د. خالد التوزاني
تروم العرفانيات الإسلامية، تزكية الرؤية للعالَم وللقيم الأخلاقية ليس باعتبارها قيماً للاستسلام أو الزهد والفناء في بحر الأنانية والسّفر في عوالم العبث واللامعقول، أو الاتكالية والسلبية، وإنما باعتبارها أصولا قيمية مرتبطة بعلم الأخلاق المقاصدية في بُعْدِها السُّلوكي والعَمَلي، والتي يتجاوز هدفها صلاح الفرد، إلى إصلاح المجتمع، وبناء أرضية مشتركة لتحرير الإنسان من حضارة المادة، وردّه إلى فطرة الروح الأولى، وهذا يعني إخراج العالَم برمته من نظريات التسلّط المعرفي والعنف النظري المبرر بالمقولات الفلسفية لضبط حركة التاريخ، وهذا مدخل لبناء أرضية روحية للتعايش بين الحضارات والتسامح بين الأديان والتواصل بين الثقافات ، من خلال تزكية النفس وتحريرها من عبادة النفس واتباع الهوى، إلى الفناء في محبة الخالق وإخلاص العبودية لله، إذ تمام الحرية في تمام العبودية لله.
على الرّغم من غياب لفظ “الحُرِّية” في القرآن الكريم باعتباره الكِتاب المؤسِّس للقيم الأخلاقية العُليا، إلا أنَّ ذلك لم يكن يعني غياب ممارسة الحرية، فهذا اللفظ يحضر عملياً من خلال ألفاظ “الحُرّ” و”التَّحرير” و”المُحَرّر”، مركّزاً على مبدأ تحرير الرِّقاب، في أكثر من سياق، سواء تعلّق الأمر بالكفّارات أو تعلّق بالحَثّ على التقرّب إلى الله، وعلى تحصيل الثواب الإلهي، والتكفير عن الخطايا، قال تعالى: “فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ” ، وفك الرقبة أو تحرير الرقاب ، هو إخلاء السَّبيل للعبد من الرّق، بجعله حرّاً طليقاً له ما للأحرار من حقوق وواجبات .
إنَّ الحُرِّية ممارسة وليست مجرّد تنظير وتوجيه وإرشاد، ولذلك اهتم الدِّين بتحرير البشر من الاستعباد ومن الإكراه والتَّسلّط، فلم يكن خطاب القرآن الكريم قائماً على المفاهيم والمجرّدات العقلية، وإنما ركّز على الفعل الإرادي، الذي يمارس التَّحرّر، وبذلك ينقلنا القرآن الكريم من المفهوم المجرّد للحريّة إلى التّحرير باعتباره البُعد الحقيقي والعملي لها، وذلكَ لأنَّ إطلاق لفظ الحرّية في وسط عقلي جاهلي لا يمكن فهمه إلا على نقيض معناه الأخلاقي، أي نفي المسؤولية، أو فهمه على أساس الفوضى والتحلّل من كل قيمة أو قاعدة أو قانون ، الشيء الذي يؤكد أنَّ الحرية مسؤولية، وليست فعل ما يريد الإنسان بالمطلق، وهذا إشكالٌ ناقَشَتَهُ الفلسفة وعلم الكلام، وكان من نتائجه أنَّ الحريّة شُعورٌ سيكولوجي، ويعني “شُعورنا بالالتزام وبما يترتّب على أفعالنا من زيادة ونقص في قيمتنا الخُلقية، والواقع أنَّ الشُّعور الخُلُقي إذ يفرض علينا التزامات معيّنة، إنما يُجبرنا بذلك على أن نتحمّل مسؤولية أخلاقية بإزاء ذواتنا، ونحن لا نكون ملزمين أخلاقياً، إلا إذا كانت أفعالنا متوقّفة علينا، وهذا معناه أننا أحرار فعلا” ، فالشعور بالالتزام والمسؤولية واحترام الواجب، هو عين الحرّية، إنها وثيقةُ الصِّلةِ بالأخلاق، فلا حُرّية ولكن تحرّر، أيْ التَّحرّر والسَّعي نحو الكمال، بالتَّحرّر الكامل من القيود الخارجية والداخلية نمتلك رُوح الحُرِّية الحقيقية ، وبذلك نفهمُ جَلِيّاً لماذا غابَ لفظ الحُرِّية في القرآن الكريم، وحَضَرَ بديلاً عنه لفظ الحرّ والتَّحرير والمحرَّر.
