جسر التواصل : خص الكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان جسر التواصل بروايته العميقة ” المرأة التي رممت شظايا رجل الأيام والليالي بدونها” وجسر التواصل اذ تقدمها للقارئ فانها تقدم عملا روائيا متميزا للاستاذ عزوز شخمان الذي قضى سنوات طويلة في العمل الصحفي ما بين صحافة مكتوبة ومسموعة وكان له حضور بارز في الاعلام الرياضي المغربي والعربي …
عزوز شخمان
(4)
امتطيت الطائرة بمشاعر متضاربة. متناقضة. وعلى غير المنتظر في مثل هذه المناسبات لم اشعر لا بالفرحة ولا بالانشراح وانا مقبل على سفر بعيد الى عالم جديد يتوج حلم طفولتي. أصبحت أشعر مع بدايات تحققه كيف يكن أن يتحول الحلم الى كابوس متوحش يحول الأماني الى سراب. بدأ الكابوس يطوقني، انا وظلي. ذلك الظل الذي نشا معي وتطور حتى تغول. وعندما تغول سحب معه وحوشا قاسية من العالم السفلي لا تعرف معنى الرأفة والرحمة والآدمية. كانت ثمة وحوش مماثلة قد شرعت في المحاصرة والمطاردة ساعية لابتلاع ما تبقى لدي من طاقة ونشاط وحيوية وكينونة إنسانية. فكان علي أن أبدي شراسة غير عادية، حتى لو لم تكن من طبيعتي. ورفعت راية المقاومة مدركا في نفس الآن أن أفواج الوحوش ما فتئت تتكاثر وتتقاطر ومنها من أخذ يكشف عن وجهه دون مواربة فعرفت منهم الغريب، والقريب، والأقرب، والأغرب. كانت المعركة تبدو خاسرة بالنسبة لي. رأيت أنه من العبث إطلاق النار على مواكب البوم (موكا). لكن بالنسبة للآخرين كنت بمثابة البقرة الحلوب التي يتوجب الإجهاز عليها بعدما تعذرت استمرارية حلبها. لم أكن من ذلك النوع الذي يلق بسلاحه تحت الضغط تماما كالدون كيشوت (مثلي الأعلى). ولم يكن غريبا على محيطي والمقربين مني أن ينعتوني بالمحارب العنيد والمشاكس البليد. وفي خضم المعارك التي انخرطت فيها، واجهت وحوشا من كل صنف ولون، وحوشا آدمية وأخرى متحولة نصفها آدمي ونصفها الآخر من عالم أخر، وبعضها وحوش فقط بلا صفة محددة. بينما الأخرى مزيج من الوحوش الآدمية والأبالسة. أما آخطر الوحوش وأشرسها فقد كانت مجهولة المصدر والكينونة. مجرد مسوخ شائهة لم أكتشف ورطتي معها الا متأخرا، ولم أستوعب حقيقة المواجهة الا عندما استيقظت ذات ليلة من كابوس مريع وكان عدد الأصوات المتشاكسة داخلي أكثر من أن تتحملها نفس بشرية واحدة. كانت تلك الأصوات ومنها من هو غير آدمي تصرخ وتطالب بنصيبها مني ومن ظلي الذي بسببه دخلت أزمنة وأمكنة مجهولة وصارعت أهوالا لم يسبقني اليها أحد أو (حتى لا أبالغ كثيرا) سبقني اليها قليل من الناس. ولم يكن لي أدنى خبرة سابقة بتلك العوالم. لم تكن لدي لا النية ولا الموهبة ولا القدرة على التعامل معها. إنها وبغض النظر عن حقيقة ما يصطلح عليها (انكارا أو تأكيدا) لم تكن يوما تستهويني او تثير اهتمامي. لم أكن اسعى ولو على سبيل الفضول لفهم غوامض البعد الآخر. برزخ الثقلين، أو العالمين المتجاورين المتنافرين. لم أكن لأدركه أو أعقد العزم على الاقتراب منه بتاتا حتى داهمني واقتحم حياتي وصلتني تهديداته وأعقبتها هجومات غريبة. وقتها بدأت أنتبه وأتأمل وسط ضباب من الحيرة والارتباك وأحاول الفهم رغم مشاعر الشك وعدم التصديق. لكنني بشكل ما ومن قلب المعاناة تمكنت من تلمس أولى الخيوط. كان تعميق البحث امرا حيويا وضروريا للذود عن نفسي وعن أسرتي. وكان لابد لي من التصدي لهذه الهجومات، وفك الحصار الذي بدأت المخلوقات المتوحشة الشريرة تنسجه من حولي وتقوم به عن سابق إصرار وترصد. لقد أصبحت مستهدفا الآن. ولا مراء في ذلك. كان حلف (موكا) أو محفل البوم الشيطاني يتكون مما يلي: مخلوقات بشرية لها ارتباطات شيطانية، تقودها ساحرا ت وذاعرات ومشعوذين. ومنهم شياطين الانس يمتهنون السحر والشعوذة وهم ضالعون في شتى أنواع السحر متعدد الألوان والأصناف. ثم شياطين من أمم الثقلين الثانية، تلك الساعية دائما الى السيطرة واقتحام البعد الإنساني من خلال الفئتين الأوليتين، وكل المتعاملين معهم. لقد كانت تمتلك طرقا خاصة وغريبة للتواصل ولديهم أجهزة مخابرات مشتركة مدربة تدريبا عاليا وخارقا على التجسس. وهذه الأجهزة تعتمد من ضمن ما تعتمد على القرناء وآثار الظلال. واعتمادا على مئات التجارب والوقائع الموثقة والمسموعة والمرئية والتي تزخر بها كبة الصوف المتشعبة المخبلة التي صارت جزء لا يتجزأ من ذاكرتي وكينونتي ومن خلال استخلاص العصارة مما يقبله عقلي ووعيي وفطرتي، بدأت لأول مرة في حياتي أقف على معالم وجود فعلي لعالم سفلي موازي خبيث. أدركت أيضا بأن امكانياتي على ضآلتها لا بد أن تؤدي بي الى التصادم مع هذا العالم السفلي من ذلك البعد الذي يديره الشيطان وجنوده. والغريب أنني لم أكن في السابق مباليا بخطورة الامر ولا منزعجا من كثرة الحكايات (السخيفة) والروايات المفرطة التهويل. كنت أتفهم أن أغلبها نتاج ثقافات سائدة يكتنفها الجهل والتجهيل ويوجه منتوجها عادة للأطفال الصغار على سبيل الترفيه او التخويف ولجمهور النساء والرجال العاكفين والخائضين في تلك المستنقعات، لكن ذلك الذي بدأ يحصل لي ويحاصرني بدا لي أمرا آخر مختلف. شيئا واقعيا فظيعا وملموسا، وآثاره، وأضراره محسوسة، ومروعة.
ليست وهما اذن أو توهما أو خيال شاعر يا رفيقي. قلت مخاطبا ظلي. فرد عليه بطريقته الماكرة:
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار.