محمد أديب السلاوي
إلى أي حد استطاعت التوجهات البصرية الجديدة، التي ظهرت مع اللوحة وفنونها ومدارسها في المغرب الحديث، أن تلتقي مع التوجهات الفكرية القائمة…؟ أو بصيغة أخرى : ما هو الأثر الذي تحدثه اللوحة المغربية اليوم على امتداد فترة تواصلها الزمني، في متلقيها بعدما أصبحت جزء لا يتجزأ من الثقافة المغربية المعاصرة؟
إننا عندما نقرأ قصيدة أو نسمع قطعة موسيقية، أو نشاهد لوحة، يحدث لنا ذلك الأثر على شكل صدمة أو على شكل ذبذبات شعورية غامضة، وهي تتفاوت من حيث استجابتها الكلية أو الجزئية من القصيدة إلى القطعة الموسيقية، ومنها إلى العمل التشكيلي، لا حسب الفروق الجوهرية بين هذا الفن وذاك، التي هي فوارق شكلية فقط، ولكن حسب تركيب العمل الفني واستجابته لعقل ومشاعر المتلقي.
للتوضيح، يجب أن نستذكر هنا الأثر الذي أحدثته موسيقى “الروك أندرول” أو موسيقى “البيتلز” في جيل الستينات بالغرب، أو ما تحدثه موسيقى الطوائف الصوفية “عيساوة/ كناوة/ هداوة/ جيلالة” في النفوس المتلقين من أبناء الجيل الجديد بالمغرب العربي، أو ما تحدثته لوحات “رمرانت” و”دي لاكروا” من أثر على نفوس مشاهديها في القرن الماضي بعدما نقلت المفارقات بين عالم الشرق… وعالم الغرب…
ونستذكر أيضا الآثار السارية المفعول للملاحم الشعرية السومرية، واليونانية، والإغريقية، والمعلقات العربية، وكذلك اشعار شكسبير وإليوت في العصور المتأخرة.
إن هذه الأعمال وغيرها كثير، مما تحتفظ به جداريات الإبداع الإنساني في العصور المختلفة تخضع للفهم السليم لمكان “الإشارة” في “القطعة الشعرية” أو “القطعة الموسيقية أو التشكيلية”، تلك الإشارة التي تنفذ إلى العقل لتحدث به “صدمة” التلقي مما يوضح تمثلها ويبعدها عن التذوق الزمني الساذج، بمعنى آخر أو الإشارات، والأصوات، والكلمات، التي تختزنها الأعمال الفنية عامة، وتتركب منها، والتي تختلف من عمل لآخر، هي التي تتحرك على شكل ذبذبات صوتية أو موجات بصرية تجاه المشاعر، ومنها إلى العقل لتحدث ذلك التلاقي الانفعالي بين المبدع والمتلقي. ولتحدث ذلك الحوار الصامت غير المعقلن أحيانا بين هذا وذاك.
هذه البديهيات تؤكد على أن “اللوحة” كعمل إبداعي متكامل، خاضع لشروطه الفنية والموضوعية، لا يمكن رؤيتها من الخارج، أي من خلال سطحها المغطى بالاصباغ والالوان، أو من خلال ما تعكسه على الشبكية البصرية من أحجام ومسطحات. فالرؤيا تعني “الأثر” الذي تولده في الحس وفي العقل وفي الاستجابة الذهنية التي تحدثها في ” البصيرة ” الداخلية للمتلقي.
ولأن “الاستجابة” عملية تركيبية تتألف من الإدراكات المباشرة لعناصر اللوحة، من حجم المساحة إلى الألوان والمجسمات والإشارات والرموز، فإن “التخيلات” التي تعكسها هذه الإدراكات هي التي تعطي ” للصدمة ” أو ” للذبذبات ” صيغتها الحسية، وهي التي تعطي في النهاية للوحة/ الأثر الفني، صيغتها ” الموضوعية ” في نفس المتلقي.
إن اللوحة في هذه الحالة، تتجاوز مساحتها الضوئية ( اللونية ) الخطية وتتحول إلى صيغة تعبيرية مرتبة ونظامية، تتألف من أبعاد ثلاثة، هي :
المساحة، الكتل، الألوان، تمتد الروابط بينها من داخل الأجزاء المتناثرة الأخرى، التي تمتد بدورها في اللوحة/ كعمل نظامي متكامل إلى الحس/ العقل، لتحدث في النهاية ما اسميناه بالاستجابة، و” الاستجابة ” كأثر عقلي/ نفسي، تتفاوت أهميتها، ويتفاوت حجمها من عمل إبداعي إلى آخر. وبالنسبة للتشكيل يحدث هذا التفاوت من لوحة لأخرى، حسب التركيب النظامي وأسلوب وتوجه وخطاب هذه اللوحة أو تلك، وايضا حسب إدراك وتفهم وثقافة واستجابة ” المتلقي ” الذي يخضع بدوره لشروط موضوعية، وتربوية اهمها، إدراكه للغة التشكيلية، وعدم اغترابه عنها.
إذن ما هي أدوات اللوحة الاساسية التي يشكل منها ذلك العمل الإبداعي المتكامل؟
و إلى أي حد يمكننا استقرا اللوحة من خلال أدواتها هذه؟ وهل يمكن لهذه الادوات أن تتحول إلى لغة/ خطاب/ وتواصل؟
لقد اتفق العديد من علماء الجمال ومن الباحثين في القضايا التشكيلية أن ” اللون ” هو العامل الأساسي الذي يحدد ماهية اللوحة/ شكلها، ومضمونها الفكري/ الجمالي/ الأدبي… فاللون هو ” العلامة ” التي تعطي إحساسا بالبعد المكاني والزماني على نحو واضح… وهو في تدرجاته الضوئية، وفي حركته، وتنوعه اللوني، يشبه حروف اللغة التي تكشف الإحساس نحو الرموز والقضايا التي تود اللوحة التعبير عنها.
