شيخ العيطة الحسين السطاتي
الإنسان كائن حي لغوي ناطق، خلقنا الله سبحانه وتعالى وميزنا عن باقي المخلوقات بالعقل الذي نميز به الأشياء ونتعرف من خلاله على وظائف باقي الأعضاء في الجسم وذلك بفضل العلم والمعرفة، ومن هذه الأعضاء نجد ما ينتج الصوت والنطق بمفردات من فم ولسان وقصبة هوائية ومريء وغيرها.. حيث تولد المفردات والعبارات وتخرج بانسيابية وعمق.. واللغة هي عبارة عن نسق من الرموز والإشارات التي تشكل إحدى أدوات المعرفة لذا الإنسان، إذ تعتبر أهم وسائل التواصل والتفاهم في مختلف الميادين الحياتية بين أفراد المجتمع وبدونها يتعطل النشاط المعرفي والاجتماعي للأفراد.. وترتبط كل لغة في العالم بالتفكير ارتباطا كبيرا، حيث يمكن صياغة الأفكار البشرية في قالب لغوي حتى في حالة التفكير الداخلي أو الباطني. وتنقسم اللغات إلى عائلات لغوية كاللغات الهندية الأوربية واللغات الإفريقية والأسيوية وغيرها.. ونجد لكل منها عدد من اللغات ذات الخصائص والأصول المتشابهة، إذ توجد العديد من اللغات عبر العالم، ومن أهم هذه اللغات حاليا ووفقا لعدد من المعايير كأهميتها وتأثيرها في العلوم والمعاملات التجارية ومكانتها العالمية كواحدة من لغات التواصل المشترك نجد: اللغات: الأنجليزية، والعربية، والايطالية، والفرنسية، والصينية، واليابانية والهندية والتركية…
واجتهد الفنانون المغاربة كغيرهم في العالم فأبدعوا وأمتعوا بما فيهم النحاتون والرسامون والأدباء والشعراء والموسيقيون والمغنون..ووصفوا كل ما رأوه من مشاهد أعجبتهم وألهمت قريحتهم الفنية، فوصفوا الطبيعة والإنسان والحيوان والجماد..وعبروا عن ذلك بلغتهم ولهجاتهم ولكناتهم في مختلف ابداعاتهم، ويعد الإبداع اللغوي أكثر الإبداعات عمقا وأريحها حمولة، واللغة هي وعاء الفكر بدلالاته الواسعة، وعند الحديث عن الإبداع في اللغة فإن ذلك يعني الإبداع في الفكر والثقافة، وفي كل ما قد يتصل بالناطقين بتلك اللغة، وفي الفنون المغربية نجد الإبداع يعم العربية الفصحى واللهجة العامية الدارجة، واللغة الأمازيغية، واللهجة الحسانية، فإذا كانت اللغة العربية الفصحى لغة العلوم والتدوين فإن اللهجة العامية الدارجة بطبيعتها المتنوعة تبقى الأكثر انتشارا وذيوعا بين المغاربة كالزجل والغناء والمسرح والسينما.. لتليها بعد ذلك اللغة الأمازيغية المدسترة بأصنافها بما فيها تشلحيت وتمزيغت وتريفيت. كما نجد بالمناطق الصحراوية اللغة الحسانية، ومن هذه اللهجات تتفرع عدة لكنات، ومن بين الفنون الغنائية المغربية التي طورت لهجتها وحافظت عليها نجد فن العيطة.
