بروكسيل : مصطفى منيغ
بالقرب مِن بيتي وجدتُ السيدة (س) والدة “زرقاء العينين” بداخل سيارتها الفاخرة تنتظرني، فتحتُ الباب فتسلّلت بعطرها الفوحان بالمعهود تتبعني، كسهم لا يخطئ الرغبة الملعونة يصيبني ، جريحا ناشد الشفاء بخطايا يريد بها الشيطان اختراق إيماني ، لكن الإنقاذ يأتي بالإبقاء على نصيبي الشرعي من الدنيا دون الانقضاض على متعة لا تخصّني ، إذ الشراكة في مثل السِّلع حرام الحرام عن أي حلالٍ طاهر بعدها يبعدني ، وما الصبر في مثل الحالات إن كان مضاعف الأجر فذاك ما أسعدني ، والضّعف إن هيمن على الخاطر استبدلتُهُ بقوّة مناعة ارادة لا تتركني ، مهما الإغراء رقص من حولي على نغمة مصدره للخطأ يدفعني . لن أكون كما تتصوَّر مَن لا تَفهمني، سوى الذي تمسَّكتُ به دوماً بترك ما إن اختلطتُ به طول العمر يشقيني، مكتفياً بالمُقدَّرة شرعاً إن التحمتُ بها مدى الحياة تسعدني. طلبتُ منها البِعاد عنّي فهي امرأة متزوجة بآخر يقدرني ، ضحكت كأنها تسمع ما يدغدغها مني ، وهي لشيءٍ لم أكن أتخيَّله تنبّهني ، أنها كانت كذلك من خمس ساعات وبضع ثواني ، حينما طلّقها تاجر الأغنام في نفس اللحظة وهو يعقد قرانه بالجزائرية التي طالما حاربتُ من أجل رعايتها لتبقى حسناء الحسان ، حياء وثقافة ورزانة النساء المعلَّقة عليهن أطيب الأماني .
أجل (استطردت السيدة (س) قائلة) قبلت الزواج به عن غير حب وإنما عن مصلحة تقيها من غدر الزمان ، وتمهِّد بما اختارته بعلاً لها رغم نقائصه للاحتماء بفرصة تُنقِلُها لامتلاك المال وأفخر المباني ، أو هكذا خطّطت بسرعة لتخيِّب فيها ظني ، دون قناعة بالقفز فوق ظهري وإنما بامتلاك مكاني ، وأنت لا زلتَ أستاذي العزيز رفيقا للفضيلة مناضلا لمناصرة حقوق الإنسان ، وسط غابة لا يشبهها أي مكان ، مظهرها بالسّياط هادئ وجوهرها يُطبَخ في قعر القعر ما يفرّ من مكره كل شيطان . مسالم أنت ولن تتغيَّر عِلماً أن المثالية انقرضت من زمان ، وستبقى ما حييتَ لا جديد عندك إلا الكتابة فيما تريد وقتما تريد عمَّن تريد في انتظار أن ينصف أفكاركَ الميزان ، دون الانتباه أن العمر يسرقك من بين أحبائك وعلى رأسهم هذه المرأة المستعدَّة بالتّضحية مهما كان صنفها لتفرِّق بين حبها الليّن وحب غيرها الخشن .
