النّخاسَةُ الانتِخابِيّة!

جسر التواصل27 أبريل 2021آخر تحديث :
النّخاسَةُ الانتِخابِيّة!

أحمد إفزارن

ما زِلنَا في زمَنِ التّراقُصاتِ بين أحزَابٍ مُتَخلّفة.. وهذا سُوقٌ “ليبرالي”، بطُولِ البلادِ وعَرضِها، في مَوسمِ انتخاباتٍ تُديرُها “شبكاتٌ” مُختَصّةٌ في تسويقِ أصواتِ البَشر..

لقد عادَ مَوسِمُ النّخاسةِ الانتِخابيّة..
وفي السّوقِ البشَري، مِهرجانٌ خاصّ برُحّلِ الأحزاب.. مُناسبةٌ لتجديدِ مَسؤولينَ سابِقِينَ فاشِلين، بِمُرشّحِين أهبَلَ وأفسَد، في برلمانٍ شكليّ، وجَماعاتٍ مَحلّيةٍ هي الأخرَى صُوريّة..
وهَكذا يُعِيدُ التّاريخُ نفسَه.. الماضي هو الحاضِر.. والقادِمُ كيف يكُون؟ وأيُّ تغيِيرٍ وأيُّ جَديد؟
نحنُ في وقتِ المُقايَضاتِ “السيّاسيّة”..
تراقُصاتٌ بشريةٌ بين أحزابنا.. انتقالاتٌ من أحزابٍ لأخرى..
إنه تِرحالٌ من حزبٍ لآخَر..
وهذا نَعرفهُ جميعًا، منذ عقودٍ من الزمن..
الصغيرُ فينا والكبير، على درايةٍ بتِرحالاتٍ انتخابيةٍ بين الأحزاب..
كل الأحزابِ مُتّفِقةٌ ضِمنيّا على استِقطاب الأثريّاء، ومِنهُم أباطِرةُ المُخدّرات..
ونجِدُ في “الأسطُوانة” الانتخابية شخصًا يترشحُ للانتخاباتِ تحت غِطاءِ حِزب.. وفي انتخاباتٍ قادمةٍ ينتقلُ إلى حزبٍ آخر..
تِرحالٌ لمُرشحِين من أحزاب إلى أحزاب، لتَكُونَ كلُّ الأحزابِ حزبًا واحدًا.. تُفكرُ بنفس الطريقة.. ولها أحلامٌ مُتشابِهة.. وتُوزّعُ سلبياتِها على كلّ البلد..
أحزابٌ لا حُلولَ لها.. الحلولُ إذا كاتت، لا تأتي إلاّ مِن غيرِها.. وإذا أتَت، فالأحزابُ لا تُطبّقُها..
إنها لا تُتقنُ إلاّ اللغةَ الخَشَبيّة، ومَنطقَ المَصلَحة..
وعلى العُموم، تِرحالٌ في ظاهِرهِ انتقالٌ طبيعي، وفي باطنِه انتقالٌ لعلاقاتٍ ومَصالحَ ومعلُوماتٍ وأسرَار.. وما خَفِيَّ أعظَم..
وانتقالٌ أيضًا، حتى للغَباوَة!
ومعها انتقالٌ للغِشّ والفساد، لتكُونَ الأحزابُ كلّها صورةً فاسدةً طبقَ الأصلِ من بَعضِها..
كلُّها تعرفُ وتُتقنُ كيف يكُونُ الغِشُّ والغَشاشُون على نمَطٍ واحِد..
والحزبُ الذي يَستَقبلُ قَوافلَ الرحّالة، له مَصلحةٌ على العُمُومِ مالية.. والمُرشّحُ يشتري من زعيمِ الحزبِ تزكيةَ التّرشّحِ تحت غِطائه..
والتزكيةُ تتِمُّ بدُون استشارةِ القاعِدة التّنظِيميّة داخِلَ الحِزب..
ولا استِثناءَ في هذا التّرحال بين برلمانيّي أباطرةِ المُخدّرات، والتهريب والاحتكار، وبقيةِ أنواعِ الفساد..
كلُّ ثريّ يَشتري من أغلبِ أحزابِنا تزكيةَ التّرشّح، وحتى أيَّ مَقعدٍ يُريدُ إلى جانبِ زعيمِ الحزب..
وهذه التّرحالاتُ لم تعُد مُجرّدَ ظاهرة..
إنها طريقةٌ معمُولٌ بها منذ عقود، في أسواقِ النّخاسةِ الانتِخابية بين البائعِ والمُشترِي، أي بين من يطمحُ إلى “حصانةِ البرلمان” ومن يملكُ صلاحيةَ توزيعِ التزكيات.. والتزكيةُ تُشكلُ شهادة ضِمنيةً من رئيس الحزب، بأنّ المُرشحَ الفُلاني مُؤهّلُ كفاءةً وأخلاقًا لتمثيلِ المُجتمعِ المغربي في “مَجلسِ النّواب”..
والرشوةُ الانتخابية معمُولٌ بها..
حاضِرةٌ قبلَ الوصولِ إلى الغُرفتيْن النّيابِيتَيْن، الأولَى والثانية..
في الأولى، رَشوةٌ من المُرشح إلى زعامةِ الحِزب، ورشوةٌ لشراء أصواتِ الفقراءِ والجاهلين وذوِي الضميرِ الميّت..
والغُرفةُ الثانية كلّها رشاوَى.. هي مَبنيّةٌ على التّدويرة..
وليس فيها إلا كبارُ الأثرياء..
الكبارُ يترَشّحون.. والصغارُ هم يختارُون الكبار للغرفة الثانية، لا للدفاعِ عن حقوق فقراءِ البلد، بل فقط عن ذوي المالِ والأعمال..
الغرفةُ الثانية هي برلمان خاصٌّ بالأغنياء..
يُسمّونَها “مُجلس الشّيوخ”..
والمَقعدُ الواحدُ يُساوٍي رشوةً قد لا تقلّ عن مليار..
ودَورُه ليسَ مُوجّها إلى الشعب، بل فقط إلى التّلفزيون، وذَوِي المَصالِح، في إطار استغلال الإعلام لفائدةٍ سياسيةٍ ومَصالحَ مُتبادَلة..
إنه تلميعٌ إعلاميّ للغُرفة الثانية..
وفي الدول الديمقراطية، دَورُ الغُرفةِ الثانية مُختلف..
عندنا تختلطُ الغٌرفتان من حيث انتقاءُ القضايا لكي تَصُبّ في خِدمةِ وُجهاء البلد، و”مُحاربةِ” حقوقِ الفُقراء، بتَنسيقٍ مع الحُكومة..
وهُنا تتَداخلُ السّلَط: الغنيُّ ولو كان احتكاريّا، هو يفرضُ قوانينَ الإثراء، وقوانينَ إلهاءِ الفُقراء..
ما هو الحلّ؟
الحلُّ هو إلغاءُ الغُرفةِ الثانية..
لا معنَى لوجُودِها.. إنها امتِدادٌ لمَصالحِ الشّركاتِ الكُبرى، وتُشَكلُ سلاحا ضدّ حقوقِ فقراءِ البلد.. ولا نستطِيعُ إحداثَ التوازُنِ الاجتِماعي ببَرلمانٍ ذي وجهَيْن..
وعندما يكونُ لنا برلمانيون ناضجون، أو أكثرَ نُضجًا، نستطيعُ القيامَ بنفسِ الدورِ الديمُقراطي الذي يَلعبهُ “مَجلس الشّيوخ” في الديمقراطياتِ الكُبرى..
أما “مجلسُنا”، أي الغرفة البرلمانية الثانية، بصيغتِها الحالية، فدَورُها إغناءُ الأغنياء، وتفقيرُ الفُقراء..
والأفضَلُ إلغاؤُها..
إنها امتِدادٌ شَكلِي للغُرَف التّجارية والصناعية والخدَماتية..
ومَن لا ثروةَ له، لا مكانَ له في “الغُرفة الثانية”..
وإذا كانت استِثناءاتٌ، فقد تكُونُ إلى حدّ ما في “الغُرفةِ الأولى”.. هُنا تجدُ بعضَ المُثقّفين إلى جانبِ أغلبيةٍ قد اشتَرت مَقاعدِها “النّيابيّة”..
التّرحالُ الانتِخابي ليس هدَفًا في ذاتِه..