والمغرب بلد غني بثقافته الشعبية وبتنوعه اللساني من لهجات ولكنات، وبثرائه الغنائي التراثي الذي بُني على الرجل والمرأة على حد سواء بلهجات مختلفة، وتتميز الأغنية الشعبية المغربية بتعددها واختلاف لهجاتها، فهناك أغنية بدارجة عامية عربية، وأغنية عامية أمازيغية، وأغنية عامية حسانية، فالأغنية المغناة باللهجة الدارجة العربية المغربية لها إطار جغرافي يتميز بالاتساع حيث تحيطه السهول الغربية وحوض سبو، وحوز مراكش، ومنطقة خريبكَة وأبي الجعد حتى مدينة بني ملال.. ويتوزع المشهد الطبيعي في هذه المناطق بين السهول والتلال، بين البلاد الساحلية والبلاد القارية، وكل هذه العوامل أثرت على أسلوب الأغنية في هذه المناطق، وفيما يتعلق بالأغنية الأمازيغية فهي تتمركز على العموم بالجبال، بما في ذلك جبال الأطلس وجبال الريف، كما نجد الأغنية الحسانية تتمركز على طول المناطق الصحراوية المغربية.. ومن بين أشكال الأغنية الشعبية المغناة بالدارجة العامية المغربية نجد فن “العيطة”، هذا الفن الذي يؤدى من طرف رجال ونساء، أشياخ وشيخات. يشتركون في النظم والعزف والرقص والغناء على حد سواء، في مساواة بين الرجل والمرأة ..فالعيطة فن موسيقي فرجوي يجمع بين الشعر”الزجل” والموسيقى والغناء والرقص، وقد ساهم الزجالون العيطيون في ابتداع كلمات اشتقت من الفصيح المهجور أو خُلقت خلقا وشقت طريقها إلى الاستعمال في الحياة اليومية، فكان للأشياخ والشيخات دور مهم في إثراء لغة التداول اليومي في زمن لم يكن فيه إذاعة ولا تلفزيون ولا مواقع التواصل الاجتماعي ولا تطبيقات التواصل الفوري، فيا ترى كيف نطق الشعراء “الزجالون” الأشياخ والشيخات العيطيون الأسلاف قصيدتهم العيطية؟ وهل هناك لهجة مغربية أكثر من غيرها حضورا من اللهجات في التعبير الفني العيطي؟ وهل توجد لغة طبقية “فونيكية” متداولة بين الأشياخ والشيخات؟ وإذا ما كانت موجودة فهل مازالت هذه اللغة مستعملة؟ وهل هناك عنصرية لغوية بين اللهجات العيطية؟ وكيف يمكن لفن العيطة أن يحقق انتشارا وإشعاعا باللهجة المغربية العامية الدارجة في باقي البلدان؟ وما هي العوائق التي تحول دون توظيف بعض اللهجات المغربية في فن العيطة؟ وكيف السبيل لجعل فن العيطة أداة فنية لصيانة اللهجة المغربية وتشذيبها؟
إن كلمة لغة في معجم المعاني الجامع باللغة العربية هي (اسم)، مشتق من فعل لغا يلغو لغوا، والجمع لُغى ولغات، وهي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وعُرفت اللغة منذ القِدم أنها عبارة عن مجموعة من الأصوات يعبر بها الفرد عن أغراضه واحتياجاته، وعلى الرغم من قدم هذا التعريف إلا أن التعريفات الحديثة لهذا المصطلح لم تستطع تجاوز موضوعيته.. وأهل اللغة هم العالمون، ويقال لهم أيضا اللغويون، واللسانيون والألسنيون، كما نجد هناك إشارات اللغة المصاحبة وهي التعبيرات غير الصوتية المصاحبة للكلام، حيث تعطيه بعض المعاني وتعبر عن الانفعالات المختلفة كنغمة الصوت ووحدته والوقفات والابتسامات والتأوهات ونبرات الصوت وغيرها..والملاغة هي صوت المضاحكة والممازحة، وكلمة لاغية بمعنى كلمة فاحشة قبيحة.. وعلم اللغة هو علم يدرس أوضاع الأصوات والألفاظ والتراكيب وأنظمتها ويقال له علم اللسان أو اللسانيات أو الألسنة، واللغة الأم هي اللغة الأولى التي يمتلكها الفرد، وهي اللغة الأصل التي تتفرع إلى لغات.. ونقول لغة مصطنعة يعني لغة مخترعة على أساس قواعد موضوعة، ولغة الإشارة هي لغة تعتمد على حركات يدوية للوصول للمعنى بدون أي نوع من الترجمة، وهناك لغة الجسم، فهي إيماءات وأوضاع للجسم وتعابير على الوجه لا إرادية تكون عادة في الاتصال غير الشفهي، ونقول لغة ميتة بمعنى أنها لغة انقرضت ولم تعد مستعملة.
ويُعرِف علم النفس اللغة على أنها مجموعة من الإشارات الصالحة للتعبير عن حالات الإنسان الفكرية والإرادية والعاطفية “الشعور”، وهي وسيلة يمكن من خلالها تحليل الصور والأفكار الذهنية إلى خصائصها أو أجزائها والتي تمكن من تركيب الصورة أو الفكرة مجددا في أذهاننا وأذهان من حولنا وذلك من خلال تأليف كلمات وترتيبها في وضع خاص.. وتتفرع من اللغة الأم عدة لهجات، واللهجة بدورها تتفرع منها لكنات محلية.
