في حين أن الحفلة كانت تبتدأ بعد غروب الشمس وتنتهي عند طلوع الفجر ومن هنا يتبين طول السمر وروعة السهر، والعدد الهائل من القصائد العيطية والأغاني الشعبية التي تقدم بالليلة. وكان الجمهور متعطش لسماع هذا الفن، إذ كان الأشخاص يقطعون مسافات طويلة تعد بالكيلومترات مشيا على الأرجل أو راكبين الدواب قادمين من مداشر ودواوير أو قرى بعيدة، يقطعون في طريقهم أودية وشعاب ليحضروا حفلة عرس أو موسم والي صالح، أو مهرجان..
وفي هذا المقال يتعذر ذكر كل الفنانين المبدعين الذين برعوا وتركوا بصماتهم في هذا الفن الغرباوي، وسنكتفي بذكر بعض ممن برزوا في الساحة الفنية، وسيظل فن العيطة الغرباوية، مدينا بالكثير للشيخة
سيبقى الثرات العيطي الغرباوي الحسناوي مدينا بالكثير للفنانين الكبار الأشياخ الأولين ومنهم؛ الشيخ “المحبوب داني”، الملقب ب”سلطان السواكن”، المبدع في عيطة “الساكن الغرباوي” وعيطة “الغابة”، وابداعاته في طريقة عزفه على الكمنجة، وصوته الدافىء الرخيم.. وكذلك الشيخ المبدع “ادريس الزيطي”، الذي مازالت أغانيه تتغنى على مر السنين إلى يومنا هذا، وآخرها إعادة الفنانة “سلمى رشيد” لأغنيته الرائعة “هو أش جا يدير” بعدما أضافت إليها توزيع موسيقي جديد وكلمات مستحدثة فلقيت رواجا شعبيا كبيرا..وكذلك الشأن بالنسبة للفنان الشيخ المبدع “المومن الشرقي”، وغيرهم من الذين حافظوا على ما بقي من التراث الغرباوي ونقلوه لنا و للأجيال في حلته الأصلية.
وشهدت فترة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات فترة توهج من جديد للتراث الغرباوي مع الفنان الأمازيغي الراحل “المغاري ميلود”، الله يرحمه، والمعروف بلقب ” شيخ الأشياخ المغنيين العرب والأمازيغ”، وذلك لأنه كان شيخا مبدعا منذ صغر سنة، ذلك الفنان الهرَم، الذي وصلنا عبره نماذج العيطة الغرباوية، ب”رباعة الشيخات” بكل الاحترافية والأداء المتقن، عبر صوته المميز الرخيم بنبراته الشجية، ورنات كمنجته الصادحة الباكية، وذلك بتجديده في هذا الفن، من خلال دوره الكبير في النقلة النوعية التي أعطاها لهذه العيطة، حيث جعلها تنافس باقي العيوط، بفضل عزفه المتميز على آلة الكمنجة وإبداعه في وصلات الموسيقى الصامتة “الخيلاز”، أعطى إبداعا في العزف والعيط والكلمات وخاصة في عيوط “الغابة”، و”الهيت”.. كما أبدع في الأغنية الشعبية الأمازيغية والشعبية باللهجة المغربية العامية، وهو الشيخ الوحيد الذي كان يغني وكمنجته تصاحبه بصوتها في الكلام..وقد عمد إلى الاقتباس من معزوفاته كبار الفنانين الشعبين المغاربة، وكان مصدر إلهام للعديد منهم، إضافة إلى حرصه على “الحطة” مظهر الفرقة الراقي بما في ذلك أناقة أزياء الأشياخ والشيخات وسلوكهم داخل الحفل.. فحينما تتفرج على مجموعة “رباعة المغاري ميلود” فكأنك تتأمل لوحة تشكيلية أتقنها فنان رسام ماهر، حيث يمتزج فيها تناسق ألوان الأزياء والرقصات وروعة الأنغام والكلمات وجودة الإيقاع والألحان.. كان رحمه الله مدرسة للفن الشعبي والعيطي، مدرسة فنية قائمة بذاتها، أخذ هو عن أشياخ الفن الغرباوي الذين سبقوه إلى الميدان الفني أمثال “الشيخ المحبوب داني، والشيخ ادريس الزيطي، والشيخ المومن الشرقي”، إنه الفنان الشيخ الذي جمع ما تفرق في غيره وأضاف عليه وطوره وقدمه في حلة بديعة رائعة، كما تتلمذ عليه عن بعد كثير من الفنانين الشعبين