و إضافة إلى ذلك، فاللون بقوته التعبيرية هو الذي يحدد الطريقة التي تنبني عليها اللوحة، فكل أثر انفعالي وكل استجابة مباشرة أو غير مباشرة، يأتي عن طريق اللون، وتدرجاته، وحركته ونظامه.. ويأتي عن طريق إدراك أبجدية الألوان، وفلسفتها… وقواها الكامنة في نظامها التوليدي المعقد.
و لأن درجة التباين جد واضحة بين ” المتلقين ” من حيث التربية الجمالية والتكوين الثقافي، ونوعية التعليم، فإن اللون هو الذي يحفز على الملاحظة وعلى الانفعال والتأثر والتذوق، وهو الذي يحدد العلاقة بداية بين المبدع والمتلقي. ولو أنه يختلف عنه من فرد لآخر من حيث القبول والتميز والاستجابة.
و ايضا، لأن ” اللوحة ” كتاب مفتوح لأفكار الفنان وتوجهاته الثقافية والسياسية والفكرية والفلسفية، فهي خطابه الحضاري الموجه إلى عامة المتلقين، فإن استعمال اللون في عمله، لا يختلف في نظرنا عن استعمال اللغة لدى الكاتب والشاعر… إنه يتصف هو الآخر بالغموض والوضوح، بالتغريب والتباين، ومن ثمة نجد هذه اللغة/ اللون في العديد من الأعمال التشكيلية المعاصرة والحديثة يتصف بصفات اللغة المقروءة.
نستذكر في هذه الحالة عمل ” دالي ” ذكريات الزمن، والفترة الزرقاء ” لبكاسو “.. والوجه الذاتي، لرمبرانت، الخيول العربية والضيافة.. لفائق حسن. وأعمال ” فأن كوخ ” في الفترة ” البريتونية ” نستذكر في ذات الوقت، مفردات ميلود الأبيض، وجدار فؤاد بلامين، أنسجة احمد الشرقاوي، دوائر الغرباوي، طيور المحجوبي أحرضان، شخصيات بن يسيف. وهي أعمال تعبر بجلاء عن إمكانية اللون اللغوية ودلالاته التعبيرية العميقة والواسعة، ورموزه وأصواته التي تعطي مجالات الحياة المختلفة، وتعبر أغوار النفس الإنسانية الفسيحة.
إن هذه النماذج، تؤكد على أن للغة التشكيلية علاقات طبيعية في تراكيبها، مع اللغات الاخرى، وأن لها مقدارا كبيرا من الاتفاق بين أسرارها وشخصياتها وهو ما يضمن لها التواصل الاستمرارية. وأن حركتها إيقاعية موسيقية وانسجامية، لا تقل عن لغة الشعر أو لغة الموسيقى.
و نعتقد أن العلاقات بين الألوان وما يتولد عنها من خطوط وظلال ورموز وأضواء، هي جزء من المعرفة التشكيلية، ومن ثمة أصبح اللون ــ في علم الجمال، وفي فلسفته ،هو العلة والعمل المسيطر على الاستجابة والانفعالية للعمل التشكيلي، فهو الذي يحدد الشكل/ ويحدد الخطاب/ ويحدد الرؤيا.. وهو الذي يربط انفعال الفنان انفعال المتلقي.. وعالمه المغاير.
هل يعني ذلك أن اللون هو وحده ما يحدد ماهية اللوحة؟ أن اللوحة في كينونتها ليست تركيبا جماليا ثابتا، إنها إضافة إلى اللون، الذي هو بمثابة اللغة وأجوائها، تتضمن عناصر حركية أخرى، تتوزع على أنحاء مختلفة، منها الصور البصرية/ الرموز / الخطوط/ الظلال/ الأضواء/ ومنها الكتل والمجسمات..أو بعبارة أخرى مختصرة، هي العناصر الحسية، وهي جوهرية في تشكيل الخطاب التشكيلي، واساسية في الاستيعاب العقلي، والحسي، لهذا الخطاب.
لقد كان من الصعب على العالم، أن يفهم “دالي” أو “بيكاسو” أو “رمبرانت” أو فائق حسن، كما كان من الصعب عليه أن يقيم الشعيبية طلال، أو الرباطي، أو في الأمثلة التي استذكرناها في هذا الكتاب، لو أنهم، سمحوا للون وحده أن يعبر عن أفكارهم، أو يبث خطابهم.. فالعناصر الأخرى من أعمالهم على اختلاف مدارسها وانتماءها المذهبية والفنية، هي التي تعاونت مع اللون داخل المساحات لتخلق تلك العلاقة الجدلية بينهم وبين المتلقي، ولتخلق في النهاية القيم الفنية لأعمالهم الإبداعية.
يمكن أن نلخص من هذا الموضوع الذي يرتبط بماهية اللوحة، وأشكالها المترابطة، إن أدوات الشعر والموسيقي والعمل التشكيلي/ اللغوية، جد متشابهة، ففي كل هذه الفنون تنشأ العلاقة لينة بين العقل والعاطفة عن طريق اللغة.. ورموزها وحركاتها الحسية.
ومن أهم صفات هذه العلاقة، استجابة الفنان للأشياء عن طريق تمثيله فنيا/ لغويا/ حسيا لماهيتها، وما تحدثه من انعكاسات على العقل والوجدان، ما تخلقه من أسرار والغاز عليها… باللون… أو بالنغم… أو باللغة المجردة.