واللهجة في اللغة العربية في مجمع المعاني الجامع، هي اللسان أو طرفه، وهي لغة الإنسان التي جبل عليها فاعتادها..وهي مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات اللغوية جميع أفراد هذه البيئة. واللهجة هي طريقة من طرق الأداء في اللغة فمثلا اللغة العربية أصل يتشعب منها لهجات كالمغربية والمصرية والشامية…واللهجة تؤدي نفس الوظيفة من حيث التعبير عن الأفكار بواسطة الكلمات والجمل، لكن اللهجة تعتبر جزءا من اللغة أو نسخة محكية عن اللغة القياسية، وقد تجتمع عدة لهجات في لغة واحدة تكون أقل انصياعا إلى القواعد اللغوية والنحوية، كما أن اللهجة لا تكون مكتوبة ولا تدخل في نظم التعليم لأنها خالية من القواعد..ومن اللهجة تتفرع عدة لكنات، واللكنة في اللغة العربية من لَكَنَ، ولكن الشخص في اللغة العربية بمعنى عيي وثقل لسانه ولم يستطع الإفصاح، وتختلف اللكنات إجمالا في جودة الصوت والنطق والتفريق بين الصوائت (حروف العلة الصوتية)، والصوامت ( الحروف الصامتة)، والتشديد ونظم الشعر..رغم أن النحو والمعاني والمفردات وغيرها من خصائص اللغة تختلف في بعض الأحيان في التزامن مع اللكنة، وقد تعود كلمة “لكنة” بالتحديد إلى الفروق النطقية في حين أن كلمة لهجة تشمل فروقا لغوية أوسع، وتعتبر اللكنة فرعا من اللهجة، والفرق بين اللغة واللهجة واضح يتجلى في أن اللغة قياسية أو معيارية، بينما تكون اللهجة خاصة بفئة معينة بغض النظر عن عدد أفرادها، بمعنى أن اللغة هي المتفق عليها بين الناطقين بها وهي ما يتم تعليمها في المدارس ويفهمها الناطقون بلهجاتها بشكل جيد، أما فيما يخص اللكنة فهي تتعلق بطريقة اللفظ وليس بتركيب الكلمة أو معناها، وغالبا ما تبرز اللكنة كانعكاس لطريقة لفظ اللغة الأم على لغة جديدة، أو تأثير اللهجة الأم على لهجة جديدة. وجميع اللغات هي في مصدرها وتاريخها لهجات، فكل لغة كانت لهجة، وعلى سبيل المثال فاللغة العربية الفصحى هي لهجة العرب أهل قريش، كما أن اللهجة التي يكون أهلها متمكنون اقتصاديا وثقافيا وعلميا وفنيا هي التي تسود وتتسيد، وتصبح لغة ذلك القوم.. أما عن اللغة العامية فهي اللغة المتداولة بين الناس، وهي بخلاف اللغة الفصحى المستخدمة في الكتابة والأحاديث الرسمية والعلمية، كما نجد هناك لغة طبقية، وهي لغة خاصة بأهل حرفة أو طبقة لا يفهمها غير أفرادها. ونجد كل خاصيات هذا التعريف موجودة ضمن فن العيطة من زجل وموسيقى وغناء ورقص وأداء.
وللتذكير ففن “العيطة”، هو فن شعبي يأتي فيه الإيقاع الموسيقي مصاحبا للكلام، وهي أغنية مهيكلة على شكل أجزاء، تنطلق من بداية وتحتمل جزأين إلى تسعة أجزاء أو أكثر وتنتهي بخاتمة، كما أنها مجموعة من المقاطع الغنائية والفواصل الموسيقية الإيقاعية في منظومة تختلف عناصرها باختلاف أنواع العيطة نفسها. ويأتي التركيب كخاصية موسيقية وهوية إيقاعية وزجلية. وهي تتوزع إلى تسعة أنواع، تتنوع حسب تنوع المناطق الجغرافية التي تحتضنها، ونجد هناك: العيطة الجبلية، والعيطة الغرباوية، والعيطة الزعرية، والعيطة المرساوية، والعيطة الحصباوية وتسمى أيضا بالعيطة العبدية، والعيطة الشيظمية، والعيطة الحوزية، والعيطة الملالية، ثم العيطة البلدية وتسمى أيضا بالعيطة الفيلالية الجرفية. وضمن هذه الأنواع العيطية نجد عيطة الساكن التي توجد في كل نمط من هذه العيوط. كما نجد لوحات فلكلورية تعبيرية من الرقص الشعبي تأثث هذا الفن التراثي.
