“ريان… أيقونة صبر” للفنان سعيد غزالة

جسر التواصل8 مارس 2022آخر تحديث :
“ريان… أيقونة صبر” للفنان سعيد غزالة

سعيد غزالة

                                                                                13
صداع رهيب يكاد يفجر دماغي، اختلط فيه الحلم بهدير الآلات وتكبيرات الناس الذين أشعر بهم يتضاعفون أضعافا حول هذا الجُب في انتظار خروجي القريب… لكن ما بال هذا الصداع يضاعف من عذابي؟ أهو الألم مرة أخرى يغير مكانه ويتنوع في إيلامه… لم أعد قادرا على هذا، أنا صغير جدا على كل هذا الألم… أبي، ألم تجد حبلا بعد لكي تنزل عندي وتصحبني معك إلى السوق؟ اليوم هو يوم السوق الأسبوعي وقد وعدتني بأن تشتري لي الحذاء الجلدي الجديد… سأترك هذه الصندل القديمة هنا ونذهب بعيدا عن كل هذا الألم والصداع والأنين… ستركبني على ظهر حمارنا المطيع والجميل ذو العينين السوداوين الكبيرتين. هو يعرف طريق السوق وحتى طريق العودة. كنا نضحك فرحا عندما كنت ترسله لوحده من السوق محملا بالخضار والسكر والزيت والدقيق وفي مكان بالشوال ملفوف اللحم والحلوى لإخوتي… وأشياء أخرى تخص أمي لم يكن عندنا فضول معرفة ماهيتها. لا تنس أن تذكر أمي بأن تهيأني حتى تصحبني معك إلى السوق… جِد الحبل أبي لتنزل عندي وأعرفك على أصدقائي وقد نهتدي إلى ممر النرجس فأمي بلا شك تنتظرني هناك، فلقد وعدتني أن نلتقي مرة أخرى ببنت زهور الأقحوان من أجل سماع بقية حكايتها… انزل يا أبي ليذهب هذا الصداع وأنت تحضنني إلى صدرك… أتدري يا أبي أن حبي لرائحة التراب في هذا المكان الضيق جدا تذكرني برائحتك؟! ربما هنا تكمن قوتي وصبري… لكن هذا الصداع ينتقل في كل مكان ويضايقني يربك رغباتي وأماني. هل ستأتي؟ في انتظار ذلك سأحاول أن أغير وضعيتي لعلي أراوغ الألم حتى أغنم بعض من الراحة وأنام. أريد أن أنام لاستكمال حلم بدأته لحظة سقوط لا ينتهي… أبي هلا أخبرت أمي عندما أستفيق من نومي القادم أنني أريدها أن تعد لي الماء الدافئ وصابونة خالتي ذات رائحة الورد لتحممني حتى تزيل عني هذا التراب الذي ضايقني رغم رائحته الطيبة؟ شكرا أبي، أظنك سمعتني عندما تجد الحبل فكر بالنزول عندي… وإذا ما فاتك الوقت، لا ضير أن تذهب للسوق. لا أريد أن أعطلك… ربما الأسبوع المقبل أذهب معك وتفي بوعدك لي وأعود مع الحمار لوحدنا لأنك ستبقى مع أصدقائك الذين تشتاق إليهم في السوق. ستسألني أمي عنك وأقول لها: لقد قال لي أبي كن أنت رجل البيت في غيابي وستبتسم وتقبلني ثم تنزلني من على ظهر الحمار… أتذكرين أمي عندما سألت عن الحمار لماذا ينهق بذلك الصوت المزعج عندما يراك قادمة من عند خالتي، فتجيبيني أنه يرحب بكل أهل البيت لأنه يعتبر نفسه واحدا منهم. والحيوان أليف أكثر من البشر. من وقتها وأنا أحب هذا الحمار كما أحب كلبي وجديي… ودجاجاتنا التي تبيض في كل ركن، عندما أخرج سأجمع كل البيض أمي… لكن هذا الصداع ما يزال ينغص علي هذا التذكر اللذيذ والمفيد حتى أنهي ساعات الانتظار من أجل الخروج المظفر. ألَمٌ لا ينتهي وهذا التراب يحد من نظري إلى لا شيء… كنت أرغب في مد كف ومساعدة الرجل الطيب في حفر الممر لكن الألم أقوى من رغبتي أقوى من حلمي وحتى من دعواتكم لي .
ريان قاوم الألم ولا تكن غضوبا ملولا حتى لا يتمكن منك اليأس فتضيع في ظلمة تنتظر استسلامك.
ستخرج لجمع البيض قبل الفقس.

