عن شيخ العيطة الحسين السطاتي
يحل عيد الحب في الرابع عشر من شهر فبراير من كل سنة حاملا في طياته للبعض مشاعر عميقة، فتتزين بعض المحلات التجارية بالمدن الكبرى بزينة حمراء دافئة. حيث تغرد القلوب بالغرام ويزداد الرواج التجاري عن سائر الأيام، ولا تقتصر مشاعر الحب على العشاق والمحبين فحسب، بل تتسع لتشمل العائلة والأصدقاء والوطن والأرض..
لاحظت خلال هذه الأيام أن بعض الناس يشترون هدايا ملفوقة بأغلفة يغلب عليها طابع اللون الأحمر، وآخرون يتداولون عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورا وعبارات تنم عن الحب بكلام عشق معسول منمق بمناسبة هذا العيد، وآخرون رافضون لهذا اليوم، باعتباره عادة دخيلة على ثقافتنا.
عادت بي ذاكرتي سنين إلى الوراء، وأنا في سن المراهقة، بريف أولاد سعيد الشاوية”سطات” بلدي الحبيب، في مثل هذه الأيام من بداية فصل الربيع، كنت أخرج إلى الطبيعة حيت كنت أحمل كمنجتي الغجرية “الطارو”، والتي كنت أصنعها بيدي من إناء قصديري لمبيد الحشرات، أو مدلج لزيت محرك السيارات.. مشدودا إلى قطعة خشبية، تبتت عليها خيوط فرامل كأوتار، أما القوس فكنت أعده من شعر ذيل الحصان.. كنت أجد متعة وحبا وأنا أتفنن في صنعها لتبدو كآلة موسيقية حقيقية، ولتكون بذلك هي محبوبتي الأولى، لقد أحببتها قبل أن أحب أي أنثى، كنت أذهب بقطيع الغنم يرعى وسط طبيعة غناء، تنبسط فيها الورود والأزهار، وكانت أزهار شقائق النعمان غزيرة في البرية، تظهر مميزة بألوانها الأرجوانية، بين حشائش ونباتات وأزهار أخرى كزهرة الجمرة والأقحوان.. كنت أعزف خلف القطيع معزوفات من فن العيطة هي أهازيج عيطية من فن اللعابات، والشيخات وعبيدات الرمى، التي كنت أحفظها من أمام بائع أشرطة الكاسيت بالسوق الأسبوعي، أو مباشرة من الأعراس.. وكانت قصائد فن العيطة بما فيها من عبارات الحب والغرام هي نشيدي الأول دون أن أعرف معنى الكلمات، كما كانت المراعي هي دور النشء والمعهد الأول الذي تلقيت فيه أولى أبجديات الكمنجة والعيطة وهي المكان الرومانسي الذي خفق فيه قلبي لمحبوبتي.. إنه الحب الحقيقي للطبيعة والحب الفطري للموسيقى.
تذكرت نهاية ثمانينات القرن الماضي، لما اشتغلت “شيخ كومنجي” مع مجموعات للشيخات (ثلاثي سطات، شيخات سطات، ثلاثي لقصارة…)، حيت كنت أحيي رفقتهن حفلات وأعراس، وحتى لون طلاء آلة الكمان غالبا ما يكون أحمرا، وقد اختاره العالم الفنان صانع الكمان الايطالي “ستراديفاريس” ليخلد به حبه، ويُزعم أنه خلط دمه بدم حبيبته وصبغ به آلاته التي صارت تحفا بعد موته.. وكانت لكل واحدة من الشيخات اللواتي عملن معي قصة حب فاشلة، أو زواج قسري دون حب من شيخ عجوز ارتضته صاغرة، جعلها تثور على قرار عائلتها، وتتمرد على العادات، وتمتهن حرفة “شيخة”.. كارهة الحب وعيده، ورغم أن حناجر الشيخات تصدح بأغاني الحب والغزل والرومانسية.. فكن كالهاربات من الجمر إلى النار، وأغلبهن يجمعن على أنهن كن ضحايا ما يسمى “الحب”.
وتعود بي الذاكرة سنين إلى الخلف، واستحضر لما كنت دركيا ضابطا للشرطة القضائية رئيسا للدوريات، باحثا ومحققا، وكنت أداهم رفقة زملائي في العمل، وكرا، بل أوكارا للدعارة، حيت كانت كل وسيطة في البغاء “قوادة” تحتجز بمنزلها عددا من النساء منهن القاصرات، يبعن أجسادهن في سوق النخاسة، دعارة مقرفة، يصرحن أنهن يمارسن الجنس أحيانا مرغمات ليل نهار، وحتى وهن حائضات أو حوامل، في وضعيات شاذة مرضاة لرغبات زبون مكبوت، متعطش لسادية جنسية. كنا نعتقل المتورطين في الجريمة ذكورا وإناثا، كل حسب التهمة المقترفَة، وكانت المعتقلات يصرحن أثناء الاستماع إليهن، أنهن ولجن عالم الدعارة عن طريق صدمة الحب، بل “كذبة الحب”، عشق فاشل أو ممنوع، كن فتيات حالمات، طائشات، غرر بهن من طرف رجال، بل ذكورا أشباه رجال، بكلمات معسولة ووعود كاذبة، وبحب مزيف لا يفرق بين العاطفة والجنس، كذبوا عليهن، مستغلين يفاعة عقولهن، وضعفهن المادي والمعرفي، وزجوا بهن في مغامرات تكبرهن سنا، حتى نالوا مرادهم وتخلوا عنهن بعدما فقدن شرفهن، وكدن أن يفقدن عقولهن.
