سعيد غزالة
1
(عابر يحمل باقة ورد أحمر)
عابر:
لقد اكتملت باقة ورودك وهي تحتضن زهرات الأقحوان تيجان ملوكك يا حنَّا.. أنت الطفلة التي لم تكبر ولن تكبر.. وسأراك كما كل حين على التلة تحفرين منابت للبنات نخلات الوالد.. أراك حارسة منبت كل أنواع الزهرات والبتلات.. وأشجار الحور والصبار.. ها هي باقة العهد بين يدي أحميها من التلف.. أحميها من أحكام جاهزة. وسأعود حتى ما أسيج حدودي في حدودك.. ونبني مملكتنا السمراء.. مملكتنا البابلية سنعود لكتابة تاريخنا من جديد بحرف واحد ولغة واحدة.. نعم، ها أنذا يا حنَّا، بعد كل هذا الإنتظار أمر، أعبر.. أجيئك منهزما إلا من حبي للذكريات.. إننا منهزمون كل صباح والشمس تغيب على احتلال.. النصر ليس شارة ولا شعارا.. النصر حب ينتحل الكرامة ويتمنطق لغة الأرض.. لن أصف نفسي بالبطل حتى أكون قد أكملت قراءة دستور الوطن والوطن مسيرة نضال.. حنَّا، أتعلمين أنني ملك؟ نعم، أنا ملك في زمن المملوكين.. ملك تجرد من كل زينته ليتدثر السماء واللون ويقتات على كسر خبز تنور قديم يحكي تباريح هذه الأرض العصية على الفهم.. أنا الملك الذي توارى عزة عن رعاياه الفارغين إلا من لهاث لدنيا بلا ملامح.. ملك يعتز بمحتده يعشق العدل ويحمله بين كفيه، هو تلك الجمرة اللاهبة بالشوق إلى حكايات ألف ليلة وليلة وسمر الكلمة الناضحة بالكرامة.. ها أنذا أقف أمام محرابي الجدل باللون والرسم.. أقف لأباشر كما كل العمر إتمام الرسم إكمال اللوحة وتوقيع عشقي الذي كان لي مَعبرا وسمرا.. وكان لي التسامي والتحامي.. حنَّا، تباطأ الزمن هذه المرة في حدود الشوق والتوق إلى الحرية.. وإنها، تلك الحرية السامية، تأبى حتى أن تنظر في عيوننا.. وإنها لترسل رسالتها كاملة تحكي فيها عن القيد الذي تحربأ في زي جار كريم! أي كرم هذا الذي أرهق أحلام الطفولة ووصايا موسى وحنين الخشوع في محارب العبادة واستنزال العبث؟ أي كرم هذا الذي استباح العهر ملاذا؟ حنَّا، اغفري لي جنوحي للكلام المتبرج.. سننزع عنك رداءك الصوفي وأعدل من مقياس المكيف وحتى ما يتبدى لي عريك القدسي، ولأزاول استضهار دروسي في العشق وحتى ما أتصالح مع السمر والسهر.. وسأكتب كما كل مرة وأنا أدقق في التفاصيل عن الخلود في المسام والسمو في شعيرات الإشتياق.. أستميحك عذرا وأنا أرسمك يا حنَّا أن أحدثك عن أمي وعن بنات الحي.. أن أحدثك عن طفلتي تلك التي ما تزال تنتظر ظليلتها.. اعلمي أنني لن أبارح رغبتي في زرع نخلتي ولينة صغيرة منها عند قبر أبي.. سأسيج حديقتي بزهر الأقحوان وأرسم ألف صورة لألف خطوة ولألف ابتسامة وحب كان عنوانه عيون طفلتي.. عيناك.
سأكتب كتابي هذا، وأضمه إلى جواري أشعل شموعي وأنثر البخور وأشعود بالشعر والمواويل الضاجة بالحب بالتراب ورائحة التين والزيتون.. وأتوشح بوشاح السنين على طور الوصايا والحكايا والأنين.. هناك كانت كلمة الرب لموسى، يا عيسى سمموا عشاءك، ويا أحمد كنت الجار وكنت المختار.. يا أهل الهناك أنا هنا.. وحنَّا هنا وأنا عندما كنت هناك كانت حنَّا هنا وهناك.. حنَّا الهنا كما هي الهناك.. ولأنها رمزي وحزري فإنها في كل مكان وفي اللامكان.. هي ذرات الرياح تتشاور لبدأ المشوار وإعلان التغيير.. سنكتب التاريخ للمرة الألف ونعيد للأسطورة بريقها وللحلم رونقه.
حنَّا، أحن للبنت الصغيرة هناك على جانب البركة المباركة.. وإني لأجد ريح ذاك الطفل الصغير وهي تقطع المسافات وتسابق الضباء الصغيرة حتى ما تصل إلى مد البصر في الحقول مرتع الطفولة وحلم العالم الصغير.
حنَّا، أحن الوقت لنطرز الخطاب معا ونعلن للعالم أن الأوان قد آن.. وأن اللهاث قد استنفذ الإشتهاء.. وأن رائحة التراب لن تغير عطرها وتين البساتين سيبقى تينا ولن يتحول كستناء أو بزلاء.. حقول العنب وودواليها ستطعمنا عنبا وزبيبا وخمرا ولكل ما نوى. الرب في غنى عن مطعمنا ومشربنا ونومنا.. الرب رب قلوب وعنوان بابه مفتاح تلك القلوب.. وقلبي قال كلمته وانحنى قلبك خجلا لدموع قلبي.. فلا تخجلي وانظري في عيني، إنني عابر وعابر لا يغامر.. عابر مجاور، لكن.. لا يقتل أحلام الطفولة.