سألتُها حابساً دموعاً تناشدُ عقلي حرية الانهمار لتغتسل بها أحزاني ، عن مصائب أكتشف طفوحها من مجاري صدور بعض الناس الدنيا مهما مكَّنتهم من مغانم غير مقدرة بأثمان ، يتلاعبون بمصير مساحة أرادها “زيري بن عطيَّة” أن تكونَ مقام أطهار وأخيار مجتمع ينبذ مَن بزغ لنشر سراً أو علانية مثل الفتن ، الراغبين أصحابها المتاجرة قصد الربح السهل السريع في بعض أجسادٍ بشرية و تاريخ وحاضر ومستقبل “وجدة” بغير ضمير ولا وجل من حساب طفيف أو عسير ولا ما تترقّبهم عبر الأيام والشهور والأعوام القادمة من أفظع المحن ، سألتها عن ابنتها ، قبل أن تجيب أخرجت من حقيبتها منديلا أبيض مطرّز اسمي وسطه بلون أرجواني ، واقتربت يدها المرمرية البياض لتجفّف ما تلألأت في مقلتاي من عَبرات في حركة تلقائية تنثر الحنان الصادق على محيا رجل لم يشعر بمثله منذ غادر “أطريخت” الهولندية ، وهي تخاطبني :
– “زرقاء العينين” ليست ابنتي أنا امرأة عاقر وسعيدة بذلك ما دمت ارتبطت بإنسان لا يقدر نعمة الأطفال ، أمها هولندية أنت تعرفها كصديقة جد مقرّبة لفتاة كنت على علاقة حميمية معها واسمها “لدوين” التي ساعدتكَ في تأسيس “جمعية مساعدة العمال المغاربة المهاجرين لهولندا” ومقرها 10 شارع “أََوْدْخْرَارَخْْت” بمدينة أطريخت ، أيام عملكَ مكلَّفاً بالاستقبالات في فندق “سْميسْتْ” لإتقانك عدة لغات ، وتاجر الأغنام منظفا لحمامات نفس المؤسسة السياحية ، هل تذكرته الآن ؟؟؟.
– تذكرته حالما زارني في المقهى ثانية مرتديا الزي الأوربي عكس المرة الأولي التي رافقته أثناءها لمقر إدارة الأمن، وعدم الحديث في الموضوع جاء قراراً مني لإخفاء ما أعرف عنه ، حتى أجعله يظن أنني نسيته بالكامل احتراما لك ولأبنته ، لكن من حكى لك مثل القصة ؟؟؟.
– هو نفسه وقد خاف أن اسمعها بتفاصيل أوسع منك ، ففضل أن يلخصها كما شاء ناقصة كأفعاله ومنها التهريب في الممنوعات .
– كيف سلَّمتكَ “زرقاء العينين” لمثل المصير مع والدها وهو لا يرفض لها طلبا ؟؟؟.
– أقنعها أنني على علاقة غير شريفة معك ، ولما كلَّمتني في الموضوع باحتقار وقلّة أدب ، توجَّهتُ لوالدها استفسره وهو المتيقّْن ببطلان تلك الإشاعة الرخيصة جملة وتفصيلا ، اعترف لي أنه قام بما قام به من تصرف دنيء لإبعاد ابنته عنكَ وقد تحقَّق له ما يريد ، لم تحتمل البريئة وفضَّلت الالتحاق بوالدتها وهذه المرة بغير عودة ، وهكذا اسقط كل العصافير بحجرة واحدة . المهم لقد وصل لمعرفة أنك “ّعمي صالح الجزائري” ، لذا أصبح مقامك في هذا البيت محفوفاً بالمخاطر ، وإن كنتُ قد حضرتُ إلى هنا فلأخذك معي مهما حاولت التهرّب ، خاصة وقد أصبحتَ الآن بالنسبة لي ما أملك في هذه الدنيا بعد الوالدة التي تركها الوالد الراحل وشقيقي الأصغر تحت رعايتي في العاصمة العلمية فاس.
