” المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها الجزء الأول”- الفصل الثالث نبتة الظل- للكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان

جسر التواصل13 يناير 2022آخر تحديث :
” المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها الجزء الأول”- الفصل الثالث نبتة الظل- للكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان

جسر التواصل : خص الكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان جسر التواصل بروايته العميقة ” المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها” وجسر التواصل اذ تقدمها للقارئ فانها تقدم عملا روائيا متميزا للاستاذ عزوز شخمان الذي قضى سنوات طويلة في العمل الصحفي ما بين صحافة مكتوبة ومسموعة وكان له حضور بارز في الاعلام الرياضي المغربي والعربي …

عزوز شخمان

                                                                      (6)

إنها الليلة الأولى على مغادرتها. ولأول مرة منذ انتقالنا الى هذا البيت الصغير أقوم بجولة في اركانه والوقت تجاوز منتصف الليل. وكأنني أدخله لأول مرة في حياتي. بيت صغير من غرفة نوم واحدة لها نافذتين تطلان على الاخضرار المحيط به ثم غرفة جلوس واسعة نسبيا وعلى اقصى يمينها يركن مطبخ ضيق او شبه مطبخ يبدو كامتداد لغرفة الجلوس بقطره الذي لا يتعدى بضعة اقدام. هو مطبخ منكمش على نفسه، إلا أن مساحته الضئيلة ونحافة مظهره هو أكثر ما يثير حنقها. المطبخ هو مملكة المرأة الشرقية بالأساس والمرأة المغربية بامتياز. وعدم توفير مطبخ ملائم لها يعتبر قمة الإهانة. كانت(الكوزينا) هاته لا تتوفر سوى على الحد الأدنى المطلوب للطبخ والتبريد والتخزين وحوض او مغسلة الأواني. كانت كل الأجزاء متلاصقة ببعضها ومتزاحمة. ستة اقدام سعة المطبخ كانت كالقبر المزدوج. الثلاجة ملتصقة بطاولة حجرية عليها مايكروويف وفي الضلع الثاني طاولة او منضدة ثانية تشكل صحن الأواني التي تلتصق بدورها بالفرن الرئيسي (أوفن). ومن فوق على الجانبين تمتد دواليب خشبية ملتصقة بالحائط مخصصة للتخزين. في هذه الزنزانة الشبيهة بمستودع الأموات كانت تقضي معظم وقتها. تتحرك برشاقة في مساحة ضيقة كالفأر في المصيدة، لتعد لي أشهى الوجبات لم يعد يحظى بها سوى القليل من أمثالي كملوك بدون تيجان ولا أبهة او بهرجة. كل ذلك بفضل ملكة البيت الحقيقية مثلها ومثل النساء من طينتها. إنها طبيعة وحالة العلاقة التي ظلت الى عهد قريب سائدة في ذلك الشرق الأوسط الكبير المتصاغر. فمثل هذه المرأة هي من رفعت من شأن ذلك الرجل البدوي العقلية، الاصلف الأجلف، حتى بات يعتريه كل ذلك الإحساس الجنوني بالتسلط، والسطوة، والسيطرة. ولكن ما جزاءها هي. أو هن.  هذه التي توجننا بمملكة بلا منافس؟ فما هو الجزاء؟ ألم يكن جزائها  وجزاؤهن كجزاء سنمار؟ أليس اقصى ما تحظى به المرأة التي تتوج رجلها ملكا  أن يجازيها كما تجازي الحكام شعوبها؟ فهل أنا مختلف عن هؤلاء؟ قطعا لا. مهما بذلت من جهود ومهما حاولت او ادعيت فلا أظنني سأكون مختلفا. وكيف لي أن أكون وأنا لدي تقريبا نفس الحامض النووي ومن نفس البيئة وبنفس العقلية.

واصلت جولتي في المطبخ. كانت جولة بالعين والفكر والذاكرة. واستغرقت وقتا طويلا ولا بد لي أن أفسر لماذا. كنت أتهيأ لفتح الثلاجة والرفوف الخشبية ذات الأبواب المحكمة التي تشكل مخازن متنوعة. فهل تدرون ماذا وجدت؟ كانت الثلاجة مكتظة، لا بما تمتلأ به الثلاجات عادة فقط، بل أيضا بأطباق شهية مطهوة ومطبوخة مسبقا ومنها وحدات مجزأة بقطع صغيرة مرتبه داخل المبرد (الفريجو). كانت هي أدرى الناس بطباعي في الاكل وقلة استساغتي للأطعمة العصرية السريعة المشبعة بالمواد الحافظة والتي تفتقد لشروط التغذية السليمة فهان عليها أن تتركني محروما من تذوق أطباقها الشهية فقامت بتخزين ما استطاعت تكفيني لأسابيع متعددة. حتى الخبز الذي دأبت على عجنه واعداده بيديها تركت لي فائضا منه. بالإضافة لعدة أنواع من الحلوى والكعك الشهي. وما هذا سوى نموذج مصغر لإحدى مراحل السنوات الشداد العجاف التي تقاسمتها معي في زمن الهجرة والإقامة. وهي الفترة التي أمضيت الجزء الأكبر منها في غيبوبة وجودية قسرية لا زلت أحاول فك الغازها وطلاسمها وأسبابها الحقيقية الفيزيقية منها والميتافيزيقية. بينما أمضيت الجزء الآخر منكمشا في قوقعتي طوعا وكرها. وعندما انتبهت الى نفسي وجدتني منغمسا في رحلة تيه جديدة. لكن هذه المرة في جوف الأرض وليس على سطحها. فأنا لم أعد أنتمي لذلك السطح منذ أمد بعيد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاخبار العاجلة