لشيخ العيطة الحسين السطاتي
يحتفل العالم يوم الثامن مارس من كل عام، باليوم العالمي للمرأة، وهو بمثابة عيد. تخليدا لذكرى نضال المرأة واعترافا لها بالجميل، لما قدمته من تضحيات في سبيل تقدم البشرية..وتقام في هذا اليوم العديد من الفعاليات والاحتفاليات بل على مدار شهر مارس بأكمله، حيث يلقى الضوء على انجازات المرأة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية…
وبصفتي فنان شعبي ممارس لفن العيطة “كومنجي لمجموعة الشيخات”، أرفع القبعة وأحيي هذه المخلوقة “المرأة” التي لولاها ما كنت في الوجود، وأعتذر لها عن أية إساءة صدرت مني يوما نحوها..أقول لها: آسف…أعتذر سيدتي.. إني أقدرك، وأحترمك وأحبك.. لست من الرجال الذين ينصبون المرأة عدوة لهم، فعلا أنا ضد نوع خاص من النساء اللواتي تنكرن للجميل وخن العهد والأمانة.. وما كرهت المرأة يوما ولا ولن أفعل ذلك، وإلا أين أرمي بحبي لأمي وأخواتي وزوجتي وبناتي، أين أدفن حبي للمناضلات من أجل وطني، بل كيف أواجه كل هؤلاء النساء اللواتي ساعدنني على تضميد جراحي وآلامي، من أمي والطبيبة والممرضة والأستاذة والحلاقة والشيخة وغيرهن.. أنا ما كرهت المرأة ولا في نيتي ذلك وإلا ما كان لما أقدمه من أغاني شعبية وقصائد معنى في الساحة الفنية.. المرأة هي ملهمتي، هي كل شيء في أعمالي الفنية والأدبية، وفي حياتي المعيشية، إنني أنتمي إلى أسرة الإناث فيها أكثر من الذكور، والجانب الأنثوي بالمفهوم النبيل للأنوثة هو الذي يلهمني، وأكرر إني أعشق وأحب وأقدر المرأة.. لقد ولدتني امرأة، وعلمتني امرأة، وتزوجت امرأة، وأنجبت لي امرأة، وتغني معي وترقص أمامي بمجموعة الشيخات امرأة، إذن فكيف لا أحترم النساء؟
في هذا اليوم ستملأ بعض الساحات بوطننا الحبيب بالجموع البشرية من مختلف الأجناس والجنسيات والأعمار، لتردد للمرأة عدة شعارات بصوت واحد، تحتفل بها وتحتفي بمنجزاتها وبما حققته طيلة السنة، وستبح حناجر احتجاجا لها..ستكرم الطبيبة والأستاذة والسياسية والأديبة والإعلامية والعسكرية ..هذا رائع وجميل، وسترفع أصوات تدعي كلها وصلا بالمرأة المغربية المهضومة الحقوق.. وفي المقابل سيتناسون نساء هن كذلك حرات شريفات، نساء شامخات ماجدات، نساء رائعات في صبرهن الجميل، يعانين في صمت لا يعرفن ثقافة الاحتجاج..وهن أحق بالتبجيل والتكريم..ستنسى نساء القرى الهامشية المهمشة المنسية، لأنهن لم يربطن حريتهن بشعارات ملغومة، وستنسى نساء مناطق الثلوج المحاصرة، ونساء الرحل اللواتي يعشن داخل خيام مرقعة وسط الكثبان الرملية بالبراري الصحراوية، وستنسى نساء يرعين الماعز والغنم وحمالات الحطب في الجبال ليؤكلن الرجال وليغذين أبناءهن.. ونساء بائسات منسيات يتألمن في صمت، ويمتن عند الوضع لأنهن بعيدات عن المستشفيات ولم تصلهن القوافل الطبية، ونساء خادمات، منظفات ومربيات عاملات مستعبدات عند نساء ما هن بنساء..نساء سيدات تدعين أنهن مناضلات من أجل حقوق المنسيات.
في هذا العيد ستنسى “الشيخات” اللواتي ستَبِحُ حناجرهن في هذا اليوم، وهن نساء يصنعن الفرجة، هاربات من الجمر إلى النار..محبوبات بالليل ومنبوذات بالنهار، يؤثثن فضاءات الأعراس والحفلات ويوصمن بالعار..يستعملهن المجتمع مشاجب يعلق عليهن فشله، فحينما يخسر منتخب وطني في تظاهرة رياضية ككرة القدم، أو يفشل قادة سياسيون في سياستهم.. نقرأ عناوين عريضة في وسائل الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي بالعنوان الكبير “خسارة شيخات الأطلس”… ونسي البعض في هذا المجتمع أن الشيخات مخلصات في عملهن ووفيات في أمانتهن، لذلك فأغلبهن ناجحات..هن نساء يؤدين جزءا من الموروث الجمالي للبلاد، ولا يتم إنصافهن والاهتمام بهن لاعتبارات كثيرة، يعتبرن بالنسبة للكثيرين كرمز للتسلية والمتعة الفرجوية فقط، في حين لا يتم النظر إليهن على اعتبار أنهن فنانات مبدعات، صانعات للفرجة يؤدين فنا يمكن أن يُرى وأن يكون جزءا من التعبير الشفهي للمجتمع. وينظرون إليهن بنوع من التصور القدحي وبنظرة ازدراء دونية.. فأغلبية الناس يستمعون إليهن ويتفرجون فيهن، ويستمتعون بهن، ولكنهم يقذفوهن بأقصى الاتهامات.. مجتمع يعيش تناقضات شوفينية، مجتمع يُبكي من يفرحه ويدخل البهجة عليه، مجتمع يستمتع بالفرجة، ويتلذذ بتعذيب من تصنع فرجته، إذ سرعان ما ينتشي وينسى هذه المتعة، ليمر إلى أعمال أخرى يستلذ بها بما فيها من عنف واحتقار وإذلال..
