“بهلوان الكراج” تتمة الفصل الثاني ” للكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان

جسر التواصل8 ديسمبر 2021آخر تحديث :
“بهلوان الكراج” تتمة الفصل الثاني ” للكاتب والصحفي الكبير عزوز شخمان

جسر التواصل : خص الكاتب والصحفي الكبير الاستاذ عزوز شخمان جسر التواصل بفصول من روايته الرائعة “بهلوان الَكراج ” وجسر التواصل اذ تقدمها للقارئ فانها تقدم عملا روائيا متميزا للاستاذ عزوز شخمان الذي قضى سنوات طويلة في العمل الصحفي ما بين صحافة مكتوبة ومسموعة وكان له حضور بارز في الاعلام الرياضي المغربي والعربي …

عزوز شخمان

انتظرت طويلا وأنا أمتطي تلك الغمامة الشريدة قبل أن أفتح عيني على مصراعيها دهشة. وجدتني أتطلع الى البحر الممتد أمامي والنهرين الجاريين من حولي، أولهما غربي وثانيهما شرقي. كانت المياه مكتظة بالحركة ولم أكن أرى منها سوى الآلاف من الرؤوس العائمة في المياه تنبثق منها عيون تلمع ثم ألسن تخرج وتدخل لاهثة من أفواه تلك الرؤوس المتزاحمة التي كانت تبدو في غاية التركيز والتوتر. وكانت تعقبها بين الفينة والأخرى صيحات وهتافات متصاعدة. تأملت مليا في تلك الرؤوس المتطايرة فوجدتها مجرد رؤوس مكورة كالبالونات وكرات أخرى مختلفة الأحجام والألوان والتصاميم. فكانت تتقافز هنا وهناك. ثم يعقبها صراخ شديد وهياج أشد فهتافات وأناشيد متواصلة. كنت ألتفت حولي فلا أرى مصدرا محددا لكل هذا. كان يأتي مرة من الشرق ومرة من الغرب، ومرة عن يميني وأخرى عن شمالي. ثم ما تفتأ أن ترتفع كرات مستطيلة ومفلطحة وبأشكال مختلفة صغيرة ومتوسطة ولها عيون مشدوهة ثم تعقبها هتافات، وتصفيقات، وصراخ، وضجيج. كنت أقف كالمذهول لا أكاد أستوعب ما أراه، فما أن أحرك رأسي في اتجاه حتى تجذبني حركات من الاتجاه الآخر، واستمريت على نفس الوضع لمدة من الوقت حتى أصابني الغثيان وأوشكت على فقدان وعيي وكاد رأسي أن ينفصل عن جسدي ويندمج مع لعبة الرؤوس الكروية المتطايرة المتشاكسة تلك. ثم أخذت أتمايل مرة يمينا نحو النهر الأول أو شمالا صوب النهر الثاني وكلاهما يوشك أن يختنق برؤوس وأحجام كروية مختلفة لا تقل نطا ومشاغبة عن سابقتها. قلت مع نفسي إن التطلع على هذه المشاهد من فوق لا يكفي حشريتي والأفضل لي التنازل عن عجرفتي العلوية والنزول من برج سحابتي الجوفية لاستكشاف حقيقة الامر..
وجدتها من أغرب الامم كل ما لديها مكور أو كروي مستدير وأحيانا بيضاوي مدحو انسجاما مع علوم زمانهم وفرضيات علمائهم المقدسة والمفروضة.. كانوا ينعتونها في جوف الأرض بالأمم السعيدة أو الشعوب المبتهجة. كانت كل معاركها وصراعاتها تجري في ساحات خضراء أنيقة التصميم ومكتملة المرافق. تهب لمؤازرة فرسانها وأبطالها جموع عارمة من أفراد القبيلتين المتناحرتين، يتركون أشغالهم ومصالحهم وينفقون الغالي من أموالهم حتى لا يتخلفون عن هذه المواعيد الهامة والحاسمة من تاريخهم المجيد. كانت المعارك عادة ما تتم بدون أسلحة ولا تستعمل فيها الأيادي الا نادرا. معظم المبارزات الفردية والجماعية تتم بالأقدام والرؤوس والعقول أيضا. وقلما خلفت معاركهم قتلى وإنما معطوبين، رغم كثرة المواجهات التي أصبحت شبه يومية. كان لكل قبيلة شعار وراية، ومهووسين، وزي موحد