                                                                           14

أمازالت طيور اللقلاق تبني أعشاشها على قمم شجرات الصنوبر المتناثرة هنا وهناك بقريتنا؟ لقد اشتقت لرؤيتها مرة أخرى، فلقد غابت زمنا طويلا عن القرية… كنت أستمتع بأصواتها عند المساء وهي تقف تتأمل غروب الشمس في وقار. إذا عادت أخبروني عنها. الطيور عندما تعود تبشر بفصل الشتاء، والشتاء يعني الخير كما يقول أبي. إذا جاءت تلك الطيور سيأتي الشتاء وتغمر المياه هذا الجُب لأرتفع معه كريشة وأخرج نظيفا كما كانت تحممني أمي قبل النوم في ليلة صبيحة ذهابي ل”المسيد”.
أخبروها أن ريان ينتظرها وسيرسمها كالعادة على قصاصات ورق السكر بريشها الأبيض والأسود ومنقارها الأحمر. سأرسم كذلك بيضها الذي لا نراه من عشها إلا بصعوبة من على تلة الربيع… كانت متعتنا، نحن أطفال القرية، أن نقلدها في طيرانها في مرح وصناعة مناقر من القصب. كان كل واحد منا يختار طيرا ويطلق عليه اسمه… وحيث أن الطيور تتشابه كنا نتشاجر حول من من الطيور يعود لي أو لآخر…
أمي، إذا عادت إلى أعشاشها أخبروها عن ريان. أخبروها أن الجُب الذي كانت تتمشى حوله يوما قد استضاف ريانا في جوفه دون دعوة في لحظة كان يخشى على جديه الصغير أن يكون فيه… أخبروها أن ريان ينتظر حبلا أو خيطا من قطان ضوء أو غدا تشعل فيه شمعات الممر الخمسة ويزهر زهر النرجس والأقحوان… تختلط علي الأصوات هذه اللحظة ولم أعد أفرق بين صاخبها وهادئها بين تهاليلها والضحيج فيها. يعاودني الصداع فعندما أغرق في نوم يدخلني في نصفه كابوسا ثم أستفيق منه فزعا وكأن شيئا ما يدعوني ألا أستغرق في النوم العميق فقد يكون سفرا أبديا… أنا ما أزال أترقب قطرات الشتاء حتى نلعب تحتها ونضحك لضحك الكبار الذين يتفاءلون بها خيرا فيصبحون أقل قسوة وأقرب إلى الحنان والرضى. عندما أخرج، أمي، من هنا سنحتفل بقدومها جميعا وستهيئين لنا قصعة التريد بدجاجة لا تبيض أو بطة تشتريها من جارتك أم نزار. انتظروني حتى أخرج فأنا أحب أن أقف إلى جانب أمي في إعداد هذا الطبق الشهي… فلقد كنت من أول متذوقيه وكانت أمي تبتسم إذا لاحظت استمتاعي بمذاقه. سأكون حريصا على أن يأكل معنا كل الأهل صغيرهم وكبيرهم… كم أحب أن يحل ببيتنا ضيوف، أكون نشطا، لأنني حبوب الأسرة وطيرها الأبيض كما كانت خالتي تنعتني. عندما أخرج أستعيد معكم كل هذه اللحظات الجميلة والرائعة. عندما أخرج أو يخرجونني، ورغم الألم، سأحتفل. وإذا لم يستطيعوا إخراجي سأحاول رغم الألم أن أتسلق جدران هذا الجُب اللعين، وأحفر فيه بأظافري… سأحاول. لا تيأسوا فأنا لست يائسا. سأتشبت بالجذور الناتئة وأتذكر مهاراتي في تسلق شجرة التين وبراعة اللقالق في بناء أعشاشها وخفة قفزات الجَدي في شعاب الوادي ولن أيأس… ثقوا بي لن أيأس كما أطلب منكم ألا تيأسوا. فالحياة كما يقول أبي: كفاح. سأكافح. لكن هذا الألم، ما باله لا تعجبه أصوات اللقالق ولا دعاء الناس الطيبين؟ ما باله كأي طفل مشاغب يعاود لعبه القبيح ضاحكا في نشوة والتذاذ؟ أنا لا أحب الأطفال السيئين. لا أحب الأطفال الذين يقذفون الطيور بالحجارة أو الذين ينطقون بكلام قبيح… فالطيور تهرب من الأماكن التي فيه مثل هؤلاء.
أنا لست منهم أمي؟
أنا ملاكك الجميل… أحبك أمي.