تذكرت وأنا أقوم بتحريات ومعاينات في جرائم العثور على أطفال حديتي الولادة موتى أو أحياء، مرميين في أكياس بلاستيكية للأزبال أو في حاويات للقمامة، أو متخلى عنهم على ضفاف أنهار أو مباني مهجورة….وحينما كنت أصل إلى الأم الفاعلة، كانت تنهار باكية معترفة أنها أحبت من لا يستحق حبها. مقرة أنها انخدعت في شخص كاذب، أوهمها أنه يحبها، وتنكر لها بعدما خفق له قلبها وسلمته جسدها قلبا وقالبا.
تذكرت وأنا ضابط باحث محقق في جرائم قتل بشعة بسبب الخيانة الزوجية، كان أبطالها عشاق من الجنسين، آمنوا بالحب، كان أوله عسل وآخره بصل بل قتل، مصدقين ومؤمنين بعبارة “ومن الحب ما قتل”.ذلك بسبب الفهم الخاطئ للحب.
تذكرت وأنا أجري بحثا بل أبحاثا، وألتقط صورا فوتوغرافية لضحايا جرائم الانتحار من الجنسين، سواء عن طريق الشنق أو تجرع مادة سامة، أو إلقاء الشخص بنفسه من أماكن عالية…، وبعد البحث يتضح أن الانتحار كان نتيجة حب مزيف “صعقة خيانة حب”.
رغم ذلك يعشق الناس حكايات الحب ويطربون لسماعها، لكنهم لا يستطيعون أن يكونوا أبطالها الحقيقيون، بل يفضلون أن يكونوا أبطالا حالمين، فأغلبهم يريد أن يعيش الحب لكنه يخشاه، لأنه سر غريب. والإنسان يتمنى أن يعيش الحب إلى الأبد، ويتخوف منه في نفس الوقت، وعادة ما يقول الناس أن الحب عذاب وأشواك، وأشواق ودموع، من شأنه أن يقلب حياتنا رأسا على عقب وقد لا يبرأ من أصيب بلوثته، وهناك من ينفي وجود هذا الحب نهائيا… والذين ينجحون في الوصول إلى عالم الحب السحري ودنياه الوردية يشعرون أن الحب هو نبض القلوب وانتعاشة النفوس، لكن قد يكون حبا من طرف واحد وتلك هي الطامة الكبرى، فيعذب المحب وينعش المحبوب، وقد يكون حبا متبادلا فيكون عشقا ناجحا..وقد يستعذب البعض قصصا حالمة رومانسية، ويتخيلون أنهم سيعيشون مثلها في الواقع، ليصدموا بحلمهم الذي ينقلب من حلم وردي إلى كابوس..ولأن الحب كذلك، يرتبط لدى الأفراد بفزع عوض أن يتحول إلى فرح، فالكل يخشى زوال الفرح، وقديما قال الفيلسوف هوراس:”أقطف يومك بحب، لأن اليوم يزول، ويتلاشى وقد لا يعقبه يوم آخر”، وقال أيضا الفيلسوف المصري إبراهيم الفقي: “عش بالحب، عش بالأمل، عش بالإيمان، عش بالكفاح، عش كل لحظة كأنها آخر لحظة في حياتك وقدر قيمة الحياة”.