هذا المجتمع الذي يكرم المرأة، وينسى أن الشيخة هي امرأة كمثيلاتها من بنات حواء.. كانت بالأمس القريب “قائدة” تتحدى أهلها والمجتمع ليعلو صوتها شدوا، وهي شاعرة منشدة قبل أن تكون راقصة، هي الصوت الذي كان يستأجره الرجل، والضعيف، والمظلوم، ليحتج على كل ذي سلطان، وكانت هي صحافة الاحتجاج، قبل أن تكون مجرد شكل جميل يرقص ويغني.. الشيخة هي أم وأخت وبنت وعمة وخالة..هي الزوجة والصديقة والحبيبة والرفيقة، وهي الجدة التي غرست في الأرض ابتسامة وأمل، وصنعت تراثا فنيا أصيلا ظل عنوانا من عناوين الوجود الفني والحضاري لأجيال تناقلته عبر سنين..وكان، ولازال، وظل، وسيظل أحد أهم الفنون الموسيقية الغنائية بالمغرب.
تستحضرني وجبة “الحساب” الزعري في وصلة العيطة الزعرية بالشيخات، وهن يرقصن ويتراقصن، يتضاحكن وفي قلوبهن ألف عزاء، يتناجين ويتبادلن فيما بينهن نوبة الغناء، فتصدح الأولى في نبرة مغموسة بوجع الألم والشقاء.. بصوت يحمل قتامة البؤس واليأس، صوتها تكاد حباله تتمزق، والدمع في مآقيها يترقرق، يوشك أن يتدفق، وهي لا تعي بما تنطق:
خليوني نغوت….باش نتقـــــــــــــــوت
خليوني نتسل….من عيشة الذل
خليوني في حالي….حتى يعفو العالي
لترد عليها زميلتها في الحرفة بصوت حاد وكأنه النحيب:
كثرة تحزانك…..شكون بغاها لك
سيري عند الواليد….يعطيك فلوس العيد
وعلى نغمات العيطة، أقول لك أختي “الشيخة” مبارك عيدك، أنت تستحقين أكثر من هذا اليوم، وسنسمي عيدك ب “عيد الشيخة”، أنت لا تحتاجين من يهدي لك، أو من يصفق لك أو يحتج من أجلك، ولا من يغني ويرقص لك في ثامن مارس، لأنك أنت موسوعة تجمع فيك ما تفرق في غيرك، أنت راقصة ومغنية ومعالجة وممرضة..وأم وأخت وزوجة وبنت وحبيبة وعشيقة…أنت لست ضلع أعوج ليقيمك رجل، ولست ناقصة ليكملك.. أنت ثرية بعطائك، وبأحلامك، وبطموحاتك، وغنية جدا عن الشعور بالنقص..لك صوت مقبول، صوت عالي غالي له ثمن، فأنت منبع من منابع السعادة والفرح، ترقصين وتغنين لهم على مدار السنة.. ارفعي رأسك واصدحي بصوتك، وأخبريهم أن صوتك أعلى من أصواتهم..غني أيتها الشهية، البهية وارقصي، تدللي، تغنجي..فأنت شيخة أنثى: والعيطة أنثى، والأغنية أنثى، والكمنجة أنثى، و”الطعريجة” أنثى، و”الدربوكة” أنثى، والرقصة أنثى، و”الركزة” أنثى، و”القعدة” أنثى، والسعادة أنثى..فأنتن مصدر الفرح والخير والسعادة والمتعة.. واتركي لهم اليأس والبؤس والشقاء والغم والهم والنكد والحقد.. فإنهم من الذكور، ولا تنسي أن تخبريهم بأن النار أنثى اكتشفها الرجل فأحرقته، وأنت تعرفين كيف تلعبين بها…
وختاما تبقى المرأة هي المرأة، نصف المجتمع بل هي المجتمع كله.. مهما تبدلت أدوارها، تظل بروح أنثوية واحدة تجمع كل الصفات، وتتقن إدارتها بامتياز واستثنائية لا يستطيع أي من الرجال إتقانها، هي خصال معجونة معها منذ التكوين بالصبر، والرقة، والحنان، والحب، والإحساس، والطاقة، والغيرة، والفرح، والدمع، والجمال، والأنوثة، والكبرياء والطيبة المتواضعة..
وكل عام وأنت رائعة أيتها المرأة الفنانة، المبدعة.. أنا لك شريكا لا سيدا، وأنا معك شيخا فنانا لا سلطانا، دمت فراشة في بستانك تنثرين حولك الفرح والمحبة، وكل سنة وأنت أجمل وأروع النساء…..