طُرِقَ الباب فخرجتُ أتبيَّن الأمر فوجدتُ رجلا من هؤلاء الذين لا يمكن الاستفسار أو التدقيق في هويتهم لخبرتي بما يميّزهم عن غيرهم من موظفي أجهزة الدولة المغربية الأمنية ، طلب مني مرافقته حيث السيد (السو..) ينتظرني ، لحقت بسيارته بعدما أخبرت السيدة (س) بغيابي لساعة قادمة أو ساعات ، ولها خلال نفس المدة انتظاري او الانصراف حيث تشاء ، بعد دقائق لا تتعدَّى الخامسة عسرة وقفنا أمام بيتٍ من الخارج يبدو عادياً ولما دخلناه وجدت العكس مكاتب مغلقة أبوابها لا يُسمع في مساحتها حس منتهي بهوها بدرج يِؤدي لطابق أرضى لا أدري إن كان تحته أخر أو هي طوابق ، المهم قابلي من أمَرَ بإحضاري في جو مريح للأعصاب حقيقة ، ليبادرني بالتعليمات التالية :
– ستسافر غذا مع طلوع الفجر إلى مدينة طنجة وهناك ستشرع بتسجيل برنامجك “عمي صالح الجزائري” داخل إذاعتها الجهوية ، مديرها “خالد مشبال” مُحاط بالموضوع سيوفر لك الاشتغال بسرية في حدود المقبول وأيضا لنقل الفحوى المُسجل لاذاعة وجدة الجهوية ليذاع منها كالعادة وفي وقت بثه المعتاد ، ستمكث في طنجة مدة عشرة أيام لتنتقل بعدها إلى العاصمة الرباط ، للقيام بنفس العمل الذي كلف مدير الإذاعة “بنددُّوشّ أحد مساعديه المسمى “بنحليمة” ، للأشراف على توفر الأستوديو وما يحتاجه النقل لإذاعة وجدة وفق نفس نمط “طنجة” التي خلال إقامتك فيها ، هناك شقّة موضوعة رهن إشارتك ، هذا مفتاحها كائنة في (…) ، مزوَّد مطبخها بثلاجة يكفي مخزونها أو يزيد ، خلال الفترة المُعيّنة ، استهلاك فردين من الأكل والشرب . سيرافقك من بعيد أو قريب حسب الحاجة والظروف السيد الذي أحضرك إلى هنا ، الذي سيمدَّك برقم هاتف والمطلوب عدم استعماله إلا في أسوأ حالة قد تتعرّض لها ، أحفظ الرقم ولا تكتبه على الإطلاق ، أخيراً من الممكن اصطحابكَ السيدة (س) التي أصبحتََ ميالاً لها بعد وضعيتها الجديدة ، تغطي تنقلاتك بسيارتها ، بالإضافة لعملية الطبخ ولما تجعل نفسيتك مؤهلة لمباشرة مواضيع البرنامج الذي أصبح صداعا لا يفارق رأس النظام الجزائري الباحث من مدة عن أنجع السبل وأوفرها وصولا لتصفيتك الجسدية ، وما إبعادكَ عن وجدة إلا فرصة لتنظيف بعض الجيوب الممتلئة بمن كُلّف من طرف أجهزة المخابرات الجزائرية بإحضارك لعاصمتها حياً إن حالفها الغدر من ذلك . هذا غلاف بداخله مبلغ مالي مخصص رسميا لك إن احتجت لابتياع أي شيء أو مواجهة أي مصاريف استثنائية ، أعلم أن رفيقتك ثرية لن تتأخَّر عن أي شيء مقابل رضاك عن حبّها القوي لك ، لكنني أعلم بعزة نفسك والشيمة التي تجعلك تشعر بالنقص إن تكلّفت أمرأة بأداء ما تعتبره أنت من واجبات الرجل القيام به . أتمنى لك أخي مصطفى منيغ كل خير وسنلتقي حالما تعود بعون الله وحفظه ورعايته .
… وجدتها في المطبخ لتقابل عودتي بوجبة محترمة مما تزخر به التقاليد الفاسية العريقة في الميدان ، وكم كانت فرحتها عارمة حينما أخبرتها بالسفر معي لمدينة طنجة ممَّا جعلها ترتمي على رأسي تقبله لمرات عربون موافقتها على كل قرار أتخذه في حقها مستقبلا بعد انتهاء قترة العدة . استأذنتني للمبيت معاً (بعد إنهاء تسجيل البرنامج بالإذاعة) في بيتها الخاص الذي اشترته لمواجهة ما حدث لها مع بائع الأغنام قبل هذا الوقت بمدة غير قصيرة ، ولا يعرف بوجوده أحد سواها ، سايرتُ اقتراحها لأنها في حاجة لتحضير حقيبة ألبستها وكل أغراضها الشخصية . (يتبع)