جسر التواصل : خص الكاتب والصحفي الكبير الاستاذ عزوز شخمان جسر التواصل بفصول من روايته الرائعة “بهلوان الَكراج ” وجسر التواصل اذ تقدمها للقارئ فانها تقدم عملا روائيا متميزا للاستاذ عزوز شخمان الذي قضى سنوات طويلة في العمل الصحفي ما بين صحافة مكتوبة ومسموعة وكان له حضور بارز في الاعلام الرياضي المغربي والعربي …
عزوز شخمان
معسكرات المدينة الفاضلة
في قاع أسفل المدينة، وعلى حافة حواشيها المنسية، كانت ثمة حفرة هائلة تحفها هضاب ووهاد، ملؤها عشوائيات من البيوت المتلاصقة أشبه بالقبور الجماعية. كلما حل بها قادم جديد الا واصابته لوثة من اليأس وشعور متنامي بالاحتضار مدشنا استعداده المبكر لوأد أحلامه ودفن نفسه قبل الأوان. كان عجيبا صمود السكان الأولين لهذا التجمع القسري أمام عوامل الإفناء المحدقة، وتمكن اغلبهم -ضدا على قانون البقاء- من إنجاب أعداد “مخيفة” من الأبناء والبنات بمعدل عشرة رؤوس للأسرة الواحدة-دون إحصاء الوفيات المبكرة-. كان التناسل والانجاب هو ذروة نشاط معظم الساكنة وغاية وجودهم. وكان كل يوم جديد بمثابة ولادة جديدة. هنالك قضيت طفولتي. طفولة في سرداب.
كانت حدود العالم بالنسبة لي لا تتجاوز حفرة الزومبي التي تطوقنا وبعض التلال المجاورة، فوقها بيوت سوريالية المعمار بين قصديريه، وقصبية، وترابية، وإسمنتية. أما بقية العالم فكان عبارة عن جغرافية خيالية مبهمة تختلط فيها تضاريس السطح مع كائنات الجوف التي تعودت على زياراتها الليلية قبيل عصر الكهرباء. وكانت تتوسطه زبالة ضخمة تحولت عبر السنين إلى معلمة تضاريسية قائمة الذات بفعل تراكم النفايات والمخلفات البشرية والحيوانية المختلفة مكونة تلا قائما بذاته. كانت هي أبرز معالم السياحية ومحطة استقطاب لأطفال الحي. لم يكن يزاحمهم فيها سوى الكلاب، والقطط والجرذان والدواب مع فلول من الحشرات تتقدمها “الصراصير”. لقد كانت حديقتنا الخلفية المفضلة لممارسة شقاوات الطفولة المنسية والمغتصبة، تحت سحائب الدخان الكثيف والمزمن، الذي ظل يوحي للناظرين بأن الحي لا بد ان يكون رابض على بركان ناشط. كنا نخاله جزءا أصيلا من البيئة الطبيعية المحيطة بالحي. أما أنا فقد بدأت اعتبره مقدمة لآية الدخان وعلامة من علامات آخر الزمان منذ سمعت أحد الشيوخ من جيراننا وهو يهمس بذلك لمن حوله! لم يكن يتوفر الحي الا على شارع وحيد ومشوه -كما باقي معالمه الهندسية- وطالت غرابته حتى الاسم.. شارع السعادة. كان يفتقر في الواقع لكل مظاهر السعادة والبهجة أو الخضرة الطبيعية من أشجار ونباتات أو زهور. لم يكن ثمة إلا الإسمنت والأحجار، ناهيك عن الغبار والأوحال التي حولت حياة السكان إلى جحيم لا يطاق وقت المطر كل ذلك لم يمنع الأطفال من ممارسة رياضة التزحلق على الأوحال. كانت تتفرع عن الشارع السعيد مئات الأزقة الملتوية في كل اتجاه على شكل متاهات يسهل التيهان فيها. حتى ان بعض الألسن تناقلت بريبة كيف دخل بعض الأغراب لتلك الدروب ولم يخرجوا منها ابدا. كانت تحيط ب “الحفرة ” تلال شتى تفصل بينها منحدرات وأودية وتجاويف وينتهي الشارع فجأة عند حافة حادة الزاوية كنا نضطر للتدحرج عبرها مثل الكرات كلما أردنا التوجه صوب النهر المجاور. لم يكن لأطفال الحي مجالات حقيقية للترفيه سوى المزبلة أو الجولات التي اعتدنا القيام بها في المناطق الزراعية المحيطة بجنبات الوادي أو بعض الكهوف والمغاور المندسة في التلال المحيطة، وهي التي ظلت تغذي خيالنا بقصص الأشباح وسكان العوالم الجوفية المتربصة.