الرباط : مصطفى منيغ
الاستقرار على هدف مُعَيَّن ، لغاية مضبوطة بتخطيط علمي منطقي مقبول ، يقضي عدم الاكتراث بما يؤخر المسير إلى تحقيقه ، في المكان المختار مهما كان ، والزمان المُحدَّد على موقع الأخير (المعروف آنذاك) بالثانية . الرسالة التي قرأتها مُدَبَّرة بتقنيةٍ بدائية مُرتَّبة أسلوباً وموضوعاً ، على معلوماتٍ الغرض منها إزاحتي عن الخط الذي رسمْتُه بعناية ، وتبديله بآخر يؤدِّي لأرضية المخابرات الجزائرية ، بواسطة مصيدة حبكتها عقلية غير مطَّلعة بالحجم الكافي على آليات تخصّ مثل الحالات ، ممَّا يؤكد أن موقفي داخل الجزائر سليم من كل ما قرَّرتُه وتحرَّكتُ في إطاره حتى تلك الآونة ، فكان لزاماً الرد بتجاهل الرسالة والفتاة التي مدتني بها تجاهلاً تاماً ، ممَّا يمحي أي أثر يدل أنني انسقتُ وراء الحيلة الصبيانية التي أراد بها ذاك الجهاز جري لملعبه بكيفية لا ترقى أبداً لمستواه الأمني داخل دولة تعتقد أنها الأقوى في الميدان على امتداد المغرب العربي الكبير .
… أنهيتُ في ثلاثة أيام كتابة النص المسرحي في فصلين يتخلَّلهما عشرون مشهدا ، لِعَرْضٍ يستغرق الساعتين ، إحداها لاسترجاع الماضي وصولا للحاضر قبل انطلاق المسيرة الخضراء ، و الساعة الثانية مُستغرِقَة في مظاهر الإخفاق المغربي ، وما ترتَّب عليه من انتصار للرؤية البُومدِينية ، الذاهبة بحفنة من مرتزقة تمَّ استغلال ما أسّسوه في مدينة كُولْمِيمْ المغربية ، برئاسة مصطفى الوالي ، للإعلان عن اقامة دولة تشارك الجزائر في تغيير جغرافية أراض يخسرها المغرب ، وتربح بها الجزائر أداة تَنَفُّسٍ تزيد من حجم رئتيها ، وجسدها الرسمي ممدَّد على شاطئ الضفة الشرقية مِن المحيط الأطلسي . لأمُرّ إلى مرحلة البحث عن ممثلَيِنِ مغربيين اصطحبهما معي خلال عودتي للجزائر ، عثرتُ على الأول بيسر نظراً لعلاقة الصداقة الرابطة بيننا من سنين على المحبة الأخوية المُتبادلة ، والمشاركة الفعلية في مجال عشق الفنون المسرحية ، والبحث العلمي في عالمه الفضفاض القابل لما يضيف لمتطلباته الجاعل منه يستحق لقب أب الفنون جميعها ، تعلَّق الآمر بالتأليف وفق رؤى إبداعية غير مسبوقة ، أو إخراج ينأى عن المألوف من حيث الحركة وانبعاث الحوار من صدور المشخِّصين أصواتاً منسجمة مع الجو ، المساهمة في إقامته ديكورات تُلهم المتتبّع بفهم وقائع تستعرض ما وقع في حيز رغم ضيقه يتحوَّل لسعة تُنبِئ بالوارد وقوعه خيراً كان أو شراً ، حسب الفكرة / العمود الفقري ، القائمة عليها المسرحية عامة . أجل عثرت على الأول ولم يكن سوى مَن لقَّبتُه ذات يوم بعميد المسرح “الوجدي” ،رئيس فرقة المسرح البلدي ، ومخرج ما قدمت منذ أعوام ، وجدته في مقره فوق سطح السوق المغطى ، منهمك في التفكير كعادته كلما ضاقت به سبل الحياة وعكَّرت مجازه تلك الإمكانات التي غيَّبها النحس لِما حسِبه دهراً لزم حاله ، وأقسم أن لا يرحل أبدا ، ما أن رآني حتى تغيَّرت ملامح محياه وكأنّ الدم عاود الجريان في شرايينه من جديد ، بفرط السعادة التي أرغمته على ترك ما كان عليه من ضيق وعبوس ، ذهبنا معا إلى المقهى المقابلة كانت للمحكمة الابتدائية القريبة من الإذاعة الجهوية ، نفس المقهى التي أطلقتُ عليها بحضوره فبل الغياب لبضع سنين اسم “مقهى البؤساء” على حال معظم روادها من تلك الطبقة المحرومة من كل شيء إلاّ التوجُّه لعين المكان للاسترخاء المجاني ، انتظاراً لفرجٍ طال ترفّعه عن الحضور أكثر ما كانوا يأملون عكس ذلك ، أو يمنُّون أنفسهم بأمل هم متيقنون أنه غاضب عليهم لأسباب يعرفونها ويتجاوزون (عن قصد) حتى التفكير في التخلص منها . هناك فاتحت الأخ الصديق (ب / ع) بحديث أقحَمَهُ لإصغاءٍ شديد الاهتمام:
– سأمنحك َفرصة العمر ، بل سأمهِّد لك طريقا ما كنت َ تحلم للمشي فوقها لحظة في حياتك ، طريقا توصلكَ لباب التاريخ المفتوح لك سيكون ، لتلِجه مُحققِّاً ما تمنيتَ أن تحقِّق ولو جزءا بسيطاً منه ، طريقاً من الصعب أن يُعبَّد مرة أخرى خصيصا على قياس خطواتكَ التي لن تمشيها بل تطير معها ، في قضاء واقع ستعيشه بما يوفّر لك من نجاح وشهرة ونصيب من المال .
وقف بغثة وقال لي بغير شعور حسبتُ الفاعل :
– هيا بنا ماذا ننتظر ، لنأخذ ذاك الطريف منذ اللحظة .
أخبرته أن الألف ميل الواجب قطعها قبل الوصول إليه يبتدئ من الجزائر العاصمة وليس من مقهى البؤساء هذه.
– الجزائر (ناطقا بها في امتعاض ليستطرد) وفي هذا الوقت بالذات ؟؟؟، طبعا أنت على علم بالتوتر الحاصل بيننا وتلك الدولة بسبب المسيرة الخضراء الذي أراد بها عاهلنا الحسن الثاني تحريرها من احتلال الأسبان ، فكيف وصل لذهنك هذا الاختيار الصعب ، اللهم إن كان في الأمر سر .
قاطعته بلهجةٍ تعبّر عن جدية في الموضوع ، وحزم معقود على التنفيذ، وإرادة يجب طاعتهُا بالكامل . ابتسم ليوهمني أنه فهم ، والحقيقة أنه لم يفهم حتى تلك اللحظة أي شيء ، مما وجدتها فرصة لأسأله :
– هل تثق بي ؟ .
أجابني بغير تردد .
– ما المطلوب مني ؟
– أن تجمع حقيبتكَ وتتبعني .
طرق برأسه دقيقة ثم نطق :
– سأتبعك حيث تريد ما عليك إلا إقناع والدي وزوجتي .
… في البيت لم أجد أدنى صعوبة مع تلك الشريفة زوجته الموظفة ممرضة بمستشفى حكومي بعد إزاحة مخاوف انتابتها والجزائر في تلك الأوقات علاقاتها مع المغرب ليست على ما يرام ، أخيرا وافقت أن يرحل زوجها معي لثقتها الكبيرة في شخصي المعروف عني من سنوات كم أحترم هذه العائلة المعتزة بشرفها المكافحة من أجل ضمان عيش كريم لأولادها ، السيد الوالد لم يعارض بدوره ، حينما عاهدته أن أعيد له ولده سليما متمتعا بما يحقق له ذاك المستقبل وهو صاحب عمل رسمي يلزمه الاستقذار وسط عائلته المحترمة . الشخص الثاني (ي/ ب) متزوج بسيدة تعمل في ميدان الخياطة المنضم إلينا ، غير بعيد عن الجو الذي تعودنا نحن الثلاثة في مرحلة معيّنة داخل مدينة “وجدة” ، خوض غماره ، الفن المسرحي تأليفاً و إخراجاً وتشخيصا ، تَخَلَّى عن منصبه المؤقت كمحافظ بالإذاعة الجهوية ، ذاك الذي منَّ به عليه ، مدير تلك المؤسسة الإعلامية الأستاذ عمر بن الأشهب ، الذي جمعتني وإياه الأقدار لنتعاون معاً في نفس الإطار لكن بصورة أخرى مستقبلاً ، سأتطرق لتفاصيلها إنشاء الله ، لأهمية أحداثها والمعلومات التي طُمِسَت في شأنها بفعل فاعل ، لكنه التاريخ متى كان صادقا لا يرحم ببلاغة ما يحكيه كتابة موثّقة بالحق عن حق مشروع ، إلا من يستحق رحمة الانصاف ، وإن حدث هذا متأخرا لا يهم ، المُهمّ والأَهَمّ وأَهَمّ الأهَم أن تكون على حق وتعرف كيف ومتى تأخذه .(يتبع)