لفرسانها يميزهم عن غيرهم. وكانت القبائل التي تتشكل منها “أمم الكرة” لا يحصى عددها وتنتشر في كل القرى والأحياء والمدن. أبطالها محبوبين لدرجة العبادة ومنهم من نصبت لهم التماثيل وقدمت لهم القرابين. كان معظمهم من أثرياء الحرب (العبثية) هذه. اختلف المؤرخون الكرويون في تحديد الأمم السباقة في مدارج هذه الحضارة…منهم من أكد أن أول موقعة جرت في التاريخ كانت حول كرة بيضاوية أو (مدحوة) ومنهم من يدعي أنها كانت كروية مستديرة، فيما كشفت آخر الحفريات أن المسألة أقدم من ذلك بكثير وأن نتائجها -لو نشرت للعلن-سوف تقلب موازين التاريخ الكروي رأسا على عقب بعدما توصل الباحثون الحفريون الى أن الصراع كان في جذوره يقوم حول الجماجم البشرية التي كانت تسقط في المعارك ويقوم نخبة من المتوحشين باللعب بها. لهذا حذر العلماء السلميون المتشبعون بالروح الرياضية من مغبة تكرار أمثال هذه الوقائع من باب “التاريخ يعيد نفسه” وهو في هذا الشأن لا يتكرر سوى في نسخه البشعة وأحداثه المخزية! كما ازدهرت أنواع أخرى من الفنون الكروية المختلفة، لكن الغاية ظلت واحدة وهي تكريس طقس الكرة كعقيدة موحدة لكل القبائل لتكون الغاية هي الكرة نفسها.. تلك الفقاعة الجلدية المليئة بالهواء. صاحبة الطقوس الكونية متكاملة الأركان بشعائرها وشعراءها وفتاواها ونظامها الفقهي بمحللاته ومحرماته. وبعلمائها كذلك. كانت هي الموضوع الوحيد والرئيسي في نشرات الأخبار في مختلف وسائل الاعلام والالهاء ليل نهار لدى أمم الكرة، بل أمست الشغل الشاغل لسكانها وشعوبها وساساتها، والمصدر الرئيسي لأمجادهم وأفراحهم وأحزانهم كما هي المورد الرئيسي لاقتصادهم الذي كانوا يدعونه “اقتصاد حرب الكرة”.
حدث في أواخر جولتي في تلك الميادين أن استوقفني أحد سكانها معانقا ومرحبا وهو يقول:
أهلا بعودتك يا من كنت الى عهد قريب واحد من وجهاء ديانتنا، وكنت من الأوفياء المؤمنين برسالتها الكونية النبيلة والخالدة. لا أدري أية لوثة وقعت لعقلك وأي نكوص حصل لك في إيمانك حتى ارتددت عن عقيدتك الكروية؟
التفت اليه مندهشا:
لا أذكر شيئا مما تقول يا هذا ولا أفهم ما تعنيه؟
نظر الي مليا ثم التفت الى جماعة من الناس كانوا مارين بقربنا وأخبرهم بالأمر فتسابقوا نحوي بحماس وانفعال والتفوا حولي ثم رفعوني فوق أكتافهم صائحين مهللين مؤيدين كلامه ومحتفيين بعودتي الى “عقيدتي الصحيحة”.. بدا عليهم وكأنهم يعرفونني تمام المعرفة! ولما لمست فيهم مبالغة في تكريم لا أستحقه ما كان مني إلا أن انتزعت نفسي من بينهم انتزاعا، محتجا بالقول:

مهلا يا جماعة عن أية عقيدة تتحدثون! إنها مجرد لعبة لتزجية الوقت وترويض العضلات. هكذا كانت بالنسبة لي عندما مارستها وهكذا هي بالنسبة الي اليوم بعدما اعتزلتها.

توقفت الجموع عن الصياح فجأة وأخذوا ينظرون نحوي في ذهول وعدم تصديق ثم بدأ الأمر يتحول الى همهمات وغضب مكتوم، حتى شككت أنهم ربما يضمرون لي شرا، فسارعت الى مغادرتهم قبل انفجار الوضع وأنا اردد في سري لا إله الا الله! بينما سمعت الآخرين يصرخون ملء حناجرهم ويلوحون بقبضاتهم في اتجاهي مرددين. لا إله الا الكرة، لا إله الا الكرة. ( يتبع)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الاخبار العاجلة