==( “وإن هذا الغناء الذي يطلقون عليه اسم العيطة، وأحيانا أسماء أخرى للتمييز، هذا النفس الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية- الأنثوية والذكورية- والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد شعر شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المنحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه”)==. المرجع: الباحث الدكتور حسن نجمي في كتابه بعنوان: “غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية بالمغرب 1″، الصفحة 17.
وهذا الغناء هو فن رعوي شفوي، غناء البدو، إذ يتسم بالبساطة على مستوى التأليف الشعري والموسيقي، يؤدى بلهجة دارجة عربية عامية، ضاربة في العمق الريفي، وبصور جمالية وتركيب فني رائع وعميق، زجل امتزجت فيه عوامل السرد والإنشاد، والحكي والغناء، وتتجلى شفوية العيطة في أنها ممارسة فنية وظيفية داخل المجتمع القبلي، تلقائية وعفوية، توارثتها أجيال عن أجيال، ولا يعرف مؤلفها الشعري والموسيقي، وإنما تقوم مثل كل تراث شفوي على المجهولية..واستنادا إلى ما توفر لدينا من ربائد عيطية “أرشيف” غنائي قديم، (أسطوانات اللفة، أشرطة الكاسيت، أشرطة الفيديو، تسجيلات بالكاميرا لحفلات عيطية، أقراص مدمجة، تسجيلات لسهرات عمومية وتلفزيونية، منشورات فيديو على موقع التواصل الاجتماعي “يوتيوب”، فايسبوك..)، وما سمعته شخصيا بالمباشر من أفواه الأشياخ والشيخات والرواة..منهم الذين ماتوا الله يرحمهم، ومنهم الذين مازالوا على قيد الحياة، وبصفتي الشخصية فنان شعبي شيخ للعيطة مغني وعازف كمنجة، كوامنجي ل”رباعة الشيخات”، أجد أن اللغة العامية الدارجية هي المهيمنة في المتن العيطي، كما أن الألفاظ والعبارات التي يحتويها زجل هذا الغناء تختلف لكناتها باختلاف البيئة التي نشأ فيها كل نوع عيطي، وطريقة الكلام على مستوى مخارج الحروف؛ نأخذ على سبيل المثال العيطة المرساوية كانت الأكثر حظا وانتشارا واستفادة بقربها من المناطق التي كان بها الإعلام بما في ذلك الإذاعة والتلفزيون، وقد انتشرت بالمركز بوسط المغرب بكل من مدينة الدار البيضاء إلى سطات ثم إلى أزمور والجديدة… حيث تهيمن تلك اللهجة المغربية العربية الدارجة ذات اللكنة “العروبية”، وتختلف قليلا عن العيطة الزعرية بمنطقة زعير، وعن العيطة الغرباوية بمنطقة الغرب في مستوى التلفظ بالكلمات وطريقة نطقها رغم أنها بالدارجة المغربية العربية، كما نجد بشمال المملكة المغربية العيطة الجبلية تغنى بلكنة شمالية رغم أنها تؤدى باللهجة الدارجة المغربية، وبالمنطقة نفسها تختلف اللكنات فلكنة “بني سريف” ليست هي لكنة “بني كَرفط” وليست هي لكنة “بني زروال” رغم أنها عيطة محلية جبلية، ونفس الشيء للعيطة