أنا لست ضد الحب، فالحب في ديننا الحنيف “الإسلام” حب يتسم بالايجابية ويتحلى بالالتزام، فلا يكفي أن تحب بالمظهر الجميل، ولكن ينبغي أن تحب الروح الأخاذة، والذات الرائعة، ومن الجميل أن يكون ضمن أجندة مناسبات الشعوب بمختلف أجناسها، ألوانها، عقائدها ودرجات ازدهارها..يوم يخلد لأعظم رابطة يمكن أن تجمع بين رجل وامرأة وهي رابطة الحب، وليس الحب مقتصر في كلام معسول أو لون أحمر أو قرمزي، ولا في قطعة قماش أو وردة حمراء.. والحب الحقيقي هو الذي يكون في الحلال وهو من شيم الكمال وليس من صفات النقص، ومن شروط الحب أن يكون ضمن رضا الله وتحقيق أوامره، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن يسير هذا الحب في اتجاهه الطبيعي من غير غلو أو مبالغة، كما ينبغي أن نفرق بين الحب والجنس، فالكثير من الأشخاص يقزِمون معاني وقيمة هذا الشعور الإنساني النبيل..مختزلين إياه في مجرد علاقة تجمع بين رجل وامرأة..علاقة يغلب عليها الجانب الشهواني أكثر من الجانب الحسي الإنساني السامي.. متجاهلين أن هذا الشعور الفياض والأحاسيس الجياشة المتدفقة تجمع بداية بين الأم وجنينها حتى قبل أن تلمح شكله.. فهناك حب الوالدين، حب الأولاد، حب الوطن الذي لا يشترط أن يكون متقدما ومتحضرا لنحبه…
فالحب مشاعر نبيلة خالصة طاهرة، هذا الرباط المقدس الذي ما فتئت تتغنى به أشعار الشعراء وألحان الموسيقيين وأفلام السينمائيين، وتصدح به حناجر العسكريين بالأناشيد الوطنية الحماسية.. ولم يفارق ديننا الحنيف المحبين، ولم يطارد بواعث العشق والهوى في النفوس، ولم يجنح لتجفيف منابع العاطفة، بل على العكس، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لم ير للمتحابين مثل النكاح” وقال (ص ) في حديث آخر: ” اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك”.
لأجل ما سبق ذكره، فأنا لم، ولا، ولن أحتفل بهذا اليوم، أو بالأحرى هذا العيد “الفلانتان”، بصفتي بدوي، قادم من ريف ناء من أرياف الشاوية، فتنشئتي الاجتماعية وثقافتي الريفية تأسرني رغم محاولاتي تصنع وتمثيل التمدن والعصرنة، أخجل حتى أن أبوح لمن أحب بكلمة “أحبك” “كنبغيك”، رغم أنني أذوب عشقا وهياما، محبا ومحبوبا، ومن الجميل في الصدفة أن اسمي العائلي “المحبوب”، وليس الحب أن نقتصر على الجانب الكرنفالي الاحتفالي بهذه المناسبة أو أن أحصره وأتذكره بل أخلده في يوم واحد، ولا بلون أحمر أو بنفسجي ولا حتى القرمزي، الحب هو خليط متجانس يجمع: التواضع، التسامح، التفاهم، نكران الذات، الإيثار، الحنان، الوفاء، المودة، التضحية والإخلاص للمحبوب.. وأعتبر أيامي كلها حب، فليس بالضرورة أن يأتي ما يسمونه “عيد الحب ” كي أعيش هذا الشعور، فأنا أعيش الحب دائما مع زوجتي بحسن المعاشرة والمودة والسكينة، ومع أبنائي بالعطف والحنان، ومع أصدقائي بالوفاء والإخلاص..فالحب بالنسبة إلي يكمن في الشحنة الايجابية التي يحملها الإنسان بداخله، وفي العطاء الذي لا يبخل به عن الآخر….
أجل أنا مغرم: أحب ديني، أحب وطني، أحب ملكي، أحب زوجتي، أحب أبنائي، أحب العيطة، وأحبكم سيداتي، آنساتي وسادتي…
وبصفتي شيخ ممارس لفن العيطة، كومنجي لمجموعة الشيخات.. أهدي لكم مقطع من العيطة الزعرية “حساب زعري” لكل العشاق والمحبين، والتي غالبا ما تصدح بها حناجر الشيخات في الأفراح ومنهن من لم تعش ذلك الإحساس النبيل:
خليوني نشـــرب…………….من دموع الحـــــــــــب
كيف ندير يا حبــــي………ايلا عفى ربــــــــــــــــــــي
ايلا شفتي دموع تطيح…………عرف الحب صــحيــــــــــح
حبك جرحنـــــــي…………..عفاك صارحنــــــــــــي
تبع طريق الحــــــــب……………حتى تساس وطــــــــــب
اللي ماعندوش الحب………….علاش كيشــــــــــــــــــــرب؟
حبيبي يا المحبـــــــــــوب………….حبنا مكتــــــــــــــــــوب
ايلا كَال ليك كنبغيك…………..بغا يخرج عليـــــــــــك
نحلف ليكم بالرب………….مبقاش الحب
وأخيرا لنترحم على أرواح ضحايا الحب الصادق الذين وصلتنا شظايا عشقهم من كل العصور ومن مختلف أقطار المعمور،.. على قيس وليلى، روميو وجلييت، عنترة وعبلة، كعب وسعاد، ايسلي وتيسليت..وكل من قدموا قلوبهم قربانا على محراب العشق المتأجج القاتل.. وبما أن الحب مازال موجودا على سطح المعمور، فإن الدنيا ستظل بخير..وعليه لن أقول لكم عيد حب سعيد، لكن سأقول لكم: أنتم الحب لكل عيد..
وتحية حب من المحبوب إلى الجمهور الحبيب.