إنَّ الحرّية باعتبارها قيمة أساسية في حياة الإنسان، لم يكن المقصود منها إطلاق الحبل على الغارب، ولا ترك الإنسان منقاداً لهواه وأنانيته على حساب مصالح غيره، وأنَّ سبيلَ التَّوازن بين حرّية الفرد وحقوق المجتمع، هو نظام أخلاقي متكامل، يضمن للجميع حقّه في التّحرّر من أيّ ضغط أو إلزام أو تقييد أو قهر، ولعل ذلك ما تسعى لتحقيقه الشرائع الدينية والقوانين الوضعية، فالحرّية لم تكن مَسّاً بحقوق الآخرين، ولذلك من غير المنطقيّ السماح للمفسد بنشر فساده، ولا المصلح بإلزام الناس اتباعه، فالاختيار شرط للحرية، ولكن مع الشُّعور بالالتزام والأمانة والمسؤولية، وهذه نتيجة لم يكن ينجح القانون دائماً في بلوغها، بسبب احتيال بعض الناس على القانون، وقدرتهم على الانفلات من العِقاب، ولكن في وجود الأخلاق يكون الوازع الدّيني قوياًّ فيشعر المرء بالحياء، ويستحضر مراقبة الضمير وسُلطة الوعي العُليا، وبأنَّ الله يراه، وهذا تماماً مقامُ الإحسان في الفكر الصوفي، فهو مؤهّلٌ ليشكّلَ البديل الحقيقي لكلّ تحرير ونقلٍ لوضعية الإنسان من الحالة العادية، إلى حالة إيمانية عميقة، لا يحتاج معها المرء إلى حارسٍ أو رادعٍ خارجيّ، وهو ما يجعل هذا الشَّخص مَصْدَراً للأمن ومُصَدِّراً له، وهذا المعنى ورد في الحديث الشريف: “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: منْ يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه” .
من الأكيد أنَّ صلاح “الأخلاق بحاجة إلى سُلطة أوسع من السُّلطة القائمة على الدّين” ، وهي سُلطة القوانين، والعقد الاجتماعي، ولذلك فالحرية قضية نفسية واجتماعية، تتجاوز رغبات الذات الفردية إلى احترام القوانين المؤطّرة للجماعة، وأن يتوافق الإنسان مع ضميره الأخلاقي، وهذا منتهى الشعور بالحرّية ودليلٌ على الصِّحة النفسية، ولذلك يرى علماء التزكية أنَّ “أهم مقومات الصِّحة النفسية تكمن في توافق الإنسان مع ربه وليس مع هوى نفسه، وبالتسليم لإرادة خالقه، وليس لمراد هوى نفسه، فيستشعر حقيقة الصّحة والسّلامة النَّفسية عن طريق التّحرّر من التّعلّقات القلبية، ومن ثَمَّ، فإنَّ العبدَ لا يكون إلا بين خيارين: إمَّا أن يكون عبداً لله فيتحرّر من كلّ شيء، أو يكون عبداً لغيره فيستعبده كل شيء” ، وهنا يكمن شقاؤه وتعبه، فتتعب نفسه وبدنه في تحقيق آماله التي لا تنتهي، فيتكدّر لفواتها، ويصيبه الضّنك والضّيق لفقدها، لقصوره عن بلوغه مراده .