منهم من أخذ المشعل عنه بعد وفاته وأعاد غناء الكثير من إبداعاته، لقد ترك لنا إرثا ثقافيا غنائيا، يتمثل في العديد من الأشرطة السمعية والسمعية البصرية، والكثير من السهرات العمومية؛ سواء في الحفلات الخاصة والأعراس والمهرجانات.. وأبدع روائع فنية في الأغنية الشعبية مازالت حناجر الفنانين المغاربة تصدح بأغانيه إلى يومنا هذا، فقد أبدع وأمتع وأقنع.. إلى أن وافته المنية بتاريخ 1993، على اثر حادثة سير. وسار على دربه مجموعة من الفنانين الأشياخ الأمازيغ، نذكر منهم: حمي عاشور، وعزيز خير، وأحوزار عبد العزيز، وحيمي عاشور، ومصطفى أومكَيل وآخرون…
وإذا كانت الراحلة الشيخة فاطنة بنت الحسين، سيدة العيطة العبدية الحصباوية، والراحلة الشيخة المخلوفية رائدة العيطة الحوزية، والشيخة خديجة البيضاويةنجمة العيطة المرساوية، والشيخة شامة الزاز، نجمة العيطة الجبلية..فسيذكر المغاربة عشاق العيطة الغرباوية وراودها بفخر واعتزاز رائدة وأيقونة العيطة الغرباوية الحسناوية الراحلة الشيخة “مليكة الغرباوية” الله يرحمها، الملقبة ب”ميليكة” نسبة إلى قصر قامتها، لكونها كانت شيخة متمكنة من فنها وهي مازالت صغيرة السن، تلك الفنانة خمرية البشرة، الجميلة، ذات الصوت النائح الصافي العذب المتميز ، صوت له مميزات لا توجد سوى في بحة مليكة.. وكانت في أيامها وصولتها أيقونة العيطة الغرباوية الحسناوية بامتياز، فنانة قوية وشيخة “طباعة”، طبعت تاريخ العيطة الغرباوية والأغنية الشعبية المغربية بصوتها الرخيم الناحب الباكي، وأدائها المتميز.. وتعتبر باعثة العيطة الغرباوية من سباتها، وهي التي اكتسحت ساحة الفن العيطي خلال سنوات نهاية الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ومثلت فن التراثي الغرباوي أحسن تمثيل إلى أن توفيت بعد معاناة مع المرض وهي تعاني الفقر والعوز بعدما عاشت آخر أيامها مقصية منسية من طرف الجهات الوصية على الفن فرغم شهرتها لم تنل حظها في التكريم والاحتفاء.. وفان يكفي أن تسجل الشيخة مليكةمع فنان شعبي ولو كان مبتدئا مغمورا، سيلقى شريطه الغنائي رواجا كبيرا، وقد سجلت مع العديد مع الأشياخ الغرباويين منهم : محمد ولد البولانجي، والشيخ ادريس الكَروة، والشيخ بنعلال الغرباوي.. كما سجلت الراحلة قيد حياتها مجموعة من القطع العيطية بدار الإذاعة المغربية مازالت تروج إلى يومنا هذا عبر الأثير، ولها مشاركات تلفزيونية قليلة، وسهرات عمومية عديدة، كما تركت لنا رصيدا عيطيا مسجل عبر مجموعة من أشرطة الكاسيت والفيديو لاقت انتشارا كاسحا في الأوساط الشعبية المغربية.
وقد شهدت نهاية الثمانينات وبداية التسعينات فترة توهج من جديد للتراث الغرباوي، وستأخذ العيطة الغرباوية منعطفا فنيا جديدا مع مجموعة من الشيخات والأشياخ “الربايع”، ونذكر منهم على سبيل المثال: رباعة الفنان الشيخ “محمد ولد البولانجي”، والشيخة “ميليكة”، إذ يعتبر سي محمد ولد البولانجي فنانا متمكنا وعازفا ماهرا على آلة الكمنجة، والشيخة “مليكة الغرباوية ” كما سبق الذكر فنانة متمكنة من حرفتها وساعدها في ذلك صوتها الشجي الناحب الصافي والقوي، إذ شكلا ثنائيا منسجما بفضل تناغم صوت هذه الفنانة، والصرير النادب لكمنجة محمد ولد البولانجي..ونجد أيضا رباعة الشيخ “بن دحمان”، ورباعة الشيخ “ادريس الكَروة”، ورباعة الشيخ “بن علال” وغيرهم من الفنانين.