يُصبِحُ بعدَ الانتِخابات، تِرحَالاً سياسيّا.. وفي أحزابِنا نماذِجُ لمَجموعاتٍ من “رُحّلِ البرلمان” الذين لم تَعُد لهُم أيةُ علاقةٍ بالأحزاب التي ترشّحوا سابقًا باسمِها..
بمُجرّدِ وصُولهم إلى مسؤولية وزارة من الوزارات، تنكّرُوا لأحزابهم السابقة..
وهذا يكشفُ عن غيابِ الوَفاءِ للحِزب، وانعِدامِ الثقةِ في الحزب، وانتشارِ المحسوبية والانتهازية..
ومن هؤلاء الرُّحَّل، تَسرّبت اللاّثقةُ في النّخبةِ السّياسية، ومنها إلى كلّ المُجتَمعِ المغربي..
ووَصَلنا اليوم إلى “اللاّثقة المُطلقة”.. لا ثقةَ في أيّ حزب..
أغلبُ الأحزاب مَسقيّةٌ بمِغرَفةٍ واحدة..
والناسُ ترى هذه الأيام أنّ فُلانًا يَطرقُ أبوابَهم، ويَطلبُ منهُم الاعتِرافَ بجَمِيلِ “قُفّةِ رَمضان”، والتّصويتَ لمُرشّحِ الحزبِ في الانتَخابات القادِمة..
هذه أحزابٌ لا يُعوّلُ عليها..
إنها بدُونِ برنامجٍ حقيقي، وبدُونِ رؤيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتِماعية..
الحزبُ عندنا بقرةٌ حَلوب.. رهنَ إشارةِ كلّ من يقتَنِصُون الفُرَص..
و”السُّوقُ” الانتخابي فيها كثيرٌ من الأحزاب.. والبيع والشراءُ مفتوحٌ لكُلّ من يَدفَع..
والتّرحالُ الانتخابي يَتحوّل إلى ترحالٍ سياسي، وهذا يخصُّ المُرشحِين.. ويُؤدّي إلى العُزوفِ الانتخابي، وهذا يخُصّ النّاخبين..
ومن انعكاساتِ التّرحال، سلبيةٌ تُصيبُ كل البلد: الدولة، المُجتمع، الديمقراطية ومُختلفَ القطاعات..
وهذا غشاشٌ ضدّ غشاش.. ومؤامراتُ التّراقُص بين أحزاب وأخرى..
والنتيجة: لا يُقامُ استقرارٌ بنّاء للإنتاجِ الحزبي..
والتّرحالُ وباءٌ يكتسحُ البلد..
ومَعهُ يَنتَشِرُ فيروسُ الفساد.. واقِعٌ ينتقلُ من عقليةٍ إلى أخرى، ومن زمان إلى آخر..
وهذا يعني اهتزازاتٍ داخلية.. في كل البِنيَةِ الحزبية، والهيكليةِ، و”النّضالية”، والانتخابية.. ويَشملُ كلَّ النُخَب السياسية والاقتصادية..
وهذه إساءةً قُصوَى للأحزابِ التي هي أساسٌ للديمقراطية..
والتّرحالُ يعني أيضا أن انتقاءَ المُرشحين لا يقومُ على ديمقراطيةٍ داخليّة، وأنّ الاختيارات تُتّخَذُ بدُون استشارةٍ للقواعد..
وما بُني على ارتجاليةٍ وعلى تبادُلٍ للمَصالح، لا يُفيدُ العملَ الحِزبي، بقدرِ ما يُفيدُ قادةَ الحِزب الذين لهم فُرصةٌ أخرى، في سوقِ النّخاسَة الانتخابية، لشراءِ مُرشحِين آخرين..
بيعٌ وشراءٌ للمُرشَّحين من قبلِ القيّادةِ الحزبية: التّزكياتُ تُباعُ كما كانت تُباعُ في جاهليّةِ الأحزاب، منذ عشرات السّنين..
وما زالَ سُلوكًا له انعكاسٌ سلبِيّ على مُستَقبلِ البِناءِ الدّيمُقراطي..
سُلوكٌ يَجعلَ حياةَ أحزابِنا فَوضَاويّة.. مَيّالةً إلى قَرصنَةِ مَصالحِ البلَد..
ifzahmed66@gmail.com

الاخبار العاجلة