العبدية أو ما تسمى بالعيطة “الحصباوية” وكذلك الشأن بالنسبة للعيطة الشيظمية حيث تتغير العبارات والألفاظ ويبقى المعنى ثابت، مثلا عبارة “نمشي معاك” في منطقة الدار البيضاء نجدها تماثل “نمشي عماك” بمنطقة عبدة، أو عبارة “أشنو بغيتي” بالشاوية تماثلها “أشنو غبيتي” بالشياظمة، وفي المقابل حرف القاف في الوسط بمنطقة الشاوية ينطق “كَاف” مثلا في عبارة ” ميمتي ضرني كَلبي” نجدها في الشمال بعبارة ” ايما ضرني قالبي”، وبجهة بني ملال نجد حرف “الشين” ينطق “سين” مثلا كلمة “شمش” بسطات في الداخل تقابلها كلمة “سمس” بالفقيه بن صالح، وهكذا بالنسبة لباقي أنواع العيطة الأخرى..كما أن كل من الموسيقى واللحن والإيقاع وطريقة التغني ونوعية الأداء من المحسنات الفنية التي تجعل الكلام العيطي يذوب وسطها وتجعل المتلقي يستحسنها ويطرب لها دون أن يستوضح الكلمات. ومثال على ذلك الانتشار الواسع الذي لاقته موسيقى العيطة المرساوية “ركوب الخيل” خارج المغرب بدون كلمات، هذه العيطة التي أدتها مجموعة من الفرق الأجنبية من بينها الأوركسترا السمفونية الهولندية، ونفس الشيء نجده في عيطة “عريس الخيل” المرساوية…
وفيما يتعلق بأصول هذا الفن العيطي العريق نجد ما ذكره الباحث الدكتور حسن بحراوي في مؤلفه فن العيطة بالمغرب:
==(ومن جهة أصولها يعتبر الأستاذ عبد العزيز بن عبد الجليل في كتابه “الموسيقى الشعبية المغربية” أن فن العيطة قد تولد عن التلاقح الذي تم بين الساكنة المغربية الأمازيغية والعنصر العربي القادم من الشرق ابتداء من حقبة الفتح الإسلامي والذي أثمر إلى جانب التمازج الإثني عددا من مظاهر التأثير المتبادل في أساليب العيش ووسائل الترفيه..ومن ذلك ما طرأ على الإيقاعات البربرية من تغيير في الأداء واللحن وخاصة من ناحية سيادة اللغة العربية التي سيزداد استعمالها في الحياة اليومية بوجه عام وفي الغناء الشعبي على وجه الخصوص..وقد سبق للأستاذ محمد بوحميد أن تداول هذه الأطروحة، التي نقبل بها مؤقتا طالما لم يتدخل عنصر جديد لإفسادها، وتحدث في نفس الاتجاه الذي يرى بأن فن العيطة قد نجم عن ذلك اللقاء الحضاري والثقافي الذي جرى بين بني هلال الوافدين من المشرق العربي وسكان البطون الأطلسية من الأمازيغ الذين رحبوا بهذا اللقاء ووجدوا فيه متنفسا للحصار الذي كانوا يعانون منه بسبب نزعة التشدد الموحدية…وبن عبد الجليل ومعه الأستاذ بوحميد يستندان في هذا الطرح إلى ما يذكره المؤرخ المراكشي في كتابه “المعجب” من أن بني هلال عند حلولهم بالمغرب حملوا معهم آلاتهم الموسيقية التي كانوا يوقعون بها رواياتهم وملاحمهم ومنها الليرة والدف والطبل والرباب…الخ )== المرجع: كتاب فن العيطة بالمغرب لمؤلفه الدكتور حسن بحراوي الصفحة 12.