ويذكر المغاربة الفنان الغرباوي الكبير “فريد القنيطري” بفخر واعتزاز، ذلك الفنان الأنيق الملقب ب”شيخ الرما”، ذلك الشيخ الذي أعطى إشعاعا كبيرا لفن العيطة الغرباوية الحسناوية، إذ يعتبر أحد الفاعلين اللامعين في أدائها والمحافظة عليها بطريقة عصرية، وقد أمتع الجمهور العريض بتسجيلاته السمعية، والسمعية البصرية، وكان من ضمن الفنانين المغاربة الأوائل الذين سجلوا فن العيطة والأغنية الشعبية بطريقة “الفيديو كليب”، استطاع أن يدخل قلوب الكثير من المغاربة بأفلامه الموسيقية الغنائية ومن بينها رائعته “فاطنة راني كنموت”، فهو شيخا مبدعا، وصلنا عبره نماذج العيطة الغرباوية في حلة جديدة وأنيقة بكل الاحترافية والالتزام بالأصول عبر صوته الرخيم بنبراته الشجية، وذلك بتجديده وإبداعه في هذا الفن.. واشتهر بصوته وحركاته ورقصاته في فن الهيت، وأدائه المتميز لسراريب العيطة الغرباوية في الحفلات والأعراس واالمواسم.. كما في السهرات الكبرى على خشبات المسارح، إذ مثل الفن الغرباوي خير تمثيل داخل المغرب وخارجه.
كما يجب أن ننوه بالمجهودات الكبيرة التي قام بها أشياخ هذا الفن حاملي المشعل الذين أزاحوا طابع الجمود عن هذا الإرث، ونذكر منهم: الفنان الشيخ “ولد المصباح”، عازف ماهر على آلة الكمنجة، والفنان “المنصوري”، والفنان “الحيرش”، والفنان “عادل الميلودي”، وغيرهم..
كان أشياخ وشيخات العيطة في السابق بمثابة جنود بلا بنادق، سلاحهم في ذلك النغمة والكلمة، بذلك يصيبون الهدف ويساهمون بفنهم في تحقيق النصر..ولكن للأسف نجد بعض أشباه الأشياخ الذين حوروا هذه العيطة، وجعلوها من نص شعري يتغنى بالأمجاد والمقاومة والجمال، ومباهج الليل ومحاسن الخيل، والتغني بالأولياء والصالحين والزوايا، إلى قصائد مبتذلة متهتكة.. وذلك بتركيب كلمات سوقية دونية تتغنى بالعشق والسمر والخمر، وتركيبها على اللحن الأصلي، قصد طمس الهوية الثقافية أو من أجل التسويق التجاري المربح.. والعيطة عموما هي شعر شفهي م يتم توثيقه، ولم يتم تسجيل النص العيطي الحقيقي تسجيلا قانونيا رسميا، لذلك فهي أشبه ما تكون بالرواية المفتوحة التي يظل موضوعها عرضة للتحوير والزيادة والنقصان، ويهيمن عليها الارتجال حيث يزيده الناظمون تراء، ويفرغون فيه ما يعترض حياتهم من مآسي وأفراح..ولذلك من العسير الوقوف على المؤلفين الحقيقيين للعيطات المتداولة.
والشكر لهؤلاء الفنانين المناضلين الذين لم ينالوا حقهم في الوسط الفني المغربي ولم تطالهم يد الدعم والمساعدة، يساهمون ويضحون بوقتهم ومن أموالهم الخاصة للحفاظ على هذا المورث الثقافي، شكرا للذين ساهموا في نفض الغبار على هذا الكنز الثمين وظلوا متشبتين بأصالتهم وبهذا الفن الذي يسافر بالمتلقي إلى كل ماهو جميل…
إن أصالة فن العيطة عموما تكمن في امتداده التاريخي، وهو يشكل جزءا من هويتنا الثقافية، ومن أجل الحفاظ على هذا الفن وصونه من الضياع، علينا أن نكثف الجهود، وأن نحمل المشعل إلى الأجيال القادمة، ولكي نضمن استمرارية هذا النمط من الغناء الأصيل، نحن في أمس الحاجة إلى تبصير الشباب بجذور هذا الفن وألوانه وموضوعاته، كل منا من موقعه “ممارسين، باحثين، إعلاميين، جمعيات، مؤسسات وصية…”، كما يتوجب علينا توثيق ذلك المتن القليل الذي وصلنا منه، بصفة فن العيطة إرثا مشتركا، وهو إنتاجا فنيا قام بالتعبير عن هموم وأفراح الإنسان الشعبي خلال فترة حاسمة من تاريخه، وسجل لنا مظاهر حية من معيشه وطقوسه وأحلامه.. فقد حان الوقت لسبر أغوار هذا التراث الأصيل على أسس علمية لإعادة الاعتبار إليه. ولما لا نبدع ونخلق عيطات جديدة قد تصل إلى مستوى أو تقارب ما تركه أجدادنا.
