جسر التواصل : خص الكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان جسر التواصل بروايته العميقة ” المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها” وجسر التواصل اذ تقدمها للقارئ فانها تقدم عملا روائيا متميزا للاستاذ عزوز شخمان الذي قضى سنوات طويلة في العمل الصحفي ما بين صحافة مكتوبة ومسموعة وكان له حضور بارز في الاعلام الرياضي المغربي والعربي …
عزوز شخمان
(17)
حدث ما توقعته هي قبل سفرها وما ظلت توصيني بضرورة تفاديه وتخشى علي من السقوط فيه. ومع ذلك سقطت فيه بسرعة لا تخطر على بال. إنها واحدة من حماقاتي السخيفة. وإليكم ما حدث. بعد العصر بقليل شعرت بالسأم من المكوث في البيت فقلت لنفسي الأمارة هيا بنا نتجول قليلا ونروح على بعضنا البعض في الجوار. نلتقط من خلالها أنفاسنا ونستنشق هواء نقيا. فتدخل ظلي الوقح بيني وبين نفسي وهمس لي قائلا:
لم لا نشتري لنا أيضا سيجارا فاخرا ننفثه في الهواء ونلوث به داخلنا؟
ولدهشتي استحسنت الغواية واخفيتها عن نفسي اللوامة حتى لا يحدث بينهما شجارا كالمعتاد. تمشيت قليلا وأطلقت لخيالي العنان واستنشقت هواء منعشا ملء رئتي ثم اقتنيت لي السيجار ودخنته رفقة ظلي. وأخيرا شعرت بالامتلاء المعنوي وقليل من الجوع. التفت من حولي فلمحت مطعما لبنانيا شرقيا أعرف جودة طعامه بحكم عملي في واحدة من وحداته على شارع كونيكتيكت في قلب العاصمة واشنطن دي سي. لكن المطعم اليوم كان يقع في واشنطن بولفارد في ويستوفر فيلاج بمدينة أرلينغتون. دخلته بدون تفكير وقلت مع نفسي لا بأس من وجبة فاخرة رغم ضآلة الأموال التي بحوزتي. عطالتي هذه المرة تجاوزت الستة أشهر تقريبا. وأعيش في الغالب (من البردعة) وهو تعبير مغربي أصيل يعني المدخرات. ولا حاجة للقول عمن يكون المسؤول عن الادخار. أنا؟ طبعا لا والف لا. إنها هي. ولولاها لكانت يدي المثقوبة قد أرسلتني الى حيث يقبع أقراني من إخوان الشياطين. المهم في الحكاية أنني اقتربت من المطعم وأقنعت نفسي أن ما أنا مقبل عليه هو مجرد تغيير للروتين. قلتها وأنا أعلم انني أخالف وصاياها التي تحولت الى مناشدات سبعة. ومنها على سبيل التذكير بالإضافة الى سقي نبتة الظل وإطعام الطيور، أوصتني كذلك بعدم إشعال موقد الغاز في موقد المطبخ الا اذا كنت متأكدا من أنني لن اغادر مكاني حتى أخمدها. وكذلك تفقد محفظتي قبل التفكير في دخول أي متجر أو مقهى أو مطعم. وعدم المجازفة بشراء أي شيء الا عند التأكد من جدواه وليس لمجرد اعجابي به نتيجة ضربة مزاج تعتريني كلما راقني شيء ما. ثم ضرورة مراجعة الثلاجة ومخزن الأطعمة قبل التفكير في الخروج للأكل. كل هذا ضربته عرض الحائط بعد يومين فقط من غيابها، متجاهلا الجهود التي بذلتها والوقت الذي أفنته من أجل ملء الثلاجة بالأطعمة الشهية. كانت تستهدف من وراء كل ذلك ضرب عصفورين. من أهمهما توفير المصروفات الإضافية. ولجت المطعم واتخذت لي موقعا مواجها للنافذة المطلة على البوليفار وطلبت قائمة المأكولات وبدأت أختار بمزاج شهيتي وبتحريض من ظلي لا بمنطق حافظة نقودي. وكانت هذه حصيلة طلباتي: حمص لبناني، بطاطس فرنسية مقلية، شرائح خبز شامية، زيت زيتون مغربي، رز أفغاني، خضر مسلوقة متنوعة لاتينية، لحم مشوي أمريكي لست واثقا إن كان مذبوحا أم مقجوجا (مخنوقا). فيا لها من أكلة أممية تؤهلني للانخراط في الأمم المتحدة كخبير للمأكولات وفق النظام العالمي الجديد. أما الشيء الوحيد المجاني فكان كاس الماء. لم تمر أكثر من خمس دقائق من شروعي في الأكل حتى أحسست بالشبع والامتلاء. يا لحظ بطني السيء. يا للمفارقة، كان جهازي الهضمي على نفس خط التشويش من مزاجي العام النفسي والذهني. طلبت من النادل أن يعبئ لي بقية الطعام في علب بلاستيكية لحمله الى المنزل for to go وطلبت منه قسيمة الأثمان كان المبلغ يناهز 60 دولار مع إضافة البقشيش ارتفع المبلغ عشرة في المئة. لم يكن المشكل في الثمن، بل هل هو بحوزتي؟ مهلا الأمر يتطلب التدقيق. قدمت للنادل بطاقتي الائتمانية البنكية وانتظرت عودته. عاد بعد لحظات مرتبكا ليخبرني بان رصيدي غير كافي لأداء الوجبة. سألته عن الفارق وبعد أخذ ورد وجدنا ان الفارق 14 دولار. تناولت المحفظة مجددا وبدأت أنقب في مختلف الجيوب والزوايا. كنت متأكدا بشكل ما أنني سأجد ورقة من فئة 20 دولار. وفي غمرة الارتباك وجدتها بالفعل. هل تعرفون مصدرها؟ طبعا لا حاجة للتخمين. كانت هي. ومن غيرها؟ وتذكرت: لما كنت أتأهب لتوديعها عند بوابة الإقلاع في المطار ناولتني أوراقا نقدية وقالت لي إنك ستحتاجها حتما أكثر مني. فقلت لها لا لن آخذ شيئا. لكنها أصرت. فتناولت منها ورقة واحدة، هذه التي على أبواب انقاذي من موقف حرج من مواقفي السخيفة التي ألقي وزرها غالبا على ظلي سواء عن حق أو عن باطل.