“المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها “الجزء الأول “الفصل الخامس “- المجلس الأعلى والأنا الأعلى فالأدنى- للكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان

جسر التواصل26 يناير 2022آخر تحديث :
“المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها “الجزء الأول “الفصل الخامس “- المجلس الأعلى والأنا الأعلى فالأدنى- للكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان

جسر التواصل : خص الكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان جسر التواصل بروايته العميقة ” المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها” وجسر التواصل اذ تقدمها للقارئ فانها تقدم عملا روائيا متميزا للاستاذ عزوز شخمان الذي قضى سنوات طويلة في العمل الصحفي ما بين صحافة مكتوبة ومسموعة وكان له حضور بارز في الاعلام الرياضي المغربي والعربي …

عزوز شخمان

                                                                      (18)
منتصف الليل ومنتصف اللاعقل. فيما يشبه الهذيان قررت أن أضع نفسي في ورطة غير مسبوقة. وضعتها تحت الضغط هكذا دون سبب واضح ولا رادع. كانت الورطة من ذلك النوع الذي لا يمكن أن يقع فيها كل من مارس الكتابة او تمرس في تضاريسها. فقد جلست خلف المكتب ووضعت عليه عدة دفاتر بيضاء فارغة من تلك الدفاتر المدرسية. ثم اخترت لكل دفتر عنوان افتراضي وجمعت من حولي كل طاقم المتعاونين معي من كينوناتي المتشاكسة. إنهم بالطبع أعضاء المجلس السري الأعلى. خاطبتهم قائلا: هبوا أيها الملاعين، أريدكم أن تتناسوا شجاراتكم الآن وتتحدوا لإنجاز أول مشروع جماعي لكم فيه بعض الفائدة. ما ان أنهيت كلامي حتى فوجئت بكل الأعضاء يستجيبون على الفور قبل أن يتعرفوا على تفاصيل ما كنت مزمعا عليه. كنت قد خلصت الى قناعة حاسمة وهي ضرورة تحويل عادتي السرية الى الجهر. وإخراجها الى النور. كانت الكتابة هي عادتي السرية التي ظللت أتلذذ بها بعيدا عن أنظار كل المتلصصين. وفي المناسبات القليلة التي كشفت عنها لبعضهم كنت أتفاجأ بها منشورة بكل أمانة وأناقة، لم يكن ينقصها سوى إسمي.
وماذا ستفعل بكل هذه الدفاتر يا سيادة رئيس المجلس الأعلى؟
أخرجتني هذه العبارة من زحمة أفكاري ولما التفت وجدته ينظر الي بنظراته الماكرة. إنه هو. صاحب الوقاحة يتدخل أحيانا في الوقت المناسب وكأنه يقرا أفكاري. أجبته باقتضاب: لقد آن الأوان وجاء دوركم للقيام بعمل نافع ولو مرة في حياتكم. هيا.. فليتناول كل واحد منكم دفترا ويملؤه بما شاء من تجاربه وحماقاته وترهاته. لا يهمني ما سوف تكتبون. المهم عندي أن تملأوا الفراغ.
هكذا انطلقت الحكاية والرواية. وأعقبتها روايات وخربشات. لم أكن في حاجة لا لتوصية أو تزكية من اتحاد كتاب ولا رابطة أقلام ولا حتى جماعة من الأفاقين المتحزبين المتأدلجين أوصياء القلم وحراس الفكر الذين يحتكرون الوصاية على شؤون الطبع ونشر الغسيل طبعا. كان يكفيني طاقمي المتعدد المشارب للقيام بغزوة دونكيشوتية لن يسلم منه أي جنس أدبي حتى لو تعلق الأمر برواية سوريالية مستعصية على المعايير الموغلة في التقعيد والتعقيد. كانت هذه هي كل الحكاية وبداية الرواية. ثم أعقبتها الخطوة الثانية. الشروع في نوع من الكتابة المتعددة. فقرة او اثنتين في كل دفتر والتنقل بين الدفاتر.
