سعيد الكحل
يتوفر المغرب على رصيد حضاري وتاريخي يشكل قوته الناعمة التي تؤهله للعب أدوار مهمة لحفظ السلم واستتباب الأمن في القارة الإفريقية التي تمثل جذوره . وصدق الملك الراحل الحسن الثاني بمقولته “إن المغرب شجرة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوروبا” . لهذا سعى المغرب ، منذ الاستقلال، إلى تغذية جذوره بتقوية العلاقات والروابط التي تربطه بالدول الإفريقية . وتأتي الروابط الدينية/الروحية في مقدمة أولويات المغرب اعتبارا لأهميتها وتأثيرها حتى على القرار السياسي للدول . فالمغرب واع بجدوى الروابط الدينية التي تربطه بشعوب عدد من الدول الإفريقية التي تكنّ الولاء والاحترام لملوك المغرب ، وترى فيهم “أمراء المؤمنين” حيث يدعى لهم في صلاة الجمعة . وتمثل الطرق الصوفية الوجه المشرق لهذه العلاقة الروحية التي تضمن للمغرب لعب أدوار مؤثرة في القارة . وازدادت الحاجة إلى الدور المغربي بسبب انتشار التطرف الديني وتزايد خطر التنظيمات الإرهابية التي اتخذت من منطقة الساحل والصحراء الكبرى معاقلها البديلة بعد هزائمها في العراق وسوريا وسيناء وليبيا . فالمغرب يقدم نموذجا للإسلام الوسطي المعتدل الذي تميّز به منذ اثنى عشر قرنا ، وهو الذي حافظ على هوية الشعب المغربي الغنية بتعدد مكوناتها. كما أن هذا النموذج المعتدل جسد ثقافة التعايش وقيم الاختلاف بين أهل الديانات السماوية ، وحمى المغرب من الصراعات المذهبية والفتن الطائفية التي لازالت تمزق الشعوب في المشرق العربي. وحظى النموذج المغربي بالتنويه من طرف المشاركين في الندوة الدولية التي انعقدت بالكوت ديفوار ، في 23 فبراير 2022 ، تحت عنوان “الرسالة الخالدة للأديان“، حيث دعا مدير معهد “تمبكتو” بالسنغال الدكتور باكاري سامبا القادة الأفارقة للتعاون مع المغرب و تشجيع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة لتبنيها لمقاربة الحوار بين الأديان، ولكونها تملك شبكة من العلماء في مختلف البلدان الإفريقية.
والمغرب لم يتخل عن مسؤوليته الدينية والتاريخية نحو إفريقيا ، بل أوْلاها اهتماما كبيرا حتى بعد قرار الانسحاب من عضوية “منظمة الوحدة الإفريقية” سنة 1984 . هكذا أشرفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، سنة 1985، رابطة علماء المغرب والسنغال ، حيث تولى المغرب ، من خلالها ، بالعديد من الأنشطة الدينية والفكرية (إرسال بعثات من العلماء إلى دول جنوب الصحراء ، تنظيم دورات تكوينية لفائدة الخطباء، بناء مراكز دينية ، بناء وترميم عدد من المساجد في بعض الدول مثل النسغال، مالي، غينيا، بينين ، الكوت ديفوار.. ). وقد كثف المغرب من جهوده لتقوية مركزه الروحي وتأهيل دبلوماسيته الدينية خدمة للسلم والأمن في إفريقيا ، وحماية لمصالحه العليا ، خصوصا بعد أن استغل أعداءُ وحدته الترابية شغور مقعده بالاتحاد الإفريقي لتمرير أجنداتهم العدائية . الأمر الذي حتّم على المغرب تغيير إستراتيجيته لتعزيز أدواره الروحية والاقتصادية والأمنية والدبلوماسية بهدف تقوية إشعاعه وتحجيم دور أعداء وحدته الترابية . وقد لعبت التهديدات الإرهابية للدول الإفريقية دورا مهما في تقديم التجربة المغربية نموذجا سعت دول عديدة للاستفادة منه في تحصين مواطنيها من عقائد التطرف وشراك التنظيمات الإرهابية .