وعلينا دائما أن نجدد الشكر والتحية للسيدات والسادة الدكاترة والأساتذة الباحثينوالإعلاميين.. الذين اشتغلوا على فن العيطة والتراث الشعبي وأناروا لنا الطريق في هذا المنحى، فأنا كاتب هذه المقالة فنان شعبي عاشق ومولع بهذا الفن، ممارس ومهتم، موسيقي “كومنجي” ومغني لفن العيطة، أجتهد وأبحث كي أرقى إلى مستوى شيخ للعيطة، وأنقل ما وصل إلى علمي للمتلقي وللناشئة، وأكرر قولي أنني لست باحثا، لأن كلمة باحث هي كلمة كبيرة في عمقها وتعريفها الأكاديمي، وقد شقا الباحثون سنين طويلة، وأنفقوا من أموالهم وأوقاتهم للوصول إلى مراجع ومستندات علمية منها التي كانت مطمورة، ومنهم باحثون أكاديميون محنكون يجب دائما التذكير بأعمالهم والتنويه بها كنوع من التكريم، والترحم على الأموات، لهذا أعيد خلال كل مقال أكتبه عن فن العيطة أن أذكر وأشكر وأنوه بفخر واعتزاز هؤلاء الذين نبشوا وهبشوا، ونفضوا الغبار عن هذا الكنز المشترك بين المغاربة، هذا الموروث الثقافي اللامادي، رحم الله الأموات منهم وزكى في عمر الباقين الأحياء، وأذكر منهم الراحل رائد البحث والتحري العيطي محمد بوحميد، الله يرحمه، وحسن نجمي، وادريس الإدريسي، وحسن بحراوي، ومحمد شقير، وأبو بكر بنور، ومحمد أقضاض، ومحمد الولي، وصالح الشرقي، وعبد العزيز بن عبد الجليل، وعبد الفتاح السليماني، وأحمد عيدون، وعباس الجيراري، وأحمد الصبيحي السلاوي، وعلال الركوك، وعبد الكريم الجويطي، وسعيد فاضلي، وعزيز خمريش، وسالم اكويندي، ومضمون محمد، والتهامي الحبشي، وسالم عبد الصادق، وعبد السلام غيور، والغازي عبد الله، ونسيم حداد، والسهامي رشيد، وعلي المدرعي والمصطفى حمزة ولطفي محمد.. ومنهم كذلك باحثون أجانب جذبتهم أنغام العيطة من قارات أخرى، كالباحثة الأمريكية “ديبورا كابشن”، التي أنجزت عملا هاما في موضوع العيطة ضمن بحث كلفت به من جامعتها ب”تيكساس”، والباحثة الموسيقية الايطالية”اليسندرا توتشي” الموفدة من جامعة أمريكية لدراسة هذا الفن موسيقيا وأكاديميا.. شكرا لهؤلاء جميعا، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي على تذكرهم فمعذرة منهم.
وجزيل الشكر لجمعية “أطلس أزوان”، في شخص رئيسها الأستاذ الباحث والخبير الموسيقي “ابراهيم المزند”، صاحب “أنطولوجيا العيطة”، عمل ثقافي أدبي توثيقي يتضمن كتابين باللغتين العربية والفرنسية، وأقراصا مدمجة مسجل عليها العديد من الأغاني العيطية بأصوات خيرة الشيخات والأشياخ من مجموعات عيطية غنائية من مختلف مناطق المملكة المغربية.
وختاما لا ينبغي لنا أن نركن إلى التقليد والتمجيد من أجل التخليد، بل علينا تطوير هذا الفن بالخلق والإبداع والتجديد إذا نحن أردنا أن نذهب به إلى بعيد.