وقد كان لبعض الباحثين المغاربة محاولات واقتراحات لتبديل لغة العيطة من اللهجة العامية المغربية المعروفة بها، وتحويلها إلى اللغة العربية الفصحى كما هو الشأن بالنسبة للباحث “ادريس الادريسي”، والذي يؤكد أن فن العيطة من أصول عربية حيث يقول حسب ما جاء في مقالة للباحث الكبير الدكتور حسن نجمي بجريدة الصباح عدد 5397 بتاريخ الثلاثاء 29 غشت 2017 ، وهذا مقتطف فيما جاء في المقالة ==( للعيطة أصل كبير في الغناء عند العرب، يعرف ذلك من خالط التاريخ الموسيقي ومارس النغم ” كما كان الادريسي مقتنعا بعمق بأن العيطة كانت في حاجة إلى عملية إصلاح وأن بإمكانه أن يمد لها يد العون :”وبعد أن استنتجنا أنه الطرب القومي لدينا، وإليه يحن سكان المغرب على اختلاف الطبقات والألوان، وإنه طرب عربي قح ولا إشكال، قد راقني أن نخدمه خدمة خالصة وأن نعمل غاية الوسع لإصلاحه وتقدمه، إذ في تقدمه تقدم هواته والمشتغلين به من إخواننا أهل البادية البعيدين عن كل روح مدنية تدخلهم ميدان التهذيب وتجمعنا وإياهم في وسط راق يفتخر به المغرب يوما ما أمام كل سبيل من سبل الثقافة الأدبية والمحامد الاجتماعية”.. وهكذا بعد إمعان نظره في هذا الذي بدا له أنه “خلل” في العيطة بحاجة إلى إصلاح قال ” أجل، منذ بضع سنوات وأنا أفكر في فن العيطة وكيف يمكن لي إصلاحه والتقدم به سريعا إلى الأمام” فوجد الوصفة الإصلاحية الملائمة أخيرا ” لا يخرج الأمر عن مسألة واحدة وهي إبدال الألفاظ المستعملة في أدوارها بالأبيات الشعرية في الأدب والأخلاق” إذ كل ما نشاهده من التأخر والتقهقر الواقع بالعيطة وبالمشتغلين بها ليس إلا من ناحية تلك الألفاظ الشنيعة والأقاويل المملوءة سفها وقبحا”…)=== من مقال الباحث الدكتور حسن نجمي بعنوان:فشل إصلاح العيطة، بجريدة الصباح المغربية.
ورغم تلك المحاولات المزعومة إلا أنها باءت بالفشل بل لم يكن لهم حتى شرف المحاولة، إذ كيف يعقل أن تؤدى فن العيطة بتلك التعقيدات اللحنية والتراكيب الإيقاعية والكلمات الزجلية أن تعوض بلغة عربية فصيحة، و على الرغم من محاولات التبخيس والتمييع والتحقير فالعيطة مازالت وستظل صامدة زجلا وموسيقى وغناء ورقصا كما توارثناها عن الأجداد الأسلاف، ومازالت حاضرة مشعة بقوة.
إن الأشياخ والشيخات العيطيون الأسلاف تركوا لنا إرثا ثقافيا ثمينا ورأسمالا لا ماديا، فبالإضافة إلى الأداء المتميز عزفا وغناء لهذا الفن الشعبي المغربي باللهجة المغربية العامية الدارجة بمختلف اللكنات، نجد أن محترفيه من أشياخ وشيخات تجمعهم لغة طبقية موحدة متداولة بينهم وتسمى “الغوص”، وهي بمثابة لغة طبقية “فونيكية”، للتخاطب فيما بينهم، مصطنعة ومتفق عليها، وهي عبارة عن كلمات مشفرة خاصة بهم ويُجهل مؤلفها وتاريخ ابتكارها، وعلى الوافد الجديد على الميدان تعلمها، مثلا الشيخ يسمى “النغت” والشيخة “النغتة” والطعارجي يسمى “البجايقي”، والبنادري يقابلها “الهرادزي”، والكومنجي ” تقابلها مفردة “القوابزي”، والإكرامية بمعنى “الغرامة” تقابلها لفظة “عومار” أو “السيقار”..وذلك حسب كل منطقة، وهي مجموعة من المصطلحات بمثابة رموز لفظية للتخاطب بينهم، يتداولونها في ما بينهم ويحفظون بها أسرارهم، حيت الخارج عن نمطهم يصعب عليه التواصل معهم..وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة سأطلع القارئ على بعض أسرار هذه اللغة الشيخاوية المتداولة بين ناس العيطة وللأسف فالقليل من هؤلاء الأشياخ والشيخات الوقتيين من بقي يتكلمها، وهنا أتكلم عن “اللهجة الشيخاوية” المتداولة للاسترسال في الكلام والتخاطب في المواضيع، حيث تُنطق هذه اللغة بقلب لفظ الكلمة الأصلية من الدارجة المغربية العامية ونطقها مبعثرة الحروف بحيث بعد ترديدها مرات تعطي الكلمة الأصل، وللتوضيح فللتأكد من صحتها يتم الإسراع بلفظها سرا ثلاث مرات فتعطي الكلمة الحقيقية الأصل، مثلا اسم “الحسين” يقال: “سينحو”، و”الحسين السطاتي” نقول: “سينحو طاتيس”، وجملة “بوعبيد الشرقي” تقابلها “رقيشا بيدبوع”، وعلى سبيل المثال إذا أردنا قول عبارة : الحسين السطاتي غادي يبدا يغني العيطة، نقول: “سينحُو طاتِيس ديغا دايب ايغانِ طَلعي”. وكمثال آخر إذا أردت أن أقول لأفراد المجموعة “نديرو شي عيطة مرساوية” أقول: “روندي ايش طَعي ساويمر”، وإذا أردت أن أقول لكم: الله يحفظكم، سأقول “هلا كُمِيحفَظ”، حيث تقلب كل كلمة في الجملة على حدة، وبإمكاني ترجمة هذا المقال من اللغة العربية إلى اللغة الشيخاوية العيطية، وأعتذر للعيطين على افشاء السر، لكن اللوم عليهم لأنهم قتلوا لغتهم، فهذه اللغة قد أوشكت أن تموت وهي تحتضر وآيلة للانقراض، وقليلون هم أهل الحرفة العيطية الذين مازالوا يتكلمون بها، فقد تبدو في الأول أنها لغة تخاطبية تواصلية صعبة لكن بالممارسة وبتميزها تصير لغة ميسرة وممتعة. وأحيانا يمكن استحداث لغة بين أفراد المجموعة الواحدة، فهذا الأمر يعد عند الشيخات والأشياخ الأسلاف أصحاب المجموعة الفنية العيطية تكملة للتميز والابتعاد عن السلوكات العامة العادية التي يتبناها المجتمع.
إن فن العيطة يساهم بوضوح في التعريف باللهجات الموجودة في مناطق متعدد بالمملكة المغربية، لذا يجب علينا صون هذا الفن والمحافظة عليه والتعريف به وتوسيع دائرة مناقشته وتحليله، والعمل على تقريبه من الأوساط المثقفة والعالمة..بذلك القدر الذي يواكب تغلغله في وجدان المغاربة. كما يجب تسليط الضوء على لهجتنا لكي تصير لغة معترفا بها، وأن تكون لنا غيرة على لغتنا فهي جزء من هويتنا، دون تهجينها بلغات دخيلة كالفرنسية مثلا، حيث يعتقد البعض أن مزجه للهجتنا العامية بمصطلحات فرنسية في الكلام وفي الأغاني سيعلي من شأنه بل العكس هو الذي يحصل إذ يعتبر ناقصا في نظر المثقفين، وهذا من بين المعيقات التي تعيق هذا الفن حيث نريد أن نقلد الآخر و نتملص من أصلنا فبذلك نبتعد عن هويتنا.. وحينما يسلط الضوء على لغة أو لهجة في عمل فني متقن أكيد سيقبلها الآخر، وعلى سبيل المثال ما حققته بعض الأغاني المغربية بلغتنا العامية الدارجة في بلدان المشرق العربي والخليج، وما لاقته من انتشار كاسح، كما أن عدد من المغنيين النجوم العرب أدوا أغاني مغربية، منها العبطية كعيطة ساكن “العلوة” التي أداها فنانون خليجيون وغيرهم..ومن جهة أخرى فاللغة واللهجة يفرضها الإنسان الناطق بها في عمله الفني الغنائي، وبقدر ابداعه في فنه يلقى تقديرا واحتراما، وتسليط الضوء على لغتنا يجعلها دائما حية وحاضرة بقوة، فحينما كنا نتفرج في التلفزيون على الأفلام المصرية فقد صار الكثير من المغاربة يفهمون اللهجة المصرية ويتكلمون بها، وكذلك حينما شاهدنا المسلسلات السورية وسمعنا اللغة الشامية صار البعض يعرف اللهجة الشامية ويتكلم بها، وأتذكر ونحن مراهقين في ثمانينات القرن الماضي فبكثرة مشاهدتنا للأفلام السينمائية الهندية، واستماعنا لموسيقاهم وأغانيهم صرنا نغني بهذه اللغة ونردد أغاني الأفلام الهندية.