في هذا الإطار تم إحداث معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات ، سنة 2014 بغرض تكوين الأئمة المرشدين والمرشدات ، من المغرب ومن خارجه ( يمثل الطلبة المغاربة نسبة 26 % من مجموع الطلبة الذين هم غالبيتهم من الدول الإفريقية التي تعاني من مشاكل التطرف ومخاطر الإرهاب ) ، “تكوينا يؤهلهم للقيام بمهمة تبليغ أحكام الشريعة الإسلامية، وبيان مقاصدها وإبراز سماحتها ووسطيتها واعتدالها، والمساهمة في الحفاظ على الوحدة الدينية للمجتمع وتماسكه ضمن ثوابت الأمة، والمشاركة في الأنشطة الدينية والتربوية والثقافية”. وتعزيزا للدور الديني للمغرب في محيطه الإفريقي ، تقرر تأسيس “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة” تحت إشراف الملك محمد السادس الذي أكد ، في خطابه بمناسبة تنصيب المجلس الأعلى للمؤسسة سنة 2016، على كون المؤسسة “تجسّد عمق الأواصر الروحية العريقة التي ظلت تربط الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء بملك المغرب أمير المؤمنين، ولما يجمعنا بها من وحدة العقيدة والمذهب، والتراث الحضاري المشترك.” أكيد أن هذا المركز الروحي الهام الذي يتبوؤه المغرب يمنح مشروعه الديني أولوية وقدرة على منافسة المشاريع الدينية الأخرى التي ترصد لها الجهات الداعمة إمكانات مادية ضخمة ( إيران ، الجزائر ، السعودية ..). إن المغرب واع بمخاطر التطرف والإرهاب والانفصال على أمنه وأمن الدول الإفريقية واستقرارها . لهذا اختار الانخراط ، بكل مسؤولية ، في دعم جهود التنمية والسلم ومواجهة الحركات الانفصالية والإرهابية. فإفريقيا تمثل عمقه الاستراتيجي والأمني ، خصوصا بعد تزايد أنشطة التنظيمات الإرهابية مستغلة هشاشة دول الساحل والصحراء وعجزها عن تطويق الصراعات الدينية والعرقية التي باتت تستغلها الجماعات المتطرفة في استقطاب الشباب وإيجاد حاضنة اجتماعية لها . ولا شك أن جهود المغرب الدينية (تكوين الأئمة ، نشر الإسلام الوسطي ونبذ التطرف ، احتضان الصوفية ..) والاقتصادية ( الاستثمار ودعم جهود التنمية وفق قاعدة “رابح ـ رابح” ) ، والأمنية ( الإشراف على تدريب وحدات مكافحة الإرهاب، توفير المعلومات الاستخباراتية ..)، والعسكرية التي أشاد بها جلالة الملك في أكثر من مناسبة ، منها الذكرى 61 لتأسيس القوات المسلحة الملكية كالتالي (التعاون العسكري مع محيطنا الإفريقي لم يعرف الفتور أبدًا بل زاد عمقًا وزخمًا منذ عقود… كما تضاعفت مختلف مجالات التعاون في هذا المضمار، ومشاركة ممثلين للجيوش الأجنبية في التدريبات والمناورات المشتركة المنظمة بالمغرب) ، مكّنت (=هذه الجهود) المغرب من استرجاع المبادرة وتهيئ الظروف والأجواء لعودته إلى الأسرة الإفريقية وشغل مقعده بمنظمتها . الأمر الذي أصاب الجزائر بالسعار ، خصوصا لما توالت قرارات سحب الاعتراف بالجمهورية الوهمية بالموازاة مع افتتاح القنصليات بمدينتي العيون والداخلة . انتصارات دبلوماسية مهّدت لتأييد المنتظم الإفريقي قرار المغرب تطهير معبر الڴرڴرات من عصابات البوليساريو وتأمين مرور السلع والأشخاص ، وكذا ضمنت الدعم الإفريقي الواسع للمغرب في تأمين مصالحه العليا ونسف مخططات أعداء وحدته الترابية . ومن ثمرات هذا الدعم : انتخاب المغرب عضوا بمجلس السلم والأمن التابع للاتحاد لولاية من ثلاث سنوات بحصوله على ثلثي الأصوات ، خلوّ بيانات القمم الإفريقية منذ 2018 من أي إشارة إلى قضية الصحراء المغربية ، حصر معالجة ملف الصحراء على مستوى الأمم المتحدة وحدها ..).
مكاسب حقيقية نجح المغرب في تحقيقها باستثمار قوته الناعمة التي أهلته لتوسيع قاعدة الدول الإفريقية المؤيدة لمقترح الحكم الذاتي ، وفي نفس الوقت تضييق الخناق على خصوم وحدته الترابية وإرباك مخططاتهم العدائية وإنضاج شروط طرد البوليساريو من العضوية في الاتحاد الإفريقي .