هذا الانتقال بين الدفاتر والعناوين لم يكن مجرد لعبة ألعبها باختياري وإرادتي، بل كان بالأساس استجابة لحالة وجدانية خاصة وضاغطة كصداع في الرأس. ملأت كياني ودفعتني الى التأرجح هنا وهناك بين موضوع وآخر، ومن خاطرة الى فكرة، أو مشهد روائي. الحالة أشبه بمسرح تتنافس فيه مجموعة من والشخوص والكينونات يتسابقون بجنون ويصطدمون ببعضهم البعض، فيما تتهاطل عليهم الكلمات والعبارات فيلتقطوها بمزاجيتهم. في بعض الأحيان كان يوقفني أحدهم ممليا عبارة أو معبرا عن خاطرة. بدا الأمر غريبا وصعب الاستيعاب لكنه تحول بالتدريج الى ما يشبه الأمر الواقع. إنه يحدث وكفى، فلا داعي للتفلسف الفارغ. دعهم يعملون ودعهم يسيرون ولتجني أنت لوحدك نتاج مجهوداتهم. أليست هذه خلاصة المذاهب غربها وشرقها والتي اعتمدتها المصفوفة لتحفيز القطيع على الإنتاج. بات علي استغلال الوضع وكذلك فعلت. طاوعت قلمي ولم افكر في كبح هذه السيرورة الكتابية المتدفقة. هل هي مجرد حالة نفسية وفكرية ووجدانية؟ أم تراني أضحيت ملتقى وتجمع تنافسي لكينونات متعددة كل واحدة تدلي بدلوها من عوالمها الخاصة. حتى لو كانت ملتقى للأكوان المتوازية؟ هل أكون فعلا مسكونا بكل هذه الخيالات والتصورات المتلاطمة؟ وهل هي عصارة حصرية لأفكاري ومشاعري أم تراها لا تنتمي لي حصريا، وفيها ما لا املك السيطرة الكافية عليه؟ هل أنا تحت تأثير قوى خارجية يتردد صدى كلماتها من خلالي؟ وأنا أو لنقل ونحن في منتصف هذا الليل المعسعس؟ هل أكون عرضة لغزو فكري من كائنات وشياطين مثقفة مثلا ومتماهية مع كينونتي الى هذه الدرجة؟ فهي تكاد تعرفني جيدا وتفهم مزاجي ونفسيتي وهواجسي؟ رددت العبارة الأخيرة دون ان أستطيع مغالبة قهقهة مرتفعة. ولو رآني لا شك أن ثمة لوثة جنونية قد اصابتني. كيف لا وانا أباغت نفسي مقهقها في قلب وحدتي. لعلني أضحك مع ظلال، وأشباح، وأقنعة، وخيالات لا مرئية ولا مسموعة. أبادلها الحديث وأتجادل معها تارة بهدوء وتارة أخرى بصخب وبلغة لا يفهمها غيري. هل لهذه الخلائق قدرة على استلاب الأفكار والتوغل في أعماق النفوس البشرية من دون رادع؟ لا لا كبريائي البشري يستبعد ذلك والانا الأعلى يصر على ان كل ما يصدر عني هو بالضرورة ينتمي الي مهما بدت غرابته. لم تكن مجرد رغبة مفرطة في إفراغ الجعبة من محتويات وجدانية متدفقة دفعة واحدة تحتاج الى توزيعها عبر عدة قنوات. بات حالي كحال البهلوان الذي يتلاعب بكرات متعددة بيده فيما يتضاعف عددها في كل مرة. بهلوان يضع على رأسه صينية وعليها كؤوس زجاجية وفوق أنفه عصا. فإن صرت البهلوان فإلى متى سيستمر العرض؟ وما مآل الأوركسترا الكتابية الليلية؟

 

 

الاخبار العاجلة