عبده حقي
في تلك اللحظة الكونية انمهر عليه فجأة شلال نور الأرض بلونه الشمسي الأزلي.. حتى خلت أن جسده صار منحوتا خلسة في منجم ذهبي خالص .. بالكاد كانت نظراته الأولى في الكون حوله تمضي به في أول رحلة إلى مدننا الغامضة .. إلى حيث تأخذه أسرار كتابه القدري المترع بالألغاز ..
أخيرا حل بيننا بعد سفر طويل .. كانت يداه عزلائتين.. بلا قفازتين .. وقدماه بلا حذائين .. ورأسه بلا خوذة المقاتلين … وصدره بلا درع فولاذي .. لقد جاء عاريا ، بل في دثار باذخ من العراء ..
كانت العناية السماوية شاهدة على أولى خطواته في متاهات الغابة الموحشة التي باتت منذ تلك اللحظة الكونية تسيجه بكتائب وحوشها من كل جانب..
كنت حينها مشدوها .. مأخوذا بأطوار معركته الأسطورية وذبذبات رموشه المترددة التي شرعت تتصدى لسهام الأشعة الحادة بعد خروجه المؤلم من غيابات الأحشاء اللزجة.
حائرا مثله .. كنت أحدق في عينيه وهما برفاتهما الحثيثة تقاومان من دون نظارتان شمسية ولا مظلة تحميهما من ضربات الأشعة .. حين رأيت مقلتيه وهما تقاومان شلال النور المتدفق عليهما بلا رحمة ، قلت في نفسي : في البدء كان النور .. لعلنا كلنا خضنا هذه الحرب الكونية في أول السقوط ونحن لم نرسل بعد بصرنا في أسبلة الحبو الأول ولم نتدثر بقماط الشك والتوجس الكمين.
شعرت في تلك اللحظة بزمنه يعود بي أنا أيضا إلى حيث هو كما أراه في تلك اللحظة الموعودة .. بتفاصيلها الدقيقة .. ساعة الصرخة القدرية.. لحظة التدوين بالدم الساخن في سجل اليوميات الهاربة.. حيث نمضي منتشين بغبائنا اللذيذ نحو حفرنا الأبدية العميقة مثل الآبار الضحلة وحيث لن نجرؤ على استرداد ما أضعناه من ألبان في الأصياف الماضية .
ربما هو لم يأت بنوره كما تخيلناه .. وكما تخيله غباؤنا ورسمته زغاريدنا السابقة لأوانها .. لكنني كنت الوحيد بينهم من أشفق عليه حين ألفيته يسقط أعزل بين فكي شلال الأشعة الحادة ..