                                                                                  15
سأنام… هذا قرار.
لم يعد مجديا أن انتظر أكثر مما انتظرت ومما انتظرتم. لم يعد مجديا مراوغة هذا الألم أكثر مما راوغته… تعبت كثيرا يا أمي في انتظار حل أو حلم أو أمل… سأنام ولتكن رحلتي الأخيرة جوابا مقنعا لكل سكان العالم الفوق… سأنام فلربما يعاود الممر، ممر الرجل الطيب، انفتاحه على عالم أفسح يتسع لأحلامي الصغيرة، والكبيرة في فرحها ومرحها… البسيطة في طبيعتها… ألتقي ببنت زهور الأقحوان أو بجَدْيي الصغير والكلب على تلة ربيع مشابهة لتلتنا… وربما أجد هناك شمس أخرى ولقالق بألوان مغايرة… وجُب آخر لكن حباله بعقد ونواقيص تتحدث وتغني… قد ألتقي بأبناء عمومتي الذين يزوروننا قادمين من المدينة الزرقاء… وأجد كتّابا آخر بفقيه يلبس بدلة كبدلة معلم القرية الذي وصفني بفلق الصباح… سأنتظر هذا الصباح في هذا العالم الجميل والأخضر… لا تقلق أيها العالم وليكن يقينكم كبيرا بأن الأمل مازال قائما في عودتي إليكم مبتسما فرحا بكم وأنتم ترفعون أكفا ضارعة ل”الله” حتى يحقق معجزة… أأستحقها؟ أم أن مصيري لن يكون إلا كمصير آلاف الأطفال الذين يضيعون لأسباب بسيطة عند الكبار لكنها خطيرة لأرواحنا الهشة. لا تقلقي أمي أيتها الأم النادرة الهادئة الجميلة… سأنام حتى أسافر في عالم صنعتيه لي وأنت تحكين لي عن تلك الفتاة محبة زهور الأقحوان. ونغني أغنية المطر التي تسافر بنا في كل مكان:
أشتا تاتا تاتا
أوليدات الحراتا
ألمعلم بوزكري
طيب لي خبزي بكري
باش نعشي وليداتي
وليداتي عند القاضي
والقاضي ما ساق خبار
ومراتو ولدات الفار!
علقاتو في باب الدار
لي داز يحط ريال
حتا جمعات ميا دريال…
نحمل قصبة طريٌّ عودها في قمتها رأس كوس ذرة وثوب تقليدي لطفلة صغيرة نردد أغنية قديمة لطلب الشتاء:
آ السبولة عطشانا
سقيها يا مولانا
الزرع يبس ورق
غيتو يا من خلق
غنجة يا غنجة
يا ربي طيح الشتا غدا
أتسمعين هذا الصوت أمي مرة أخرى؟ إنه نداء الرحيل القريب إلى عالم الجمال والربيع الدائم… عندما أغفو ستكون هناك مخلوقات أخرى تنتظرني ترغب في مرافقتي للعب والمرح وقطف الزهور البرية، اشتقت لهذه المتعة، متعة قطف زهور البرية، وترتيبها ثم وضعها في أي إناء به ماء. أحب الألوان في طبيعتها وكانت متعتي في سحق الأوراق الخضراء لتلوين جدار حائط بيتنا وإلصاق الزهور البرية عليه… كنت رساما يا أمي وكنت تشجعينني. هل سترافقيني في رحلتي هذه وتبتسمين لي وأنا
أسابق جديي لبلوغ سفح التل؟
سأحاول أن أنام وأغمر وجهي في تربة هذا الظلام لعل نور قريب يساعدني على فتح ممر الرجل الطيب إلى عالمي الكبير. وعندما أغفو وأستغرق في النوم بعد الإغفاء ستكون رحلة في حلم بلا حدود.
أمي لا تخبري أحدا عن غفوتي ولا عن عاداتي في النوم التي تخبريني عنها… دعي الأسرار التي بيننا في طي كتمانك، وغني لي أغنيتي المفضلة التي تسافر بي وترسم النوم على الجفون بكل حنان.
دعوني أنام.

                                                                                  16
وتبدأ رحلتي يا أمي. آمركم أن تعودون إلى بيوتكم وأطفالكم وأعمالكم… عودي من حيث جئتم، لم يعد بمقدوركم تغيير ما لا يغير… هي مشيئة الله. ولا أستطيع أن أصطحبكم معي في رحلتي الطويلة إلى بلادي الخضراء ذات الغابات الملونة مرتع الأطفال حيث لا يسمح للكبار بالعبور إليها أو المشي على ترابها الرطب الذي يتأذى بالنعال… بلاد لا تقبل بالأحذية ولا العربات ولا بأظلاف الحيوانات المنتعلة للصفيح! عودوا من حيث جئتم ولتنتظروا عودتي من هناك… عودتي وأنا في كامل أناقتي وطاقتي وحيويتي. بلاد جميلة ليس بها حفر ولا آبار فالماء في كل مكان يخرج من الحجر ومن تحت الشجر ويسقط من التلال المنتشرة هنا وهناك مليئة بالجديان والخرفان والحمير المزخرفة والضباء ذوات الوبر والعيون البراقة… سآتيكم بزهور برية لا تموت وعناديل لا تتعب من الصدح والغناء… هناك حيث النهار لا ينقضي والليل لا يأتي… هناك لا تشتاق إلا إلى حضن امك التي سأجدها تنتظرني كالعادة من أجل زيارة الخالة أم نزار.
آمركم بسرد حكايتي والحب يغمر قلوبكم… العالم صغير وبسيط لا يساوي كسرة خبز شعير مغموسة في زيت بلدي ممدودة من يد حنونة إلى فمك. العالم يا أمي في عينيك. ولن أسمح لهذا الإنتظار أن يخنقنا هكذا ولا هذا الألم يعذبنا أكثر. سأرحل ولن أفكر في العودة لأهزم خوفا أو أتعلق برجاء خداع… لن أعود إلى ظلام لا يريد أن ينتهي، سأجمع الضوء من حشرات الليل المضيئة أنا أعرف أنها لن تعترض على ذلك، ستمنحني من ضوئها الكثير وسترافقني في طريقي إلى عالم بلا غيوم كاذبة لا تمنحنا إلا ضيق النفس ولا تمطر بل تمر كضيف ثقيل. لن أعود فليس في عالمكم الفوق إلا الخوف… سامحوني لكني سأرحل ولا رجوع لي بعد كل هذا الانتظار.
عودوا إلى حياتكم. مصيري سيكون كمصير ملايين القصص والحكايات تكون ممتعة أو محزنة ثم تنسى. لكن، أنا، لن انسى وسأبقى أنتظر منكم حلا أو رحيلا. لن أنسى يوما كنت حديثا على لسانكم وألما في أنفسكم وأملا لم يتحقق… أو سيتحقق.
قد أعود من رحلتي!
لكن ادعوا لي لأتخلص من هذا الألم… فأضلعي اشتاقت للحرية كما اشتاقت معدتي لحساء فول أمي الساخن ونظراتها التي تضم قناطيرا من الحنان والرضى… سأكون، يا أمي، في انتظار كفك تجرني لسلك الطريق حتى لا يسبقنا الوقت عن الكتّاب… إنه يوم حفظ سورة (عمّ) التي كنت في خوف من طولها… لكني حفظتها واستضهرتها عليك أتذكرين؟
أتذكر يومها كنت بردان أرتعد. ولم أكمل فطوري، وكنت، أمي، تتحدثين مع نفسك والقلق بادي على وجهك… لا أعلم ماذا حصل. ربما لأن غياب أبي عن البيت لأسبوع كامل زاد من قلقك؟ ربما. فهو المسؤول عن اصطحابي للكتّاب أليس كذلك؟ لم أعترض يومها عما حصل لكن الخوف كان من (عمّ).

الاخبار العاجلة