ورغم ذلك فإن علم اللغويات يقضي بأنه لا يوجد اختلاف في اللكنات فيما يخص وجاهتها وجماليتها وصحتها، فجميع اللغات واللكنات متساوية لغويا، وهي نابعة أصلا من البشر، وتتطور وتنحدر بتطور وانحدار الإنسان، ورغم هذا فإن بعض المغاربة يعتبرون أن بعض اللكنات أكثر وجاهة من غيرها، وذلك بسبب ارتباطها بالطبقة الغنية أو المثقفة في المجتمع، أما عن الصورة النمطية للكنة فهي تعود إلى خصائص وصفات وأدوار تمتلكها مجموعة وأفرادها، وقد تكون هذه الصور ايجابية وسلبية، ويمكن أن تؤدي صور النمطية إلى التعصب والذي يعرف باتخاذ مواقف سلبية تجاه مجموعة ما وأفرادها، كما يضطر الأفراد الذين يتحدثون باللكنات غير القياسية أحيانا إلى مواجهة الصور النمطية السلبية والتعصب اتجاههم بسبب لكنتهم. وهناك عنصرية لغوية بين اللكنات، ويقصد بالعنصرية سلوكيات وتصرفات معينة موجهة ضد مجموعة أو أحد أفرادها فقط بسبب انتمائهم للمجموعة، وفي العنصرية ضد اللكنة يتم أخذ طريقة تحدث شخص ما كأساس لتوجيه التقييمات والأحكام الاعتباطية. إن الأسلاف من الأشياخ والشيخات تفننوا وأبدعوا بمختلف اللهجات المغربية في منافسة إبداعية فنية شريفة، حيث قام بعض الفنانين الأمازيغيين بغناء العيطة وأدوها بإتقان وروعة ونذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر الفنانين: لمغاري ميلود، وحمي عاشور، وأحوزار، وأومكَيل، وعزيز خير وغيرهم.. وفنانات شيخات أمازيغيات غنين فن العيطة نذكر منهن: حادة أوعكي، والشريفة، وايطو أوفول، وحمامة وغيرهن.. ونفس الشيء نجد بعض الأشياخ الناطقين بالعربية الدارجة العامية أدوا الأغاني الأمازيغية وأبدعوا فيها، ونذكر منهم الفنانين: الستاتي عبد العزيز، والصغير البرازي، والمصطفى نعينيعة، والزيتوني بورگون وغيرهم..كما نلاحظ أن الشيخات العياطات أخذن الكثير من رقص ولباس شيخات الأطلس، وأنا شخصيا لي الشرف أن أغني أغاني أمازيغية فهي تروقني وتطربني، وبذلك تكون لنا غيرة على الفن الشعبي المغربي بصفة عامة.
وبصفتي فنان شعبي شيخ للعيطة،كومنجي ل”رباعة الشيخات”، ومغنيا ومهتما بهذا التراث، سأظل وفيا ومخلصا لهذا الفن، لقد منحتني نشأتي البدوية تعلقا كبيرا بهذه الموسيقى، وبلهجتي العامية الدارجة “العروبية”، وإني أحمل على عاتقي إظهار ارثنا الحضاري العيطي العريق في أعمالي الفنية الغنائية، كما ستكون العيطة حاضرة في كل كتاباتي الأدبية السردية؛ من مقالة وقصة ورواية..بما في ذلك لهجتي سواء في الزجل أو ضمن حوارات الشخصيات الروائية، فالعيطة بالنسبة إلي مصدر فخر واعتزاز ونقطة قوة..وفيما يتعلق بموضوع اللغة والكلام تستحضرني أبيات زجلية باللهجة الدارجة العامية “العروبية” من عيطة “الحساب الزعري” في العيطة الزعرية بدلالات رمزية ومعاني ضاربة في العمق الريفي المغربي:
عندك فمك..ع كَول اللي يعجبك
بقيتي تعرش…حتى شبعتي طرش.
كثرة الهضرة…ما تشري خضرة
بقا في الكَاشوش…اللي متساريتوش
شلا ما يتكَال…ع اللسان ثقال
وختاما لكي نغلق هذا الباب فإن الموسيقى لغة تفهمها كل الشعوب، والرقص بما فيه من حركات وإيحاءات يشكل لغة صامتة معبرة ويفهمها الكل، وبذلك فالعيطة لغة فطرية نكتسبها من المهد إلى اللحد، فتلك الصرخة الأولى التي يطلقها المولود بعد ولادته أجدها ضمن ألحان وموسيقى العيطة، كما أن وجع الموت ولحظات الاحتضار وما يرافق جو الموت من نواح وندبة وتعداد..من مفردات وعبارات وألحان أجدها من المكونات الرئيسية لألحان وإيقاعات تشكل فن العيطة، والله يخرج هذه العيطة بخير.