وهكذا، عندما يتوجَّهُ المرءُ لخالِقِه يُصبحُ حُرّاً طليقاً، لأنَّ تمامَ الحُرّية في إخلاص العُبودية لله، ولم يرتبط الإنسان بشيء إلا كان عبداً له، بما هو إحساسٌ بالخوف على فقدانه، فكان ذلك دافعاً لقلقٍ دائمٍ وانزعاجٍ مُقيم واضطراب وتشويش، يقول ابن القيم الجوزية: “قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردَّ له؛ أنَّ مَنِ اطمأنَّ إلى شيء سواه، أتاهُ القَلَقُ والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا مَنْ كان، وقد جعلَ سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء، ليعلم عباده وأولياءه أنَّ المتعلّق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع” ، وينتج عن هذه الفكرة أن يصبح ذِكر الله باباً لجلب الاطمئنان القلبيّ، كما ورد في القرآن: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” ، وأن يرتبط ذِكْرُ الله بكمالِ الإيمان، والشّوق إلى الجِنان، ولذلك كانَ تركيزُ المتصوفة على ذكر الله كبيراً، لأنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً أكثرَ مِنْ ذكره، فكان الأمر الإلهي بالإكثار من ذكر الله، في قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا” ، والذّاكر لربّه هو الحُرّ ، لأنه تحرّرَ من كل السُّلط المادية، واتصل بسُلطة الله العُليا التي لا يخيب أبداً من سعى إليها حُبّاً وشوقاً.
إنَّ سعيَ المتصوفة نحو التَّخَلُّصِ من الأغيارِ بالاستغراقِ في ذِكر الله، قد أثمر في النُّفوس إحساساً بالتَّحرّر من كل الارتباطات المادّية، والتَّعلّق بالله وحده، فيكتفي العابدُ بما عند الله، ويزهد في ما سواه، ويكون هذا المنهج سبيلاً لتحقيق عِزَّة النّفس، فمن استغنى بالله كان عزيزاً واحتاج الناس إليه، لأنه يصبح مصدر سعادتهم، فهو “أقرب من غيره إلى تحصيل السَّعادة لنفسه وتحصيل الإسعاد لغيره، كما أنَّ سعادته ليست سعادة ظاهرة تذهب مع ذهاب أسبابها- وهي العطاءات المادية- وإنما سعادة خفية، لأن سببها باق لا يذهب، وهو العطاء الرُّوحيّ، فالسَّالك في التربية الرُّوحية يتحرَّر من موانع السَّعادة، كما يتزوّد بأسبابها المتجددة والمتوالية” ، ولذلك كانت الصِّلةُ بين صِدْقِ العُبودية لله والحرية وثيقة جداً، وخاصةً في نمط التربية الإسلامية، لأن الإسلام هو “الدين الوحيد الذي يسمح باستقلال الصّلة بين المخلوق والخالق، ويستطيع العابدُ فيه أنْ يتوجّهَ إلى الله بضميره فرداً بغير واسطةٍ من سادن ولا شعائر في محراب..” ، إذ لا واسطة في دين الإسلام بين العبد وربه، فالله تعالى قريب من عباده، يقول سبحانه: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” ، وقد كانت هذه الخاصية سبيلاً لتحقيق الاستقلالية في العبادة والتّحرّر مِن سُلطة الآخرين، ليقف المتديّنُ حُرّاً بين يدي ربّه، فيتخلّص من كل الضّغوطات، ومن قيود الواقع و”يعيد للأنا تقديرها لذاتها وتوازنها مع حقلها” ، وهذا معنى الصِّحة النَّفسِيّة التي ينشدها علم النفس، وتتحقق في “الشُّعور بالطّمأنينة والأمان والرّضا عن الذات، والقدرة على التكيّف مع الواقع وحلّ مشكلاته، وامتلاك مهارات التَّفاعل الاجتماعيّ” ، وهو ما يؤكد انتقال المتصوفة من مجاهدة النَّفس إلى المجاهدة في بناء الأوطان وتعميم الأمن والأمان، ونشر السّلم والسّلام، وهنا تكمن قيمة التصوف في اقتراح مداخل الإصلاح والتنمية والتحديث، وبثّ معاني التّساكن والتّعارف بين بني البشر دون أيّ إقصاءٍ أو ادّعاءٍ بامتلاك سُلطة ما على الغير، إذ الكُلُّ مخلوقات الله، لا سُلطة لأحدٍ على الآخر، وإنما الجميعُ تحتَ رحمةِ الله وفضله، فهو المتفضّل على عباده، وقد يجري الخير على أيدي بعض مخلوقاته، ليكونوا جنوداً من جنود الله